(X) مدينة الأشقياء المكافحين
«خبز وحشيش وقمر»
لو كنت أعلم أن القدر سيضع ألبرتو في طريقي لتوسَّلت إليه باكرًا بكل الأدعية والقرابين، كما يفعل سكان الشمال الشرقي هنا بثقة عمياء. لا أحد يتحكم في القدر، ولذلك فهو الذي جاء ووقف قبالتي يعرض عليَّ خدمته. بعد أن سرحت ما يكفي في الساحة، واختلطت بالكسالى والمتفرجين مثلي، عزمت على مغادرة العالم السفلي، لكن مبنى المكتبة البلدية جذبني بطرازه الكولونيالي العتيد ونوافذه العالية، وخاصة بوابته الواسعة الداكنة. وقفتُ أمامها أتفحص معالم المبنى، أتملى وأتحسَّر في آنٍ، سيظل شرك المقارنة يصطادني. قال، وقد انتصب في عرض الباب قادمًا من الداخل، بإنكليزية ذات لكنة: أي خدمة؟ فأجبته شاكرًا «كل ما هنالك أني عابر، وأعجبني المبنى.» قال: أنا أمين المكتبة، تعال بعد ساعة — إن رغبت — وسأفرجك على مكتبتنا، عندنا بعض النفائس. وإذ علم أني من المغرب قلب حديثه رأسًا إلى الفرنسية منوهًا: أوه، لغتكم هناك هي الفرنسية، وقد عشت بعض الوقت في المارتينيك حيث تعلمتها مع الكريول المحلية. فضَّلتُ الصمت؛ إذ كيف أعلق على ملاحظته، وهي صحيحة ومريرة في آنٍ؛ شعب يتخلى أو يُجبَر على التخلي عن لغته، ويتحرر من استعمار سياسي ليقع في آخر ثقافي، تتنازل فيه دولته على قدم وساق، كيف يمكن، والحالة هذه، الحديث عن تعزيز السيادة الوطنية؟!
لم أستطع أن أثنيه عن هذه الدعوة «المريبة»، وفي الخامسة كنا نعبر الجسر الموازي للميناء، يلقي بك مباشرة في طريق فرعي تخرج كلها عن الطريق العام، بالانحراف يمينًا للصعود إلى هضبة عليا هي، أيضًا، جزء من أرخبيل صغير لباهيا. سمعت السيارة تلهث في صعودها الصعب، وهي من طراز فولكسفاكن قديم، ثم أخذتْ تتململ ونحن نخوض في البناء الجديد، أقصد ننسلخ عن طريق الأسفلت، الأسفلت حد فاصل بين طبقتين وعيشين، وسأعرف أن المفردة مصطلح طبقي فعلًا. حين وصلنا إلى ما يشبه باحة تراكمت فيها أجزاء سيارات مكسورة وقفنا، وانزاح يصفُّ سيارته. ذهب وسلَّم على ميكانيكي هناك في مرأب، واستقبله الآخر بحرارة؛ كان ذا ملامح زنجية. حيَّا بعد ذلك أفرادًا آخرين مررنا بهم جالسين عند عتبات بيوت يقشرون قصبًا، وإلى جوارهم عجوز تبيع فاكهة المانغا للا أحد. فهمت أنه معروف هنا، وسهَّل عليَّ الأمر أنه قضى بالحي قسمًا من الطفولة، وأشار إلى أولاد يرتدون كلهم قميص رقم ٩ للاعب الماهر رونالدينو في المنتخب الوطني البرازيلي، يلعبون الكرة في حيز مربع ضيق. مضى بعد ذلك صامتًا وأنا أتبعه في خط حلزوني، تصاعدي، سرنا فيه لأرى دُورًا كعلب الكرتون، خليط من آجر وصفيح، صلب ورخو، بنوافذ وشقوق، وأحيانًا شرفات معلقة، وأسطح تتشابك فيها أسلاك الغسيل مع أسلاك الكهرباء مع أسلاك الهاتف مع مقعرات.
تصاميم متنافرة لا تشبه إلا مكانها، ومن ثَمَّ فهي في فوضاها الكلية تصوغ انسجامها الخاص. كلما حرص المستقرون، المتمدنون زعمًا، على توحيد الألوان وضبطها بين لونين لا أكثر في المبنى أو العمارة الواحدة، كلما تشظت الألوان هنا في انفجار لوني يباغت العين صادمًا مألوفها بفسيفساء مشعشعة، احتوتها هندسة المربعات والمكعبات والمستطيل، في تواتر — لا نهائي — يجبر العين على أن تدور في محجرها، وشِبه دُوار للرأس يلاحق عدَّ تراكب بيوت لا تنتهي. بيوت متراصة كعمارة ذات طوابق، لكنها منزاحة عن بعضها بسطيحات، وتحسبها — عن بُعد — معلقة في الهواء فيما هي منحوتة نحتًا على جسد التل أو الهضبة. نظر إليَّ ألبرتو وأسعفني: أوه، لا تخف، فلم يحدث أن وقعت هذه البيوت! قبل ثلاثين سنة لعبتُ في أزقتها، هذه نفسها ما زال ماؤها آسنًا، والنفايات تعلق بها، والناس يدبِّرون أمورهم كما يستطيعون. انحرف إلى دكان تظاهر فيه بشراء شيء، وهو في الحقيقة، كما شرح لي، أخذ تصريح المرور نحو التلة العليا؛ لست معروفًا لديهم، ثم إنك أجنبي، فربما حسبوك ثريًّا، وأنت مجرد مغربي بلاده محاطة بمدن الصفيح، فلقد شاهدناها في قناة غلوبو، ويحكمكم ملك اسمه … أليس كذلك؟ فضحتنا، إذن، غلوبو هذه، نحن الذين ظننا أنها متخصصة في الحب وحده.
سنة ١٩٨٥م زرت كولومبيا، المشتهرة بزراعة المخدرات أكثر من منطقة كتامة عندنا، وبحرب العصابات، وبغارسيا ماركيز، من حسن الحظ. في بوغوتا وقعتُ في اليوم الأول بمطب أمام قصر العدالة تحاصر فيه القوات الخاصة متمردين ثوريين، تصوروا! بقينا خمس ساعات، نحن جماعة مارِّين، تحت وابل الرصاص بين الجانبين، وحين انقشع بارود المعركة وبَّخنا قائد القوة، لأننا — في نظره — لا نعرف أين نضع أقدامنا، وقد فعلتُ حسنًا أن بلعتُ لساني. لمَّا حكيت القصة في الغداة للصحافية ماجدلينا قالت: معه حق، وأنت مساء لتصل إلى بيتي ستحتاج إلى خفارة. كانت تقيم فوق تلة على هامش العاصمة، وفي السفح وجدت صبيًّا ينتظرني في محطة التاكسي، هو من قادني — بعد مناورات وتحيات مشفَّرة — إلى«نعيم» ماجدلينا. رويت الذكرى لألبرتو فلم يتأثر، ماذا تريد، إنه الفقر ينبت — في محيطه — فطر خبيث: المخدرات، الجريمة، الشذوذ، التهريب. لكن حذار أن نشمت في هؤلاء السكان أو نستضعفهم؛ إنهم خميرة مجتمعنا رغم كل شيء. هنا تعلمتُ الحياة الأولى وانطلقت. لا تسقط في الأحكام المستنسخة، وهؤلاء جاءوا في البداية من العدم. بقطعة كرتون، بخشبة، وأسلاك، وينزلون إلى تحت، هناك في الأسفلت يكدحون يومًا وعمرًا إلى أن يبنوا هذه الدور العجيبة، ويتزوجون، وينجبون ويرسلون أبناءهم إلى المدارس، أيضًا، ويبعثون بعض المال إلى ذويهم في المناطق المنسية من الدولة. إنهم البرازيليون المكافحون، وخطأ شنيع عندي أن نسمي هذه المساكن أحياء الفقر، كما هي الكناية الشائعة لفافيلا، وإنما مدن المكافحين.
الظاهر أن قناة غلوبو لم تنقل إلا صورة جانبية عن مدن الصفيح المغربية، وأحزمة أخرى لا تحمل هذا الاسم، وإن لم تقل عنها زراية، وإلا لهوَّن رفيقي من ملاحظاته وفخره. ونحن إلى مائدة العشاء، حاولت التخفيف من غلوائه قليلًا، وإن قدرتُ — كثيرًا — تسلسله من فقير معدم إلى رجل تعلَّم وارتقى إلى أمين مكتبة مهمة. حاولت أن أقنعه أن الحال هنا أهون من عوالم أخرى، أن الفافيلات في البرازيل، ما شاهدنا اليوم، وهناك في ريو، ربما أفضل، أو في مستوى عمران في عواصم ومدن في أفريقيا، أما أريافنا فهي لا تشبه شيئًا، هي لا شيء. تذكرت، وقد زرت للمرة الأولى أحياء سكنية بعمان ودمشق، قبلهما ببيروت، عرَّفني الشباب أنها مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. كان غرضهم أن أرى — وكنت مكلفًا بإعداد تقرير لمنظمة دولية عن أوضاع الفلسطينيين — عن كثب، وقد استغربوا كيف أنني اكتفيت بالتقاط بعض الصور من دون تدوين ملاحظات؛ قلت لهم: إن عندي ذاكرة فيل، وما أنا في الحقيقة إلا أعجب لنفسي وأندهش، فمثل هذه التجمعات عندنا منها في المغرب، وفي الجزائر، وتونس، ومدينة كاملة اسمها إمبابة داخل القاهرة سكانها ملايين، وسأنسى الصومال وإريتريا ودارفور وأمثالها كثير، فما بالي أزور مخيمات الوحدة وعين الحلوة، ونحن يا رب صرنا شعب لاجئين.
طبعًا هذا كلام يثقل على المعدة إذا طال، وكنت أسمعتُ ألبرتو — خلال تجوالنا بين أزقة الفافيلا — صدى حسرتي على أكلة فاتتني وأنا أتشمم أبخرتها ولا أعرف كيف أصل إليها. تصور أني قطعتُ كليومترات على كورنيش باهيا لينزلني التاكسي بعنوان قال: «هذا مطعم يقدم أكلة ولا أشهى» ولمَّا استعجلني النادل طلبت شريحة لحم بخضر. إثرها صرتُ أرى جفانًا صغيرة تمر أمامي تتصاعد منها الأبخرة، وداخلها يبقبق مرق أصفر يتقافز إلى سطحه القريدس، تحملها نساء مشدودات القوام كالرماح، مفتولات اللحم كالجبال، يتبخترن مشيًا ويصرعن باللحظ عرضًا، فغضبت حقًّا؛ كيف فاتني هذا الإدام، وإذا امرأة — كالجبل الأشم — رصدت غضبي فاقتربت، وكلما دنت عدتُ أراها مسربلة بالغابات، خلفها الأدغال والأكمات، ويسرح فيها كل وحش وأليف، دابة وطير. ووالله، وأنا أحمل إليها بصرًا مرتجًّا، سمعت قلبي يتزلزل بين جنبي، فأردت أن أتكلم، عاقتني القفقفة في لساني، ومسَّني مخمل ثوبها مع حفيف صوتها تهدئني معتذرة وواعدة: لا بأس يا حبيبنا، ما فاتك الليلة ستناله غدًا أضعافًا، ﻓ … تعال …! وطبعًا تهادت في سمعي، ومن محفوظي كلمات الأغنية: «تعال، أحبك الآن أكثر!»