(II) بلاد الجسد، بلا منازع
«ممتنة لك وللعرب»
رنَّ الجرس فلم أسمعه، ثم استمر بعد أن فتحت عينيَّ على وسعهما، وبدأت أسمع رنينًا متواصلًا لم أميز مصدره، جرس الباب أم رنين الهاتف، إلى أن مددت بعد لَأْيٍّ يدي كأني فصلتها عن باقي جسم ليس لي، مسترخ على السرير، فرفعت السماعة وقرَّبتها من فمي الذي قال: آلو، بتكاسل، حسبه الطرف الآخر في الخط نعاسًا فاعتذر عن الإزعاج ثم ما لبث أن استجمع شجاعته ليذكِّر بوظيفته والموعد المضروب: «أنا تلمى يا مسيو مديني و…»
لم يكن السيد أحمد المديني لا كسولًا ولا متناعسًا، ولكن، بالضبط، مخبوطًا على رأسه بشكلٍ لم يتعود عليه، ولا حدث له من قبل. أجل فاتت عليه حصص النوم المطلوب بعد أن غاص — شي شوية — في بعض متع «مونتيغوبي» الكراييبية، فما العمر إلا ليلة. أما الهول فجاءه من هذا البحر خلف نافذة الفندق، عندما أكمل خط الكورنيش الممتد خمسة كيلومترات بين صخرتين لطرفٍ من الساحل، لم يتذكر إلا وجسده صار بجناحين فطَار إلى البحر وسمكة غاصت تحت مائه، بين انسياب وتشنج عابر يستفيق له السابح ليعود إلى استرخائه طافيًا فوقه كقشَّة أو نسيان. لشاطئ ريو الموج الذي يحبه هواة التزلج ومحبُّو اللعب مع الأمواج، وقد تركتُ نفسي أسبح في البداية وأنا أدندن بلحن كطير يزقزق، بين لحظة وأخرى، أعابث الموج منقذفًا فوقه أو منغمسًا تحته، أعوِّل على عتوِّه، سيجرني ويرميني دائمًا إلى شفة الرمال. عدت ذلك الطفل البعيد الذي تعلَّم السباحة في شاطئ عين الدياب بالدار البيضاء الفانية، أيام كان — وباقي الشواطئ المغربية — مملوكًا لجميع الناس، كهذا الشاطئ بالضبط، وهم يسبحون ويخيِّمون ويحتفلون ببساطة ولطف، من الحامدين الشاكرين، لا مُبعَدين عنها، مطرودين كالذباب، بعد أن استولى على هذه الشواطئ حفنة من القوم لم يكفهم ما نهبوا من الأرض وفيها انتشروا، وحتى البحار سوَّروها يا لطيف (!). عدت ذلك اليافع يقاتل الأمواج متنافسًا مع أترابه، لا يبالي بلترات الماء المالح تملأ جوفه، فيرتمي ويعود ليرتمي متقاذفًا كطرزان في أفلام سينما الباهية بكراج علال، أيام ذلك الزمان.
على أنها لم تكن أفضل حالًا مني، وإن أوحت بتماسك ظاهر، وعمر لا يزال مفعمًا بالشباب. طويلة القامة، نحيفة، وسأخبر عنادها في الحِمية حتى لا تتضخم كبنات البلد. أخبرتْني، وأنا أطلب منها مشاركتي أكلة «الفجوادا»، الطبخة الوطنية الأولى التي نصحتني بها حين قادتني في اليوم التالي إلى قاع المدينة لنتغذى مثل كل الناس، ونِلْت منها طبقين، ما ألذها! أعجبتني فرنسيتها المفككة، المفيدة في الجوهر، وهي تعتذر، تحسبني فرنسيًّا قحًّا أنا الذي طلبتُ مرشدة بهذه اللغة لأختصر المسافة. ولا أذكر كيف محوتُ جهلها بي حين أعلمتها أنني يا هانم، وهي كذلك، مغربي، أي من البلد الواقع فوق قرن أفريقيا التي كانت ثورًا هائجًا ينطح قبل أن يروِّضها الاستعمار، ففاجأتني قائلة: كهذه الأرض قبل أن يصل إليها البرتغاليون وبعدهم (شعوب أخرى منهم الأفارقة العبيد والألمان والعرب والإيطاليون، وهؤلاء أجدادي) ثم — وهي تمسك بذراعي ونحن نعبر الطريق تقف السيارات هنا للمارة بتسامح — تجدد المفاجأة: أنا أعرف الناضور، وسبتة، والصويرة! ثم أحنت رأسها كأنما تبحث عن أسماء نثرتها للتوِّ من فمها كحبات عقيق، معها استرجعت نفَسًا ونحن نحتسي عصيرًا استوائيًّا في مشرب ظليل بساحة «براسا كينزي» حيث عبق التاريخ، وأطياف الحب ونكهة بقايا الليل دائمًا، وعتمة تفترش عتبات الحانات الشعبية. أخبرتني أنها رحلت إلى فرنسا لدراسة الهندسة المعمارية، ومنها انتقلت إلى ألمانيا حيث اقترنت بألماني. وبنقلة سردية لم أفهمها أضافت أنها سافرت مع هذا الزوج إلى المغرب ليبحث عن زوجة مغربية سابقة له، اختفت عن ناظره، فتأمل مثلي هذا العجب البرازيلي، أليس كذلك؟! وعادت تختم، لا أعلم تعجبًا بدورها أم حسرة على «عبث الأقدار»، هل كانت تتوقع أن تلتقي بمغربي في مدينة «الكريوكا» بعد طول سنين!
سمعتها تكثر من ترداد الكلمة، ونحن نزور المواقع السياحية؛ كنائس، مآثر تاريخية لمؤسسات سياسية، الخزانة الوطنية، المتحف الوطني، والأزقة الداخلية لبقايا المدينة العتيقة وخباياها، وهي تربط المكان بالزمان، وبالإنسان خاصة، وبدت لي متعصبة جدًّا لمدينتها، لريو، لا تحفل تقريبًا إلا بالكاريوكا، أي سكان هذه الحاضرة قبل غيرهم، وتحيل في الأغلب على مآثرهم وثقافتهم، وهي مثقفة، لا مثل كثير من المرشدين أشباه المتعلمين. توجستُ من نزعة عنصرية فيها، موجودة عند قسم من بيض البرازيل، يتعالَون على السود، والمُوَلَّدين الخلاسيين، وقد قُيِّض لي الاحتكاك بهم في أماكن أخرى سياحية، لا يرتادها عموم الشعب؛ فرأيتهم يتصرفون كلوردات ولا تكاد عيونهم تقع على ما تبصر، شبيهين بنساء يقدن سيارات رباعية الدفع، المنفوخة في بعض شوارع الرباط، بعيون تخفيها نظارات عريضة فَحميَّة، مستعدات ليدسن على دواسة البنزين لسحق كل هؤلاء الآدميين، لا يفهمن لماذا يمشون على الأقدام، ولا يستحون من غرس أعينهم في عيون أسيادهم ولاللاتهم اللواتي يشرِّفن الشوارع بالظهور والمرور (هكذا ما بقت حشمة! ما بقي حيا!). أنا توجست فقط، بلا يقين، وسرعان ما ألِفتُ النغمة وسآلفها أكثر طيلة مقامي البرازيلي، وهي تعني التعصب بلا حدود إلى الأرض، إلى البلاد، إلى الوطن حدًّا مثيرًا. ليست الشوفينية العمياء تجدها عند شعوب شتى، بوعي أو تطرف منغلق، لكنها — يا كرام — حب الوطن، بكل ما في الكلمة من معنى، ومعانقة شمسه وهوائه وترابه، بطبع كالفطرة تقول إن الطفل يُفطَم عليه. ولا شك أن التلاميذ يتربون عليه في المدارس ويكبر معهم في الجامعات وحقول العمل المختلفة. وإذ تتجول في الأسواق بين المتاجر تريد شراء تذكارات من أي نوع، فتجدها كلها ممهورة بالعَلم البرازيلي المؤلَّف من الألوان: الأزرق للسماء، والأصفر لعمق الأرض، وما تزخر به من معادن ثمينة، والأزرق للطبيعة الخضراء الغنَّاء ذات الجمال الساحر، والنجيمات الخمس أظنها لفوز البرازيل خمس مرات بكأس العالم لكرة القدم، وحيث الصبي يخرج من بطن أمه وهو يقذف بالكرة في الهواء.
في الجامعة، حيث قابلت أستاذًا متخصصًا في الدراسات العربية، سألته كيف يستطيع شعب، أقصد الشعوب المنتشرة في بلدٍ مترامي الأطراف أن ينصهر في لحمة وطنية واحدة فلم يحر جوابًا، بينما وجدته ميسورًا عند تلمى؛ يعتذر لسانها تلقائيًّا لكل ما تحسب أنه يزعجني منظرًا أو يسبِّب سوء فهم. تقول معتذرة: إننا شعب فتي، أي غُضَّ الطرف عن أي مشين فيما وأنا — برفقتها — مفعم بكل زين، أغبط الذين حولي على تعليقهم الرايات في مداخل المتاجر، وعلى سطوح السيارات، وعلامة لكل القبعات. كنت قد وصلت إلى ريو بعد فوات الأوان بالنسبة للبرازيل التي أُقصيَت من سباق المونديال على يد المنتخب الفرنسي، لكن هذا لم يمنع الفورة الكروية من الاستمرار؛ فإني وجدت الشوارع والحارات والأروقة التجارية مزدانة حتى أعالي الأعمدة الكهربائية بأشكال وألوان العلم، والمعروض للبيع قمصانًا للفريق الوطني هو لكسوة البشرية، ورغم حسرة الخروج المبكر من لعبة كأس العالم شهدت سجالًا اعتبر ما حصل في الطبيعة لا في الفريق الوطني. أما مرافقتي فقد كان لها رأي آخر تمامًا، وخاصة حول التكهن عن الفائز: فرنسا أم إيطاليا. أعترف بأن منطقها أذهلني، وقلت هكذا تكون محبة الأوطان أو لا تكون. اسمعني، قالت: لا تعتبر أني أجاملك لأنك قادم من فرنسا، لكني أفضِّل أن ينتصر الفرنسيون على إيطاليا. أجل إن أجدادي قدِموا من هذا البلد، ولكن لو انتصرت إيطاليا فإنها ستقترب منا، ستفوز بالكأس ثلاث مرات، ونحن وحدنا فزنا به خمس مرات في العالم، أتسمعني، لعلَّك فهمتني الآن مسيو مديني!
وعيناي على عينيها: أنتم البرازيليون ونحن عرب، هل تعرفين من هم العرب، إنهم من قال فيهم ذلك الفارس الشاعر البائد في الزمن البائد:
وكان الكتاب فعلًا المعلقات مترجَمًا إلى البرتغالية كَشْفي العظيم اقتنيته وأهديته لتلمى، فضمَّته إلى صدرها لتقول بتأثُّر: «إني ممتنة جدًّا، لك وللعرب.»