التمهيد للفتح وللإمبراطورية
وأهل الشام الأصليون من الفينيقيين، وأهل العراق الأولون من الآشوريين، ولقد كانت الصحراء التي تترامى بينهما، وهي بادية الشام تحول في العصور الأولى دون التقائهما وامتزاجهما، فاجتياز الصحاري ليس أمرًا محببًا إلى أهل الحضر، وفيم يجتازونها ويتعرضون لأخطارها وليس فيها من أسباب الحياة ما يجذب النفس إليها! وإن كثيرين ليفرون حتى اليوم من اجتياز هذه البادية بالسيارة، ويؤثرون النقلة بين الشام والعراق على متن الهواء.
على أن هذه الصحراء التي لم يهوَ إليها الفينيقيون من أهل الشام ولا الآشوريون من أهل العراق في العصور القديمة، قد استهوت العرب أهل البادية ممن يرون الصحراء الطليقة سحرًا ووحيًا وحرية وجمالًا، ويرون الحضر قيدًا بل سجنًا وإن لبست فيه الشفوف، والمؤرخون يذكرون هجرة العرب إلى الشمال لانهيار سد مأرب، ونزوح قبائل الأزد التي جرفها السيل إلى الحجاز وإلى الشام؛ أو لاتخاذ الروم البحر طريقًا للتجارة بدلًا من البادية، وهم يذكرون أن هذه الهجرة حدثت في القرن الثاني المسيحي، ومع التسليم بهذه الرواية، فلا ريب في أن قبائل من العرب استقرت ببادية الشام قرونًا طويلة من قبل، متخلفة عن القوافل التي كانت تنزل العراق أو الشام للغزو أو للتجارة.
وقد أقام العرب الذين نزحوا إلى الشام وإلى العراق على حدود الحضر في كل من الدولتين، ولم يكن مقامهم على هذه الحدود مما اضطرتهم إليه سياسة الدولة التي نزلوا بها، وإنما جذبتهم البادية إليها فلم يستطيعوا مقاومة سحرها، واستهواهم الحضر ليكونوا على مقربة منه كي ينالوا رزقهم دون مشقة أو عناء، وذلك شأن أهل البادية في كل عصر، وأنت إذا التمست منازلهم اليوم بمصر أو بالشام أو بالعراق أو بأي بلد يتصل فيه الزرع برمال الصحراء، رأيتها على شفا الصحراء بين الحضر والبادية، ورأيت أهلها يولون شطر البادية وجوههم ويمنعون فيها بقوافلهم حينًا بعد حين وكأن الوراثة البدوية المتغلغلة في نفوسهم والجارية مع الدماء في عروقهم، تأبى عليهم أن يستقروا وأن يسكنوا إلى ما يسكن أهل الحضر إليه من نظم الجماعة، وطبيعتهم هذه تفرض عليهم ألوانًا من الشظف ما كان أغناهم عنها لولا ما يجدونه في فسحة البادية من حرية مطلقة، ومن اتصال بالوجود غير المحدود، ينهض عندهم عوضًا عن كل شظف، ويهون عليهم كل مشقة.
ولم تلبث بادية الشام حين انتشرت فيها قبائل العرب الذين هاجروا إليها أن صارت كأنها قطعة من شبه الجزيرة، وكان الغسانيون أقوى هذه القبائل عنصرًا، وأكثرهم على الحياة صبرًا وجلدًا، لذلك أقاموا مملكة بني غسان على حدود الشام، كما أقام اللخميون ملك الحيرة على شواطئ الفرات، ولقد كان دأب هؤلاء العرب يومئذ كدأب بني وطنهم دائمًا، يشاركون الأمة التي يقيمون على حدودها في مصيرها ويشاطرونها آمالها، من ثم سلموا في الشام بحكم الروم، وفي العراق بحكم الفرس، وإنما كان ذلك منهم تسليمًا بالأمر الواقع أكثر مما كان إذعانًا لغلب المنتصر؛ لذلك كانت الأوضاع السياسية تتغير في أمرهم تبعًا لقوتهم وضعفهم، وكان لهم أكثر الأمر استقلال ذاتي حرصوا عليه ودافعوا عنه.
ومن العجب في أمر البدوي أنه، على تعلقه بالبادية وحبه إياها وانجذابه إليها كلما بعد عنها، شديد الإعجاب بالحضر وما يحيط به من زروع نضرة، وما يبدو على أهله من نعمة ورفاه عيش، ولقد كان حديث الشام وجناتها وأعنابها وحورها العين مما لا يفتأ أهل مكة والمدينة وسائر بلاد الحجاز يتذاكرونه بعد رحلة الصيف، يقص نبأه من اشترك في الرحلة، ويرويه الرواة عنهم بعد ذلك، فإذا شفاه السامعين تنفرج، وحدق عيونهم يتسع، وريقهم يتحلب، شوقًا لهذه الخضرة النضرة، والمياه الجارية، والأيدي الناعمة، والخدود الملساء، أن يكون لهم مثلها في بلادهم، وكأنما غاب عنهم أن بارئ النسم قسم الرزق بين الناس بالعدل، فجعل لأهل البادية الحرية الشاملة وإباء الضيم، يقابلهما شظف لا يصد عنهما ولا يقلل من الرغبة فيها والحرص عليهما؛ وجعل لأهل الحضر الرفاهية والنعمة والنظام والأمن، يقابل ذلك قيود للحرية في كل مظاهرها، ثم لا ينزع الناس إلى تحطم هذه القيود حرصًا على النعمة وعلى الأمن.
كان ذلك شأن القبائل التي هاجرت إلى العراق وإلى الشام على تفاوت بينها في التعلق بالبادية، ومع أن أكثرها نعم بالحضر وترفه، لقد ظل حرصها جميعًا على حياتها العربية شديدًا، كما ظلت العلاقات بينها وبين شبه الجزيرة متصلة على القرون، وليس من غرضي أن أفصل ذلك في هذا الكتاب، فنطاق البحث لا يتسع له ولا يقتضيه، وإنما أثبت منه هنا ما يجلو لنا في بعض السر في تمهيد هاتين الإمارتين العربيتين، إمارة اللخميين وإمارة الغسانيين، للفتح العربي وللإمبراطورية الإسلامية في عهد أبي بكر.
أشرنا إلى أن هجرة العرب من الجنوب إلى الشمال ترجع إلى ما قبل انهيار سد مأرب، وقبل تحويل الروم طريق التجارة من البر إلى البحر، والواقع أن هذه الهجرة أقدم بكثير من هذين الحادثين، على ما كان لهما من جليل الخطر في حياة بلاد العرب، فالنسابون يذكرون أن التنقل بين القبائل كان كثير الوقوع من قبل الإسلام، وهو لا شك كان كثير الوقوع منذ أقدم العصور، فقد كان العرب يتعاملون مع البلاد التي تجاورهم؛ إذ كانوا ينقلون تجارة الشرق الأقصى إلى بلاد الشام ومصر والروم، وكانوا ينقلون تجارة الشام ومصر والروم إلى الشرق الأقصى، وكانت هذه التجارة تسير مخترقة شبه جزيرة العرب في أحد طريقين: طريق حضرموت إلى البحرين على الخليج الفارسي ثم إلى الشام، وطريق حضرموت إلى اليمن فالحجاز إلى الشام، وكانت مكة تتوسط هذا الطريق الثاني، وكان أهل الجنوب من الحضارمة واليمنيين وأهل عمان والبحرين هم السابقين الأولين للقيام بهذه التجارة، ذلك بأنهم كانوا أكثر من أهل الشمال حضارة؛ لخصب أرضهم، ولاتصالهم بالفرس اتصال جوار مباشر، لذلك كانت أكثر القبائل التي هاجرت إلى العراق وإلى الشام واستقرت بهما من قبائل الجنوب، فالغساسنة الذين أسسوا مملكتهم شرقي الشام كانوا من الأزد إحدى قبائل عمان التي تنسب إلى شعب كهلان اليمني، كذلك تنسب قبائل قضاعة وتنوخ وكلب التي استقرت على حدود الشام إلى شعب حمير اليمني، وطبيعي أن تستقر قبائل الجنوب بالعراق؛ فإن العراق يجاور حضرموت وما اتصل بها من قبائل بني حنيفة وتغلب ومن إليهم.
هاجرت بطون من هذه القبائل منذ العصور الأولى إلى بادية الشام، واستقرت بها مستقلة عن سلطان أولي السلطان في حضر العراق وفي حضر الشام، فلما انهار سد مأرب ثم انقسمت التجارة بين طريق البادية وطريق البحر، هاجرت بطون أخرى وقبائل أخرى إلى الحجاز، ثم هاجرت بعض هذه البطون منه إلى الشام، التماسًا لرزق وحضارة أكثر وأرفه من حضارة البادية.
وكان السلطان في العراق وفي الشام متداولًا بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومية، فكانت فارس تنتزع الشام من الروم أحيانًا وتضمه إلى العراق التابع لها، وكان الروم ينتزعون العراق من فارس أحيانًا ويضمونه إلى الشام التابع لهم، وكان العرب الذين نزحوا إلى بادية الشام ينضمون في كثير من الأحيان إلى جيش الفرس أو جيش الروم، متأثرين بما في طبيعتهم من ميل إلى الغزو والسلب، وأدى ذلك إلى أن فكرت الدولتان في اتخاذ هؤلاء الذين نزلوا البادية الممتدة بينهما سدًّا يحول دون اعتداء إحداهما على الأخرى، لتبقى الشام خالصة للروم، والعراق خالص لفارس.
على أن هذه القبائل العربية انحازت بحكم منازلها في البادية إلى أقرب حضر لها؛ فانحاز المقيمون على حدود الشام إلى الروم، وانحاز المقيمون على حدود العراق إلى فارس، مع احتفاظهم باستقلالهم الذاتي، ومعيشتهم البدوية، وحياتهم العربية الخالصة.
لم يحل احتفاظهم بهذه الخصائص دون تأثرهم بحياة الحضر القريب منهم، وسياسة الدولة التي يخضع هذا الحضر لها، بل لقد تغلغل في هذا الحضر من أنس منهم في نفسه الكفاية لامتثال حياة الحضر والاضطلاع بأعبائها، وبلغ من ذلك أن امتد سلطانه وعظم في المملكة نفوذه، وإن المؤرخين ليذكرون أن الإمبراطور الروماني فيليب كان عربيًّا من بني السميذع أول من عرف التاريخ من العرب الذين هاجروا إلى الشام، وأنه كان قبل ارتقائه عرش الإمبراطورية رئيس عصابة في تعبير الغربيين، ورئيس قبائل تغير وتغزو في تعبير العرب، وأعلى ذلك من مكانة العرب المقيمين بالشام، وإن لم يصرفهم عن البادية ولم يدمجهم في حضارة الروم.
أما العرب الذين أقاموا على حدود العراق، فلزموا البادية ولم يجازفوا بالدخول إلى حوض الفرات كي لا يخضعوا لسلطان الفرس فيه، وظل ذلك دأبهم حتى كانت الفرس مسرحًا لثورات وحروب داخلية اتصلت بين ملوكها وزعماء الطوائف فيها، وقد تغلب زعماء الطوائف واستقلوا بأمر الفرس، كل منهم في ناحيته، وأتاح ذلك للعرب أن دخلوا حوض الفرات وأنشئوا على شاطئه مدينة الأنبار، ثم أنشئوا الحيرة.
وأيًّا كانت الرواية الصحيحة فالثابت أن العرب بدأ سلطانهم يستقر في العراق من ذلك الحين، وأنهم استقلوا بالأمر غرب الفرات بين الأنبار والحيرة حين تولى أمرهم جذيمة الأبرش أو الوضاح بين سنة ٢١٥ وسنة ٢٦٨ ميلادية، وقد جمع جذيمة كلمتهم وامتد سلطانه فيهم من الحيرة إلى الأنبار إلى عين التمر؛ وبذلك اشتمل غرب الفرات كله إلى بادية الشام، بل لقد امتد سلطانه على العرب المقيمين بهذه البادية حين غزا مضر المقيمين بها، وضم إليه منهم عدي بن ربيعة وشرفه وأكرمه.
وعدي هذا هو الذي تزوج الرقاش أخت جذيمة، فتناولت كتب الأدب نبأهما بآثار روائية شائقة، وهو الذي أولدها عمرو بن عدي صاحب قصة الزباء التي انتحرت قائلة: «بيدي لا بيد عمرو.»
بينما كان جذيمة الوضاح على ملك العرب بالعراق، كان أذينة بن السميذع على رأس العرب بالشام، وكان سابور عاهل فارس، وفيليب إمبراطور الروم، وقد ثار أهل الشام بسلطان فيليب لقسوة حكمه، وانتهز سابور الفرصة فسار إلى الشام وهزم جند الروم، عند ذلك نقض أذينة عهد ولائه للروم وانضم للفرس، وطمع في أن يكون له في ظل سابور من المكانة بالشام ما لجذيمة بالعراق، على أن ڨالريان تولى إمبراطورية الروم مكان فيليب، وسار بنفسه إلى الشام وهزم سابور ورده إلى فارس، عند ذلك عاد أذينة مواليًا للروم، غير أن الدوائر ما لبثت أن دارت على ڨالريان، وأراد أذينة أن ينضم إلى سابور كرة أخرى، فرفض سابور ولاءه بعد الذي رآه منه، ولم يجد أذينة بدًّا في محافظته على سلطانه وعلى حياته من أن ينهض بنفسه على رأس عرب الشام لمحاربة فارس، وبسم له الحظ فغلبها وطارد جيوشها إلى المدائن، بذلك سمت مكانته عند الروم، وصار صاحب القدح المعلى في محاربة الفرس، حتى لقد تغلب عليهم من بعد ذلك كرة أخرى.
وحكم بعد أذينة أبناؤه، ومنهم الزباء، وقد استهوت إليها جذيمة ودعته ليتزوجها ثم قتلته، فكان جزاؤها أن ذهب إليها عمرو بن عدي ومعه قصير بن عمرو فانتحرت حتى لا يقتلها، وبوفاتها انقضى عهد بني السميذع بالشام.
وخلف الغسانيون من أبناء جفنة بني السميذع على ملك الشام، بعد فترة قصيرة حاول جماعة من بني نصر القائمين بأمر العراق أن يتولوا أثناءها أمر الشام، فلم يستقر لهم فيه أمر.
نقف هنيهة ها هنا، في منتصف القرن الثالث الميلادي، لنرى كيف صار الأمر في شرق الشام وغرب العراق إلى العرب، فهؤلاء الذين نزلوا البادية أول ما نزلوها قبائل مهاجرة أو أسرى جاء بهم ملوك فارس من شبه الجزيرة، قد صاروا إلى حيث يعتد بهم الروم وتعتد بهم فارس، وتحرص كلتا الدولتين على ولائهم لها ومناصرتهم إياها، وتعترف كلتاهما لهم بالاستقلال الذاتي، تقديرًا لشجاعتهم وإقدامهم في الحروب، والحق أنهم لم يكونوا في صلتهم بهاتين الإمبراطوريتين العظيمتين دون اليمن أو حضرموت أو غيرهما من بلاد شبه الجزيرة التابعة لنفوذ فارس، بل لعلهم كانوا أكثر منها استقلالًا، وأنت لذلك تستطيع أن تقول: إن بلاد العرب امتدت من خليج فارس وخليج عدن جنوبًا إلى الموصل وأرمينية شمالًا، وإن تأثر عرب العراق وعرب الشام بحضارة الفرس وحضارة الروم أكثر مما تأثر بهما سائر بقاع شبه الجزيرة.
ألسنا في حل، وذلك هو الشأن، من أن نقول: إن هؤلاء العرب في العراق والشام كانوا الطلائع الأولى في التمهيد للفتح العربي وللإمبراطورية الإسلامية؟ لم يدر ذلك بخلد أحد منهم بطبيعة الحال، فلم يكن أحد منهم يتصور بعث محمد ورسالته، وما أدى إليه البعث وأدت إليه الرسالة من وحدة بلاد العرب ومن سمو النفس العربية إلى حيث سمت، لكن مقامهم بين الفرات وأودية الشام، واحتفاظهم بخصائص حياتهم العربية، واتصالهم بأهليهم وبمن يحيطون بهم في شبه الجزيرة، كل ذلك كان مقدمة لما تلاه بعد أربعة قرون من زحف عرب الجزيرة إليهم محاربين لتحل الإمبراطورية الإسلامية محل الإمبراطوريتين الفارسية والرومية.
تولى عمرو بن عدي ملك العراق بعد جذيمة الأبرش من قبل سابور، فانتقم لجذيمة من الزَّبَّاء، كما قدمنا، وقد جعل عمرو الحيرة عاصمته؛ ومن يومئذ صارت عاصمة اللخميين إلى أن انحل الملك عنهم.
وكان تبعية عمرو بن عدي ومن جاء بعده من ملوك الحيرة لبلاط فارس محدودة، فكان صاحب الحيرة مطلق السلطان على غرب الفرات إلى بادية الشام، وكان ولاؤه لعاهل الفرس مقيدًا بدفع العرب من شبه الجزيرة أو عرب الشام التابعين لإمبراطور الروم على أرض فارس، وبحماية التجارة التي تسير من فارس إلى الشام أو إلى بلاد العرب.
على أن هذا الولاء لم يَحُلْ دون اقتحام العرب أرض فارس، وبخاصة ما جاور منها الخليج الفارسي، وقد صدَّهم الفرس غير مرة، ثم اضطر سابور ذو الأكتاف إلى حفر خندق سابور على حدود بلاده ليصد عنها العدوان.
وتوالى الملوك من بني نصر على عرش الحيرة، حتى تولاه النعمان الأكبر في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس المسيحي، وقد تولاه من قبل يزدجرد، والنعمان الأكبر هو الذي بنى قصري الخورنق والسدير، وهو صاحب قصة سنمار.
وكان يزدجرد قد بعث بابنه بهرام جور إلى الحيرة لينشأ فيها، وحذق بهرام العربية واليونانية وأحاط بشئون العرب والروم خبرًا، فلما مات يزدجرد أثر الفرس أن يولوا عليهم كسرى بن أردشير بن سابور ذي الأكتاف؛ لأنه نشأ بينهم حين كان بهرام غريبًا عنهم، وسار بهرام يسترد عرشه وأعانه المنذر، فلما اعتلى العرش نصح له المنذر أن يعفو عن خصومه؛ بذلك كسب بهرام قلب الخاصة، ثم كسب قلب الشعب بأعطياته وبتخفيفه من أعباء الضرائب.
وبالغ بهرام جور فيما بدأه من محاربة النصرانية؛ فكان ذلك سببًا في نشوب الحرب بين فارس والروم، وأعان المنذر بهرام في هذه الحروب التي انتهت إلى صلح بين الفريقين طال أمده.
كان ملوك العرب من بني غسان بالشام يناصرون الروم في محاربتهم الفرس، كما كان اللخميون يقاتلون الروم حلفاء لجيش فارس، ولعل الحروب اشتدت في هذه الفترة الأخيرة بين الإمبراطوريتين بعد أن زاد العامل الديني أوارها، فمنذ تولى قسطنطين إمبراطورية الروم في أوائل القرن الرابع الميلادي بدأت المسيحية تزدهر، وبدأ أباطرة الروم يعلون من شأنها في كل مكان، وبدأ المبشرون بها ينتشرون في مختلف البلاد، وانتقالهم من الشام إلى العراق وإلى بلاد فارس هو الذي هاج يزدجرد لمناهضة هذا الدين الجديد، وهو الذي جعل بهرام يغلو في محاربته، حتى ينتهي الأمر إلى ذلك الصلح الذي أشرنا إليه.
ماذا كان موقف العرب في العراق وفي الشام من دين الفرس، ومن دين الروم؟ أتأثرت قبائل العراق بالمجوسية فأقبلت عليها، وتأثرت قبائل الشام بالمسيحية فأقبلت عليها؟ أم أعرض هؤلاء وأولئك عن المجوسية والمسيحية جميعًا، واحتفظوا بوثنيتهم العربية، وبأصنامهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى؟
للجواب على هذا السؤال قيمة كبرى في البحث الذي نتناوله الآن، فهو يكشف عن اتجاه العقلية العربية وعن ميول العرب الروحية، ويجلو لنا كيف مهدت هذه العقلية وهذه الميول للفتح العربي في ظل الإسلام.
وكان ذلك شأن عرب الشام في اتصالهم بثقافة الروم وأدبهم ودينهم، بل لعلهم كانوا أرقى عقلية من عرب الحيرة؛ لأنهم أقرب اتصالًا بالثقافة اليونانية والمدنية الرومانية.
لم يأخذ عرب العراق بمجوسية الفرس مع اتصالهم بهم وإعجابهم بحضارتهم ولم يأخذ عرب الشام بوثنية الروم أو اليونان ولم يعبدوا آلهتهم، فلما استقرت المسيحية في الإمبراطورية الرومية هوت إليها النفس العربية في الشام والعراق جميعًا، فلماذا؟
يذكر بعض المؤرخين أن أول ملك تنصر من بني غسان إنما تنصر لأن إمبراطور الروم لم يكن يرضى عن ولاية غير نصراني في أنحاء الإمبراطورية، وإذا فسر هذا تنصر أمراء العرب فإنه لا يفسر تنصر القبائل، فإن قيل: إن قبائل الشام تنصرت مجاراة لملوكها، فالناس على دين ملوكهم، فقد تنصر من قبائل العراق كثيرون يدينون بالولاء لملك الحيرة، وكان يحارب النصرانية حليفًا لفارس، لا بد إذن من دافع آخر أدى بهذه القبائل العربية في العراق لتدين بالنصرانية وأن يكون هذا الدافع متصلًا بالعقلية العربية وميولها الروحية.
والعقلية العربية بفطرتها بدوية مستقيمة، تريد الحقيقة في بساطة، وتقصد إليها في غير التواء ولا تعقيد، فزندقة مزدك ومثنوية ماني قد تستهوي من يعجبهم الحوار ويغريهم الجدل، وكذلك الأمر في فلسفة اليونان، ولا تميل العقلية العربية إلى هذا التعقيد الجدلي، لهذا هوت إلى النصرانية وأخذت بها واطمأنت إليها، ولم يدن بالمجوسية من العرب إلا قليل.
والنصرانية دين سماوي أصحابه أهل كتاب أقر الإسلام صفاءه الأول؛ فلا عجب أن يكون أخذ العرب بها في العراق وفي الشام من طلائع التمهيد للفتح العربي وللإمبراطورية الإسلامية.
على أن سبق العرب للنصرانية في العراق والشام لم يغير من خصائصهم، ولم يصرفهم عن استقلالهم وعن تعلقهم بحياتهم العربية، تولت الأميرة ماوية بنت الأرقم بن الحارث الثاني أمر العرب بالشام في أواخر القرن الرابع المسيحي، فطمع الروم في ملكها، فحاربتهم حتى اضطرتهم لمصالحتها، ثم أمدتهم بفوارس لمحاربة القوط الطامعين فيهم، وقد دافع هؤلاء الفرسان العرب عن القسطنطينية دفاعًا مجيدًا.
ولم يكن حرص الغساسنة على استقلالهم الذاتي إزاء الروم، وحرص اللخميين على استقلالهم الذاتي إزاء فارس، ليجمع بين هؤلاء العرب وأولئك؛ ولم يجمع بينهم اشتراكهم في الميل للمسيحية؛ بل كانت الحروب تتصل بين اللخميين والغسانيين اتصالها بين فارس والروم، أليست القبيلة أساس العمران العربي! فكما كان عرب شبه الجزيرة قبائل يقاتل بعضهم بعضًا، كان عرب بادية الشام قبائل يقاتل بعضهم بعضًا.
في الثلث الأول من القرن السادس المسيحي بلغ اللخميون ذروة المجد في العراق، وبلغ الغساسنة ذروته في الشام، وكان ذلك في عهد المنذر الثالث اللخمي والحارث بين جيله الغساني، تولى المنذر الثالث ابن ماء السماء ملك الحيرة بين سنة ٥١٣ وسنة ٥٦٢ ميلادية في عهد قباذ ثم كسرى أنوشروان وتولى الحارث بن جبلة زوج مارية ذات القرطين ملك الغساسنة بين سنة ٥٢٩ وسنة ٥٧٢ ميلادية، في عهد جستنيان ثم في عهد جستين الثاني، وكان هذا الحارث يدعى الحارث الأعرج، كما كان يدعى الحارث الوهاب.
في هذا العهد ظلت الحروب متصلة بين الفرس يحالفهم المنذر، والروم يحالفهم الحارث، وكان المنذر في هذه الحروب شديد البأس قوي الشكيمة، بلغ من ذلك أن فرض الصلح الذي تم بين الفرس والروم جعلًا سنويًّا يدفعه الروم للمنذر.
استمر هذا الصلح زمنًا قوي فيه الروم واشتد ساعدهم وخشيهم كسرى، فدفع حليفه المنذر فحارب الحارث وتغلب عليه، ثم عادت الحرب فشبت بين الروم والفرس كرة أخرى إلى سنة ٥٦٢م، وكان المنذر في هذه الأثناء لا يهدأ عن الحرب، يحارب خصومه، ويحارب خصوم فارس، ويوغل في ممتلكات الروم حتى يبلغ حدود مصر.
بلغ مجد العرب المقيمين ببادية الشام وما جاورها من أرض العراق وأرض الشام غاية ذروته في هذا العهد، وقد أبرز الأدب الجاهلي هذا المجد في كل جلاله.
فالمنذر هو صاحب يوم النعيم ويوم البؤس، وهو الذي قتل عبيدًا الأبرص في يوم بؤسه، وهو صاحب قصة شريك بن عمرو؛ وكان كثيرون من شعراء شبه الجزيرة يؤمونه، وقد عاصر الحارث الوهاب النابغة الذبياني وعلقمة الفحل.
تولى عمرو بن هند ملك العراق بعد أبيه المنذر الثالث؛ وفي السنة التاسعة من حكمه ولد رسول الله، ومن بعد عمرو توالى بنو المنذر على ملك الحيرة حتى تولاه أبو قابوس النعمان بن المنذر الرابع صاحب الشاعر الأعشى ميمون بن قيس بين سنة ٥٨٣ وسنة ٦٠٥م، وقد امتد ملك النعمان في بلاد فارس حتى بلغ دجلة حيث بنى النعمانية على مقربة من المدائن عاصمة كسرى، وكان النعمان على قبح صورته مترفًا ولوعًا بمتع الحياة ولينها، تزوج امرأة أبيه المتجردة ذات الجمال البارع، فأحبت المنخل اليشكري فقتله النعمان، وأنشأ النعمان الحدائق الغناء وجلب إليها أبهج الزهر، فشقائق النعمان تنسب إليه.
ذلك كان مصير اللخميين بالعراق، أما الغسانيون بالشام فظلوا يتولى الأمر منهم أمير بعد أمير، حتى كان جبلة بن الأيهم حاكم عرب الشام عندما فتحه عمر بن الخطاب، تولى منهم عمرو الأصغر في سنة ٥٨٧م، فلجأ إليه النابغة الذبياني هربًا من النعمان بن المنذر صاحب الحيرة؛ وتولى بعده أبو كرب النعمان السادس ابن الحارث الأصغر، ففاز من النابغة بخير مدائحه، ثم توالى عدد من الأمراء تدل كثرتهم على اقتسامهم ملك الغساسنة بالشام، حتى انتهى أمرهم إلى الأيهم الثاني ثم إلى ابنه جبلة بن الأيهم.
ولعل تقسيم السلطان في الشام بين عدة أمراء من العرب كان بعض سياسة الروم في عهود كثيرة، حتى لا يناوئ العرب الإمبراطورية بوحدتهم، يرجع ذلك إلى أن الغسانيين لم تك لهم عاصمة بالشام كما كانت الحيرة عاصمة اللخميين بالعراق؛ بل كانت الجابية عاصمة، وكانت تدمر عاصمة، وكانت جولان عاصمة، وكانت جلق على مقربة من دمشق عاصمة، وهذا يتفق مع السياسة المركزية التي جرت عليها إمبراطورية الروم، كما تتفق سعة السلطان لصاحب الحيرة مع سياسة اللامركزية التي جرت عليها الإمبراطورية الفارسية.
ذكرنا فيما سلف أن عرب العراق وعرب الشام استمسكوا باستقلالهم الذاتي وبحياتهم العربية، لذلك ظلت لغة أهل شبه الجزيرة لغتهم؛ فلم تمحها الفارسية في العراق؛ ولم تمحها اليونانية أو اللاتينية في الشام، وكان من أثر هذا أن ظلت صلات ملوك الحيرة وصلات بني غسان بشبه الجزيرة وثيقة، وظل الذين يشيدون بذكر هؤلاء الملوك وينالون جوائزهم هم شعراء شبه الجزيرة، وكتب الأدب ودواوين الشعراء تروي للنابغة الذبياني ولأعشى قيس ولعلقمة الفحل ولغيرهم كثيرًا مما قيل في هؤلاء الملوك وكرمهم وما بلغوا من حضارة وترف، وحسان بن ثابت شاعر النبي كان وثيق الصلة بجبلة بن الأيهم قبل إسلامه.
كان احتفاظ هؤلاء العرب الذين هاجروا من شبه الجزيرة إلى بادية الشام بخصائصهم وبحياتهم ولغتهم العربية، من الطلائع التي مهدت للفتح العربي والإمبراطورية الإسلامية، وسنرى من بعد كيف انضم هؤلاء العرب في كثير من الأحيان لجيوش المسلمين، وكيف حاربوا في صفوفهم من كانوا حلفاءهم من الروم والفرس.
هل تأثرت علاقات فارس والروم بالقضاء على ملك الحيرة؟ كلا! ظلت الحروب متصلة بينهما بعد ذلك، كما كانت متصلة بينهما سبعة قرون متوالية من قبل، كانت إمبراطورية الروم لذلك العهد مسرح قلق واضطراب شجع الفرس على غزو الشام، وكان فوكاس إمبراطور الروم يومئذ في شغل بثورة هرقل عليه، لذلك أوغل الفرس في بلاد الشام، فاستولوا على إنطاكية وانحدروا منها إلى ناحية بيت المقدس يحاصرون المدن ثم يأخذونها عنوة، وتولى هرقل حين كان الفرس في مسيرتهم إلى القدس فلم يستطع ردهم أو منعهم من تخريب آثار المسيحية واليهودية بالمدينة المقدسة، ثم إن اليهود انضموا إلى المجوس وأعانوهم على النصارى، فلما استقر الأمر لكسرى بالشام، فتح مصر وحل بسلطانه محل الروم فيها، وفي هذه الانتصارات المتوالية للفرس على الروم نزل قوله تعالى: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ للهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚوَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ … (الروم: ١ : ٥).
وصدق الله العظيم ففي بضع سنين عاد هرقل فحارب الفرس وأخرجهم من مصر ومن الشام، وطاردهم إلى المدائن، واسترد منهم الصليب الأعظم ثم رده إلى بيت المقدس في حفل حافل، لذا تضعضع سلطان الفرس وإن استنفد ذلك من قوة الروم ما كان بالغ الأثر في التمهيد للفتح العربي والإمبراطورية الإسلامية.
لم يغب علم ما نزل بالروم ثم بالفرس عن أهل مكة والمدينة، ولم يغب عنهم كذلك أمر بني عمومتهم من العرب ببادية الشام وما جاورها من العراق وبلاد الشام، وقد هون ذلك من أمر الإمبراطوريتين العظيمتين في نظرهم، وزاد في تهوين أمرهما قيام النبي العربي وانضواء بلاد العرب كلها تحت لواء الإسلام، لكن ما هان من أمر الإمبراطوريتين لم يبلغ بالعرب حد التحرش بهما أو التفكير في غزوهما، وإن بلغ بهم حد اليقين باستقلال شبه الجزيرة عنها والذود عن هذا الاستقلال في وجهيهما، لذلك ألقت اليمن وألقت بلاد الجنوب كلها بنير فارس، ثم اتجه جل غرض الرسول (عليه السلام) إلى تأمين التخوم العربية في الشمال من جنود قيصر، ولم يدر بخواطر المسلمين أن يغيروا على الشام، أو أن يتخذوا من دعوة النبي هرقل إلى الإسلام سببًا للإيغال فيه، ترى أيقيم أبو بكر على هذه السياسة لا يتعداها، وله في رسول الله أسوة حسنة، أم يغامر بحرب قيصر، والنصر بيد الله يؤتيه من يشاء؟
كان هذا الخاطر يدور بنفس أبي بكر حينما كان النصر يحالف أعلامه في حروب الردة، فمذ قضى خالد بن الوليد على مسيلمة باليمامة، ومنذ نشر المهاجر بن أبي أمية وعكرمة بن أبي جهل لواء الإسلام في أرجاء اليمن وما جاورها، أيقنت شبه الجزيرة كلها أن الأمر فيها صائر بإذن الله إلى خليفة رسول الله، لكن أبا بكر كان أحصف من أن يستنيم لهذا النصر فينسى به ما تنطوي عليه صدور العرب من حفيظة قد تضطرم فتضرم الثورة كرة أخرى، وليس من الخير أن تتجه أنظار العرب إلى ما وراء الحدود من شبه الجزيرة فتنسى بذلك حفائظها وتنسى أحقادها! وبادية الشام تنتشر فيها القبائل من العرب، فجدير بها أن تسمع الدعوة إلى الدين الجديد كما سمعها العرب في شبه الجزيرة، ولعل هذه القبائل إذ تتصل بأصولها، وتسمع الحديث عن أجدادها، تعود بها الذكرى إلى الماضي، فتسرع لتشارك بني عمومتها فيما هداهم الله إليه من الحق، وتشهد معهم أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
كان هذا الخاطر يدور بنفس أبي بكر وهو في داره المتواضعة بالمدينة، وكان يدور بنفسه وهو في مجلسه بالمسجد، ثم كان يدور بنفسه وهو يجوب الأنحاء الفقيرة آناء الليل في سر من الناس، يعين المحتاج، ويأسو كلوم الجريح، ويسكن أنات البائس والمسكين، ولم يستأثر هذا الخاطر بتفكير أبي بكر؛ لأنه يحب السلطان لنفسه أو يطمع في التوسع فيه، بل؛ لأنه كان يريد أن يطمئن المسلمون إلى دينهم وحرية الدعوة إليه، وإنما تتم للمسلمين الطمأنينة ما قام الحكم فيهم على أساس من العدل المجرد من الهوى، والحكم على هذا الأساس يقتضي الحاكم أن يسمو به فوق كل اعتبار شخصي، وأن يكون العدل والرحمة مجتمعين، وقد كانت نظرية أبي بكر في تولي أمور الدولة قائمة على إنكار الذات والتجرد لله تجردًا مطلقًا، جعله يشعر بضعف الضعيف وحاجة المحتاج، ويسمو بعدله على كل هوى، وينسى في سبيل ذلك نفسه وأبناءه وأهله، ثم هو مع ذلك يتتبع أمور الدولة جليلها ودقيقها بكل ما آتاه الله من يقظة وحذر.
وكان حكم أبي بكر في العام الأول من خلافته يكاد ينحصر في القضاء على الردة والقائمين بها، وهل كان للمسلمين المقيمين بالمدينة ما يختلفون فيه وأهلوهم جميعًا قد ذهبوا مجندين يقمعون الثورة ويقضون على أسباب الفتنة، وهم أثناء ذلك يتتبعون أخبارهم ويقيمون الصلوات لنصرهم؟! ولى أبو بكر عمر بن الخطاب القضاء في المدينة، فأقام عامًا كاملًا لم يختلف إليه متقاضيان، وكان أبو عبيدة بن الجراج قائمًا بأمر المال، يتلقاه من الزكاة، وينظر في توزيعه على حاجات المسلمين، وكان عثمان بن عفان يكتب الأخبار للخليفة، ويكتب زيد بن ثابت ما عداها، وقد كفاه عماله على البلاد والقبائل مئونة إدارتها بما كان لهم من أمانة وحسن بصر بالأمور، ثم كانوا على اتصال دائم به في توجيه سياستهم، وقد رأيت الشيء الكثير من ذلك فيما كان بينه وبينهم من مكاتبات أثناء حروب الردة، وإذ كان أبو بكر في شغل بهذه الحروب طيلة العام الأول من خلافته، فقد أقام مقامه عتاب بن أسيد عامله على مكة في الحج بالناس ذلك العام.
لم يشغل أبا بكر عن حروب الردة شاغل إلا ما اتصل بها مما قصصنا نبأه حين الحديث عنها، أما وقد هان أمر المرتدين ولم يبق لأحد من أهل الحواضر والبوادي أن يأبه لهم أو يخشى خطرهم، أفلا يجمل بأبي بكر أن يغامر بحرب قيصر؟ إنه إن يفعل يصرف أذهان العرب في شبه الجزيرة كلها عن ثاراتهم، ويجعل لهم من الفخار ما ينسيهم ضغنهم على يثرب وأهلها، ويمهد الطريق لانتشار كلمة الله في الإمبراطورية الرومية المترامية الأطراف.
لكن غزو الروم مغامرة إن لم يحالف النصر فيها أعلام المسلمين تعرضت شبه الجزيرة لشر من الثورة التي أخمدتها حروب الردة: تعرضت للروم وحكمهم، وتعرضت بذلك لكارثة تجتث حكم المدينة، وقد تفتن المسلمين عن دينهم، ومنازلة الروم ليست هينة، إنما انتصر أبو بكر على المرتدين في شبه الجزيرة؛ لأن الإسلام قضى على الوثنية فيها، ولأن البواعث التي أدت بطليحة ومسيلمة والعنسي إلى الثورة وجدت من قبائل هؤلاء المتنبئين من رأى في ردتهم نقضًا لعهد عقدوه مع رسول الله، حين ذهبت وفودهم إليه بالمدينة تعلن الإسلام وتنضوي تحت لوائه، أما الروم فكانوا نصارى أهل كتاب كالمسلمين، ثم كانوا إلى ذلك أصحاب الكلمة العليا في توجيه سياسة العالم لذلك العصر.
صحيح أنه قامت بينهم وبين فارس حروب استطالت على السنين، كتب النصر في بداءتها للفرس، ثم انتهى الغلب فيها للروم، وقد استنفدت هذه الحروب من قوى الدولتين الكبيرتين ما يحتاج إلى الجهد الضخم والسنين الكثيرة لتعويضه، لكن للفوز في الحروب بريقًا يكلل هام المنتصر بأكاليل تبهر أنظار الناس، وتصدهم عن محاربة من كان النصر حليفه، ولم تكن الأمة العربية قد جربت حظها في مثل هذه الحروب من بعد لتقدم على مغامرة لها من الخطر ما يصد عنها، بل ما يخيف منها.
ولم يرد التفكير في محاربة الفرس بخاطر أبي بكر، فالحجاز لا يتصل بفارس، والبلاد العربية التي تتاخم الفرس هي البلاد التي فشت فيها الردة، ويتعذر لذلك أن يعتمد أبو بكر عليها أو يأمن أهلها في غزو دولة لا يزال لها مع ظفر الروم بها، جيوش جرارة وموارد كثيرة، أفلا يجمل بالخليفة أن يوجه همه إلى توطيد الأمن في مختلف الأرجاء من شبه الجزيرة، لتنضم كلها في وحدة تزيدها قوة وتزيد سياستها اتساقًا!
وإن أبا بكر ليفكر في هذا وفي مثله إذ ترامت إليه الأنباء بأن المثنى بن حارثة الشيباني قد سار بقواته شمالًا في البحرين، حتى وضع يده على القطيف وهجر، وحتى بلغ مصب دجلة والفرات، وأنه قضى في مسيرته هذه على الفرس وعمالهم ممن عاونوا المرتدين بالبحرين، وسأل أبو بكر عن هذا المثنى من هو، وإلى أي قبيلة ينتسب، وعلم أنه من البحرين من بني بكر بن وائل، وأنه انضم إلى العلاء بن الحضرمي في مقاتلة المرتدين على رأس من بقي على الإسلام من أهل هذه النواحي، وأنه تابع مسيره مساحلًا الخليج الفارسي إلى الشمال، حتى نزل في قبائل العرب الذين يقيمون بدلتا النهرين فتحدث إليهم وتعاهد معهم، وعلم أكثر من ذلك أنه رجل جليل المكانة يعتمد عليه، قال عنه قيس بن عاصم المنقري: «هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد، هذا المثنى بن حارثة الشيباني.»
جعل أبو بكر يفكر فيما سمعه من ذلك وفيما يمكن أن ينشأ عنه، وأدى ذلك به إلى معاودة التفكير في دفع المسلمين إلى خارج شبه الجزيرة كيما ينصرفوا عن ثاراتهم الأولى وثورتهم بسلطان المدينة، ألا يستطيع هذا المثنى أن يتوغل في العراق وأن يفتح للمسلمين أبوابه ما دامت أبواب الشام مستعصية! فقبائل العرب في العراق من بني لخم وتغلب وإياد والنمر وشيبان تهوي نفوسهم إلى منابتهم في شبه الجزيرة، ومن العراق انحدرت سجاح تعلن نبوتها في بني تميم، وتعتمد على أبناء هذه القبائل العربية التي نزحت إلى شواطئ الفرات، لعل البدء بتوجيه سياسة المسلمين إلى هذه الناحية يكون أجدى من كل توجيه آخر! ولعل هذا المثنى الشيباني يكون خير طليعة لتنفيذ هذه السياسة!
وشجع أبا بكر على العود إلى هذا التفكير ما يعلمه من أمر فارس صاحبة السلطان في العراق، فقد انتصر هرقل على الفرس قبيل وفاة النبي وحطم جيوشهم في نينوى ودستجرد، وسار حتى صار على أبواب المدائن عاصمة ملكهم، وقد بلغ من ضعف سلطانهم أن تخلصت اليمن من نيرهم وأن انضم بازان إلى رسول الله، هم لم يحركوا لاستردادها ساكنًا، ومن بعد ذلك تقلص سلطانهم من البحرين ومن جميع الإمارات الواقعة على الخليج الفارسي وعلى خليج عدن، ولم يفكر أحد من ملوكهم في استرداد شيء من هذا السلطان قل أو كثر، وكيف يفكرون والاضطراب ضارب بجرانه في بلاطهم، يسعى كل أمير ليقتل الجالس على العرش فيأخذ مكانه؛ حتى لقد ادعى هذا العرش في أربع سنين تسعة من الأمراء كانوا يقتتلون عليه فيقتل بعضهم بعضًا، جهرة حينًا وغيلة حينًا، لا عجب إذن أن يصح ما تحدث الناس به إلى أبي بكر عن المثنى وفعاله، ثم لا عجب أن ينشط تفكير أبي بكر في العراق وفتحه.
وبينما يتأمل الخليفة الأمر ويطيل التفكير فيه؛ إذ أقبل المثنى إلى المدينة، وتلقاه أبو بكر وسمع منه وعرف من أنبائه ما زاده اطمئنانًا إلى البدء بفتح العراق العربي أدنى إلى النجاح، ولن يلقى من المقاومة ما يلقاه التقدم في الشام وليس العراق على شواطئ النهرين دجلة والفرات وفي الجزيرة الواقعة بينهما بأقل من الشام جمالًا ونضرة، وإذا لم يكن أهل الحجاز قد تحدثوا عنه ما تحدثوا عن الشام لقرب الشام منهم، ولأن الطريق إليه طريقهم في رحلة الصيف، فغدًا يتحدثون عن العراق وتتجه إليه أنظارهم ما اتجهت إلى الشام، فليعزم الصديق إذن أمره، وليتوكل على الله.
وكيف له أن يتردد وقد ذكره المثنى بأن قبائل العرب التي استقرت بدلتا النهرين الغنية بألوان الزرع والفاكهة وبالطير والحيوان، مالت إلى الحضر والإقامة وعمل أبناؤها فلاحين في الأرض، وأن دهاقين الفرس يستولون على غلتها، ولا ينال أولئك العرب منها إلا القليل الذي يجود الدهاقين عليهم به، أي مرعى أخصب من هذا المرعى لبث الدعوة العربية، ولتأمين شبه الجزيرة من دسائس الفرس ومن عدوانهم، فهؤلاء العرب وإن استقروا بأرض العراق يستجيبون لا ريب لكل دعوة عربية، ومعاملة الدهاقين لهم تعدهم للثورة بهم، أما وقد أحسنوا السماع لحديث المثنى فالفرصة من ذهب، يجب ألا تضيع، بل يجب أن تتخذ خطوة لما بعدها.
ولئن حالف النجاح المسلمين في هذه الخطوة لتكونن البشير بخطوات واسعة: فليست دلتا النهرين على خصبها وحسن ثمرها أخصب العراق أو أجمله أو أحسنه ثمرًا؛ بل إن دجلة والفرات ليجريان متوازيين قرابة ثلاثمائة ميل قبل أن يتصلا، ولا يقف أمر المناطق التي يتوازيان فيها عند الخصب الممرع الذي يجعل منها جنة دونها جنات الشام التي بهرت أنظار أهل الحجاز وسحرت قلوبهم، بل إن بها من ذكريات التاريخ ما يثير الإعجاب في نفس من يسمع بها من أهل شبه الجزيرة، بل من أهل الأرض جميعًا، وحسبك أن مدينة «أور» التي تكشفت في عصرنا الحديث عن آثار يقرنها بعض الناس إلى آثار الفراعنة، تقع في هذه المنطقة، فإذا أنت سرت شمالًا لقيك بعد قليل من توازي النهرين آثار بابل القديمة، ولقيك على شواطئ الفرات برج بابل قائمًا يحدث عن عظمة الآشوريين ويروي تاريخ مجدهم، ونحن نتحدث إلى اليوم عن هذا البرج فيثير حديثه في نفوسنا العجب، ما بالك به من أربعمائة وألف سنة مضت، وبما كان يثيره في النفوس حين كان العرب يسمعون حديثه!
فإذا أنت تابعت السير على الفرات قابلتك المدائن عاصمة الفرس ومهد الترف والنعمة لذلك العهد في العالم كله، فقد بلغ الفرس يومئذ من الترف ما تبلغه الأمم حين تنحدر إلى ناحية التدهور والانحلال.
لعل الأسماء التي ذكرنا قد أثارت في نفسك صورة من العظمة التاريخية لهذه البقعة التي تقع شمالي دلتا النهرين، وأثارت كذلك فيها ذكر ما كان حول هذه المدن من حدائق وكروم وزروع تمتد إلى الأفق زاهية الخضرة، يبعث أريج زهرها أروح العطر إلى الهواء الذي تتنفسه.
أما وذلك بعض ما في هذه البقاع من خصب جعل الناس يطلقون عليها اسم «جنة الأرض» لكثرة غلالها ووفرة خيراتها وبعض ما فيها من جمال يعدل ما في الشام أو يزيد عليه، فقد رأى أبو بكر صدق ما يذكره المثنى الشيباني، ورأى أن من الواجب على المسلمين أن يقوموا بتأمين العرب من أهلها، فإذا استجاب هؤلاء العرب من بعد للدعوة الإسلامية ولم يصرفهم الفرس عنها فذاك، وإلا قاتل المسلمون الفرس ليكون الميدان لحرية الرأي فسيحًا، وكلمة الحق منتصرة لا محالة بالحجة والموعظة الحسنة.
واستشار أبو بكر أصحابه وعرض عليهم ما جاء به المثنى من الأنباء، وقوله له: «أمرني على من قبلي من قومي أقاتل من يليني من أهل فارس وأكفيك ناحيتي.»
وتداول القوم المشورة بينهم، فرأوا أن الأمر في حاجة إلى رأي خالد بن الوليد يكشف لهم عما يجب إذا قاوم أهل فارس المسلمين، وكان خالد باليمامة مقيمًا مع زوجتيه أم تميم وبنت مجاعة، يستجم بعد غزوة عقرباء، ويطمئن إلى العيش بينهما، وقد استدعاه أبو بكر على عجل فحضر، ولم يتردد خالد حين عرف ما جاء المثنى فيه عن الإشارة إلى ما قد يترتب من النتائج على مقاومة الفرس لجيش بن حارثة، فقد يدعوهم انتصارهم إلى التفكير في استرداد نفوذهم في البحرين وما جاورها، فأما إن أعد الخليفة للحرب عدتها، وجعل ما قام به المثنى من قبل طليعة فتح يلقي إلى المسلمون بفلذ أكبادهم فلا ريب عنده في أن العراق سيفتح أبوابه، وفي أن العرب المقيمين به عاملين في الزراعة سيكونون من عوامل النصر لبني جنسهم.
وأتم أولو الرأي المداولة فيما بينهم، وأقروا أبا بكر على تأمير المثنى، عند ذلك أمره أن يتابع ما بدأ بين العرب من عهد ودعوة إلى الحق، فكان أمره هذا الخطوة الأولى في فتح العراق، فأما الخطوة الحاسمة فكانت توجيه خالد بن الوليد على القيادة العامة لجيوش الفتح، وفعال خالد في العراق وانتصاراته على الفرس موضع حديثنا في الفصل التالي.
•••
هذه الرواية في التمهيد لفتح العراق هي الراجحة في رأينا، على أن طائفة من المؤرخين يذهبون إلى أن المثنى لم يذهب إلى المدينة ولم يقابل أبا بكر، وأنه أمعن في السير بجيشه في دلتا الفرات، فلقيه هرمز، فكانت بينهما وقعات نمى خبرها إلى أبي بكر فلما سأل عن المثنى وعرف من هو وماذا كانت فعاله في البحرين أثناء حروب الردة، أصدر أمره إلى خالد بن الوليد كي يخفَّ إليه، ويعينه على هرمز، وينصره والعرب الذين آزروه ليريحهم من هذا الطاغية الفارسي، وهذه الرواية مرجوحة عندنا وإن كنا لا نقطع بعدم صحتها، فقد انتصر المثنى على الفرس ولم يكن في حاجة إلى مدد، وشجع انتصاره أبا بكر على التفكير في غزو العراق، فأمر خالدًا أن يذهب إلى دلتا الفرات يعزز المثنى، ثم يسير حتى يفتح الحيرة عاصمة العرب اللخميين، وأمر عياض بن غنم أن يسير إلى دومة الجندل يخضع أهلها الذين تمردوا وارتدوا ثم يسير من هناك إلى الحيرة، وأي القائدين سبق صاحبه فله القيادة العليا وله الأمر في تلك البلاد.
وإنما ذكرنا أن الرواية الثانية مرجوحة، ولم نقل إنها غير صحيحة، لما في الروايات التي انتهت إلينا عن ذلك العهد من الاضطراب، ولقد بلغ من اضطرابها حين الحديث عن فتح العراق ومقدماته أن تردد الطبري وابن الأثير وغيرهما فلم يرجحوا رواية على أخرى.
ويرى بعض المتأخرين من المؤرخين أن خالدًا حين ذهب إلى دلتا الفرات لم تكن أمامه خطة مرسومة ولا غاية معينة، وإنما ذهب مددًا للمثنى ينقذه وينقذ جيشه، فلما انتصر على الفرس وتقدم إلى الشمال وبعث إلى الخليفة بالأخماس وبأنبائه كان هو الذي صور الفتح كيف يكون، وهو الذي اتجه إلى الحيرة فما شمالها، ولقد يضعف من هذه الرواية أن أوامر أبي بكر إلى قواده كانت صريحة دائمًا في ألا ينتقل أحدهم من غزاة إلى ما بعدها إلا بإذنه، ذلك ما رأيناه في حروب الردة، وذلك ما كان من بعد في فتح العراق والشام فليس من الممكن مع هذا أن يكون فتح العراق فلته، أو أن يسير خالد بن الوليد مستقلًّا عن أوامر أبي بكر.
والآن فلنسر مع المثنى إلى دلتا النهرين، وعما قريب يلحقنا خالد هناك ليضرب الفرس في العراق، ولينتقل منه إلى الشام فيمهد للقضاء على دولة الروم في آسيا القضاء الأخير.