(XIII) الماء سقفًا والأخضر سماء
«طيور في غوانتانامو!»
من سيجادل في أن الطبيعة أقوى من الإنسان وأدْوَم؟ أكيد لا أحد، والطبيعة، أي التفاحة، هي التي طردت آدم من الجنة، أي الأزل، وهوت به إلى الأسفل، أي الأرض، أي الزوال. الطبيعة مسئولة بطريقة ما عن وجود الإنسان على هذا الكوكب؛ وبذا تبقى لها اليد العليا عليه. كنت أعلك هذه الفكرة الساذجة في مخي والطائرة تغادر ساو باولو في اتجاه موسوم بالدهشة، بحسب جميع الأوصاف. من علٍ بدت المتروبول الرهيب منتشرة في كل النواحي، بمئات الشرايين وآلاف الأوردة، والبناء من شدة تراكمه تحس به يخترق حنجرتك، ولا بد أن تتساءل كيف يمكن للإنسان أن يعيش في مدينة بهذا الثقل، تسأل وأنت تترك مكسيكو، بومباي، حيث يتساقط الناس جوعًا وسهوًا، والقاهرة تتعجب كيف ما زالت تواجه زمانها العاتي، والآن ساو باولو قائمة مثل فظاعة بلا حدود. تقول لا ملاذ للإنسان أخيرًا غير الطبيعة، العودة إلى الجنة التي طُرد منها مبكرًا، ويؤمن في الحياة إن آمن ليحيا فيها أبدًا.
وصلت إلى المكان ليلًا حيث نزلت في الفندق الوحيد. قبل أن أصل شممتُ ليلًا عليلًا، وبدأت أمتص الهواء مثل غواص سيهبط إلى الأعماق. عند الوصول، صوتُ الصمت يصل إليَّ تدريجيًّا عندما سمعت كخشخشة بين أوراق أشجار على الطريق الغابوي، لا شك حيوان تأخرتْ عودته بسبب موعد غرامي، أما الطيور فنامت مبكرًا. نمتُ بدوري بسبب يوم طويل، ومن أجل أن أستيقظ باكرًا، كما يفعل الجميع لرؤية الشلالات توقظ الليل من نومه ويتوضآن معًا بطهر الفجر. لم تمهلني إلى الصبح، فقد تسللتُ إلى غرفتي وسحبت سريري منها، وفوق سحابة بيضاء صنعتها من زبدها الطافح من نثار الماء شرعتْ تدفعني كأنها تهدهدني، تؤرجحني، تدغدغني ونحن نتضاحك — بشكل حوارٍ — مع نجيمات أضاءت لنا المسار. إلى أن أدركنا سفحًا، لكن في العُلى، ممتدًّا كبحرٍ معلَّق في الهواء، ويوشك أن يسقط من ذروة وأنا أتشبت بالبقاء على الحافة، أصابعي مغروسة في صخرٍ مسنَّن، وهي تجذبني بآلاف الأيادي والأذرع أراها كلها بيضاء بعد أن اختفى الليل، وتلألأت الأشجار، وفات الحلم المخدِّر، الذي ظننتني استسلمتُ له، وما أنا إلا صاحٍ في نومي، خدر كالنوم في صحوي، والماء الأبيض يا سادة يطرق — هذه المرة — شباك غرفتي المواجه مباشرة للشلالات يدعوني بلطفٍ: تعال.
ذاك ما بوسعك أن تتحقق منه إذا سعيت إليه، بمقابل سخي، ففي أحد مداخل مجمع إغواسو الطبيعي الضخم توجد نقطة منها يتم الانطلاق على متن عربات عارية يجرُّها محرك، وتمضي في طريق شديد الضيق، كيلومترين داخل الغابة، إلى أن تصل إلى ضفة النهر الموعودة حيث ترسو زوارق مطاطية مجهَّزة بمحرك، ويجري تزويد ممتطيها بملابس وأحزمة وقائية ستعرف ضرورتها حين يجدُّ الجد. ينطلق الزورق أول مرة خافتًا، ينساب في النهر خفيفًا، مرحًا، والنهر يمتد كشِعب بين جبلين، وهما سيتشكلان على جانبيه تدريجيًّا، اكتسيا بأشجار متكاثفة بلون أخضر مضيء تحت شمس ساطعة، قبل أن يتبدَّل مكتظًّا ومسودًّا في الغابة الداخلية على مسافة آلاف الهكتارات. فجأة تحس بالزورق يغيِّر ربانه «مزاج» سرعته ليصبح سهمًا، وهو يتلوى وينعطف بين نهر هو الآخر يلتوي، ثم ها هو يهمد تدريجيًّا، قد أصبح وجهًا لوجه مع عشرات صبيب الشلالات، متفاوتة حجم ماء وقوة وسرعة هبوط، لكن ماءها ينشطر في الفضاء، وهديرها ملء السمع حتى السماء. تتسارع متلاهثة في النزول من علو ليس غير لسان ماء هادئ، لكن الحافة تفاجئه، تنهب وداعته، لينهار بغضبٍ وعنف هو الموج المتكاثف، الواقف ينازل بعضه، أبيض من الثلج، حين تعلك الخيل في المعارك تثير النقع وهي تثير أبخرة فوارة تتجمع في موكب حاشد لتصعد إلى السماء، ولكأن الشمس التي تريد أن تنفرد بالعلو تتصدى لها بأشعة نفاذة تخترقها، عساها تبددها، ومن عجب لا تنال منها، فها البخار تراه يخطف شعاع الشمس إليه، ويعقدان قرانهما على مرأى ومسمع منا نراهما تخاصرا، تعانقا، في هيئة قوس قزح، وللتوِّ أنجبا ذرية من ألوان لا تعترف بالحدود المتقابلة للبرازيل والأرجنتين، ويعلمان الإنسان البطِر أن الطبيعة ديدنُها الجمال والانفتاح بلا حدود.
حين يتناثر عليك نثيث الصبيب الشلالي تحس أنك تغتسل من درن، وتبترد من حر، ولعلك تتوق إلى البقاء هنا حرًّا، بعيدًا عن لوازم العالم المادي ومشاغله، عن اختناق المدن وتلوثها، وصراع البشر وحروبهم وتضييعهم لإنسانيتهم الأهم، في تفانٍ لا مُجدٍ ينتهي بهم إلى الفناء. تراهم في طريقهم ذلك يدجنون كل ما يصادفهم، الطبيعة والحرية في المقدمة، وإلا ماذا نسمي تأسيس سجن للطيور، أو ما أطلقت عليه بعد نهاية الجولة المؤسفة: «غوانتنامو الطيور»؟! لأترك محافظ الحديقة فاغرًا فاه. ترددت قبل أن ألجها، غير أن الإشهار أغراني: «أجمل وأندر طيور العالم في ساعة!» تراها كلها وتراك في جولة ساعة هي فرصة لا تتكرر، وأنا الذي، مثل كثير، ما عدت أستمتع بالعصافير إلا من ربيع لربيع، عن بُعد أسمع التغريد وأطرب له أعذب من غناء لقيط. دخلت إلى القفص بحريتي، أقصد إلى السجن الجماعي الكبير، وإذا هي أجناس الطير ما لم أشهد، ما لا يُعلَم إلا في القواميس والمصنفات الخاصة. معظمها اثنان، ذكر وأنثى في قفص واحد، كل قابع في زاوية، أو معلق فوق غصن مصنوع.
في أقفاص أخرى اثنان يتقافزان، من سياج أسلاك يصطدمان بالسياج، فإن حرَّكا الأجنحة فلرفيف خفيف لا يسمح بالتحليق، أما الطيران فذاك هو المحال عينه. تتابعت الأقفاص صغيرة، كبيرة، متوسطة، أحيانًا بسعة فضاء رحب توزعت فيه الأشجار والنخيل وأشكال الطير فيها صورة عظمة الخلق والخالق، ولألوانها خاصة فتنة. أراها تحدق في الناظر إليها، وأتلهَّى عنها، عن سجنها، بها، بألوانها؛ فهي مدهشة في نوعها، وتعددها، ولويناتها، وتفاصيل اللوين. ويعرف عامة الناس، وأزيدُ نخبتهم المتعلمة، أصنافًا من الألوان، والرسامون خاصة، لكني أجزم أن ما اكتسته هذه الطيور في الأزرق والبرتقالي والأصفر والأحمر والأخضر، وقس، لم ترسمه ريشة فنان من قبل ولا حلم به. وقد كنت قدَّرت مرة بعد زيارة إلى متحف متروبروليتان في نيويورك، ووقوفي ذاهلًا أمام لوحة «الحمار» لشاغال، صبغ أطرافها بألوان من أفانين الخيال؛ اعتبرتُ أن الفنان لا يتسمى إلا إذا أبدع الجمال صنيع العبقري الفرنسي مارك شاغال. لكني وقد رأيت هذا الزهو، في ريش تلك الطيور، أراجع ذوقي وما هام به من شاعرية وتحلل مقاييس، وأدعو كل رسام لزيارة هذا المكان، وإن كنت أخشى عليه أن يكفَّ عن التصوير من ذهول ما سيراه.