(IX) جحيم العالم السفلي
لماذا أنت هنا؟
أذعنتُ لنصيحة الطبيب، ولتنفيذها أخذت مكاني فورًا في طابور المصعد بدل طابور العميان. حين تركب المصعد ترى البشر وجهًا لوجه. تستطيع أن تفحص ملامحهم، ويمكنك أن تُحصي عدد البثور في وجوههم، والنساء تميز نوع صباغة الشعر وقيمة المساحيق على وجوههن. هناك الرائحة طبعًا، الأكتاف وحتى الأرداف المتماسة. حين تكف عن شم الرائحة ستصبح واحدًا منهم بالتمام. اركب مصعدًا أو حافلة، واذهب إلى «سوق عام»، لتعرف ناس بلد ما، ولا تكن مثل سياح القطيع؛ إنهم فعلًا مقرفون. لم أكن أختلف عن سائر مستعملي المصعد، وفي السفر أتجنَّب أي أناقة لباس أو أثر لافت، لذا ذبتُ وسطهم، وحسبوني — من غير شك — عامل خدمة في مطعم أو مخبزة أو أي مصلحة بريد. هذا مناسب، ومريح.
في دقيقة تركت العلياء ونزلت إلى العالم السفلي، وطبعًا ليس من أجل الطبيب وحده، بل لأبحث عن وجهي، تبعثرت ملامحه في المعالم والآثار، وقررت أن أستردَّه من خلال المعيش واليومي، والظن لا يفارقني لأن هذين الوجهين يتطلبان الاستقرار في المكان والزمن. لذاك للمسافر عدة وجوه، وسيول من المشاعر خلال تجواله، دمه يغلي ومزاجه يتبدَّل، فمتى يكون هو إن لزم بالضرورة تحديد هويته؟ عند الاستقرار في دائرة المألوف، عندما يكون قد نسي كل شيء أو تقريبًا وهو يعايش المتبقي، تمامًا بحسب تعريف هيريو الشهير للثقافة. هل أنا الآن بلا وجه؟ كلا، أحسب أن المرء يلتقط قليلًا أو كثيرًا من سيما الآخرين وخلائقهم ليكتمل، والنزول هنا بالضبط دليل حاجة لم يشبعها التاريخ، الماضي الذي اكتمل، أما الحاضر الحي فيتقدم بخطى الأحياء وبالأنفاس الحارة للغادين والرائحين، المتفرقين شَذَرَ مذر.
إنهم أهلي وأصحابي، فأنعِم بهم وأكرم. خاصة وأنهم غير متعجلين. خرجنا من المصعد بلا تدافع كالثيران، بهدوء لافت. في الأعلى يمشون كما تدب النملة، في الأسفل الخطوة مرتاحة، والحافلات وحدها تسرع لتفرغ وتعود تملأ، سنة الله في الخلق. إذا طلبتَ وتعجلتَ ستفضح نفسك، ستُنعَتُ بالمتوتر، ويتهامس حولك القوم، الذين من عادتهم الانصراف إلى شئونهم، والصفير، لا الزعيق، مع مطلع الشمس كالطيور. إذا حللتَ بأرض، أنت العابر في الوجود، في زمن قياسي هو حياة إنسان، لا تتطلبْ أن تجد بين من تحل بظهرانيهم ما اعتدتَ عليه، وتتأفف مما لا يعجبك من مألوفهم. لا فائدة، ابقَ في مربعك، في الدورة التي يعتاد عليها الكلب بين نقطة البدء والمنتهى لجغرافية محدودة، بالعلامة والرائحة ومثله. بطيئون قلتُ هؤلاء الناس، وأنا الذي لم يعد يمشي إلا مهرولًا أو بخطوة متر. في باريس عندي مشكلة مع الزوار العرب؛ هم يتنزهون، وأنا لم أعد أعرف كيف، جُزتُ ذلك من دهر، وفي الحقيقة تعلمت طريقة القوم الباريسيين، المتسابقين، الواثبين، القافزين، اللاهثين من الصباح إلى المساء، من الخريف إلى الصيف، من نهاية الويكند إلى اللاحق به، الضجرين، المختنقين، المشحونين بالأزمات الوجودية، والفصامات الشخصية، ساكني غرف مترين والقواقع الذاتية، المتخوفين من التجمهر والأنوية الجماعية، مفضِّلين عليها، أو نزَّاعين إلى القعود على أرائك التحليل النفسي أمام فرصة للكلام، لإنسان يسمع مواجعهم وهوسهم الشخصي؛ أما وقد أرخيتُ سمعي هنا فإنني أرى الكلام يسري موجًا، ويهب رخاء، ويتبادله العشاق غناء.
الساعة العاشرة صباحًا، وقد قادتني قدماي صدفة إلى الشارع الرئيس للمدينة، غاص حتى الحلق. نحن الأربعاء يوم عمل، والخلق فيه رجال ونساء، والأواخر أكثر، تختنق بهم الأرصفة والمتاجر ومحلات العصير والفطائر، تعجبتُ ألا يعمل هؤلاء؟! وهل هذا وقت تبضُّع؟! وعلمتُ أن لا عيد في الغداة، أيضًا. فما الخبر؟ استحضرت أني، أولًا، في العالم السفلي، حيث يتحرك البشر ويصخبون، يبيعون ويشرون ويستهلكون بنَهمٍ، وتؤخذ الدنيا غلابًا. أدركت، ثانيًا وقوعي في شرك مقارنة عسفية بين عالمين توجد بينهما قواسم مشتركة وإن متمايزة. عزوتُ الظاهرة، ثالثًا لسبب البطالة تدفع إلى الانتشار في الأرض على غير هدًى، هذا بعض ما أراه في بلادي، المتنقلون في الشوارع والأسواق في كل وقت بلا حافز، كأنهم في «مولد» بلغة أشقائنا المصريين، اصطنعوا لهم مثلًا دارجًا، ملفوظه فصيحًا: «من لا يشتري في السوق يتنزه!» اعتمدت أخيرًا منطق أن العالم السفلي جحيم، لا أحد يرحمك فيه، الهدوء في المدينة العليا هو الطريق السالك إلى الفناء، إلى العالم الآخر، بعد أن قضى الواقفون في الطابور من الدنيا ما تأتَّى لهم من أوطار؛ لذا التدافع بالمناكب، والكدح، يعرفون أن السماء، بكل دعواتهم وقرابينهم للعذراء، لن تملأ القفَّة، وهم غير مرجفين، لا يكفُّون عن التماس بركاتها بإيمان ملتهب. لذلك يعملون متوزعين على كل ما يخطر، ولا يخطر، على البال من صنائع، الصحيحة والمتاحة، يستوي الكبير والشاب والصبي، والمهم أن تعود بزادٍ ما والشمس مالت إلى المغيب.
هذه الجموع أحب أن أنحشر فيها. أراها حقيقية فوَّارة بالحياة، تصنع لحظتها ومصيرها بيد الغير، وقدرُها معلق بالغيب، القلب واجف، وفي السماء — دائمًا — كوة مفتوحة تتلقَّى الدعوات؛ تلك حياة البسطاء. لذا قليلٌ أرَقُهم، فأجسامهم مهدودة بالتعب، والمحبُّون منهم، ما أكثرهم، يطوون الليل في حلم هو غد لقاء الحبيب إذا تحقق. المهرجان في البرازيل ليس مناسبة عارضة، هو اليومي في الشارع والأسواق والحركات والأصوات وفسيفساء الألوان نهارًا والأضواء ليلًا. المهرجان طقس داخلي تجلياته البهرجية، ولغاته الجسدية، وتشكيلاته الشهوانية، رموز مواجد الذات واستيهاماتها، ومصطلح تعلُّق الجماعة بالمطلق. في شارع العالم السفلي أعبُّ الهواء ساخنًا، وأحتك بالجسد متماسكًا أو نزقًا، وأنسى من أنا لأصبح أنا من لا أعرف. الحياة مع شعوب العالم تتم دائمًا في درجة الغليان، وإذا أردتَ التحفُّظ والأناة، وابتغيت اللياقة المحسوبة بدقة الساعة السويسرية، فاذهب إلى البيض القاطنين وراء نظرات التعالي ونظارات الريبة، أولئك الذين يملكون ثروة البلاد، ويحصدون أغلى مزارعها، وأثمن مناجم ذهبها وأحجارها الكريمة، رامين الفتات لأغلبية، هي — رغم كل شيء — تعيش، وتغني، وترقص في الكرنفال. هم والسمر والأخلاط من يعمرون العالم السفلي، هم الفقراء، المرحون، وهم مهذبون وطيبون، وهم مشردون، وينقضُّون على أول فرصة لأن الحاجة تتضوَّر فيهم، كما يتغول الجشع في حفنة الأثرياء، ما أنا عنصري في أي تصنيف.
بعد توديعه بلطفٍ قصدتُ ساحة منفتحة على المكتبة البلدية توزعتْ حولها أكشاك لمشروبات، وفي ظلال أشجار تفرَّقت أجسام بلا حرج، فيها الناعس أو الساهي، وشاب يكثر من التلفُّت يمنة ويسرة ربما تأخرت عنه ملكة النحل. ابتعتُ عصيرًا، وافترشت بساط الأسمنت لأشعر عندها براحة وانتشاء، فهذا بعض ما أحب في السفر، أن أتحرر من ضوابط التهذيب الصارمة، ولازم تقعد هنا، وتلبس كذا، و… و… لم أستطب قهوتهم رغم أنها عالمية. بعد طول تجوال في العالم السفلي جاءتني الفكرة أستخلصها من مجمل النظر، في البشر، والمشهد، والمعروض، والسلوك أو ما أسميه ثقافة اليومي. عالم سالفادور السفلي يرسم لي صورة بلاد وأمة تعيش في المابين: تنتشر فيها ظواهر المدنية الغربية المعلومة، ومنجزات الثورة الصناعية، وفزاعات الرأسمالية الأمريكية والوطنية؛ معالم وأسلوب استهلاك، طبعًا بتفاوتٍ بين دولة (إقليم وآخر) حتى لتحسب أنك في عواصمها الأم. وإلى جوار ذاك، قل يوازيه، تشكيل المجتمع الأصلي يتخلله في نسيج بآلاف الأمتار، يعبِّر عن نفسه بحسب المناسبة لينطق في كل مرة عن جماعة وفئة وثقافة و«جالية» خصوصية، وفي جميع الأحوال، وخارج مصطلح الأحزاب والنقابات، لا يتعرف باسم الطبقة، السياسة ليست هوية لأنها ببساطة طارئة ومتقلبة أي براغماتية. إنها ثقافية، دينية وطقوسية ووجدانية ومخيالية الشعب عامة، وهذه راسخة. رأيتها في شارعي، في أحياء العالم السفلي وسيميائيته اليومية، تشبه الشرق، بنت عالمنا الثالث الناهض، وهذا بلد ينهض بقوة، وإن على وجهه خدوش وبجسمه رضوض، والثالث كأنه بين بين في فهم معين، في التفكير التوفيقي الجامع بين «الأصالة والمعاصرة» كأن هذه نقيض لتلك وبالعكس.
لكن، وأنا أتلذذ بعصير الفاكهة الاستوائية، لا أفكر بالوقت وضغط المترو، ولا بحسابات صندوق النقد الدولي، انتبهت أن ما نسميه المابين افتراضٌ، وهروبٌ في حقنا أن نكون ما نريد، أن نصوغ الهوية الملائمة لنا بملء إرادتنا، وهذا طبعًا يستلزم الحرية أولًا ودائمًا. في عالمي السفلي اكتشفت أنني أخطأت في التسمية والتوصيف منذ البداية، أخطأت خاصة في التفريق بين المدينة التاريخية والثانية المشيدة تحتها. ظهر لي الفرق جغرافيًّا محضًا. لن أقول إنهما تتعايشان، بل تتبادلان الأدوار بحسب الظروف والأحوال، وهي مدينة واحدة، أمة واحدة، أصلها في الأرض ثابت وفرعها في السماء. تقتات من التراب وثمار الله، وحين تموت تترك جسدها في ثراه، وتعود تصعد لتثوي في كنف الله. الدليل هذا المصعد، لا تنقطع حركته والطوابير الواقفة في انتظار دورها، بين الأعلى والأسفل، والنازلون هم أنفسهم الصاعدون، لكن من غير أن تميز لحظتها إلى أي عالم ينتمون، بالأحرى ينتمون إلى عالم لا يفهمه الزائرون مثلي. وعليك ألا تنشغل به أو ستضيع في الأحكام المسبقة، وهذه بعض آفة السياحة ومزالق الترحل. سالفادور باهيا خلاصة البرازيل وسلافة دهرها، لا عجب أنها عاصمتها الأولى، وبحكم عراقتها تصارع الزمن العاتي بأَنَفَة، ككل الشعوب العريقة — انظر إلى اليونان، مثلًا — وتتشبث بتاريخها العرقي، والسود فيها يحسُّون بآلام السياط التي جلدت أجدادهم، وفي الليالي المقمرة في الحقول الخلفية لسالفادور، حيث امتدت إقطاعات السادة والملاك، وعلى أرصفة الميناء التحتي، وفي الزقاق الحجري الضيق — حيث يقوم نُزُلي — يرسلون حناجرهم بالغناء الشجي، والكابويرا يقفزون في دوائر الشهب لذكرى الأجداد الذين أفنوا أعمارهم، وعلى أجداثهم أينعت الزهور البرية لحريتهم.