(IV) جسد كالتلال، تلال كالنساء!
نظرتي العارمة تتكلم
إذا أتيح لك أن ترى ريو دي جانيرو والطائرة تهمُّ بالنزول في مطارها الدولي، فسيباغتك حتمًا منظرها الأخاذ بعماراتها البيضاء، منحدرة، متتالية البناء، عتباتها كألسنة تتقدم نحو البحر، يسقيها حليب الصباح بالضوء الشفاف وهو يغطي الخليج، آخذًا شكل تقويسة كالهلال شريطة أن ترى الهضاب والتلال الواثبة فوقه. ولو كان ليلًا لحسبْتها كثبانًا صارت مفخخة على غير العادة بالفنارات مرسلة تارة إلى البحر، وأخرى إلى الأفق البعيد تهدي السفن القادمة إليها والعطاش، سيطفئون يا سيدي الغلة بالماء الزلال والجسد الغض والوجه الحسن، لا بخداع السراب. هي ذي ريو تنام في حضن أبيها الجبل تكاثر جبيلات، صعد وانحنى، وما الأرض التي بُنيت عليها إلا كف مبسوطة نحو بحر منشرح يصل إليها ساكنًا قد توزع إلى بحيرات، تنظر إليه الجبال من علٍ يحذر غضبها، ونُصْب المسيح أعلاها لها دواء لكل داء.
فكرت دائمًا بأن النظر هو ما يخلق الشيء أو يبقى الشيء بدونه مادة غفلًا، وأقول الآن بأن شيء هذه المدينة يصنع العكس. إن حالات التشكُّل الباهرة للطبيعة، والكائن هنا، تصنع ضربًا من التوحد يماهي بينهما، ولن تسأل عندئذٍ أيهما الأسبق ولا الأجمل؛ فهما معًا اثنان في واحدٍ كامل. يقول الجغرافيون إن هذه المدينة إنما بنيت من انجرافات التربة، ومن تدميرات منظَّمة لمساحات في التلال والمرتفعات التي تشرف على خليج ريو، على يد الحاكم إستاسيو دي سا عام ١٥٦٥م لتصبح عاصمة سنة ١٧٦٣م بدل سالفادور باهيا في الشمال. إنها قطعة منهوبة من الجبال، ومن الغابة، ومن البحر؛ ولذلك تحضر فيها هذه العناصر متجاذبة، متكاملة ومنسَّقة. تحس فيها بأنك تعيش في الطبيعة البكر حين تصعد إلى الأعالي فتخترق آلاف الهكتارات الغابوية بالرافعة الكهربائية، ومن حولك ما لا حصر أنواع أشجار، وأصناف زهور ونباتات وطيور، وسناجب وقردة وزواحف، تتنقل في عالمها المستقل بمنأى — ما أمكن — عن أذى البشر، وإن لاحظتُ أن السلطة في كل مناطق البلاد وضعتْ كل القوانين والتنبيه لحماية الحيوان والطبيعة، وردع الطامعين بجزاء صارم. وفي السفح الحاضرة العصرية، بكل مكونات المدنية الحديثة والعيش اللَّجب لسكان المدن بسلوكهم وأخلاقهم ومعاناتهم، هم جزء من المدينة، ويدخلون إليها ويخرجون بخمسة ملايين نسمة ونصف بين أحياء غنية ومتوسطة، والمعزولة في فقرها. بَيْدَ أن خصوبة نهر المواصلات المتفرع — غدرانًا — في كل اتجاه، ليوحي بأن المدينة تعيش ديمومة الامتلاء والفراغ، ولها رئتان عظيمتان تتنفس بهما، هما الجبل بغابته والبحر. السكان يتنقلون بينهما بالعربات للعمل، وللاسترواح برياضة المشي، فالخصلة الملازمة للبرازيلي أنه مشَّاء، وفي بلده يوجد شعار «امشِ وعِش!» والمدن مصممة — شوارعها وأحياؤها — ليمشي البشر فيها براحتهم، وليؤدوا رياضتهم، بل إن نصف طرقات ريو تُغلَق يوم الأحد، تصبح رهن إشارة الراجلين وهواة الدراجات؛ بذا يتفوقون على الفرنسيين والإنكليز بسنوات ضوئية من هذه الناحية. أما الميادين والساحات العمومية والحدائق والمنتزهات، وملاعب الأطفال، وفضاءات الألعاب الرياضية، حتى المرتجَلة منها في الأحياء المتواضعة، فحدِّث، وللعاصمة الجديدة برازيليا في هذا الشأن الباع الطويل، كما سنقف عليه.
أقول بين العالي والمنخفض، التل والسهل، ثمة الإنسان، وأنا هنا أعني المرأة عينًا. بداهة إن المرأة نصف الرجل، نصف الخليقة، الأنثى والرجل الذكر. دعونا من كل ما هو بَدَهي وتعالوا إلى بلد، أرض، نسب الولادة الأنثوية فيه مضاعفة وحتى مثلثة، وهي تكتسح مرافق المجتمع كله، وإن أرسلتَ الطرف وجدت خلقها يسبح في النهار والليل، وما أشد دلالها وتعززها على الشريك، القريب والبعيد، وإن ظلَّت المفارقات بلا عدٍّ. ولو خُيِّرت لجعلت البرازيل، انطلاقًا من ريو، أنثى، وإنها لكذلك؛ فلا أحد وشيء يشبه هذه الأرض إلا امرأتها، وذاك ما سميتُه التوحد بين الكائن والطبيعة، والله تبارك وتعالى عالم بأسرار خلقه، ما ظهر وما بطن. لكن يا سادة إن المرأة هنا ليست ككل النساء؛ وإذا كان — طبعًا — في بلدان زالت أو خفَّت فيها ضوابط الاحتشام أو تنسَّبت، الغربية خصوصًا، أن نراهن متبرجات حدًّا بعيدًا، حتى إذا جاء الصيف تخففن إلى الأدنى بتفاوت، فإن غالبيتهن هنا، وبالبحبوحة التي يسمح بها الطقس الموزَّع على فصلين طويلين صيفًا وشتاء، والاستوائي الممتد، يعشن متبرجات بالفطرة، تقول إن الواحدة منهن قُدَّت من رخام أو بشفيف الزبد صُنِعت، لكنها لا تذهب جُفاء، بل هي البحر العاتي يجرف الهادر قبل الساكن، وعلى عتوِّها تتكسر النظرات العارمة بعد أن انخطف الطرف وطار القلب وأرغت الحواس ولمَّا تزبد، يرتد لصاحبه محترقًا وهو أسير.
إنهن يضعن قوتهن كلها، جاذبيتهن أو شهوتهن أو إغواءهن في صدورهن، لا دخل للعمر، والعازب والمُحصَنة سواء بسواء. فالمرأة منهن يتضخم ثدياها بإفراط تتباين في تقديره الأذواق، وعندي مبالغ إلى درجة التشوه حين يختل التناسب مع باقي أطراف الجسد. أما صاحبته فهي لا مبالية، لعلها تتظاهر، كيف بوسعها أن تنكر ما يتحلب له ريق الرجال، حتى ولو صرفوا النظر أو غضوا الطرف، أو أبدوا ما يشبه التعود على مألوف. سألت «غابي» الصائغ في متجر داخل الفندق، وهو من أصل لبناني، عن تفسير، فارتبك قبل أن يجيب إن صدر المرأة سلاح في يدها، تغوي وتبتز به الرجل الذي لا شك يحبذ، وفيهن المتباريات بالفتنة، إذا ما علمنا أن كفة النساء أرجح على الرجال عدًّا. وكنت أعلم — سلفًا — أن هذا البلد، والمدينة خاصة، مشتهرة بجراحة التجميل، بعملية نفخ الصدر أو ما يسمى «السيليكون» كل من تحس بضمور أو تبغي اتباع التقليعة - بائعات المتاجر بكثرة - وضعت ادخارها في انتظار الحصاد. بيد أني ما لاحظت أو أحسست بأن الطفو الجسدي هذا ذو علاقة بالأخلاق أو يتطابق مع حكم مسبق أخلاقيًّا من أي نوع، كما نفهم عادة عند من يُسمَّين «بائعات الهوى» أو ما شابه. فإذا زدتَ إلى غلو الصدور قوة الأرداف والأوراك علمت أنك مع صنف نساء مخصوص ببلدٍ، يغدو «طبعة» مستقلة لما يتمازج عرقًا وسلالة ولونًا، وعندئذٍ فإنك أمام خلق باهر، جمع من كل فن طرفًا فبعث على الذهول، وسبحان الخالق. على أن لي نظرية لا أعرف — حقًّا — كيف أصوغها، وهي مبنية فقط على القياس والمتشابه، وهو في حد ذاته منطق مقبول. فإني لما نظرتُ إلى المرتفعات التي تحضن، في سفحها، مدينة ريو وجدتُ تقاطيعها، العالي والمنبسط، شبيهًا بجسد المرأة هنا تمامًا، وهي لعمري من الضخامة والتدفق في نواحٍ لتحسبها حاملًا، أو أمًّا تحنو على وليد، أو بكرًا في طور البلوغ، وما هو إسقاط أو وسوسة، فالإنسان، أيضًا، ابن الطبيعة، وفي مفاتنها يتحيَّر الناظر كما في الخلق، أو لعل النساء وَحَمْن على ما يريْن، فجئن على شاكلة المحيط، وأما أنا فلا أنكر، هاجت نفسي وتحيَّر قلبي، ولم ألقَ تفسيرًا، إن كان ولا بد، إلا أن النساء في البرازيل كالطيور على أشكالها تقع، والله أعلم.