أبو بكر في حياة النبي
ليس فيما انحدر إلينا من الروايات عن نشأة أبي بكر الأولى ما يعاون على تعرف شخصيته في هذا الطور من حياته، فما يروى عن طفولته وعن صباه لا غناء فيه، وما يروى عن أبيه وعن أمه لا يعدو ذكر اسميهما، وذكر ما كان من أبيه بعد أن أصبح أبو بكر رجلًا من كبار المسلمين له في حياة أبيه أثر، ولا أثر لأبيه في حياته، وإنما يُعنَى المؤرخون من أمره بذكر قبيلته ومكانتها من قريش، شأنهم في ذلك كشأنهم في غيره مما يتصل بتاريخ العرب؛ إذ يرون في نسبتهم إلى قبيلة من القبائل ما يفسر بعض طباعهم وأخلاقهم، وقد يكون ذلك حسنًا، وقد يراه المؤمنون بمبدأ الوراثة صالحًا لتحقيق مذهبهم، وإن رأى غيرهم من المبالغة في تقديره ما يصرفهم عن الدقة في تمحيصه.
وأبو بكر من قبيلة تيم بن مرة بن كعب؛ فهو يلتقي في نسبه بالنبي ﷺ ويرتفع إلى عدنان، وكان لكل من القبائل المقيمة بمكة اختصاص بأمر يتصل أو لا يتصل بمناصب الكعبة، فكان لبني عبد مناف السقاية والرفادة، ولبني عبد الدار اللواء والحجابة والندوة، وذلك قبل أن يولد هاشم جد النبي، أما قيادة الجيوش فكانت لبني مخزوم أجداد خالد بن الوليد، وكانت الديات والمغارم لتيم بن مرة، وقد آل أمر الديات في الجاهلية إلى أبي بكر حين استدعاه فتولى الزعامة في قبيلته؛ لذلك كان إذا احتمل شيئًا منها فسأل قريشًا صدقوه وأمضوا حمالة من نهض معه، وإن احتملها غيره خذلوه.
وقد رُويت في الإشادة بذكر تيم ومكانتها من قبائل العرب روايات تقصها كتب المتأخرين، ذكروا أن المنذر بن ماء السماء طلب امرأ القيس بن حجر الكندي فأجاره المعلى التيمي؛ فقال امرؤ القيس في ذلك:
ولهذا البيت سمي بنو تيم «مصابيح الظلام».
على أن ما تنسبه الروايات المختلفة لبني تيم من الصفات لا يختلف عما ينسب لغيرها من القبائل، ولا يميزها لذلك بطابع خاص يفيد المؤرخ أو يدل على صفة بذاتها فيمن ينسب إليها، فهذه الروايات تنسب إلى تيم من صفات الشجاعة والكرم والمروءة والنجدة وحماية الجار وما إليها ما تشترك القبائل العربية التي تعيش تحت سماء شبه الجزيرة في التمدح به والانتساب إليه.
لهذا لم يقف مؤرخو أبي بكر عند قبيلته أكثر مما ذكرت؛ وإنما بدءوا روايتهم بذكره وذكر أبويه، ثم تخطوا طفولته وصباه إلى شبابه وإلى ما كان يزاوله فيه من عمل، ذكروا أن اسمه عبد الله بن أبي قحافة، وأن أبا قحافة أبوه، واسمه عثمان بن عامر، وأن أم الخير أمه، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر، وروي أنه كان يدعى قبل الإسلام عبد الكعبة، فلما أسلم دعاه رسول الله عبد الله، وقيل إنه كان يسمى عتيقًا؛ لأنه لم يكن يعيش لأمه ولد، فنذرت أمه إن ولد لها ولد أن تسميه عبد الكعبة، وتتصدق به عليها، فلما عاش أبو بكر وشب سمي عتيقًا، كأنه أعتق من الموت، على أن الرواة يذهبون إلى أن عتيقًا لم يكن اسمه وإنما كان لقبًا غلب عليه لبياض لونه، وتذهب رواية أخرى إلى أن عائشة ابنته سُئلت: لِمَ سمي أبو بكر عتيقًا؟ فقالت: نظر إليه رسول الله فقال: هذا عتيق الله من النار، أو لأن أبا بكر أقبل يومًا ومعه طائفة من أصحابه فقال رسول الله: «من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى هذا.» أما كنية أبي بكر التي لزمته حياته فلم تذكر الروايات سببها، وإن ذكر بعض المتأخرين استنباطًا أنه كُني بها؛ لأنه بكَّر بالإسلام قبل غيره.
وقد عاش أبو بكر في طفولته وصباه عيش أمثاله بمكة، فلما تخطى الصبا إلى الشباب عمل في التجارة بزازًا يبيع الثياب، فوفق كل التوفيق، وقد تزوج صدر شبابه من قتيلة بنت عبد العزى، فولدت له عبد الله وأسماء، وأسماء هي التي لُقبت من بعد ذات النطاقين، وتزوج بعد قتيلة أم رومان بنت عامر بن عويمر، فاستولدها عبد الرحمن وعائشة، ثم تزوج بالمدينة من حبيبة بنت خارجة، ثم من أسماء بنت عميس فولدت له محمدًا، وكانت تجارته أثناء ذلك تزداد سعة وتزيده ربحًا وثراء.
ولعل شخصه وخلقه كانا من أسباب نجاحه في هذه التجارة، فقد كان أبيض اللون، نحيفًا، خفيف العارضين، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع، كذلك وصفته ابنته عائشة أم المؤمنين، وكان رجلًا رضي الخلق، رقيق الطبع، رزينًا، لا يغلبه الهوى ولا تملكه الشهوة، وكان، لرزانته وحسن رأيه ورجاحه عقله، لا يشارك قومه في كثير من عقائدهم وعاداتهم، ذكرت عائشة أنه لم يشرب خمرًا في جاهلية ولا إسلام، هذا على ما كان من حب أهل مكة الخمر وإدمانهم لها، وكان نسابة، حسن الحديث، لطيف المعاشرة، وصفه ابن هشام صاحب السيرة فقال: «كان أبو بكر رجلًا مألفًا لقومه، محببًا سهلًا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلًا تاجرًا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يؤتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه، وتجارته، وحسن مجالسته.»
وكان يعيش بمكة في الحي الذي تعيش فيه خديجة بنت خويلد، ويعيش فيه التجار النابهون الذين تذهب تجارتهم في رحلتي الشتاء والصيف إلى الشام وإلى اليمن، ومقامه بهذا الحي هو الذي ربط بينه وبين محمد بروابط الألفة بعد أن تزوج محمد من خديجة وانتقل إلى دارها، وكان أبو بكر يصغر محمدًا بسنتين وأشهر، وأكبر الظن أن التقارب في السن والاشتباك في العمل والاتفاق في سكينة النفس ورضا الخلق، وفي الرغبة عما تزاول قريش من عادات وعقائد — أكبر الظن أن هذا كله كان ذا أثر في مودة محمد وأبي بكر مودة يختلف الرواة إلى أي حد توثقت عراها قبل أن يبعث محمد رسولًا، فقد ذكر بعضهم أنها كانت وثيقة العرى قبل البعث، وأن توثق عراها ذو أثر في سبق أبي بكر إلى الإسلام، أما غير هؤلاء فيذكرون أن صلة الرجلين لم تتوثق إلا من بعد، وأن مودتهما الأولى كانت مودة جوار وتوافق في الميول ليس غير، ولعل أصحاب هذا الرأي يؤيدونه بما عُرف من حب محمد العزلة والانقطاع عن الناس سنوات طويلة قبل بعثته، فلما بعثه الله واختاره لرسالته ذكر أبا بكر ورجاحة عقله، فتحدث إليه ودعاه إلى الواحد الأحد؛ ولم يتردد أبو بكر أن أجاب داعي الله، ومن يومئذ توثقت الصلة بين الرجلين، ثم زادها صدق أبي بكر في الإيمان بمحمد ورسالته متانة وقوة، كانت عائشة تقول: «ما عقلت أبويَّ إلا وهما يدينان الدين، وما مر علينا يوم قط إلا ورسول الله يأتينا فيه بكرة وعشية.»
ومنذ اليوم الأول شارك أبو بكر محمدًا في الدعوة لدين الله، وكان إلف قومه إياه وحبهم الجلوس إليه والاستماع لحديثه، ذا أثر في استجابة المسلمين الأولين لهذه الدعوة، فقد تابع أبا بكر على الإسلام عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، كما أسلم من بعدهم، بدعوة أبي بكر، أبو عبيدة بن الجراح وكثيرون من أهل مكة.
وقيام أبي بكر بالدعوة إلى الإسلام أدعى إلى العجب، فلعل تاجرًا مثله يقتنع بصدق محمد كان يقنع بتصديقه سرًّا ولا يظهر الناس على شيء من أمره حتى تظل تجارته متصلة، ولعل محمدًا كان يقنع منه بذلك ويحمده له، فأما أن يظهر أبو بكر إسلامه، وأن يدعو إلى الله ورسوله، وأن يصل من دعوته إلى إقناع المسلمين الأولين بتصديق محمد ومتابعته على دينه، فذلك ما لا عهد للناس به إلا فيمن سمت أنفسهم إلى حيث تقدر الحق لذاته، وترتفع به فوق منافع الحياة، وترى في تأييده والدعوة إليه ما يصغر من شأن الدنيا وعرضها وإن عظم، ولقد كان ذلك شأن أبي بكر في صحبته محمدًا منذ أسلم إلى أن اختار الله محمدًا، وإلى أن توفي أبو بكر من بعده.
وإني لأذكر ما كان لإسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب من أثر في توطيد كلمة الإسلام، وكيف أيد الله بهما دين الحق، لما عرف عنهما من قوة بأس، ومضاء عزم، وصلابة تخيف من يناوئها، ثم أذكر الصديق وإسلامه فلا أتردد في القول بأنه أول من أيد الله به دينه، فهذا الرجل الرضي النفس، الوديع الخلق، الرقيق الطبع، حتى لتسرع الدمعة إلى عينه لمرأى الألم يصيب غيره، قد بلغت قوة إيمانه بالدين الجديد، وبالرسول الذي جاء به من عند الله، مبلغًا لا تدانيه قوة ولا يتغلب عليه سلطان، وهل كقوة الإيمان في الحياة شيء! وهل كسلطانه في الحياة سلطان! والذين يحسبون أن قوة البطش وسلطان البأس لهما في الحياة الأثر البالغ يتورطون في أفحش الخطأ، فالنفس الراضية المطمئنة إلى إيمانها بالحق، الداعية إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، المتخذة من وداعة الخلق، ورقة الطبع، ومشاركة الضعيف والبائس في ألم البؤس والضعف في غيرها من النفوس فتطبعها بطابعها وتصوغها على غرارها، ولقد كان ذلك أثره (رضي الله عنه) في السنوات الأولى من الدعوة المحمدية، وبقي ذلك أثره إلى أن تولى الخلافة وإلى أن مات.
فهو لم يقف من تأييد الدعوة عند التحدث إلى أصحابه وإقناعهم بها، ولم يكفه أن يبذل للضعفاء والبائسين من رضا نفسه ووداعة خلقه ما يعزيهم عما كان خصوم الدعوة يرهقونهم به من أذى وتعذيب، بل كان ينفق من ماله، وكان يصطفي بهذه النفقة أولئك الضعفاء والبائسين ممن هداهم الله إلى الحق فأذاقهم أعداء الحق الضر وابتلوهم بألوان البأساء، وحسبك أن تعلم أنه كان له يوم أسلم أربعون ألف درهم مدخرة من ربح تجارته، وأنه أقام بعد إسلامه يتجر فيجني وارف الربح، فلما هاجر إلى المدينة بعد عشر سنوات لم يكن له من ذلك كله غير خمسة آلاف درهم، أما سائر ما كان عنده وما ادخر من بعد، فقد ذهب في سبيل الدعوة إلى الله والدعوة لدينه ولرسوله، وأيسر ذلك ما افتدى به الضعفاء والأرقاء الذين أسلموا، فعذبهم سادتهم بإسلامهم، وأذاقوهم الهون ألوانًا.
رأى أبو بكر يومًا بلالًا الحبشي قد ألقاه سيده على الرمل في لظى الشمس، ووضع حجرًا على صدره وتركه ليموت؛ لأنه أسلم، ولم يزد بلال وهو في هذه الحال على أن يكرر «أحد أحد»، عند ذلك اشتراه أبو بكر وأعتقه، وعُذِّب عامر بن فهيرة، فاصطفاه أبو بكر راعيًا لأغنامه، واشترى كثيرًا كذلك من الموالي الذين يعذبون، رجالًا ونساء، وأعتقهم.
على أن أبا بكر لم يسلم من أذى قريش، كما لم يسلم محمد من هذا الأذى، على رغم مكانته من قومه ومنع بني هاشم له، ولم ير أبو بكر قريشًا تؤذي محمدًا إلا وقف دونه وعرض حياته للذود عنه، روى ابن هشام أن شر ما نال قريش من رسول الله قد كان بعد أن عاب دينهم وسب آلهتهم، فقد اجتمعوا في الحجر يومًا «فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله ﷺ؛ فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله ﷺ: نعم! أنا الذي أقول ذلك، فلقد رأيت رجلًا منهم أخذ بمجمع ردائه، فقام أبو بكر (رضي الله عنه) دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله! ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا نالوا منه قط.»
وليس هذا الموقف شيئًا إلى جانب غيره من المواقف التي تجلى فيها إيمان أبي بكر بمحمد وبرسالته إيمانًا لا يلين ولا يتزعزع، وهذا الإيمان هو الذي جعل غير واحد من المستشرقين يتراجع دون اتهام النبي بما يتهمه به غلاتهم، فما كان أبو بكر في رزانته ورجاحة عقله ليصل إلى هذا الإيمان لو لم يتنزه كل عمل من أعمال الرسول عن كل شبهة، وبخاصة في ذلك الوقت الذي كان الرسول فيه موضع الاضطهاد من قومه، وهذا الإيمان الذي امتلأت به نفس أبي بكر هو الذي وقى الإسلام أن ينصرف الناس عنه عندما حدثهم رسول الله بحديث الإسراء.
فقد تحدث محمد إلى أهل مكة بأن الله أسرى به ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأنه صلى هناك، وسخر المشركون من هذا الحديث، وساور الريب فيه طائفة ممن أسلموا، وقال يومئذ غير واحد: هذا والله الأمر البين! والله إن العير لتطرد شهرًا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرًا مقبلة، أيذهب محمد ذلك في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة!! وارتد كثير ممن أسلموا، وتردد كثيرون وذهبوا إلى أبي بكر لما يعلمونه من إيمانه وصحبته محمدًا، فذكروا له ما يقوله عن الإسراء، قال أبو بكر وقد تولاه الدهش لما سمع: «إنكم تكذبون عليه.» قالوا: «بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث الناس.» قال أبو بكر: «والله لئن كان قد قاله لقد صدق! إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه.» وجاء أبو بكر إلى المسجد واستمع إلى النبي يصف بيت المقدس، وكان أبو بكر قد جاءه، فلما أتم النبي صفة المسجد الأقصى قال أبو بكر: «صدقت يا رسول الله.» ومن يومئذ دعا محمد أبا بكر بالصديق.
أفخطر ببالك يومًا أن تسأل: ترى لو أن أبا بكر ارتاب كما ارتاب غيره في حديث الرسول عن الإسراء، فما عسى أن يحدث من أثر هذه الريبة في حياة الدين الناشئ؟ وهل قدَّرت ما قد يؤدي ذلك إليه من تضاعف عدد المرتدين، ومن بلبلة العقيدة في نفس غيرهم من المسلمين؟ وهل ذكرت كيف ثبَّتت إجابة أبي بكر عقائد الكثيرين، وكيف حفظت للإسلام يومئذ مكانته؟ إن كنت قد سألت وقدرت وذكرت فلا ريب أنك لم تتردد من بعد في الحكم بأن الإيمان الصادق أقوى سلطانًا في الحياة من قوى البطش والبأس جميعًا، وأن كلمة أبي بكر هذه كانت عناية الله بدينه الحق، وأنها نصرته وأيدته أكثر مما أيدته قوة حمزة وعمر من قبل، وهي لذلك حقيقة بأن تجعل لأبي بكر في تاريخ الإسلام المكان الذي جعله الرسول له حين قال: «لو كنت متخذًا من العباد خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن صحبة وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا عنده.»
وكلمة أبي بكر في الإسراء تدل على إدراك تام للوحي والرسالة لا يؤتاه كثيرون، وتريك حكمة الله في أن يختاره الرسول صفيه يوم اصطفى الله رسوله ليبلغ الناس رسالته، وهي كذلك الحجة البالغة على أن الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، يخلد أثرها على الزمان بفضل الله، فلا سلطان للزمان عليه ولا يأتي عليه النسيان.
وما كان أحوج المسلمين بمكة يومئذ إلى هذ الجهد وإلى هذه الرعاية من أبي بكر! فقد كان محمد يتلقى وحي ربه، وكان قد يئس من استجابة أهل مكة لدعوته، فوجَّه همَّه إلى القبائل يعرض نفسه عليها ويدعوها إلى الله، وقد ذهب إلى الطائف يستنصر أهلها فردوه ردًّا غير جميل، وكان في اتصاله بربه دائم التفكير في رسالته والدعوة إليها وفي الوسيلة لنجاح هذه الدعوة، هذا إلى أن قريشًا لم تسكت قط عنه ولم تنقطع عن مناوأته، إزاء ذلك كله أخذ أبو بكر نفسه بالتفكير في أمر المسلمين المقيمين بمكة، وفي تنظيم الوسائل للسهر على طمأنينتهم.
ولئن لم تذكر كتب السيرة ولم يذكر من أرَّخو لأبي بكر من عمله في ذلك ما فيه غناء، إنني مع هذا لترتسم في نفسي صورة واضحة من عنايته ومن اتصاله الدائم بحمزة وبعمر وبعثمان وبكل ذي رأي في المسلمين أو سلطان لدفع أذى قريش عن الضعفاء الذين أسلموا، بل إنني لأتصور ما كان من اتصاله بغير المسلمين ممن أقاموا على دينهم ثم كانوا لا يرون إنه من الحق لقريش أن تناوئ من لا يقرها على عقيدتها في الأصنام وعبادتها، ولقد رأينا في سيرة الرسول كثيرين من هؤلاء قاموا يدفعون عن المسلمين أذى قريش؛ ورأينا الذين قاموا في نقض الصحيفة إذ تعاهدت قريش على مقاطعة محمد وأصحابه وعلى محاصرتهم حتى احتموا ثلاث سنوات تباعًا في شعب من شعاب الجبل بظاهر مكة، لا يتصلون بالناس ولا يستحدثون إليهم إلا في الأشهر الحرم، ويقيني أن أبا بكر قد كان له في تحريك هؤلاء الذين لم يتابعوا محمدًا على دينه، والذين غضبوا مع ذلك لما يصيبه من أذى قريش، أثر بالغ أدركه برفقه وحسن حديثه وجميل عشرته.
وما قام به أبو بكر من حماية المسلمين إبان نشأة الدين هو الذي زاده من محمد قربًا، وهو الذي ربط بين الرجلين برابطة إخاء في الإيمان جعلت محمدًا يصطفيه خليلًا، فلما أذن الله لدينه أن ينتصر بقوة أهل يثرب بعد بيعتي العقبة، أذن محمد لأصحابه في أن يهاجروا إليها، كما أذن لهم من قبل في أن يهاجروا إلى الحبشة، ولم تعرف قريش أيهاجر محمد مع أصحابه إلى يثرب، أم يظل كما ظل بها حين هجرة المسلمين إلى الحبشة؟ أَعَرِف أبو بكر من مقصد محمد ما لم تعرف قريش؟ كل ما يروى عن ذلك أن أبا بكر استأذن محمدًا في الهجرة فقال له: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا.» ولم يزد على ذلك.
ها هنا تبدأ صفحة أخرى من صحف الإيمان القوي الراسخ بالله ورسوله، فقد كان أبو بكر يعلم أن قريشًا قامت، منذ عرفت بهجرة المسلمين إلى يثرب، ترد كل ما استطاعت رده منهم إلى مكة لتفتنه عن دينه، أو تعذبه وتنكل به، ثم إنه علم أن المشركين اجتمعوا بدار الندوة يأتمرون بمحمد ليقتلوه، فإن هو صحب محمدًا في هجرته فأقدمت قريش على قتل الرسول قتلت أبا بكر لا محالة معه، مع ذلك لم يتردد حين استمهله محمد، بل شاعت الغبطة في أنحاء نفسه وأيقن أنه إن يهاجر مع الرسول يجعل الله له بذلك من الفضل والفخر ما لا يعدله فضل ولا فخر، وإن يُقتَل معه فإنما هو الاستشهاد الذي يجزى صاحبه جنة الخلد.
ومن يومئذ أعد أبو بكر راحلتين وأقام ينتظر مصيره ومصير صاحبه، وإنه لفي بيته ذات مساء إذ أقبل محمد كدأبه كل مساء، وأخبره أن الله أذن له في الهجرة إلى يثرب، ورغب الصديق إلى رسول الله أن يكون رفيقه في الهجرة، فأجابه إلى ما طلب، وعاد محمد إلى بيته وفتيان قريش يحاصرونه مخافة أن يفر، وأَسَرَّ محمد إلى علي بن أبي طالب أن يتسجى برده الحضرمي الأخضر وأن ينام في فراشه، ففعل، فلما كان الثلث الأخير من الليل خرج في غفلة من فتية قريش إلى دار أبي بكر، فإذا هو يقظ ينتظره، وخرج الرجلان من خوخة في ظهر الدار وانطلقا جنوبًا إلى غار ثور فاختبآ فيه.
وأطلقت قريش فتيانها في كل وادٍ وفي كل جبل، يبحثون عن محمد ليقتلوه، فلما بلغوا ثورًا تسلقه أحدهم إلى الغار، لعله أن يعثر به، وتصبب أبو بكر عرقًا حين سمع تَنَادِيَهُمْ، وأمسك أنفاسه وبقي بلا حراك به وأسلم لله أمره، أما محمد فظل فيما كان فيه من ذكر الله والصلاة له، واقترب أبو بكر من صاحبه وألصق به نفسه، فهمس محمد في أذنه: «لا تحزن، إن الله معنا.»
وأدار الفتى القرشي بصره فيما حول الغار فرأى العنكبوت نسجت على فوهته، فانصرف يقول لأصحابه الذين سألوه ما له لم يذهب إليه: «إن عليه العنكبوت من قبل أن يولد محمد.» وانصرف الفتية قافلين يعضون البنان ندمًا، فلما بعدوا نادى محمد: «الحمد لله، الله أكبر!» وازداد أبو بكر بما رأى إيمانًا وتثبيتًا.
أفكان فزع أبي بكر حتى ليتصبب منه العرق ويمسك أنفاسه ويلتصق برسول الله بعض ما دعا إليه حب الحياة والحرص عليها، فهو يخشى على نفسه أن يصيبه المكروه؟ أم إنه لم يفكر في نفسه ما فكر في رسول الله، وإنه كان يود لو يفتدي رسول الله بنفسه إن استطاع؟ روى ابن هشام عن الحسن بن أبي الحسن البصري قال: «انتهى رسول الله ﷺ وأبو بكر إلى الغار ليلًا، فدخل أبو بكر (رضي الله عنه) قبل رسول الله ﷺ، فلمس الغار لينظر فيه سبعًا أو حية، يقي رسول الله ﷺ بنفسه.» وذلك كان شأنه في تلك اللحظة الدقيقة من حياته حين كان يسمع إلى فتيان قريش، فيهمس في أذن النبي: «لو بصر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا.» لم يكن يفكر فيما قد يصيبه، وإنما كان يفكر في رسول الله وفي مصير الدين الذي يدعو إليه بأمر ربه لو أن هؤلاء الفتية ظفروا به فقتلوه، بل لعله لم يفكر في شيء بذاته تلك اللحظة، وإنما كان شأنه شأن الأم تخشى الخطر على ابنها، فهي ترتجف وتفزع ويتولاها الهلع ثم لا يساعفها عقلها برأي أو تفكير، فإذا دنا الخطر منها ألقت بنفسها في وجهه تريد أن تصده أو تموت دونه، أم إن أبا بكر كان أشد من هذه الأم هلعًا وأكثر منها استهانة بالخطر إذا أقبل؛ لأن إيمانه بالله ورسوله كان أقوى من حب الحياة ومن فطرة الأمومة ومن كل ما تحسه نفوسنا أو يدور بخواطرنا، وما بالك بإيمان تجسم أمامه في رسول الله فتجسمت معه كل المعاني المقدسة في أعظم صورها قدسية وأسماها روحانية! أتصور الساعة أبا بكر في مجلسه ورسول الله إلى جانبه، وأتصور الخطر محدقًا بهما مقبلًا عليهما، فلا يسعفني خيالي بمثال يبرز كل ما في هذه الصورة الفذة من حياة لا نظير لها في كل صور الحياة.
قص التاريخ نبأ أشخاص وهبوا أنفسهم فداء زعيم من الزعماء أو ملك من الملوك، وفي عصرنا اليوم زعماء يقدسهم الناس، فهم أحب إليهم من أنفسهم، لكن موقف أبي بكر بالغار يختلف عن ذلك كل الاختلاف، وهو لذلك جدير بالتحليل يقوم به أشد علماء النفس دقة، وأكثرهم في التصوير براعة، فأين إيمان الناس بالزعماء أو الملوك من إيمان الصديق بالرسول الذي اصطفاه الله فأوحى إليه دينه الحق!! وأين لذلك افتداء الناس ملوكهم وزعماءهم مما جال بخاطر الصديق في هذه اللحظة التي خشي فيها الخطر على حياة الرسول، ثم كان أشد خشية ألا يدفع الخطر دافع؟!! هذا مقام من السمو لا سبيل للرقي إلى تصويره؛ ولذا أمسك كُتَّابُ السيرة عن الحديث فيه أو كادوا.
وسكن الناس عن الرجلين وتولاهم اليأس من العثور عليهما، فخرجا من مخبئهما وارتحلا، يواجهان ما في الطريق من أخطار لا تقل عما تعرضا له بالغار، وحمل أبو بكر ما بقي له من ربح تجارته خمسة آلاف درهم، فلما بلغا المدينة وتلقى الناس رسول الله ببشر دونه كل بشر، بدأ أبو بكر حياته فيها كأي رجل من المهاجرين، وإن ظلت له مكانته من رسول الله، مكانة الخليل والصديق والوزير المشير.
ونزل أبو بكر بالسُّنح من ضواحي المدينة على خارجة بن زيد من بني الحارث من الخزرج، فلما آخى النبي بين المهاجرين والأنصار كان أبو بكر وخارجة أخوين، وأدرك أبا بكر أهله وأبناؤه الذين كانوا بمكة فاستعان بهم على الحياة، فقد عملت أسرته — كما عملت أسرة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب — في الزراعة في أراضي الأنصار، مزارعة مع مُلَّاكها، ولعل خارجة بن زيد كان في هؤلاء الملاك؛ فقد توثقت الصلة بينه وبين أبي بكر من بعد، فتزوج ابنته حبيبة وجاءت منه بأم كلثوم، وكانت حبيبة حاملًا بها حين وفاته.
ولم تقم أسرة أبي بكر معه بدار خارجة بن زيد بالسنح، بل أقامت أم رومان وابنتها عائشة وسائر أبناء أبي بكر بالمدينة، بدار تجاور دار أبي أيوب الأنصاري حيث نزل النبي، وكان هو يتردد عليهم، جاعلًا معظم إقامته بالسنح مع زوجه الجديدة.
وبعد قليل من مقامه بالمدينة أصابته الحمى التي أصابت أكثر الذين هاجروا إليها من أهل مكة، بسبب ما بين موطنهم ومهجرهم من تفاوت في الهواء؛ فهواء مكة صحراوي جاف، وهواء المدينة رطب لكثرة ما فيها من مياه وزروع، يروى عن عائشة أن أباها أصابه من هذه الحمى رهق حتى لكان يهذي لشدة ما نزل به منها.
فلما اطمأن إلى موطنه الجديد، وإلى كدح أهله كدحًا أغناه عن الأنصار، وجه كل همه إلى معاونة الرسول في تثبيت دعوته وتوطيد مركز المسلمين، لا يألو في ذلك جهدًا ولا يضن بتضحية.
ولقد كان الغضب لا يعرف إلى هذا الرجل الوادع سبيلًا إلا حين يرى خصوم الدعوى من اليهود والمنافقين يسخرون منها أو يكيدون لها، كان رسول الله قد عقد بين اليهود والمسلمين عهدًا أن يكون لكل حرية الدعوة إلى دينه، وأن يباشر من شعائره ما يشاء، وكانت اليهود قد حسبت أول الأمر أنها قادرة على أن تكسب المسلمين من أهل مكة ليكونوا عونًا لهم على الأوس والخزرج، فلما سقط في أيديهم وعجزوا عن التفريق بين المهاجرين والأنصار، بدءوا يكيدون للمسلمين ويسخرون من دينهم، اجتمع رهط من يهود على رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ودخل عليهم أبو بكر فرآهم كذلك، فقال لفنحاص: «ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم! إنك لتعلم أن محمدًا لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل.» قال فنحاص وعلى شفتيه ابتسامة السخر والتهكم: «والله، يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنيًّا ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيًّا عنا ما أعطانا!» وإنما يشير فنحاص بعبارته هذه إلى قوله تعالى: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً (البقرة: ٢٤٥)، فلما رأى أبو بكر أن الرجل يستهزئ بقول الله ووحيه إلى نبيه، لم يملك نفسه أن ضرب وجه فنحاص ضربًا شديدًا وقال: «والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك أي عدو الله!»
أليس عجبًا أن تكون في أبي بكر هذه الحدة وهو من هو؛ لين طبع ورقة خلق ووداعة نفس، وأن تكون فيه وقد جاوز الخمسين!
وهذه الغضبة على فنحاص تذكرنا بغضبة مثلها، كانت له قبلها بأكثر من عشر سنين، ذلك حين غلبت الفرس الروم؛ والفرس مجوس، والروم أهل كتاب، فقد حزن المسلمون لتهكم المشركين بهم وزعمهم أن الروم غلبت؛ لأنهم أهل كتاب مثلهم، وتحدث مشرك في الأمر أمام أبي بكر وألح في الحديث فاغتاظ أبو بكر وراهنه عشرة جمال على أن تغلب الروم المجوس قبل عام، ذلك يدل على أنه لم يكن شيء في الحياة يثير ثائرة أبي بكر أو يهيج غضبه إلا ما اتصل بعقيدته وبإيمانه الصادق بالله ورسوله، كان هذا دأبه وهو في الأربعين، وظل هذا دأبه حين جاوز الخمسين، وحين تولى الخلافة من بعد ودبر أمر المسلمين.
وهذا الإيمان الصادق قد ملك على أبي بكر كل مشاعره في كل أطوار حياته منذ اتبع الرسول، وأنت تستطيع أن تفسر كل أحواله وكل أعماله وتصرفاته إذا نظرت إليها من هذه الناحية المعنوية، أما ما خلاها فقد كان ضعيف الأثر عنده؛ فلا تجارته، ولا أسرته، ولا أهواؤه، ولا شيء مما يتأثر به الناس في الحياة ومما كان يتأثر به كثير من المسلمين في ذلك العهد، قد كان ذا سلطان عليه، بل كان قلبه، وكان عقله، وكانت روحه، خالصة كلها لله ورسوله، وكانت كلها الإيمان الذي بلغ من مراتب الإيمان عليها، مراتب الصديقين، وحسن ذلك مقامًا!
انظر إليه بعد ذلك في غزوة بدر: عدَّل المكيون صفوفهم، وعدَّل النبي صفوف المسلمين للقتال، وبنى المسلمون عريشًا للنبي في المؤخرة، بإشارة سعد بن معاذ، حتى إذا لم يكن النصر في جانبهم لحق رسول الله بالمدينة، وأقام أبو بكر مع النبي في العريش يرقب معه سير المعركة، فلما ابتدأت، ورأى محمد كثرة عدوِّه وقلة رجاله، استقبل القبلة واتجه: فاتجه إلى ربه، وجعل ينشده ما وعده، ويهتف به أن يتم له النصر ويقول: «اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك! اللهم فنصرك الذي وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد!»
وما زال يهتف بربه مادًّا يديه مستقبلًا القبلة حتى سقط رداؤه، ولم يطمئن حتى خفق خفقة من نعاس رأى خلالها نصر الله، وانتبه من بعدها مستبشرًا، وخرج إلى الناس يحرضهم ويقول لهم: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.»
هذا موقف الرسول: لم يطمئن إلى انتصار رجاله القليلين على أعدائه الكثيرين، حتى اتصلت روحه بسر من ربه أراه النصر، وكشف أمامه حجب هذا اليوم الحاسم في حياة الإسلام، أما أبو بكر فظل إلى جانب الرسول ممتلئًا إيمانًا بأن الله لا ريب ناصر دينه، ممتلئًا مع إيمانه بالنصر إعجابًا بالرسول في مناجاة ربه، وإشفاقًا على الرسول لشدة خوفه من مصير ذلك اليوم، وهذا ما دعاه، والرسول ينادي ويناشد ويستنجز ربه ما وعده، ويكرر ذلك ويعيده حتى سقط رداؤه، أن يهيب به وهو يرد الرداء على منكبيه: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك!»
ألف الناس في كثير من المؤمنين بعقيدة لا يمارون فيها ولا يداجون، أن يبلغ منهم التعصب لعقيدتهم مبلغًا يجعلهم أشداء لا يهنون، غلاظًا لا يلينون، بل إن منهم لكثيرين لا يطيقون النظر إلى وجوه من يخالفونهم في هذه العقيدة، هؤلاء يرون أن الإيمان الحق يقتضيهم هذا التعصب وهذه الشدة والغلظة، أما الصديق فكان، على جلال إيمانه وعظم تعصبه لهذا الإيمان وشدته فيه شدة لا تهن ولا تتردد، بعيدًا عن الغلظة، قريبًا إلى اللين، عفوًّا عند القدرة، محسنًا متى تم لإيمانه النصر، بذلك جمع في قلبه بين مبدأين من أسمى المبادئ الإنسانية: حب الحق، والرحمة، ففي سبيل الحق كان يستهين بكل شيء، وبالحياة قبل كل شيء، فإذا علت كلمة الحق، غلب فيها جانب الرحمة، وانقلب مؤمنًا بها إيمانه من قبل بالحق، ضعيفًا لها حتى لتذرف عينه الدمع ترسله مدرارًا.
تم النصر للمسلمين في بدر، فرجعوا إلى المدينة ومعهم أسرى قريش، وكان هؤلاء يطمعون في الحياة، وفي العود إلى مكة، وإن أغلوا الفداء، لكنهم كانوا يخشون شدة محمد وبطشه بهم بعد الذي أذاقوه وأصحابه سنوات مقامه بينهم، قال بعضهم لبعض: «لو بعثنا إلى أبي بكر فإنه أوصل قريش لأرحامنا، وأكثرهم رحمة وعطفًا، ولا نعلم أحدًا آثر عند محمد منه.» وبعثوا إلى أبي بكر فقالوا له: «يا أبا بكر، إن فينا الآباء، والإخوان، والعمومة، وبني العمومة؛ وأبعدنا قريب، كلم صاحبك يمن علينا أو يفادنا.» فوعدهم خيرًا، وخافوا أن يفسد ابن الخطاب عليهم أمرهم، فتحدثوا إليه بمثل حديثهم لأبي بكر، فنظر إليهم شزرًا ولم يجب، وأقام أبو بكر نفسه شفيع هؤلاء القرشيين المشركين عند رسول الله، فجعل يستعطفه عليهم ويلين قلبه لهم، ويدفع حجج عمر في الشدة بهم، ويذكر ما بينهم وبين النبي من قرابة، وهو إنما صنع ما صنع من ذلك لما فطر عليه من طيب القلب والإيمان بالرحمة كإيمانه بالحق والعدل، ولعله كان يرى بعين بصيرته أن لسلطان الرحمة الغلب آخر الأمر، وأن الناس ينزلون على حكم صاحبها وعلى عقيدته ما رأوها رحمة إنسانية سامية، مبرأة من الضعف، منزهة عن الهوى، لا تحركها في النفس إلا القوة والقدرة، وإلا سلطان الإنسان على نفسه سلطانًا يكبح من بطش القوة ويلين من عسف القدرة.
كانت غزوة بدر مبدأ حياة جديدة للمسلمين، وكانت كذلك مبدأ اتجاه جديد في حياة أبي بكر، بدأ المسلمون ينظمون سياستهم إزاء قريش وإزاء من ناوأهم من القبائل المحيطة بهم، وبدأ أبو بكر يشتغل مع النبي بهذا التنظيم أضعاف شغله بحماية المسلمين أيام مقامه بمكة، فقد كان المسلمون جميعًا يعلمون أن قريشًا لن يهدأ لها بال حتى تأخذ بثأرها من بدر؛ وكانوا يعلمون أنهم في حاجة إلى حماية دعوتهم الناشئة، وإلى دفع كل معتد عليهم، فلا بد من التقدير لذلك كله، وتدبير الأمر له، وما كان لأبي بكر، وموقفه من رسول الله ما رأيت، أن يشغل نفسه من بعد بغير هذا التقدير والتدبير، حتى لا تكون فتنة داخلية في المدينة بتحريض اليهود والمنافقين، وحتى لا يغزو المدينة غازٍ من الخارج.
والحق أن نصر المسلمين ببدر قد أعز كلمتهم، فحرك في نفوس منافسيهم حقدًا عليهم أي حقد، حرك في نفوس اليهود حفائظ كانت ساكنة، وحرك في قلوب القبائل المجاورة للمدينة مخاوف كانت مطمئنة، ولم يكن بد، لاتقاء ما ينجم عن هذا وذاك، من سياسة حكيمة، وتقدير دقيق، ومشاورة متصلة بين النبي وأصحابه، وقد اتخذ النبي من أبي بكر وعمر وزيرين يمحص على ضوء ما بينهما من تباين في الطبع مع صدق المشورة، ما ينظم به سياسته الناشئة، هذا مع مشاورته غيرهما من سائر المسلمين، مشاورة كان لها أثرها الكبير في جمع الكلمة، وفي توزيع التبعة على الجميع، توزيعًا يشعر كل واحد بأن عليه منها قسطًا ونصيبًا.
وكان من أثر ما تحرك من حفائظ اليهود أن حاصر المسلمون منهم بني قينقاع وأجلوهم عن المدينة، وكان من أثر ما تحرك من مخاوف القبائل أن جعل المحيطون بالمدينة يجتمعون للاعتداء عليها، فإذا سمعوا بخروج محمد إليهم ولوا فرارًا وملئت قلوبهم رعبًا.
وكانت هذه الأنباء تصل مكة، فلا تصد قريشًا عن التفكير في الثأر لبدر، ولقد ذهبت تلتمس هذا الثأر، فالتقت بالمسلمين عند أحد، فدارت الدائرة وجه النهار عليها لكن مصير اليوم تغير حين خالف رماة المسلمين أمر النبي، وتركوا مواقفهم وانطلقوا يغنمون مع الغانمين، فقد اهتبل خالد بن الوليد الفرصة؛ فأوقعت قريش بالمسلمين فاضطربوا؛ وأصيب النبي بحجارة كان المشركون يقذفونها، فوقع لشقه، وأصيب في وجهه، وتنادت قريش أنه مات، ولولا أن أحاط به من أبطال المسلمين من افتدوه بأنفسهم وأرواحهم، لكان لله في خلقه من يومئذ شأن غير الشأن، ومن يومئذ صار أبو بكر أكثر ملازمة للنبي في غزواته وحين مقامه بالمدينة، وأنت تذكر أن حياة المسلمين، إلى أن استقر لهم الأمر بعد فتح مكة وإسلام ثقيف بالطائف، قد كانت حياة غزو، ودفع للغزو، أو استعداد لدفعه، دع عنك الغزوات الصغرى التي كانت أدنى إلى المناوشات، فقد كان اليهود، وعلى رأسهم حُيَيُّ بن أخطب، لا يفتئون يؤلبون على المسلمين، وكانت قريش تبذل جهد الطاقة لإضعافهم والقضاء على سلطانهم، فكانت غزوات بني النضير والخندق وبني قريظة وما تخللها من الغزوات الصغرى، أثر سياسة اليهود وحقد قريش.
صار أبو بكر أكثر ملازمة للنبي في هذه المواقف والمواقع جميعًا، وهو أشد ما يكون برسالته إيمانًا وتصديقًا، فلما اطمأن رسول الله إلى منعة المدينة وآن له أن يوجه خطته توجيهًا جديدًا يمهد الله به لإكمال دينه، كان لأبي بكر مواقف زادت المسلمين اقتناعًا بأنه الرجل الذي يلي رسول الله مكانة من نفوسهم، وسموًّا في تقديرهم.
بعد ست سنوات من هجرة المسلمين إلى المدينة أذن محمد في الناس بالحج إلى البيت العتيق، وبلغ قريشًا مسيرة القوم، فأقسموا لا يدخل محمد مكة عليهم عنوة، وأقام محمد وأصحابه بالحديبية بظاهر مكة، وهو مستمسك بالسلام، رافض كل دعوة إلى منازلة قريش، معلن أنه جاء حاجًّا ولم يجئ غازيًا، وتبادل مع قريش الرسل، وانتهى الأمر بينه وبينهم إلى عهد رضي به أن يرجع عنه عامه وأن يعود إليهم العام الذي يليه.
غضب كثير من المسلمين، بينهم عمر بن الخطاب، لتراجعهم ورجوعهم، ورأوا في هذا العهد إعطاء للدنية في دينهم، أما أبو بكر فآمن وصدق بحكمة رسول الله، فلما نزلت سورة الفتح آمن الناس جميعًا بأن عهد الحديبية كان فتحًا مبينًا، وبأن أبا بكر كان الصديق في هذه، كما كان في غيرها من مواقفه.
كانت الدعوة الإسلامية تزداد على الأيام كمالًا؛ وكان المسلمون بالمدينة يزدادون بذلك بأسًا وقوة، وكان من مظاهر قوتهم أن حاصروا اليهود في خيبر وفدك وتيماء، وأخضعوهم لسلطانهم، تمهيدًا لإجلائهم عن بلاد العرب، ثم كان من مظاهر قوتهم وكمال الدعوة أن أرسل محمد إلى الملوك والأمراء بفارس، وبزنطية، ومصر، والحيرة، واليمن، وما جاور بلاد العرب أو دخل فيها من الإمارات، يدعوهم إلى الإسلام، فأما المظهر الأسنى لهذا الكمال وهذه القوة، فذلك فتح مكة، وحصار الطائف، بهذا كله تألق نور الدين الجديد في شبه الجزيرة، وجاوزها إلى الإمبراطوريتين العظيمتين اللتين كانتا قابضتين على ناصية العالم في ذلك العصر: الروم، وفارس، وبذلك اطمأن الرسول والمسلمون إلى نصر الله، وإن استمسكوا بخطة الحذر، حتى لا يدهمهم من أية ناحية من يحاول أن يغشى على هذا النور أو أن يضعف سلطانه.
وحين رأت العرب هذه القوة جاءت وفودهم تترى من أنحاء شبه الجزيرة، تعلن إيمانها بالدين الجديد، أليس هذا الداعي إليه قد كان وحيدًا فريدًا، وها هو ذا قد انتصر على اليهود، وعلى النصارى، وعلى المجوس، وعلى المشركين!! وهل ينتصر إلا الحق! وهل آية أدل على أن دعوته هي الحق الخالص من انتصاره على هؤلاء جميعًا، وهو لا يبتغي عليهم سلطانًا، ولا يطلب إليهم إلا أن يؤمنوا بالله، وأن يعملوا الصالحات!! هذا منطق إنساني أقره الناس في كل زمن وآمنوا به أينما وجدوا وهو منطق يقره العقل ما أثبتت السنون قوة حجته فلم يغلبه غالب.
وأذن الله أن يتم المسلمون فروض دينه، والحج تمام هذه الفروض، لكن تتابع الوفود لم يتح لرسول الله أن يغادر المدينة إلى بيت الله الحرام، لذلك أمر أبا بكر أن يحج بالناس، فخرج في ثلاثمائة من المسلمين، حجوا وطافوا وسعوا، وفي هذا الحج أعلن علي بن أبي طالب إلى الناس — أو أعلن أبو بكر في رواية أخرى — أن لا يحج بعد ذلك العام مشرك، ثم أجل الناس أربعة أشهر، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ومن يومئذ إلى اليوم، وإلى ما يشاء الله، لم يحج إلى البيت الحرام مشرك، ولن يحج إليه مشرك.
وفي السنة العاشرة من الهجرة، حج رسول الله حجة الوداع، وحج أبو بكر معه، وسار ﷺ، وصحبه نساؤه جميعًا، وتبعه من العرب مائة ألف أو يزيدون، ولم يطل مقام النبي بالمدينة بعد عوده من الحج، حتى أمر بتجهيز جيش لجبٍ إلى الشام، جعل فيه المهاجرين الأولين، ومنهم أبو بكر وعمر، وعسكر هذا الجيش بالجرف، ثم ترامى إليه أن رسول الله مرض، فلم يتحرك إلى غرضه؛ لأن المرض اشتد بالنبي شدة أثارت مخاوف الناس عليه.
ولما ثقل عليه المرض أمر أن يصلي أبو بكر بالناس. روي عن عائشة أنها قالت: «لما ثقل رسول الله ﷺ، جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر! قال: مروا أبا بكر يصلي بالناس، فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر! … فقالت له حفصة، فقال: إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس! فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا.»
وصلى أبو بكر بالناس كأمر النبي، وإنه لغائب يومًا إذ دعا بلال إلى الصلاة ونادى عمر أن يصلي بالناس، وكان عمر جهير الصوت، فلما كبر في المسجد سمعه محمد من بيت عائشة، فقال: «فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون!» ولقد ظن بعضهم أن النبي استخلف أبا بكر من بعده بما أنه قد أمره بالصلاة مكانه؛ فالصلاة بالناس أول مظهر للقيام مقام رسول الله.
وفي أثناء هذا المرض خرج محمد إلى المسلمين يومًا بالمسجد، وقال فيما قال لهم: «إن عبدًا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله.» ثم أمسك، وقد أدرك أبو بكر أن النبي إنما يعني نفسه، فأجهش بالبكاء وقال: «نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا.» وأمر محمد أن تقفل أبواب المسجد إلا باب أبي بكر، ثم قال مشيرًا إلى الصديق: «إني لا أعلم أحدًا كان أفضل خليل رسول الله في الصحبة عندي يدًا منه، وإني لو كنت متخذًا من العباد خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن صحبة وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا عنده.»
وفي اليوم الذي قُبض فيه النبي خرج ساعة الصبح إلى المسجد، معتمدًا على علي بن أبي طالب والفضل بن العباس، وكان أبو بكر يصلي ساعتئذ بالناس، فلما رأى الناس النبي فرحوا وتفرجوا، فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم، وأحس أبو بكر أنهم لم يصنعوا ذلك إلا لرسول الله، فتأخر عن مكانه، فأومأ إليه النبي: أن كما أنت، وجلس رسول الله عن يسار أبي بكر فصلى قاعدًا.
وعاد النبي بعد هذه الصلاة إلى دار عائشة، لكنه ما لبث أن عادته الحمى، فدعا بإناء فيه ماء بارد جعل يده فيه ويمسح بمائه وجهه، وبعد سويعة من ذلك اختار الرفيق الأعلى، واختار ما عند الله.
وترك رسول الله هذه الحياة الدنيا، وقد أكمل الله للناس دينهم، وأتم عليهم نعمته، فماذا يصنع العرب من بعده؟ إنه لم يستخلف خليفة، ولم يضع للحكم نظامًا مفصلًا، فليجتهدوا، ولكل مجتهد نصيب.