حين يصبح الزمن رثًّا
من البوسادا التي نزلتُ فيها أستطيع أن أصعد إلى
المدينة العتيقة أو التاريخية من زقاق، على جانبيه
تقابلت مبانٍ قديمة، وخربة، ومرمَّمة، كلها حفر الزمن
فيها أخاديد عميقة. صُنِعت الأرض من أحجار مربعة
صلبة؛ لذا تحتاج إلى حذاء متين. والسيارات في مثل
الأزقة المشابهة لها كلها تترجرج، ونوابضها تهتز
تحتك وأنت مخضوض فوقها. زقاقي يمتد إلى منعطف
عبارة عن نافورة نضب ماؤها، تفضي شمالًا إلى زقاق
آخر هو الذي أنهج لأصل إلى المركز. سيصبح الصعود
وعرًا وحجر الطريق ناتئًا، وعلامات التاريخ تتحدد
أكثر فأكثر. البيوت إما بطابق أو طابقين ذات شرفات، أو نوافذ مستطيلة، وبأبواب تُرى مفتوحة
خلفها إما
ممرٌّ تجلس فيه امرأة تصفِّف شعر ابنتها، أو رجل لا يفعل
شيئًا، وربما ينهمك في ضبط وتر قيثارة، أو لعله
استيقظ توًّا من نوم ثقيل. على القرب حانة شعبية من
النوع المسمَّى Batecos بداخلها مالك خامل، ومستهلك
يشرب جعة «براهما» المحلية، وأمامه وقتٌ بزمن
الأبدية. قد تصلك موسيقى من شجو السامبا، أو لا
أحد غير عتمة مجوفة بالصمت في انتظار زبائن
يفضِّلون الليل للعيش، أما النهار عندهم فلحياة
التنابل.
على الجانبين دائمًا، إما حوانيت أو محترفات
للرسم، هي قاعات لبيع مشغول الصناعة التقليدية من
أيقونات ودمى خشبية وقمصان منسوجة على الطرز
المحلي، بيضاء وخفيفة. جميع الثياب ستلحظ خفيفة الملبس، فطقس البلاد لا يتحمل
السميك ولا الكنزات والمعاطف. سلفادور باهيا تعيش
بدورها فصل الشتاء واللباس قميص نصف كمٍّ والبنطلون،
أيضًا، إلا ما يضطر إليه الموظفون. في الليلة
الأولى لوصولي ضقت ذرعًا بالحر إلى أن هطل مطر
استوائي أغاث الروح وغسل الأزقة وسقى الطير والقطط، مع الكلاب الضالة الكثيرة التي تبحث
عن شيء تأكله. في
النهار الحركة خفيفة في المدينة القديمة، تعجُّ
أساسًا بسكانها العاديين، وكلما حلَّ العشي ستنبعث
النسمات التي تأذن بحياة الليل، ما أجمله. لكن
للسياح تنقلهم الخصوصي نهارًا في أرجاء منطقة
Pelourinho تضم سبعمائة مبنى شُيِّدت من القرن
السابع عشر إلى التاسع عشر، تعتبرها اليونيسكو
بمثابة أهم تجمُّع معماري في العالم احتفل بالطراز
الباروكي في البلاد الأمريكية. وهي، بعد خضوعها
لأعمال تجديد وترميم هامة، تضم تسع كنائس، واثني
عشر متحفًا، وثلاث ساحات تتحوَّل إلى حلبات مهرجانية
فنية. بل إنها تحمل اسم مدينة الكنائس والقديسين
Bahia de Todos Santos. سمعتُ الدليل يقول لجمع
سياح إن عددها يزيد على مائتين، متباينة المذاهب
وأعراق الارتياد. وإنك لتستغرب لمظهر هذه الكنائس من الخارج حال
طلائها، وتقشرت جدرانها، واسودَّت أعاليها، كما هي
أغلب البنايات في المنطقة، فترى المقربصات
والشرفات البرَّانية مدبوغة اخضرَّت صدأ بسبب ما تحدثه
رطوبة الطقس الاستوائي. والحق، أيضًا، أن ليس
لمداخلها زينة ولا للأبواب خشب باهر، لكن الداخل
ثمين، ثمين جدًّا، سواء الأسقف والأعمدة والتزاويق
الضخمة الباروكية بامتياز، أو كميات الذهب التي
استعملت للنقش والصبغ وتذهيب الأيقونات. وفي كنيسة سان فرانسوا دي فرانسيسكان، العائدة
إلى القرن الثامن عشر، يشغل ٨٠٠ كلغ من ورق الذهب
ديكورها الداخلي، وترى الزليج الأزرق والأبيض هو
الغالب عليها، بينما قسم كبير من أفراد الشعب،
وأبناء باهيا فقراء، وهذا الحال السائد، لا أحد
يستهجن هذا التناقض، خاصة في التفاوت الكبير بين
دور العبادة. إن ثمة كنائس للأغنياء وغيرها
للفقراء، وهذه على حال من التفسُّخ مؤسفة، ذكَّرتني
لما رأيتها بالمسجد الأموي في دمشق، عجبت كيف لا
يهبُّ مال العرب لتجديد غرَّته، وهو من أعظم التراث
العربي الإسلامي. كنائس الفقراء مغلقة أكثر الوقت، وقساوستها
كالشحاذين، عليهم سربال دين كالأسمال. الفقراء
عمومًا هم السود، أبناؤهم يلعبون الكرة أو أي
ألْهِيَة على عتباتها، ولا ترى أطفالًا بيضًا تائهين،
وإنما مدللين في المتاجر والمشارب والمطاعم.
لك أن تقول إن المدينة التاريخية أو العتيقة في
النهار هي للدين أو التديُّن، وما تعرضه المتاجر
أكثره من صنفه، والناس كذلك. وهو ليس دين التعبد ومذاهب الكنيسة وحدها، بل
تُنافسها — إن لم تهيمن هنا — قوة الأرواح السحرية
والمعتقدات الغيبية البدائية والوثنية؛ أوليس هذا
حال بلدان كالمغرب، تطغى فيها الأضرحة، ويُتوسَّل
فيها لقضاء الحاجات بتعاويذ وطقوسٍ الدينُ منها
براء؟ هكذا ترى قرب الكنائس، وفي جوانب الساحات
النساء والأطفال عارضات، بل ملحَّات لتشتري، سبحات
وعقيقًا وماسورة خيوط تلفُّ بالمعاصم جلبًا للفأل
الحسن، وإنها لتجارة رائجة لا بد أن تحاصرك حد
التأفف. ولقد عدت من رحلتي بكوم خيوط اقتنيتها من
عدة مدن، وباهيا خاصة، اضطررت لذلك اضطرارًا.
وعندي، رغم تأففي، أن كسب القوت بالتعلل خير ألف
مرة من ذل السؤال وتجمهرات الشحاذين، وهو ما
أعجبني عند أطفال ونساء في أرجاء جامع الأزهر
وأسواق خان الخليلي، حيث يتكاثر السياح الوافدون
على القاهرة، دعك من أنها بركة قد تجنِّبك خفة
أصابع النشالين وتنجيك من القوم الظالمين، ما
أكثرهم، ذات الشمال وذات اليمين!
وسوف يرسخ يقيني في الأيام الموالية، وعندما
أزور بحيرة الآلهة أن التدين والطقوس الدينية هي
الناموس الثالث في البرازيل عمومًا، والشمال
الشرقي، المركز الحيوي للسود، خصوصًا بعد لعبة كرة
القدم والتشبع بالموسيقى. ففي هذه البحيرة الفريدة
يجد الرائي «الآلهة» أو القوى المفترضة، الموكولة
بكل داء أو حاجة، أو هاجس، أقيمت في شكل تماثيل من
البرونز، بين نساء ورجال، بالأزياء الوطنية
القديمة أو المفترضة، تحيط بوجوهها هالات غموض،
وإذا ظهرتْ لك فولكلورًا فاعلم أن الخلق هنا
يعتقدون بها على الغيب. وعلى العموم لا ينبغي
التحرش بمعتقدات الناس، والعابر، خاصة ممن لا يلم
إلا بأطراف الأمور والمعتقدات، بعد هذا وذاك، جزء
من ثقافة السكان، ولا بد أن نؤمن بأن الثقافات،
شأن العقائد، متعددة، لها قيمتها فيها، وتستدعي
منا الاحترام بلا شروط، ومن الأفضل تجنُّب لصق
الصفات وإطلاق الأحكام عليها؛ فلا ثقافة عليا
وأخرى دنيا إلا عند غلاة الاستعمار والفكر العنصري. وقد كان تدشين آخر متحف في باريس
خاصًّا — في الدرجة الأولى — بالفن الأفريقي، مناسبة سعيدة لتأكيد هذه الفكرة؛
حيث حمل بتوجيه الرئيس جاك شيراك، رائد المشروع،
اسم متحف «كي برانلي» على عنوان موقعه عوض متحف
الفنون البدائية، وهي كما نلحظ تسمية تتضمن حكم
قيمة سلفًا. أعود، إذن، لأقول بأن استقرار النواميس
الثلاثة المذكورة تلك لا يلغي أو يجعلنا نستثني،
طبعًا، فنونًا ورياضات شعبية مقترنة بتاريخ السود
أساسًا، وتعد قيمة مضافة للمخيال البرازيلي الغني،
أشهرها La Capoeira مزيج رقص ونزال لن يفوت
المتريث أن يرى الشباب في الساحات وعند مداخل
الأسواق يمارسونها تلهِّيًا أو تكسُّبًا، حسب الحال.
وهي تحتاج إلى مرونة وترويض شديدين للجسم لما
تتطلبه من قفزٍ متكررٍ في المرة الواحدة وسقوط قوي
على الأرض، عدا مهارة الرقص الذي هو لُبُّها.
هي النشاط الرياضي الفني للسود، أو بالأحرى كان لهم
وحدهم في الماضي، اضطروا إلى التحايل به على
أسيادهم الذين منعوهم من الفنون الحربية ورياضاتها
الحقيقية بأنواع، وهذا تاريخ صراع امتد إلى أن غدا
من الفنون الشعبية، له مدارسه ومعلِّموه بقوانين
محسوبة شرحها يطول.
قلت إني غادرت زقاقي المحجر، صاعدًا إلى أعالي
المدينة التاريخية وكنائسها، ومتاحفها، وأسواقها،
ولأعترف بأني لست من هواة المتاحف، أو أزورها إذا
لم يكن من الأمر بد، والسبب في رأيي — الذي قد لا
يهم القارئ — أنها تقوم على مبدأ تقديم المنتقى وليس
النفيس، النادر ضرورة، هذا الذي أعجب آخر بناء على
ذوق وتصور مسبقين، فيما الشارع يبقَى المجال
المفتوح يمنحك — قد يمنحك — من الصور والأخبار ما لم
تزود. ما بالك يا سيدي حين تكون في مدينة، هي كلها
فضاء التاريخ، يغمرك من حيث أتيتها، وهذا حال
المدينة التاريخية، العليا، التي تعطي للثقافة
والفن أبهى مقام. معارض لأبدع التجارب، قديمها
وحديثها، ضاجة، متصالحة، متخاصمة مع المدارس
والخطوط والألوان، اقتنيتَ أو شفت فأهلًا بك؛ تأمل
أو ألعق الصور سريعًا، ذاك شأنك.
إنما، وقد وصلت إلى منتصف الطريق إلى ساحة
الكنائس، في المرتفع المتوسط فإنك تحتاج لالتقاط
أنفاسك قبل أن تواصل. تواجهك بناية من الطراز الكولونيالي، طلاؤها
ناصع البياض، وخُطَّ عليها فوق لوحة مستطيلة حروف
سوداء بارزة: Fondacaus jorge Amado هذه
مؤسسة جورجي أمادو (١٩١٢–٢٠٠١م)، مولى الرواية البرازيلية، وسيد الكُتَّاب الرواد الذي
يقترن
اسمه بتاريخ وخيال وعذاب وتعاسة وحب هذا البلد.
كما تعرف فرنسا بلزاك، وإنكلترا شكسبير، واليابان
كواباطا، وكولومبيا ماركيز، ونحن العرب «ألف ليلة
وليلة» ونجيب محفوظ، يمجِّد البرازيليون، ومعهم
الأمريكيون اللاتينيون كلهم، جورجي أمادو الروائي
الفخم بأعماله المشتهر منها تحديدًا: «باهيا كل
القديسين» (١٩٣٥م) و«البحر الميت» (١٩٣٦م)
و«غابرييلا وكبش القرنفل» (١٩٥٨م)، وجُلها تعالج
أوضاع البؤس في منطقة شمال شرقي البلاد حيث وُلِد.
تحتوي المؤسسة، ذات البناء العتيد، على ببليوغرافيا
شاملة لأعماله، مع الأغلفة التي تمثِّلها في سائر طبعاتها، وبعشرات اللغات المترجَمة
إليها، إضافة
إلى شريط حافل بالصور تُظهِره في مراحل عمره
المختلفة، والمناسبات السياسية والاجتماعية
والأدبية التي جمعته مع شخصيات وأعلام كبار من
العالم أجمع. ويمكن للزائر — مقابل تناول مشروب فقط —
مشاهدة واحد من الأفلام المقتبَسة عن رواياته تُعرَض
في قاعة صغيرة مفتوحة على المعرض العام. مؤسسة
أمادو تعكس صورة مصغرة ومتميزة للبرازيل على
امتداد نصف قرن مطبوع بأحداث العسف ومظاهر البؤس
وحلقات النضال من أجل الديمقراطية والعدالة
الاجتماعية.
قضيت ساعة في المكان، أتتني — مرات — لحظات انخطاف
تخيَّلتني مع كل صورة للروائي العظيم في بيت لمبدع
عربي جُمِعت أعماله، وخُصِّص له فضاء لذكرياته وصوره،
وغدا بإمكان عامة الناس زيارة ماضيه وهم يحسُّون أنه
جزء من تاريخهم الثقافي وعزَّتهم الوطنية. ولقد زرت بلاد العرب كلها، وعواصمها الثقافية
البارزة، فما وجدت أي حكومة أو جمعية خصصتْ بناء
مستقلًّا لأحد رموزها الفكرية، أو سمَّت به إحدى جامعاتها، كما هو الشأن في بلدان
أمريكا اللاتينية وبلدان غربية عديدة؛ يُعتبَر الأدباء والمفكرون
فيها ذخيرة وتراثًا، ورأسمالًا قوميًّا، فأي درس
مفيد آخر تقدمه لنا البرازيل في صون ذاكرتها
للأجيال القادمة، كما تشهد بذلك أعمال الترميم
والصيانة المشتغلة بدأب في كل أرجاء المدينة
التاريخية، وبتكافل بين الدولة والمنظمات الدولية،
والخواص المحسنين، حريصين على وجه بلادهم، يخصصون
جزءًا من أرباحهم لهذا الغرض، وبدون ذلك، فإن
المعالِم المتبقية من تراثهم سوف تتعرض للانقراض،
وأظن البرازيلي من أحرص من عرفتُ في الشعوب على
الفخر بوطنه وتاريخه، ولكن …