ملحق
الطريق إلى مادبا
١
لم أفكر في هذا الطريق، ولا في غيره بعد أن وضعت حقيبة العودة من البرازيل نهاية شهر تموز (يوليو). البرازيل نفسها لم أفكر فيها، وكل ما هنالك أنني قررت أن أحسم أمري مع بلدٍ ألحَّ طويلًا على بالي وخيالي فقلت إليه، ومرة واحدة هناك، كأنما انقشع السحر لأعود إلى رشدي الذي لا يرشد، والعطش باقٍ أبدًا إلى سواه.
٢
من أين جاءني اسم هذا المكان، وكيف طرق رأسي، ولمه؟ حيَّرتني الأسئلة ثلاثتُها فغالبتها، غلبتها بالتناسي، وما ذاك إلا لأن الأردن في قلبها، وصوت فيروز كنت أسمعه من يفاعة بعيدة يهمز مجلجلًا: «وستغسل يا نهر الأردن/وجهي بمياه قدسية/وستمحو يا نهر الأردن/آثار القدم الهمجية!» إنما أي سبيل إلى النسيان والشرق هناك، قلبي في الشرق وإليه توَّاق؟!
٣
صيف العام الماضي كأن يدًا إلهية وضعتني على كفِّها، هدهدتني بين ريحين، واحدة للصِّبا، وثانية من شطح الهوى، فألفيتني أعبُر من نكهة باريس تحت محجري إلى شميم العرار، هناك في اللحظة التي قطفت، لم أعد أذكر، أصورة خلَّبًا أم قُبلة حلوبًا قطفتُ من جهة «المفرق»، بعدها تهت ولم أحفل بالجمهور فوق مدرجات «جرش»، أمرُّ عن بُعد، ينبهني أني تركت أعضائي مبعثرة في المُتاه، فتعجبتُ من قولهم لأني من قديم كنت جسدًا، أقدم منه صرتُ بددًا، ولعل إسرائي اليوم يغدو لي مددًا.
٤
بلى انتبهت أن أعضائي إما غبار أو رماد، ونشرة الأخبار تقصفني بين النوم واليقظة، حتى وأنا في قارة المهاجرين البعيدة خلف الأطلسي، وقلت ليس من قُصِف ودُمِّر كمن سمع، والشمس التي تلفحني بين مغربي الأقصى، وفوق جسور «السين» غير تلك التي أشمها من ذراعي في جبين الشرق، كالملَّاح يلحس ملحه ليداوي جرح غانية في البر البعيد. أوه، يا لَرومانسيتي المتفسخة في زمن، حياة الذباب فيه أثمن من بقاء العرب، أوه حقًّا!
٥
الكلام لا يخرج اليوم من قاموس، والبلاغة ليست وشاحًا من زمرد أو حرير، هي كتلة مجسدة في يد تقبض يدها، صاحبها، وتلقي به في حمأة النار، وإن بعد افترار ثغر النهار على مدن من حطام، وأنا أجر ذيول الدمار من «حارة حريك» إلى قمة «مارون الراس»، أجوس، كآخر مقاتل لم يقل وداعًا للسلاح، ولا أخبره أحدٌ أن الشهداء الآن يغفون قليلًا و«يموتون، كي يفرغوا للسهر»؛ حذار، ابتعدوا عن طريقي؛ فخطوتي ملغمة، بل هي الانفجار، فحذار!
٦
لا يهم كل الخراب، القتل والمقتولين، من المقت سأقول أطفال قانا، أيضًا وأيضًا، رغم أن مشموم النَّوَّار ما زال نديًّا، زكيًّا، على قبر زينب، دمعة مني بلَّلته فارتجف، قبرها، لعله قلبها، كفرخ ذبيح، يقع وينهض، دمه/دمنا من الأرض إلى الأفق يسيح. لا يهم أن نموت في كل الوقت الذي مضى، ولكن كيف نستطيع أن نعيش، بعد كل ذاك الموت، اليوم ثم غدًا.
٧
ولم تكن بيروت بعد مشهد الحرب إلا فكرة من ضباب، أو جناحي غراب؛ لم تكن قط. الشوارع التي سكنتني زمنًا هوت في الخواء كجيب مثقوب، والزواريب مثقلة بالظلام، والزوايا والتكايا جراب منفوخ إما بالهراء، أو تلوك الكلام الذي لم يعد له من مزاد، بعد أن جاب الرصاص طول وعرض شغاف البلاد، واتكأ الشعراء المهترئون، مثلهم فصيل طويل من جراء، على مسند الوهم وبذر الوصايا، كالعهد بهم، ولحس الهباء!
٨
سرت وحدي، دليلي إلى طرقات أخرى للتيه حدس خراب قديم يتجدد، ما انفك يمضي ويئوب، يتفسخ مثل هذي الأرض الهشيم، لا البحر يغسل أدرانها، ولا كل ما نزف من الدم يكفي قربانًا لطرد الهمجية وسلالة السفلة. الذين عرفتُ في بيروت ماتوا جميعًا، غيرهم يعرضون لحودهم، أحيانًا لحومهم، ليفلتوا من المسغبة. لذا ترى وجوههم مثل عجين، وعيونهم مدلاة في ألسنة تقتات بفاسد الهواء والكلام الفج، ولا بأس من رقص تنكري في قلب الأجمة.
٩
وحدها عناية، عناية جابر، وهي إيقاع شارد من «أغاني» الأصبهاني، تُعد للفجر قهوته، وتذهب للروشة كي تعطي لبحر بيروت رضاع الصباح، يوشوش في أذنها شيئًا، تأتي إلى مقهى «الويمبي» تكتبه، قبل أن يتهافت التنابل على ما تبقى من غلال المجاز. وحدها سقتني، أطعمتني بهمسٍ، ليس إلا، أنا الذي «نزلت بكذابين ضيفهم/عن القرى وعن الترحال محدود» ثم آوت، وقد تأبطت عصفا عَبَر، وعوَّلت على الرحيل — أخيرًا — إلى سِفر الحكمة الفانية.
١٠
في منتصف الليل، والأحبة سجف الظلام دونهم، عندما تخلو «الحمراء» إلا من ندامى الأرق، هم الأرق، يهبط مثل ملاك، يبرز لمحته مثل الشفق، سيد، شاعرها، اسمه، ظله، لا يتبدل، بول شاوول لمحته — عن بُعد — قادمًا من الأزل، هو شاعر حقًّا لا إشاعة في الخفاء، على رأسه أدغال وبِيدٌ ونار، قوافل شتى من عرب ومن عجم، قرآن وإنجيل وديوان أحمد، أيائل وغزلان تلاعب كفه، للمدافع أعطى ظهره، للنجم أعطى صوته، للعباب، وآواني في البلد اليباب.
١١
لم أنس فيروز، بل قلت سأصعد نحو صوتها في مرقاة النهر، سنجدل الحنين بنهر الأردن، نشحذه على صخر جبل نيبو، نغتسل في مياه نسوته الجوفية، ونضطجع معًا على لحاف الفسيفساء حتى شفيف الأبدية. أترك الصوت هنا، ظل عمر مضى، كل ما أسمعه رجع صدى، وأذهب إلى مداه ليستقبلني وجه الأرض الأبيض، لونها المفضض، بالحليب وبالسكر إنا أعطيناك الكوثر، خذها، هي من جسد الأنبياء وأكثر، هيت لك، روحك منذ اليوم في مادبا.
١٢
لم أعرف ما الذي أغواني فيها، ولا كيف السبيل إلى الوصول، وما زلت لا أعرف، رغم انصرام الفصول على دم لي، وماء من أعراقي يجري تحت القلعة «قلعة الأكروبوليس». تعجَّب كل من سألتُ كيف أبحث عن طلل والدنيا حولي عمران؟ تعجبتُ بدوري شأني باليباب، لِمَ أهوى الركض نحو حتفي، إلى السراب، ومادبا هذه هل تشبه فاس أم تفوقها حسنًا، أم هي توءم نادى صنوه في منام الأولياء، فأضحى إدريس نبطيًّا، وسيحونَ من دوحة الشرفاء.
١٣
قالت، وقد جلستُ بجانبها، تقودني إلى حيث لا أدري أو إلى حرشها: الروايات في هذا الشأن ثلاث؛ واحدة تقول إن الأصل في الاسم ماء، تليه الفاكهة، هي إذن الأرض الخصبة، جنة الفاكهة. ثانية تقول إن سرها في أرض مؤاب؛ من حيث أشار الله إلى موسى بالأرض المقدسة. أما الثالثة، ويحك، فهي إما امتلاك أو هلاك، وفي كلا الحالين فإني — مهما تحيرت — وتأولتُ لا أرى لك منها أي فكاك.
١٤
أنا الذي تحيرتُ، وخفتُ لو حبَّذت تفسير الفاكهة أن تفوتني جنة الآخرة، حتى وهي، أو كانت زينة الأرض بأجمعها. وزدت أخاف، بالأحرى أتلهف لسماع الصوت، صوت الله الأكبر، أينك؟ ويحك، أوتكفر؟! إنه في نيبو «الذي في أرض مؤاب قبالة أريحا»، وفي «ذيبان» و«حسبان» وفيك، هو في كل الأكوان، ويحك، هو من هداك إليها، وما كنت لتهتدي لولا أن هداك… ولسوف يعطيك فترضى، «وأما بنعمة ربك فحدث».
١٥
مادبا! مادبا! من أين يأتي الصوت؟ من صاحب النداء؟ أنت! أنت! هل أنت محموم يا الأسمر، يا الغريب، ومدَّت يدًا إلى جبين المغرب فاشتعلتْ في يدها غابات الأطلس، توهجتْ — كالجمر — جبال الريف، خَبَبُ أفراس عبد الكريم الخطابي، وصهيلٌ ما زال يسمع لموسى بن نصير في خليج أغادير، فسبحان الذي أسرى بعبده من موج الأطلسي إليك، إلى خليج العقبة. مادبا! مادبا! من أين يبدأ الطريق إليك، أم أرحل من غير أن أراك وفي الجوف حريق؟!
١٦
أنظر، هنا تتفرع الطرقات، فواحدة تذهب إلى البحر الميت، ثانية إلى البتراء، والثالثة إلى معان. حسنًا، والطريق إليك، عفوًا، لا شك أني محموم، أقصد إلى مادبا، من أي اتجاه، أريد أن أرى خارطة الفسيفساء، كنيسة الروم، وفلسطين والأردن والقدس ودلتا النيل، أريد أن أشهد عبقرية الفنان سلمانوس، البحار التي رسم بالأزرق والأسود، والأنهار بالأزرق، والسهول بالأخضر، والقمم بالحجارة البيض، والصدر بالرمان الأصهب؛ أوه إني محموم!
١٧
لا، كلا، أنت في منتهى الصواب، حتى ولو بدوتَ كالمجنون. أنسيت كيف شردت مني العام الفائت في «المفرق» واختلطت عليك الصور، وها أنت تعود للفعلة ذاتها، تشطح شطح جنون، ولكني لا أضمن لك اليوم حسن العاقبة لأن في رسم الفسيفساء أيلًا وغزالة يرعيان حول الملكة، وبينهما شجرة، وما إخالك إلا تضيع، قلبي عليك يا الأسمر الأطلسي، أخاف عليك من الملكة، الغزالة؛ بل خافي عليَّ منك، أنت جماع ما في الفسيفساء، أوه لَكَم أنا محموم!
١٨
مضت تقود السيارة فحسبتُها تارة بُراقًا، وطورًا شعاعًا سينفذ — قريبًا — إلى كوكب مجهول. لم نحسم أي طريق سنأخذ، ولم يكن لي خيار في المتاه، أنا الهائم على قلبي كيف أملك أيَّ خيار. كانت نظرتها نحو الأفق بصدرٍ يرتج أمامها، ونفس ساخن أحس به دبقًا على اليدين، ما لبث أن استحال نهرًا من حليب ارتمت فيه عشترون إلهة مادبا، ويد أخرى ممدودة إليَّ قائلة أن تعال؛ فأرخيتُها وتركتها تسعى بين الماء والضوء إلى مستقر لها في كوكب منذور.
١٩
نسيت يدي، نسيتني كلِّي، إلا بعض كتلة مني تهتز فوق المقعد، فلا حدود لجموح البراق. كل السيارة انزاحت، واصطف الركاب على قارعة الزمن، والأرصفة انسحبت إلى الوراء تفسح أكثر، بينا نظرتها مرة أخرى تنفذ كسكين حاد في جلد الشمس العمودية، والنفس الحار حمم بركانية تدبق حُبيبات على حافة الشفتين، أو لُهاث كلمات متقطعة أسمعها تقول: سآخذك، سآخذك إليها وأبقيك فيها حتى ما بعد الزمان، أنا «وادي السير»، «أنا سقف السيل» … هيا!
٢٠
فجأة اختلطت هيَّاها مع أزيز، وتغطى الجو حولنا بالأجنحة، بالأسْود.
– ما هذا، أطلب مادبا، وإذا السماء أجنحة، فهل أنتِ دليلي لأهتدي أم للضياع؟
– بلى، بلى، أنت وصلت.
– إلى أين؟
– طبعًا، إلى مادبا أو بالأحرى مشارفها.
– مشارف؟
– نعم، ألا تسمع الأزيز، ألا ترى كل هذا النحل؟
– أجل، إنما، إنما يا ﺳﻴ…
– من الأفضل ألا تنبس، سترى، بل ستذوق.
– لكن أين؟ متى؟
– هنيهة، الآن، في المنحلة، ماذا؟ يا لَغفلتي، كيف أبحث عن مادبا، وأنا في يقين العسل!