(V) حاشية على الماء
«الصبا والجمال ملك يدي»
لا هو من السهل مغادرة ريو، ولا الجو كان يلائم، أقصد اليوم الذي حجزت فيه للطائرة المغادرة إلى الشمال، سالفادور دي باهيا؛ إنه يوم القيامة الكروي. رغم أن البرازيل غير معنية مباشرة بمباراة نهاية كأس العالم، إلا أن العقول كلها ضربت موعدًا مع توقيت اللعبة، وهي بالتوقيت المحلي الثالثة بعد الظهر. هذا، إذن، يوم غير صالح للسفر، فأخَّرت الانتقال إلى الغد، وأنا واحد شغوف — مثل الملايين — بالمباريات الحاسمة، وطبعًا بما سيفعله النجم الفرنسي ذو الأصل الجزائري زين الدين زيدان، الذي أصبح أشهر رجل بين الأعلام. حين طلبتُ تمديد إقامة يوم في الفندق نصحني مشرف الغرف بانتهاز فرصة الصبيحة للقيام بنزهة بحرية حول خليج المدينة؛ أكد لي أنها أمتع ما يكون.
في التاسعة والنصف كنت عند رصيف المارينا السياحية مع مجموعة نساء ورجال وأطفال. دفعت عشرين دولارًا لتذكرة الجولة. وفي الوقت المحدد كان المركب ينطلق من الميناء، يمخر الماء الوديع بوداعة. طيلة تنقلاتي بهذا البلد الذي تُعَد الطائرة وسيلة نقل أساس فيه، لاحظت الحرص التام على إقلاع الطائرات في مواعيدها والنزول كذلك، وجميع من يتواعدون يصِلون في أوقاتهم بل يؤكدون قبل الوصول، وهو مظهر جد في التسيير مرصود في معاملات شتى، وفي دولة عريقة وحديثة في آنٍ، تُحسِن تصريف شئونها الإدارية والتنظيمية، وتتقن استقبال الأجانب وفن التعامل السياحي، وتهيئ — لذلك — كل الوسائل ما دامت المرافق السياحية تدرُّ مدخولات جيدة، ويعيش عليها قطاع واسع، فضلًا عن أنها تعرِّف بالتراث والثقافة والخيرات الرمزية الوطنية، وهي مصدر اعتزاز وشرف لدى المواطن.
كنت العربي الوحيد في المركب مع ألمان، وأمريكيات يدور بينهن حوار كمواء القطط، وأزواج برازيليين مع أطفالهم … سارت الباخرة تبتعد تدريجيًّا عن الساحل، وتخرج من الحوض باتجاه بحر خليج ريو. ونلتفت لتعود المدينة تتشكَّل، وبناياتها ومواقعها تعلو تدريجيًّا نراها تتسربل بوشاح أبيض تضرب فيه بقوة شمسٌ شديدة السطوع هذا الصباح. ريو ليست واحدة، إنها متعددة، وكلما واصل المركب ابتعاده، أو التفَّ من ناحية مختلفة للخليج رأيت أخرى، وإذا أدخلتَ في الحساب حركة المركب وتمايله فتأمَّل معي كيف ترى مدينة ترقص في عينيك، شأن أهلها الذين يتفوقون على العالم طرًّا في هذا الفن. بلباقة قدَّم لنا الربان ومساعدوه ضيافة من فواكه طيبة: إجاص وبطيخ، وعنب، وشطائر أناناس، يفترض أن نتذوقها، لكن الأمريكيات أجهزن على المعروض وزِدْن، بينما تناولنا قطعة واحدة للفرد.
لما طاب الركوب واستقر البحر بعد لأي، صرنا على مسافة معقولة من الساحل فظهر من الأسفل ثلاثة شباب ذوي سمرة مذهبة يحملون آلات عزف، وقفزوا رأسًا بين الممرات إلى الخلفية، لهم دائرة صغيرة، وانطلقوا يعزفون ويغنون بسعادة ومرحٍ. غناء لطيف وإيقاع محلي طغى — من حسن الحظ — على المواء، وتجاوب معه الركاب المحليون بحركات راقصة أدَّتها برقة سيدة رشيقة القوام ما زالت تحمل حروف الزين، وأخرى ملونة متقدمة السن ترى جسمها — بحركات منتظمة بين الكتفين والقدمين وأصابع اليدين — كأنه عازف الموسيقى وإيقاعها في آنٍ. والراكبون صاروا جوقة واحدة ترسل الغناء وترد بتلقائية، وكلما خفتَ طرف أو أوحى بالفتور استجاب الثاني، فما عرفنا أخيرًا مَن يغني ويرقص، نحن أم المركب أم المدينة أم الجبال والتلال، المسيح وقالب السكر، نساء «غيرسون» الفلاحات القويات في المتحف الفطري، أشجار الكوركوفادو لو قلبت السماء لكان أفضل لطولها اللانهائي، أضف الفتيات والفتيان، كل الرجال والنساء على الكورنيش، في الأسواق، بين مزارع القهوة وشجر الباو الصباغي والموز، ونهود الكاكاو المنعقدة بفصاحة في الشوارع نضَّت عنها حشمة منافقة، وكل ما يدبُّ على وجه الأرض في لحظة رقص وغناء. لا تعجب، فالدندنة هي خاطر وسلام الصباح، والمرح بلا نزقٍ هو لغة الخطاب، آه، والرزق على الله.
لا عجب إذا كانت هذه بلاد الكرنفال، ينعقد طولًا وعرضًا، في كل الحواضر، وحيثما يعيش يطرب الإنسان، لا تفريق في المزاج والشعور ومسِّ الجسد بين غني وفقير، متعلم ودونه، ابن حاضرة أو بادية. غابي الطروب بطبعه تمنى أن أحضر في شهر فبراير، قال تعال مع مناسبة الكرنفال وسترى عجبًا. لا، ليس ذلك الذي تسمع عنه أو ترى صورًا منه في التليفزيون، لكن كما ينظم هنا ونعيشه عيدًا لثلاثة أيام متتالية. من أسفٍ أن أهم مدرسة متخصصة في الإعداد مغلقة هذه الأيام لأشغال الإصلاح وإلا لقُدتك لترى كيف يتم تدريب الأفراد والفِرق على رقص السامبا، والتباري بينها لاختيار أفضل المشاركين. هؤلاء هم الذين يُسمَح لهم بالمرور في العرض الرسمي مرتدين الأزياء المثيرة، راقصين الساعات على الموسيقى الصاخبة أمام جمهور حجز له من قبل مقعده المدفوع. مررتُ — برفقة تلمى — في إحدى أكبر جادات المدينة بخطى ذهاب وإياب، قالت هذا شارع الكرنفال، وهذه المنصات المُخصَّصة للجلوس، ولا بد لك من حجز لأشهر سابقة إذا أردتَ أن تفوز بالمشاهدة المباشرة لأعظم ما يعبِّر عن تقاليدنا ومزاجنا، أم كنت تحسب أن كل ابن امرأة مؤهل للاستعراض؟ إنها موهبة وثقافة أيها السيد الكاتب. لكنها أضافت بأن مناطق أخرى في الشمال، إلى حيث ستذهب في الشمال، مثلًا، تسير فيها كرنفالات مختلطة، يشترك فيها عامة الشعب بفِرق السامبا المحترفة، وتتضارب فيها الأهازيج من ثقافات متعددة، ويظهر فيها فولكلور عنصر السود على الخصوص، وهو غني وأصيل. جددت قول غابي: تعال في فبراير فهو أجمل الأعياد، ولكي يورطني قال: ما رأيك أن نحجز من الآن، فالعالم كله يأتي إلينا، والأوروبيون الذين يبحثون عن الفرح والمرح اللذين اختفيا من حياتهم؛ إنهم يعودون معنا إلى الطفولة.
بدا لي محقًّا وثاقب النظر في ملاحظته عن غربٍ فَقَدَ روحه وأضاع تلقائية المعاملة الإنسانية، وأصبح الفرد يعيش فيه تحت اختناق العمل وضواغط الكسب والحياة المنهوبة من زمن منفلت. فرغم الفقر، ورغم أن داء البرازيل العضال هو التوزيع غير العادل للثروة، مع وجود مناطق وفئات كبيرة متروكة لحالها في أوضاعٍ معيشية متدنية، في الداخل خاصة؛ بهذا كله لا يتنازل السكان للزمن عن خليقة السكينة والبحث عن اللحظة الفرحة، واصطناع طقسها بأقل وسيلة. ولا شك أن المدخل الأول لهذا هو نبذ الوحدة والميل إلى الاختلاط والحياة الجماعية بما تفرضه من تشاركٍ وتكافلٍ وصبر. كل الناس يمشون هنا جماعات، ينامون ويستيقظون جماعات. الفقراء ينظمون شئون فقرهم وسكنهم، والمشردون يتقاربون في هجوعهم، والطبيعة؛ الشمس، القمر، الأغاني، قصائد ومعزوفات الحب هي للجميع، والحب الذي هو فردي وذاتي يباركه الجميع. وفي السراء والضراء تتنزَّل «الآلهة» لتصد الشر، وتعطي المدد لكل فرد على حدة، وللجميع في نهاية المطاف، في طقوس غريبة وبديعة.
دامت نزهتنا في المركب، وعبر خليج ريو، زهاء ثلاث ساعات عدنا بعدها إلى رصيف المارينا، والركاب — في هذا الزمن الوجيز — تحس كأنهم صاروا أصدقاء، وهم يتوادعون بمشاعر ظاهرة بعد تبادُل العناوين. وحدها القطط الأمريكية انصرفت لا يفارقها مواؤها الرتيب. دعتني عائلة برازيلية للغداء، فشكرت معتذرًا بالشبع، وخاصة بالمباراة الحاسمة لكأس العالم، وتبادلنا العناوين بأمل اتصال أو لقاء. كانوا لطيفين معي، وداعتهم طافحة، وليس عندهم تحسُّس مسبق للأجنبي، بل أنت لا تحس أنك غريب فيهم. أجنبيتك لا تتميز إلا في المحال التجارية التي يرتادها السياح على الخصوص؛ حيث يحدث، كما في كل مكان، تكالب على السائح بالإغراء والإلحاف، لكنه لا يبلغ درجة الابتزاز التي يلقاها السائح في بعض البلدان العربية أو أخرى من العالم الثالث؛ تعود منها بالحسرة والندم. هذا اللطف عند القوم تراه سجية لا خصلة مكتسَبة أو مصطنَعة، ولذلك لن يغضب منك أحد إذا لم تقتنِ بضاعته؛ فالكرامة موقف وشرط كل معاملة، وقد علَّمتني الحياة أن أستشفَّ أخلاق البشر من العلاقات الصغيرة واليومي الغُفل، تُبرِز المتأصل لا الطارئ، أو ما هو مستفز تُمليه ظروف استثنائية، لذا لا أحتكم إلى المتداوَل عن شيوع الجريمة وحوادث الخطف والسلب في ساو باولو، مثلًا، وهي معهودة في عواصم كبرى، وقد كدت أصبح شحاذًا ذات يوم في لندن بعد أن جُرِّدت من كل ما أملك، وصرت بلا هوية، أما في مطار رواسي فإني تحسَّست أعضائي بقيت كاملة، وهويتي مشبعة بمعرفة أعمق وإنسانية أرحب.
في الطريق إلى الفندق، وأنا أمضي في مشي لاهث، واليوم أحد؛ حركة السير أخف، والطرقات حُوِّل معظمها للمشي ورياضات الراجلين، ولا تسمع رنين مزمار سيارة واحد، وقبله لم تلحظ أحدًا بصق في الشارع أو ألقى كومة نفاية؛ في الطريق توقفتُ فجأة كأن أمرًا صدر لي بحزمٍ: قِف! نَفَسي طبيعي، ويدي حملتُها إلى قلبي فوصلني النبض معقولًا، وإلى جبيني لأعرق انفعال، خاطري غير مشوش، بل إني كنت أعود إلى فندقي مغمورًا بحبورٍ أسميه «ضربة الشمس الشعرية» بأثرها لا بد أن تكتب قصيدة أو تبقى عاديًّا مثل سائر الخلق أجمعين.
ماذا حلَّ بي، إذن، فجأة؟ توجهت إلى أقرب مصطبة حجرية، وهي متوفرة في الطريق الساحلي، وأسندت ظهري مادًّا — في الوقت — ساقيَّ ورجليَّ، متنفسًا بأعمق ما يكون، وفاردًا ذراعيَّ على طول المصطبة، ومتصالبًا مرة ثانية مع مسيحهم الذي إنما شُبِّه لهم قتلُه؛ لعلَّ صوتًا في داخلي صاح مثل الفيلسوف اليوناني القديم: وجدتُها! وجدتُها! الحقيقة الجديدة التي ينبغي أن أعتنق من الآن فصاعدًا، وعنوانها بالبنط العريض: عليكَ أن تهدأ أيها الفتى القديم. انتبهت أني، ومنذ خمسين خلت ونيف من عمري، قضيت ثلثي هذا الزمن وأنا ألهث في الحياة والسعي والعمل وطرقات العمل، وبحث بلا هوادة عن بديل لعيش لآدميتنا مكلل بالكرامة والعدل والجمال. وكلما ظفرت بقليلٍ تتسع موهبتي لشمولٍ بلا حدود، وها أنا ذا، كما قال سَميي وجدي أحمد المتنبي، باقٍ «على قلق كأن الريح تحتي/…» فاهدأ، انظر إلى الخلق هنا، وتعلَّم حكمة المسافر، فإنك عندئذٍ ستدرك اليقين، ولن تضل في أي سفر. وسفر في الحيرة هو تيه وهروب أكثر منه خبرة، وأي عالم هذا الذي لا يهديك إلى مجاهل نفسك إنما تكدُّس حجرٍ بلا روح ولا عبير؛ فاهدأ عساك تصيب من تجوالك حكمة عمرك الأخيرة. في غرفة الفندق، وأنا لا أزال سارحًا مع هذا الخاطر، أشاهد — مثل ثلاثة مليارات نسمة — نهاية كأس الكرة، رأيت فيما يرى الصاحي النجم العالمي زيدان ينطح برأسية أفقية غريمه الإيطالي ماتزيراتي ويرديه أرضًا، فنهضت من فراشي لأخطو كالسائر في نومه، أترك المكان قائلًا: هذا العالم ليس عالمي، قاصدًا البحر الساكن سأغطس عميقًا … وأستريح.