(III) «فتمتَّع بالصفو ما دُمتَ فيه»
«فما أطال النوم عمرًا»
في السادسة، والشمس على المغيب زيادة، كنا نعود إلى فندقي في «الكوبا كابانا». في الحقيقة حرصت على العودة بمفردي، بل عدم العودة لمواصلة التجول على خاطري، لكن السيدة المرشِدة أبت إلا أن ترافقني إلى مثواي، بحسابها حرصًا على سلامتي، ولتطمئن أنها أدَّت مهمتها غير منقوصة. في طريق العودة مررنا في منطقة بدت آهلة بالبشر، مصطخبة بالحركة من مظهر الزحام الناشب حولها وداخلها مما أبطأ عبور سيارة الأجرة التي نستقل. بالضبط، هذا ما يلعلع فضولي، رغم اكتظاظ المَشاهِد السياحية في عينيَّ مذ ولجت هذا البلد، ومرافقة تعلمني التاريخ والجغرافيا والغزوات والفن والمطبخ دفعة واحدة، أنا من يطلب حب الأشياء جرعات. طلبت منها أن نتوقف هنا لنقوم بجولة سريعة قبل العودة المحتومة عندها، أضفتُ أن هذه فوق الحساب، وأنا أفكر في توقيت عملها المضبوط، فعلقتْ سريعًا أن لا مشكل، إنما لا داعي للخوض في مثل هذه الأسواق الشعبية. ضحكتُ أكاد أسألها: هل أنت ذات أصول أرستقراطية، فواصلتْ تتجنَّب سوء تفاهم كونها تقصد بأن الموقع غير آمن: «أنت لا تعرف، لا تدرك، هناك سلب، قد يوجد لصوص، وأنت أخبرتني أنك تحمل معك كل أوراقك … ومالك … ولا قدر الله …» تركتها لاستطرادها، وطلبتُ من السائق الوقوف فأيقنتْ أني مصمم، ثم رغم فروض اللياقة معها أنا لم أقدم إلى الأرض التي اكتشفها بيدرو ألفاريس كابرال قبل خمسة قرون باسم «سانتا كروز» لأقيم في نجوم الفنادق وأبهائها، وإنما لأعرف الحياة والخلق عاليهم وسافلهم، وأندمج في زحام المتسوقين.
رأيت خليلي الليلَ بالباب يرسل لي إشارته الغاوية أن تعال نغزو المدينة من أبوابها الغامضة، «فما أطال النوم عمرًا/ولا قصَّر في الأعمار طول السهر». سأتحرر، وأعود أمشي وحدي، كما أفضِّل أن أعيش وحدي، وبرفقة الليل أفضَل. إذا زرتَ مدينة لا تعرفها أنصحكَ بأن تتحرك فيها على غير هدى، وبلا خارطة ترسم لك كل خطوة مثل اليابانيين «العميان» في السياحة. استخدم الحافلة، وفي البرازيل، وريو تحديدًا، عشرات الشركات، حافلاتها أنواع ومراتب؛ امتط أول خط وامض بلا تحديد أو وجهة مسبقين. وقفزت في واحدة متوسطة، تنقد قطعة من جابية حازمة الملامح، وتجتاز عارضة حديد لتجلس في المقعد المتاح، وجدتُه جوار النافذة، فرُحْتُ أحصد ما أرى — بنهمٍ — في ليل لا أعرف كم سيطول. وأعرف الآن أنه مشعشع بالأضواء بين أنهار السيارات دافقة في اتجاهات متعددة والواجهات الزجاج للعمارات طوابقها بلا إفراط، فعدا الفنادق الكبرى ذات العلو المهول في كل مكان، تبقى البنايات وديعة وحسنة التنسيق على العموم، لكن العين لا يفوتها أن تلحظ كيف أنها جميعها تسيِّجها مداخل بقضبان حديد تزيد على المترين، مسنَّنة في أعلاها، وخلف كل عمارة سكنية يقف أو يجلس خلف طاولة حارس بزي مخصوص دون تخطِّيه نارُ حرب توقد. دليل هاجس أمني مستشرٍ في كل الحواضر البرازيلية، وهو يبلغ في مدينة ساو باولو مداه، وتُعتبَر من خلال الإحصاءات من أخطر مدن العالم في حوادث السلب؛ ولا سائق فيها — كما في غيرها بحسب ملاحظاتنا — يغامر بالتوقف عند إشارات المرور الحمراء، ما لا يمنع الحياة من أن تسير سيرها العادي، والسكان يزاولون أنشطتهم اليومية بدأبٍ، ويعيشون ليلهم بشغفٍ. في المدينة الحديثة ما زالت الحافلة تخوض في شوارعها الواسعة، المنسقة والمؤثَّثة بصفوف النخيل وشجيرات الكوكو إلى ما لا نهاية. ومن مقعدي تغويني أضواء بعيدة ألمحها في الأعالي، أي في التلال المشرفة على السفح الذي نمشي فيه، وهي تنير كفوانيس، فقررتُ أن أكتشفها في الغداة، وحين وصلت إلى نهاية الخط غيَّرت الحافلة ومضيت فيها إلى أن انتبهت أني في شارع مشبع بالأضواء، يعج بالحركة، وعلى جانبيه ما لا حصر من المتاجر، والمقاهي، المطاعم، هذه بغيتي لأنها محافل للحياة، ولما ظهر لي الشيء الأهم قلت بعبارة المغاربة «هنا طاح الريال»، وبعبارة المشارقة هنا «مربط الفرس»، فتوكلت على الله، وسرت أمشي لا أحد يبالي بي، ولا تعرضت للخطف ولا للسلب.
بلى خطفتْ بصري واجهة، الأولى أتلفتُ إليها بعد نفس مشي طويل، معروض خلفها كتب، هي أقرب إلى لوحات صغيرة، خلفها شباب متحلقون حول طاولات، صرت بالباب لأراهم يتبادلون الحديث بهدوء وهم يرشفون فناجين قهوة باستمتاع ظاهر. استلطفتُ تمامًا هذا الوضع لأتبيَّن — لاحقًا — أنه تقليد في جُل المكتبات، ربما كلها، فهو حج وحاجة. في باريس هناك مكتبات واسعة ومتوسطة نضطر للبقاء واقفين لنقرأ فصولًا أو فقرات طويلة من كتب لا نستطيع اقتناءها لارتفاع ثمنها، أو لأننا نحب أن نتسلى. أما هنا فتستطيع أن تستشير ما تشاء كتبًا، حسنة التبويب، دقيقة التوزيع بين صنوف المعرفة على رفوف نظيفة تامة الرشاقة. أما المكان ففضاء رحب تتنقل فيه بدَعةٍ، رُصَّت في جنباته طاولات مستديرة ومستطيلة حملت جديد الإصدار بحسب الاختصاص. وكيفما كان فإن لها جاذبية وأناقة لا نظير لهما فيما سبق أن عرفت في طباعة الكتب وإخراجها وورقها وتصميم أغلفتها، تتفوق على المنجز الإيطالي، والمطبوع الفرنسي دونها بكثير. أما العربي فهو مسكين كأهله المساكين، دليل احترام الكتابة والكتاب والقراء، وهم متوفرون في البلد الذي تتعدى فيه الطبعة — بشرح متخصصين — عشرات الآلاف، والقراءة فيه مألوفة لا يضاهيها إلا الرقص على إيقاع السامبا، وممارسة المشي الذي كأنه عبادة ثانية بعد الكاثوليكية ومتفرع كنائسها. اقتنيت نسخة من كتاب لأريه لطابِعٍ مغربي لأقنعه بتغيير الحرفة والتوجُّه إلى الإتجار في قطعان الماعز أو تسويق البطاطس، أليَق به وبكثير ممن يزاولون هذه الحرفة في بلداننا، وهم ألدُّ أعداء الثقافة والكتاب، تعاضدهم حكومات أليق بها أن تسُوس السائمة لا البشر، فكيف بالقراء.
ولما قضيت هذا الوطر أحسست بأن أمامي أوطارًا أريد أن أغنم بها الليل قبل فواته، فشُدِدتُ إلى المتاجر مفتوحة والساعة العاشرة في شارع فيسكانتي، أطول جادة في المدينة وأغزرها عرضًا واحتفالًا بالبضاعة الجيدة، والأندية الفنية والرياضية، وحانات صغيرة شعبية كالدكاكين تبيع الجعة على الخصوص من القناني المصطفة، يرتادها النساء والرجال سواسية. لم أكن أشعر بجوع ملحٍّ وتنازعتني — في آنٍ — شهية لجراد بحري يشوى عند القوم بطريقة خاصة فقلت أصمد لأجوع أكثر، وبينا أنا في تجوالي سمعت ترجيع مَوَّال بأصوات طروب تتناوب بين التصعيد والخفوت، وتصل كلمات الغناء الدينية، بأسمائها وإشاراتها واضحة، تبعتُها إلى أن وقفتُ عند مدخل كنيسة صغيرة في مبناها ببابٍ كبيرٍ نصف موارب، قرأت، في لوح جانبي، أنها لفرقة دينية أنجليكانية ولم تقل اللوحة إن السود الفقراء زوَّارها الأُول. دخلتُ وصرتُ في الخلف فإذا بهم يتمايلون يمنة ويسرة على إيقاع نشيد ديني. البرازيليون السود بالذات فيهم نساء كثر، وهم خلف الكراسي قبالة المذبح، ما شعرت انتباهًا لوجودي الإضافي، وعدا لون بشرتي فأنا أشبه جميع البرازيليين الذين، بخلاف بيض وخلاسيين مطبوعين فيهم، لا تميزهم عن العرب كافة، وكم أحب ألا ألفت النظر بأي خاصية خلال السفر، أرتاح وأذوب كالسمك مع الخلق.
ولما أشبعت فضولي من الكنيسة انتقلت إلى الرصيف الثاني للشارع، فاتفق أن قابلت بعد خطوات بعض شباب تعرَّفت عليهم بسطحية في مقهى المكتبة، واكتشفت أن بلادي معروفة لديهم عبر تحقيق طويل أعدَّته وعرضته قناة «تليغلوبو» الأكثر انتشارًا، وعجبوا لما أخبرتهم أن جمهورنا مشبع بمسلسلاتهم المدبلجة إلى العربية، ذكرت منها نماذج، بحبكاتها الغرامية والمالية وامتداداتها اللانهائية، فسألوني إن بها جرأة جنسية وكثيرًا من القُبُلات، فهل هذا مباح في عالم المسلمين؟ فقلت إنها تساعد على صقل الألسنة من عربية همجية انتشرت عندنا، زيادة على لغات أجنبية تتحكم عنوة في مصيرنا. كانوا طلبة أدب وعلم اجتماع، قالوا ما رأيك أن تصحبنا إلى عيد ميلاد صديقتنا ماشا وستتعرف على جو لطيف. شكرتهم أريد أن أعتذر بحجة أن مناي حضور سهرة سيدها إيقاع ورقص السامبا، أليست هذه عملتكم الوطنية الثانية بعد الرياليس؟ فألحُّوا يضيفون بمكرٍ محبَّب: لا تهتم، فأنت ما زلت شابًّا، والسهرة عند ماشا فيها — عادة — ما تشتهيه الأنفس وتلذُّه الأعين، ومن يدري فقد نرقص السامبا حتى الصباح. في لحظة عادت تحذيرات «تلمى» تجثم عليَّ، لكني، من جهة، كنت قد احتطت لخروجي الليلي بوضع «ثروتي» في الخزنة، ومن جهة ثانية «ما العمر إلا ليلة» وأي سفر بلا حسِّ مغامرة هو كرحلة العجائز الأمريكيين أو السياح الفرنسيين يتنقلون في الأسواق المغربية طيلة النهار بقنينة ماء لا تعادل أورو واحدًا. اصطحبتهم بعد أن أقنعتهم بالمساهمة في السهرة بمشروب، ومررنا على المكتبة — بإلحاح مني — اقتنيت منها كتابًا لعيد ميلاد المضيفة بعد استشارتهم، وهنا قلَّبوا النظر فيما بينهم يتغامزون عليَّ، أنا العم الغريب. سمعت كارلوس يقول: إن طعمها حار ومضجعها لهب، فتظاهرت بعدم الفهم، ومضينا، ومرحهم الغنائي المفرح يفرش طريقنا، لا أشك في أننا سنقضي سهرة غنَّاء، ومن يدري فقد تحفل بمفاجآت، هي زاد طريق المسافر، كانت أولاها حين فُتِح الباب لأقابل وجهًا لوجه تلمى نفسها فغرت فاها لرؤيتي، وبيدها كأس حفَّه الحبَب.