خاتمة
ذكرت في تقديم هذا الكتاب أن عهد أبي بكر له ذاتيته الخاصة وتكوينه التام، وأنه ينطوي على عظمة نفسية تثير الدهشة، بل الإعجاب والإجلال، ولعل القارئ الذي بلغ من تلاوة الكتاب هذه الخاتمة، ووقف على ما تم خلال هذا العصر القصير من جليل الأعمال، يرى رأيي فيما ذكرت، ويقف لذلك معي مليًّا يستخلص من هذا العهد عبرته البالغة، ليرى كيف تنتقل حضارة الأمم من حال إلى حال بتفاعل عناصر الاجتماع خلال الأجيال والعصور، فإذا جاء الأجل الذي خطه القدر في لوحه لم يكن من هذا الانتقال بد، ولم تستطع قوة في العالم أن تقف في سبيله أو تحول دونه.
إمبراطوريتان عظيمتان تمثل إحداهما حضارة الغرب ومقوماتها من عقائد ونظم ومن فن وعلم وتفكير، وتمثل الأخرى حضارة الشرق ومقوماتها من عقائد ونظم ومن فن وعلم وتفكير، يمثل الروم حضارة اللاتين واليونان والفينيقيين والفراعنة، وتمثل فارس حضارة إيران والهند ومذاهب الشرق الأقصى مجتمعة، تمتد الأولى من أواسط أوربا بل من غربها الأقصى إلى شرق بحر الروم، ثم تتخطاه لتقف عند بادية الشام، وتمتد الأخرى من أواسط آسيا، بل من شرقها الأقصى إلى حوض دجلة والفرات، ثم تتخطاه لتقف عند بادية الشام، وهذه البادية التي تلتقي عندها الحضارتان تمتد بينهما جدباء إلا من قبائل نزحت من شبه جزيرة العرب، تنتقل في أرجائها ثم تأوي إلى الروم أو إلى الفرس حيثما يطيب لها المرعى. والإمبراطوريتان تقتتلان فتبهران الأنظار بقوتهما وعظمتهما، لا يسكن تعاقب القرون من حدتهما، ولا تجدان في غير الحروب وسيلة لإرواء ظمئهما إلى المجد، واستكمال حظهما من الترف والنعيم.
أفأعوزت إحداهما أسباب العيش فكان ذلك سبب ما اتصل بينهما من حروب أفنت كلتاهما فيها على القرون ما لا يحصى من مهج، وبيعت فيها الأرواح بيع السماح؟ كلا! بل كانت الإمبراطوريتان مترعتين بخيرات البلاد التي تحكمانها، كانت الروم تنعم بما تغلُّ مصر وسائر ممتلكات قيصر من زراعة وما تنتج من صناعة، ومما كان لمصر وسائر بلاد الإمبراطورية من تراث ضخم في العلم والأدب والفن، وكانت فارس تنعم بخيرات البلاد الخاضعة لكسرى، والتي كانت تمدها بكل ثمراته، لكن كل واحدة من الدولتين كانت تزعم لنفسها حقًّا في المتاع من نعم الحياة بما لا ينعم به غيرها، ولا ترى لذلك بأسًا بأن تغصب غيرها ما في يده من أسباب هذا المتاع، أليست لها القوة وفي متناولها أسباب البطش؟! وحق القوة بعض ما آمنت وتؤمن به الإنسانية أممًا وأفرادًا، ألا يرى أحدنا مواد الترف حاجات ماسة لا غنى له عنها، ثم لا يغيِّر من رأيه هذا ألا يجد جاره الكفاف لنفسه ولذويه! والقوانين تشرع دفاعًا عن حق القوة، ذلك بأن القوة هي قوام القانون تنفذه وتلزم الناس احترامه، فباسم القانون ينال القوي ما يراه حاجة ماسَّة لحياته، وباسم القانون وباسم الحضارة تثير الدول الحروب لتبلغ من أسباب الترف ما يكفل المستوى الذي تراه لائقًا لمكانتها بين سائر الأمم.
لهذا ظلت الإمبراطوريتان تقتتلان سبعة قرون متوالية، فتبهران العالم بقوة بأسهما وسمو حضارتهما، يحالف النصر إحداهما تارة، ويحالف الثانية تارة أخرى، فلا تنهنه الهزيمة من هيبة أيهما؛ لأن الأمم الصغيرة من حولها كانت ترى دورة الدوائر بينهما، وترى مغلوب اليوم منهما غالبًا غدًا، فتحسب أن القدر فرضهما على الوجود فرضًا، وأنها من القوى الثابتة في دورة الكون كالشمس والقمر والكواكب سواء.
وبينما لا تعرف الأمم إلا اسميهما، ولا تتحدث إلا بفعالهما، إذا أمة تنهض من حيث لم يكن أحد يتوقع أن تنهض، وأنَّى لشبه جزيرة العرب ببواديها الماحلة وصحاريها الجرداء أن تبعث أمة أو تنشئ دولة! وأنَّى لقبائل هذه البادية، وكل ما تعتمد عليه في حياتها الغزو والسلب، أن تفكر في حضارة، بله أن تقيمها؟! لقد كان كسرى فارس يسميهم رعاة الإبل والغنم، وكان قيصر الروم يصفهم بالحفاة العراة الجياع، أفمن هؤلاء الرعاة الحفاة تنهض أمة يعبأ بها الروم أو يهتم لها الفرس؟!
مع ذلك نهضت هذه الأمة، فواجهت الأسدين فارس والروم، وحاربتهما وتغلبت عليهما، وقد رأيت من خلال هذا الكتاب أن العرب لم يتغلبوا على الأسدين بتفوق في العدة أو في العدد، وإنما تغلبوا بالعقيدة الثابتة والإيمان الذي لا يتزعزع، وبهذا الغلب نشأت الإمبراطورية الإسلامية التي حملت عبء الحضارة في العالم عشرة قرون تباعًا، والتي نشرت الإسلام في أنحاء الإمبراطوريتين وفيما وراءهما: في الهند والصين والتركستان وغيرها من ممالك آسيا، وفي مصر وما وراءها إلى المحيط الأطلنطي من بلاد إفريقية، وفي عاصمة قسطنطين، وفي روسيا وإسبانيا وغيرها من أمم أوربا.
كيف حدثت هذه المعجزة؟! كيف تغلب العرب مع قلة عددهم، وضعف حضارتهم، وتأخر علومهم وفنونهم، على الفرس وعلى الروم ولهم من العدد ومن الحضارة ومن العلوم والفنون ما لا يزال التاريخ يحدِّث عنه في إكبار أي إكبار؟! أهي المصادفة التي لا تفسير لها من سنن الكون؟! كلا! فلو أن ما حدث في عهد أبي بكر أثمرته المصادفة لما كُتب له أن يبقى وأن يتصل على الزمان، ولوقف الفرس والروم في وجه العرب فردوهم على أعقابهم، لكن ما حدث في عهد عمر وعثمان من توغل العرب في أراضي الإمبراطوريتين العظيمتين والقضاء عليهما، لا يدع مجالًا للريب في أن ما حدث كان حتمًا قضت به سنن الكون، ولذلك اطرد فكانت الحضارة الإسلامية ثمرته، وما كانت المصادفة لتتمخض عن مثل هذه الحضارة التي ازدهرت في ظل لوائها كل مقومات الحضارة، فقد اجتمع للحضارة الإسلامية من العلم والأدب والفن وسائر ألوان الثقافة ما حل في العالم محل الثقافة اليونانية بعلمها وأدبها وفنها وتفكيرها، وذلك بعد أن كانت اليونان وارثة مصر وآشور والحضارة الإنسانية الأولى جميعًا. لا مفر لنا إذن من أن نلتمس لهذه الظاهرة الكونية العظيمة تفسيرًا من سنن الكون يكشف لنا عن السر في قيام هذه الحضارة، وامتداد سلطانها في العالم، واستقرارها فيه دهرًا طويلًا.
ومن سنن الكون أن الأمم والحضارات يصيبها الهرم على نحو ما يصيب الأفراد، فإذا هرمت وشاخت دب الفساد إلى كيانها، فأدى إلى انحلالها، وإلى قيام أمة شابة وحضارة شابة مقامها.
أشرت غير مرة في غضون هذا الكتاب إلى عوامل الفساد والاضطراب التي كانت تظهر الحين بعد الحين في فارس وفي الروم، وقد استفحلت هذه العوامل في القرن السادس المسيحي واشتد خطرها، فكان من أثرها في فارس أن اضطرب بلاطها، وانتشرت الدسائس في جوها، وتنازع الطاعون في عرشها، واتخذ بعضهم الغدر سلاحه لتولي أمورها، بذلك فسد الرأس، فامتد الفساد منه إلى ما دونه، فكثرت مذاهبها وأحزابها، وتبلبلت عقائد الناس فيها، فانكمشوا يتوفرون على رزقهم يكثرونه، ويلتمسون النيل والجاه عن طريقه، هذا إلى أن الطوائف في فارس كانت كثيرة العدد كثيرة المطامع؛ تريد الحكم تستذل به رقاب السواد، وتبلغ باستغلاله كل ما تصبو إليه من أسباب النعمة والمتاع، لذلك انحلت العصبية القومية في الفرس، وانهارت القوة المعنوية في نفوسهم، وتدهور مثلهم الأعلى إلى حيث لا يعدو متع الحياة ولينها، طبيعي وذلك شأنها أن يتداعى ركنها، وأن تضعف مقاومتها، وبخاصة إذا واجهتها قوة تسمو على الحياة وتتخذ المثل الأعلى شعارها.
كانت هذه العوامل تنخر في عظام الإمبراطوريتين العظيمتين وتنحدر بهما سراعًا إلى مهاوي الشيخوخة، فكان من مقتضيات سنن الكون أن تقوم أمة شابة مقامهما، توجِّه العالم وتكيِّف مصايره، والنجاح مكفول لهذه الأمة ما حملت إلى العالم رسالة يشوق الناس سماعها، ويرون فيها ما ينقذهم من شرور طالما ناءوا بها ورزحوا تحت أعبائها.
لم يكن عالم يومئذ يشقى بأسباب الحياة المادية؛ فلم يكن همه الأول رفع مستوى العيش، إنما كانت تعوزه الطمأنينة إلى الحياة والمتاع بالحرية فيها، فقد كان الناس لا يتحركون ولا يسكنون أحرارًا في حركتهم وفي سكونهم، بل كانت العقائد والقوانين السائدة يومئذ تكبِّلهم بقيود شلَّت حركتهم وأهدرت حريتهم، لم تقف هذه العقائد والقوانين عند المبادئ العامة التي تكفل للفرد حريته في ظل النظام، وتكفل بذلك للجماعة أن تُطوَّر إلى ناحية الكمال بجهود أفرادها الأحرار وجماعاتها الطليقة، بل دخلت القيود مع الفرد داره ومخدعه، وآذته في يقظته وفي نومه، فشلَّت نشاطه وتفكيره، وجعلت التحايل وسيلته إلى اتقاء الأذى والفرار من البطش، وإلى اهتبال الرزق من كل طريق، والتوسل بسعته وبسطته إلى مكان النبل والجاه، نبل البطش وجاه الجبروت، وحيثما قضي على النشاط الحر للعقل الإنساني، فذلك النذير بانحلال الأمة وتدهورها،، وبدبيب الشيخوخة إلى كيانها.
لم يكن بدٌّ، وقد جمدت الإمبراطوريتان فارس والروم فدب الفساد في كيانهما، من أمة جديدة تنهض فتدفع العالم إلى الأمام، ترى في أية أمة تستكنُّ هذه القوى الدافعة، ومتى يتاح لها أن تظفر؟! ذلك أمر كتبه القدر في لوحه، أو هو، على تعبيرنا العلمي في هذا العصر، أمر ثابت في دورة الزمان والمكان للجماعة الإنسانية ثبوت كسوف الشمس وخسوف القمر وظهور المذنبات في دورة الفلك، وقد شاءت الأقدار فألقت على الأمة العربية في شبه الجزيرة عبء النهوض بالحضارة المتداعية، وبعث الحياة في شتى نواحيها، ولهذا اصطفى الله نبيه محمدًا ﷺ، فأوحى إليه دين الحق يبلغه للناس ويدعو إليه بالحجة والموعظة الحسنة، عن طريق النظر في الكون، نظرًا حرًّا من قيود الوثنية والمجوسية ومن الجدل العقيم الذي هوت إليه المذاهب المتضاربة في بلاد الروم، وقد حوربت هذه الدعوة في منبتها حربًا اتصلت على السنين، فلم تعرف هوادة ولا صلحًا، حتى نصر الله دينه وأتم كلمته، إنما أراد الله لهذه الدعوى أن تنتصر ببساطتها وصفائها وسموها بالكرامة الإنسانية وبالعقل الإنساني إلى المكان اللائق بهما، وبانتصارها قُضي على الوثنية في شبه الجزيرة كلها قبل أن يختار رسول الله من عند الله.
أما وقد قضت الدعوة إلى التوحيد وإلى مبادئ العدل وسمو الخلق على كل ما يخالفها، فلم يكن لزعماء الردة في بلاد العرب أن يحاولوا إعادة الوثنية، وإنما حاول هؤلاء الزعماء استغلال التوحيد والمبادئ المترتبة عليه لينتشر سلطانهم، وتعظم فائدتهم في تجارة الحياة، ولهم من العذر عن ذلك أننا معشر الناس لما بلغ من سمو الإدراك ما يجعلنا نقيم الحد الفاصل بين الحق لذاته، والمنافع المادية التي نجنيها من استغلال اسمه والتذرع لخداع الناس بسلطانه، والناس يرون الحق فيبهرهم لألاؤه، ويعشون دون استجلائه في جلال كماله؛ لأن الضمير الإنساني لا يزال في طفولته، والنفس الإنسانية لا يزال جوهرها العلوي يختلط بجواهر النقص التي تغشَّى عليه وتُفسد حكمه.
لذلك يؤذي الناس من يدعونهم إلى الحق، ويحتمل الدعاة الصادقون هذا الأذى راضية نفوسهم ما أدى احتماله إلى ذيوع الحق وانتشار كلمته، وكلما علا صوت الحق اشتد في حربه من يخشونه على بسطة رزقهم وسلطان بأسهم، ذلك هو النزاع الذي اتصل على الزمان بين المنافع العاجلة والمبادئ الخالدة، والذي جعل الحرب مسوغة للقضاء على الباطل ورد كيده إلى نحره.
والضمير الإنساني لا يزال قريبًا من طوره الذي كان عليه في القرن السادس المسيحي، فهو لم يشب بعد عن الطوق، لذلك لا تفتأ الحرب تشب لأغراض دون ما قامت حروب الردة وحروب الفتح في العراق والشام لتحقيقه، ترتفع الصيحة للحرية وللعدل وللإخاء، فيُلقي الناس بكل سمعهم للمنادي بها، ويبذلون حياتهم فداء لها، وتدوي آلات الدمار لنصرتها، فإذا وضعت الحرب أوزارها، توقع الناس أن تظلهم المبادئ التي قاتلوا في سبيلها، لكن ما تحقق من هذه المبادئ لم يزد يومًا على طيف تتبدى وراءه حقيقة نحيفة، هي على نحافتها مبهمة غير واضحة المعالم. من ثم بقيت الشرور التي شكا الناس منها تثقل حتى اليوم كواهلهم، ولم تفد مبادئ الحرية والعدل والإخاء من تضحيات الإنسانية إلا قليلًا، أما الثمرة الكبرى للحروب الطاحنة فقد آل معظمها إلى الذين يؤمنون بحق الجسد في النعمة والمتاع، والذين يبتغون الجاه والمال ويكنزون الذهب والفضة، ولا يرون بأسًا في أن يرووا غلتهم للمتاع وظمأهم للمال بما أريق من دماء الإنسانية، وما بذل من مهج وأرواح فداء للعدل والإخاء والحرية.
وسبب ذلك ما قدمنا من أن الضمير الإنساني لا يزال أدنى إلى الطفولة، والطفولة كثيرة العثرات، لكن عثرات الطفل لم تصده يومًا عن أن يعود فيمشي ليعثر من جديد.
وهذه العثرات هي التي تعلِّمه كيف يحفظ توازنه حتى تصل به إلى أن يسير مستقيمًا سويَّ القامة، يسرع الخطا إلى فتوة الشباب ثم إلى حكمة الرجولة، ولعل عثرة قاسية تكب الناشئ على وجهه تكون أجدى عليه وأقوى أثرًا في تقويم سيرته، ولقد كانت كبوة فارس والروم من العثرات القاسية التي صادفت الإنسانية؛ لذلك كان قيام الإسلام ونهوض الإمبراطورية الإسلامية من أقوى البواعث على تقدم الضمير الإنساني إلى ناحية نضجه.
وآية ذلك أن الإسلام إنما استرعى سمع الناس فدانوا به؛ لأنه يصور مثل الإنسانية الأعلى، ويسمو بالحرية وبالكرامة الإنسانية إلى أرفع الذرا، فهو لا يجعل للناس إلهًا غير الله، هم عباده وحده جل شانه، لا يملك لهم أحد غيره نفعًا ولا ضرًّا، ولا مثوبة ولا عقابًا، وما يصيبهم في هذه الحياة أو يصيبون فيها يجزيهم الله عنه الجزاء الأوفى، فليعملوا إذن مطمئنين إلى حريتهم، لا يريدون إلا وجهه، فإذا أصابهم ظالم بمكروه فالويل لظالمهم من ربه، وإذا رأوا منكرًا فليزيلوه، وليعلموا أن الله من ورائهم محيط.
لماذا كتب القدر الحكيم منذ الأزل في لوحه، فاصطفى الله نبيه الكريم من شبه جزيرة العرب دون غيره من أرجاء العالم؟!
ليس في مقدورنا، ولا في مقدور غيرنا، أن نقطع برأي حاسم في الجواب عن هذا السؤال، فنحن جميعًا لم نؤتَ من العلم إلا قليلًا، لكن ذلك لا يمنعنا من تلمُّس سنن الكون والاجتهاد لإدراك ما يقع بمشيئة الله فيه، وما يقع في حياة الإنسانية وجماعاتها يخضع لهذه السنن الثابتة كما يخضع لها سائر ما في الكون مما برأ الله، فمن الحق علينا أن نحاول تفسير الظاهرات الاجتماعية على ضوء هذه السنن، وإن كنا لا نطمع اليوم، وعلمنا الإنساني كما هو، في أن نعرف ما يطويه غيب المستقبل للجماعات الإنسانية على النحو الذي نستطيع أن نعرف به ما سيكون من أمر الأفلاك ودوراتها.
والذي يهدينا إليه الاجتهاد جوابًا عن هذا السؤال أن حضارة العالم استقرت في الأجيال الأولى من حياة الإنسانية، وإلى القرن السادس المسيحي، في مصر وآشور واليونان ورومية، ثم امتدت منها إلى ما وراءها؛ وأن العقل الإنساني بلغ من النضج في هذه المناطق ما لم يبلغه في غيرها، مما يسر الضمير الإنساني أن يستقيظ فيها ويبزغ فجره، ولذلك وجهت الإمبراطوريتان فارس والروم مصاير العالم في ذلك العهد، ونهضتا بعبء الحضارة فيه، فلما آن لهاتين الإمبراطوريتين أن تهرما كانت شبه جزيرة العرب هي المنطقة المستقلة عنهما، المتصلة مع ذلك بهما، المتداخلة فيهما، ومهما يكن من أمر هذا الهرم الذي أصابهما فالدعوة إلى المثل الأعلى أدنى إلى أن تستجاب فيهما، وأن تمتد منهما إلى ما وراءهما، هذه كلها أحداث كتبت منذ الأزل في لوحد القدر، فلا غرو أن يكتب معها منذ الأزل أن يقوم الداعي إلى المثل الأعلى في أدنى الأرض من الإمبراطوريتين وأكثرها مع ذلك استقلالًا عنهما، فالاستقلال هو الكفيل بحرية العقل، وبأن يستجيب الناس آخر الأمر للدعوة إلى الحق.
وكذلك اصطفى الله للقيام بهذه الدعوة نبيه من أهل شبه الجزيرة، ومن بلد هو أكثر بلاد شبه الجزيرة استقلالًا، وأوفر هذه البلاد لذلك العهد عزة وكرامة.
ودعا محمد قومه إلى التوحيد وإلى المبادئ التي يتحقق بها مثل الإنسانية الأعلى، ثم بلغ دعوته إلى عاهلي الإمبراطوريتين فارس والروم ودعاهما إلى ما جاء به من الحق، بذلك أقام الحد الفاصل بين الحق والباطل، وحذر الناس حين دعاهم إلى الحق ممن يخادعون الناس باسمه، ثم ترك من بعده أصحابه الذين عزروه في حياته ونصروه، والذين أدركوا ما جاء به وامتثلوه.
وأنت قد رأيت كيف بلغ أبو بكر من سمو الإدراك لهذه المبادئ ما مكنه من أن يقيم في نفسه الحد بين الحق لذاته والمنافع العاجلة التي يسعى إليها من يخادعون الناس باسم الحق؛ ورأيته كيف أصر على أن ينصر الحق لذاته ولو قام لنصرته وحده، وإذا بلغ سمو الإدراك من نفس هذا المبلغ، فذلك الدليل على نضج الضمير غاية النضج، ولو أن الإنسانية كلها بلغت يومًا هذا النضج لما شبت الحرب بين بنيها، ولاستجاب الله دعوة الذين يدعونه عند بيته المحرم: «ربنا أنت السلام ومنك السلام، أحينا ربنا بالسلام!»
لا يزال الأمد بعيدًا بيننا وبين اليوم الذي تستجاب فيه هذه الدعوة، فالناس لا يزالون إذا دعوا بالحكمة والموعظة الحسنة إلى غير ما وجدوا عليه آباءهم جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأخذتهم العزة بالإثم، وأبوا أن يجادلوا بالتي هي أحسن، وحسبوا أن القوة الغاشمة تخفت صوت الحق، ذلك أن ضميرهم لا يزال في طفولته، والطفل يحسب أنه كلما ضج وعلا ضجيجه خضع أبواه لرغائبه وأهوائه، فإذا رأى أبويه يهذبانه ولا يزعجهما ضجيجه أذعن وسكن، وذلك ما صنع أبو بكر مع أهل الردة حين ضجوا وحاولوا المقاومة، أخذهم بما يجب أن يؤخذوا به، فقضى على مقاومتهم وعلى ضجيجهم.
وشاءت الأقدار أن تمهد لانتشار الإسلام في فارس والروم بانتشار العرب في بادية الشام؛ فقد يسروا لأهل الجزيرة أن ينفذوا إليهم، وأن يتخطوهم لغزو الفرس على شاطئ دجلة والفرات وما وراءهما، ولغزو الروم في الشام وفي مصر إلى السودان.
أنت ترى من ذلك كله أن المعجزة التي حدثت في عهد أبي بكر لم تكن ثمرة المصادفة، وإنما كانت أمرًا محتومًا قضت به سنن الكون التي لا تبديل لها، فلو أن شبه الجزيرة لم تكن تجاور الشام والعراق، ولو أن اللغة العربية لم تكن لغة القبائل التي استقرت ببادية الشام منذ قرون، ولو أن الله لم يصطفِ نبيه في ذلك العهد الذي اشتد فيه ظمأ العالم لسماع كلمة الحق والاهتداء بنوره، لو أن ذلك كله لم يكن، لجرت المقادير بغير ما جرت، ولكان تاريخ الإنسانية غير ما نعرف اليوم، ولما حلت الحضارة الإسلامية محل حضارة فارس والروم، بل لاتخذت الحضارة أطوارًا أخرى غير التي عرفنا من يومئذ إلى عصرنا الحاضر.
وإذا شاءت الأقدار أن تتم على الأرض مثل هذه المعجزة مهدت لها بما رأيت، وهيأت لها أسباب الفوز، فأبرزت من ملكات الرجال ومواهبهم ما يخطون به في صحف الكون مشيئة القدير الحكيم. لقد رأيت ما صنعه أبو بكر وخالد بن الوليد وعمر بن الخطاب وأمراء الجند المسلمين، ورأيت كيف اضطلعوا بمثلها لولا أن أراد ربك لهذه المعجزة أن تتم وفاقًا لسنته. فلولا هذه المشيئة لظل أبو بكر تاجرًا ينمو ربحه ويكثر ماله، ثم تنطوي صفحته ولم تزد مكانته في قومه على زعامة قبيلة تيم بن مرة، وعلى احتمال الديات والمغارم، ولولا هذه المشيئة لظل خالد بن الوليد فارس بني مخزوم وفارس قريش، ولما سما اسمه فاقترن على التاريخ بأسماء الإسكندر الأكبر، ويوليوس قيصر، وهانيبال، وجنكيز خان، ونابليون، ولولاها لما أصبح اسم الفاروق عمر بن الخطاب علمًا للعدل والرحمة والبأس مجتمعة، فإذا نحن أرَّخنا اليوم لهم وأشدْنا بفعالهم، وقرنَّا سمو الدعوة للحق إلى اسم القائد العبقري وجعلنا منهما وحدة على الزمان، لم نعدُ بذلك أن نرسم صورة من مشيئة القدر والعوامل التي تهيأت لتنفيذها، والتي أدت إلى انتقال الحضارة هذا الانتقال الذي مهد لعهد جديد في حياة العالم.
أما وقد ذكرت القائد العبقري خالد بن الوليد، فلأقف الآن وقفة قصيرة أتناول مسألة تناولتها في «حياة محمد»، لكني أتناولها هنا من غير الناحية التي تناولتها هناك. لقد طالما تحدث من شاء عن انتشار الإسلام بالسيف، وقد بينت في «حياة محمد» أن القرآن ينكر حرب الاعتداء في مواضع كثيرة منه، يقول تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة: ١٩٠) ويقول: فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (البقرة: ١٩٤)، وهو يدعو إلى الصلح والصفح والتسامح دعوته لحرية الرأي ولدفاع المؤمن عن عقيدته إن حاول غيره أن يفتنه عنها.
هذه مبادئ ثابتة في الإسلام يصور بها المثل الأعلى ويدعو الناس إليه، فما بال أبي بكر دفع المسلمين لحروب الردة ولفتح العراق والشام؟ وما بال أمراء المؤمنين بعده نهجوا في هذا الأمر نهجه وساروا فيه سيرته؟ لقد كان الصديق أكثر المسلمين اتصالًا بالنبي وامتثالًا لما أمر الله به ونهى عنه، أفلا ينهض ذلك دليلًا على أن الإسلام، وإن أقر مبادئ الرحمة والتسامح والصفح، لم ينكر على الدعاة إليه أن ينشروه ببطش القوة! ولذلك غزوا البلاد وحكموها ودعوا أهلها إلى دينهم؟
لا شك في أن الصديق قد نفذ في حروب الردة ما جاء في كتاب الله من قوله تعالى في سورة براء: فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (التوبة: ١٢)، وهم لم يعدُ ما أمر الله به حين وافق على غزو العراق وغزو الشام، وليس معنى ذلك أن هذا الغزو هو المثل الأعلى الذي دعا الإسلام إليه وجعل السلام غايته، وإنما معناه أن ما حدث منه هو بعض إملاء الغرائز الإنسانية في ذلك الطور من طفولة الضمير الإنساني، كما أنه بعض إملاء هذه الغرائز في عصرنا الحاضر حيث الضمير الإنساني لا يزال يتدرج إلى الصبا، فله من الصبا طيشه ونزواته.
وإملاء الغرائز كثيرًا ما أدى إلى عثرات كعثرات الطفل في سيره، ترهقه وتؤلمه، ثم تنتهي به ليسير مستقيمًا سوي القامة يسرع الخطا إلى فتوة الشباب وحكمة الرجولة.
والإسلام لم يغفل، حين صور المثل الأعلى للإنسانية، أن بلوغ الغاية من هذا المثل إنما يكون حين يبلغ الضمير الإنساني نضجه، وذلك لا يتم إلا أن تتعاقب عشرات الأجيال ومئاتها حثيثة السعي إليه كيما تدركه، لذلك قدر الإسلام الواقع من أمر الإنسانية وما تمليه عليها غرائزها، ورسم السبيل التي تسلكها لتقترب رويدًا رويدًا من غايتها، وكما أنك إذ تربي ولدك ليبلغ ما تريده من كمال الجسم والعقل لا تحمله على أن يسير سيرة الرجال، بل ترضي أهواء طفولته وصباه حينًا وتكبح هذه الأهواء حينًا آخر، وكما أنك تصادف أثناء ذلك من صلابة الطفولة والصبا ما قد يقف تقدم ولدك تارة، وتصادف من مرونته وذكائه ما يسرع بتقدمه تارة أخرى؛ فإذا رأيته صلبًا لم تكسره، بل لنت له لتلين صلابته، وإذا رأيته متقدمًا أغريته ليتابع تقدمه ويزداد إسراعه فيه، وربما دعاه هذا الإسراع إلى وقفات تجني عليه وتؤذيه؛ كذلك رأى الإسلام أن يساير الضمير الإنساني في تدرجه من الطفولة إلى الصبا، وجعل تهذيب هذا الضمير غايته الأولى، كما جعلت أنت تهذيب طفلك غايتك الأولى، وهو لذلك يساير الغرائز ليقومها، يلين لها حينًا ويقسو بها حينًا، جاعلًا همه دائمًا أن يتجه بها إلى الناحية التي تدنيها من الغاية التي أرادها، والمثل الأعلى الذي صوره لها.
والضمير الإنساني يجمد أحيانًا حتى نخاله ارتد عن تقدمه، ويسرع السير أحيانًا أخرى إسراعًا يخشى منه العثار، وسيره قد يقف وقد يتغير اتجاهه، فإذا القوى التي تدفعه إلى التقدم تضطرب بين أرجاء العالم المختلفة، وذلك ما حدث حين جمدت الأمم الإسلامية وجمدت المبادئ التي دعا الإسلام إليها، لكن الجمود والوقفة ليسا في طبيعة الحياة، لذلك يخفيان دائمًا عوامل الدفاع تستكنُّ دونهما، ثم لا تلبث أن تظهر فإذا الإنسانية تستأنف تقدمها، وهذا التقدم هو الذي يجعلنا نؤمن بأن الضمير الإنساني لا بد له يومًا من أن يبلغ الغاية من النضج، وإن اقتضى ذلك أن تتعاقب عليه مئات الأجيال، فإذا بلغ هذه الغاية بلغ المثل الأعلى كما صوره الإسلام، عند ذلك يُظِل الأرض سلام الله، ويستجيب الله دعاء من يدعونه عند بيته المحرم: «ربنا منك السلام وإليك السلام، أحينا ربنا بالسلام.»
يجب أن يسمع الناس جميعًا دعوة الحق في مختلف أرجاء الأرض خلال تعاقب الأجيال ليتقدم الضمير الإنساني رويدًا رويدًا إلى النضج، ولن يبلغ النضج مداه حتى يعم الإنسانية كلها، فأما إن نضج الضمير في ناحية من العالم ثم ظلت غرائز الطفولة ونزوات الصبا تحركه في سائر الأرجاء، فسيبقى لسلطان هذه الغرائز والنزوات من الحكم ما يديم النزاع ويديم الحرب، وما يقتضي قوادًا عباقرة من أمثال خالد بن الوليد أن يكونوا الأداة لتهذيب الشذوذ في كل ناحية لم ينضج فيها الضمير؛ شأنهم في ذلك شأن المربي إذ يهذب شذوذ تلاميذه.
وإنا لنسجل في كثير من الغبطة والرضا خطوات تقدمها ضمير الإنسانية من الطفولة إلى الصبا، لا يصدنا عن ذلك ضيق هذه الخطوات واضطرابها، لقد كان للإسلام في هذا التقدم أعظم الأثر، وسيكون له مثل هذا الأثر من بعد حتى تتم كلمة ربك ويؤمن الناس بالمثل الأعلى في مشارق الأرض ومغاربها.
«لقد كان دين محمد موضع تقديري السامي دائمًا لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة؛ لأنه، على ما يلوح لي، هو الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة، والذي يستطيع لذلك أن يجذب إليه كل جيل من الناس.
لا مرية في أن العالم يعلق على نبوءات كبار الرجال قيمة كبيرة، وقد تنبأتُ بأن دين محمد سيكون مقبولًا لدى أوربا غدًا، وهو قد بدأ يكون مقبولًا لديها اليوم.
لقد عمد رجال الإكليروس في العصور الوسطى إلى تصوير الإسلام في أحلك الألوان؛ وذلك بسبب الجهل أو بسبب التعصب الذميم، والواقع أنهم كانوا يسرفون في كراهية محمد وكراهية دينه ويعدونه خصمًا للمسيح، أما أنا فأرى واجبًا أن يدعى محمد منقذ الإنسانية، وأعتقد أن رجلًا مثله إذا تولى زعامة العالم الحديث، نجح في حل مشكلاته، وأحل في العالم الإسلامي السلام والسعادة، وما أشد حاجة العالم اليوم إليهما!
لقد أدرك مفكرون منصفون قاموا في القرن التاسع عشر ما لدين محمد من قيمة ذاتية، من هؤلاء كارليل، وجوته، وجيبون، بذلك حدث تحول صالح في موقف أوربا من الإسلام، وقد تقدمت أوربا تقدمًا كبيرًا في هذا القرن المتم العشرين، فبدأت تحب عقيدة محمد، ولعلها تذهب في القرن التالي إلى أبعد من ذلك فتعترف بجدوى هذه العقيدة لحل مشاكلها.
هذه الكلمات التي نقلت إلى العربية من عشر سنوات خلت تؤيد ما قدمت، وها نحن أولاء نسمع اليوم من زعماء العالم عبارات تردد مثل الإسلام الأعلى وتدعو إليه وتستهين بالحرب في سبيله، ولا تزال الإنسانية تضطرب في هذه السبيل خلال طوفان جارف من الآلام والتضحيات والدموع، وهي تبذل اليوم منها أضعاف ما بذلت مجتمعًا على القرون التي خلت، أفقُدِّر لها أن تبلغ ما طالما أملت بلوغه، وأن تعيش في ظلال الحرية والمحبة والسلام؟ أفيكون النظام الجديد الذي يتحدث زعماء العالم اليوم عنه محققًا حرية الشعوب، كما حققت الثورات فيما مضى حرية الأفراد؟ وهل يؤدي ذلك إلى أن يتحرر الجميع صدقًا من قيود الخوف والفاقة، وأن يتعاونوا تعاونًا خالصًا لوجه الله يسعد به الناس في مختلف أرجاء العالم؟ هذا أمل عذب ما أحبَّه إلى كل نفس، وأقربه من كل قلب! وما أشد الناس حرصًا على أن يتم فتتم به على الأرض كلمة الحق والسلام!
وتحقيق هذا الأمل رهن أن يبلغ الضمير الإنساني نضجه، ترى هل كتب القدر الرحيم في لوحه أن تتمخض الآلام والضحايا التي احتملها العالم في هذا القرن المتم للعشرين عن هذا النضج؟! لا ريب عندي في أن الإنسانية ستخطو في هذه السبيل خطوة إن لم نستطع اليوم أن نقدر مداها فمن حقنا على كل حال أن نغتبط بها، وأن نرجو بعدها خطوات أفسح منها، فالعالم اليوم تتقارب أجزاؤه، وتتزايد وسائل الاتصال بين أبنائه، كانت الصحافة تعد في القرن الماضي أعظم قوة لتيسير التفاهم بين الناس، ثم كانت صحافة أمريكا لا تصل إلى هذا الشرق العربي قبل أسابيع من ظهورها، أما ما يجري اليوم في العالم فيتلقاه الناس في مختلف أرجائه بسرعة البرق على موج الأثير عن طريق الإذاعة، وهذه الإذاعة المشغولة اليوم بأنباء الحرب وأهوالها ودعايتها ستشغل غدًا بالدعوة إلى السلم وإلى السمو الإنساني وتصور الوسيلة التي تهيئ أسبابهما، وقد تهذب هذه الدعوة الضمير وتقربه من النضج، وتجعله الحكم العدل المنزه عن الهوى، والذي يستطيع لذلك أن يجنب الإنسانية الحرب، فيجنبها الضحايا والآلام والدماء والدموع.
متى يبزغ فجر هذا اليوم ومتى تشرق شمسه؟ إنا نراه بعيدًا، ويراه الله قريبًا، فيومٌ عند ربك كألف سنة مما تعدون، وذلك اليوم الذي تشرق فيه الشمس على الإنسانية وقد نضج ضميرها، هو الذي تبلغ فيه الكمال ويصبح فيه المثل الأعلى حقيقة واقعة، ويومئذ يصفو جوهر النفس من كل ما يخالطه من شوائب النقص، فتسمو على إملاء الغرائز الدنيا، وتمتثل مبادئ قائمة بها، بل تصبح سر حياتها، فإذا مر بها طيف يخالفها لفظته وعدَّته دخيلًا عليها ومرضًا يؤذيها ويتلفها، عند ذلك يكمل إيمان الناس جميعًا، فيحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، وينظر كل منهم نظرة الإشفاق والتألم لكل من تبدو في نياته أو أعماله شائبة من أثرة أو نزوة من هوى، ويرون واجبًا عليهم أن يلتمسوا له الطب وأن يسعفوه بالدواء؛ فإن برئ فذاك، وإلا عزلوه عنهم اتقاء عدواه، ورجاء أن يسمع أثناء العزلة صوت الحكمة، فإذا سمعه برئ وعاد إلى الناس وقد صار مثلهم، وأصبح ضميره قاضيه الذي يحاسبه وينصفه منه من ترد بخاطره خصومتهم، وأصبحت نفسه التي برأت فلم تعد أمارة بالسوء هي التي تجعل الناس جميعًا أحب إليه من نفسه، وآثر عنده منها.
ويومئذ يصبح ضمير الإنسانية ميزان العدل بالقسطاس المستقيم، فلا تكون أمة خيرًا من أمة، ولا جنس خيرًا من جنس، ولا لون خيرًا من لون، بل تكون الأمم كالأفراد إخوة يربط بينها العدل والرحمة ويدعوانها للتعاون على البر والتقوى، ويجعلان الأمم الصغيرة آثر عند الأمم الكبيرة من نفسها، والأمم الضعيفة والأمم القوية سواء في السعي إلى الخير ابتغاء وجه الله وحده.
ويومئذ ينظر أبناؤنا مطمئنين من عالمهم السعيد إلى عالمنا الذي انطوى في صحف الماضي وطوانا معه، أتراهم يتحدثون بينهم مشفقين مما احتمل هؤلاء الآباء بحكم غرائزهم وشهواتهم، باسمين سخرًا من هذه الشهوات والغرائز، ومن إذعان الناس لها وإسلامهم لحكمها؟! أم تراهم ينصفوننا، والضمير الناضج منصف بطبعه، فيقدرون أن غرائزنا وشهواتنا وآلامنا وضحايانا هي التي أدت بهم إلى ما ينعمون به من سلام وسعادة؟! ما نراهم إلا منصفين، وما نراهم، إذا قر نظرهم خلال هذا الماضي عند عهد أبي بكر ورأوا ما تم في خلافته القصيرة الأمد من خلال جلائل الأعمال إلا يقولون: رحم الله الصديق صفي النبي وخليله! لقد كان ضعيفًا في بدنه، قويًّا في إيمانه، وقد دفع العالم بقوة هذا الإيمان دفعة نشرت فيه لواء الحق وأقرت كلمته، والكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، والذين جاهدوا مؤمنين لإقرار كلمة الحق لهم عند ربهم جزاء الصديقين، وحسن أولئك رفيقًا.
ستكون هذه كلمتهم، فهي كلمة التاريخ المنصف، ونحن نقولها اليوم وسيقولها من بعدنا أبد الدهر، ومن أحسن قولًا ممن جعل الله حجته، والإنصاف غايته!