فتح العراق
أجاب أبو بكر طلب المثنى بن حارثة الشيباني، فأمره على من معه من قومه ليقاتل أهل فارس، فلما بلغته أنباء نصره بدلتا النهرين رأى أن يمده ليتابع غزواته لذلك أمر خالد بن الوليد أن يجمع بقية جنده وأن يسير إليه، وأن تكون القيادة العليا لخالد بطبيعة الحال، ولقد أمر عياض بن غنم أن يسير إلى دومة الجندل يخضع أهلها المتمردين ثم يسير منها شرقًا إلى الحيرة، فإن بلغها قبل خالد فالأمر فيها له، وخالد فيها من قواده، وإن سبقه خالد إليها فالأمر والقيادة لخالد وعياض من قواده.
وكان العرب في العراق يعملون فلاحين في أرضه، ثم ينالهم القليل من خيره أما وافر الخير فيذهب إلى الدهاقين الفرس الذين كانوا يسومون العرب الخسف والظلم، وقد أصدر أبو بكر أوامره إلى قواده بالعراق ألا ينالوا هؤلاء العرب الفلاحين بسوء؛ لا يقتلون منهم أحدًا، ولا يأخذون منهم أسرى، ولا يسيئون إليهم في أمر يتصل بهم؛ فهم عرب مثلهم، وهم يشعرون بالظلم تحت نير فارس، فيجب أن يشعروا بزوال هذا الظلم حين مقدم العرب، ويجب أن يعمهم العدل على أيدي بني عمومتهم، ذلك واجب على المسلمين يأمرهم الله به، وهو بعد السياسة الحكيمة التي تكفل للمسلمين النصر، وألا يؤتوا بعد نصرهم من خلفهم.
والحفير تقع قريبًا من خليج فارس على حدود الصحراء وعلى مقربة من ثغر كاظمة، وكان هرمز أمير هذه المنطقة كلها من قبل فارس، وممن تم شرفهم بين أمرائها، وكان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم في عشائرهم؛ فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مئة ألف، وتلك كانت قيمة هرمز وكان هرمز من أسوأ أمراء الثغور معاملة للعرب؛ حتى لقد بلغ من حقدهم عليه أن جعلوه مضرب المثل في الخبث؛ فكانوا يقولون: «أخبث من هرمز»، و«أكفر من هرمز»، وترجع كراهيته للعرب إلى أن أبناء عمومتهم في شبه الجزيرة كانوا لا يفتئون يشنون الغارات للنهب والسطو على البلاد الواقعة في إماراته، فكان يحاربهم في البر. أما الهنود، وكانت تجيء سفنهم إلى تلك الثغور فتقوم فيها بأعمال تشبه القرصنة، فكان يحاربهم في البحر؛ وكان بهذه الحرب في البر والبحر يعد نفسه حامي البلاد التي تعد مفاتح فارس.
سار خالد من اليمامة إلى العراق على رأس عشرة آلاف من الجند، فلما بلغ حدوده ألفى المثنى ومن معه ينتظرونه، هنالك قسم الجند كله ثلاث فرق، وجَّه كل واحدة منها في طريق على أن يلتقوا جميعًا بالحفير، فأما الفرقة الأولى وعلى رأسها المثنى بن حارثة الشيباني فسارت قبل خالد بيومين، وأما الفرقة الثانية وعلى رأسها عدي بن حاتم الطائي فسارت قبله بيوم، وسار خالد في المؤخرة، وكان خالد قد بعث قبل ذلك إلى هرمز كتابًا يقول فيه: «أما بعد، فأسلم تسلم، أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر بالجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.»
تناول هرمز هذا الكتاب وترامت إليه أنباء المسلمين ومسيرة جندهم، فكتب إلى أردشير الملك بالخبر، وجمع جموعه وسار إلى الكواظم يلقى خالدًا بها، فلما علم أن خالدًا أمر أصحابه بالسير إلى الحفير أسرع بجنده إليها ونزل على الماء فيها.
وقدم خالد عليهم وأمر بالنداء في الجند لينزلوا ويحطوا أثقالهم، وتحدث إليه قوم من رجاله أنهم على غير ماء، فقال لهم: «ألا انزلوا وحطوا أثقالكم ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصبرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين!»
ووقف هرمز في جيشه، وعلى ميمنته وعلى ميسرته أميران من بيت الملك في فارس، هما قباذ، وأنوشجان؛ ونادى هرمز: أين خالد؟ يريد أن يخرج ابن الوليد إليه يبارزه، فلقد كان يعرف من بطولة خالد وفعاله في بلاد العرب ما آمن معه بأنه إن يقتل خالدًا يضمن لفارس نصف النصر إن لم يضمن لها النصر كله.
ولكن كيف سولت له نفسه أن يقتله وخالد البطل الذي لا يُغلب؟! الأمر يسير؛ فالخيانة تمهد له درك غرضه، لهذا عهد إلى جماعة من فرسانه إذا رأوا خالدًا خرج إليه أن ينقضوا عليه ويقتلوه.
وسمع خالد نداء هرمز فنزل عن جواده ومشى إليه فالتقيا فاختلفا ضربتين، وشد فرسان فارس يريدون قتل خالد واستخلاص هرمز من يده، لكن القعقاع بن عمرو لم يمهلهم أن حمل عليهم حين كان خالد قد قبض على ناصية هرمز يستل روحه من بين جنبيه، وشد المسلمون فانهزم أهل فارس أمامهم، فطاردوهم وركبوا أكتافهم إلى الليل، وبلغ المسلمون الجسر الأعظم من الفرات حيث تقع البصرة اليوم في حين فر قباذ وأنوشجان فيمن بقي من جيش الفرس لا يلوون على شيء.
ومر المثنى أثناء مطاردته جيش الفرس بحصن تقيم فيه أميرة فارسية يطلق مؤرخو العرب عليه اسم حصن المرأة، وقد ترك أخاه المعنى بن حارثة على حصار هذا الحصن، وسار وهو فحاصر زوجها في حصنه، ففض الحصن على من فيه وقتلهم، واستفاء أموالهم، ثم استمر يطارد بقية الجيش، وعلمت المرأة بما أصاب زوجها فصالحت المعنى وأسلمت وتزوجته.
أطلق على هذه الغزاة الأولى الخالدة بالعراق اسم «ذات السلاسل» وعلة هذه التسمية، فيما يقولون، أن الفرس اقترنوا في السلاسل حتى لا يفروا، ويُروى أن خالدًا جمع ما خلف القوم وراءهم من هذه السلاسل فكانت وقر بعير ألف رطل ويرتاب بعضهم في هذه الرواية فيسمي هذه غزاة كاظمة، نسبة إلى أقرب قرية من المكان الذي وقعت فيه.
كان لهذه الغزوة الأولى أثر عظيم ألهب حمية المسلمين، فقد رأوا الفرس لا يثبتون أمامهم أكثر ما كان يثبت العرب في حروب الردة، ولقد قتل هرمز من يد خالد، فكان مقتله مرضاة للعرب جميعًا أي مرضاة، هذا إلى جسامة ما غنموه فيها مما لم يكن لهم بمثله عهد؛ فقد بلغ نفل الفارس ألف درهم خلا السلاح.
وزاد نصر المسلمين في هذه المعركة جلال تنفيذ خالد للسياسة التي رسمها أبو بكر مع العرب الفلاحين بالعراق أدق تنفيذ فقد سبى أبناء المقاتلة الذين كانوا يقومون بأمور الأعاجم، أما الفلاحون فتركهم لم يحركهم، وأقر من لم ينهض منهم وجعل له الذمة.
وبعث خالد خمس الغنائم إلى أبي بكر بالمدينة، وبعث معها قلنسوة هرمز وفيلًا أخذه المسلمون في الموقعة، ولم يكن أهل المدينة قد رأوا فيلًا في حياتهم، بل لم تر بلاد العرب كلها فيلًا قبل ذلك إلا فيل أبرهة حين حاول هدم الكعبة، فلما طاف قائد الفيل به في المدينة عجب أهلها لمنظر الحيوان الضخم وتولى بعضهم الريب في أمره، بل لقد جعلت ضعيفات النساء يقلن: أمن خلق الله هذا؟! وخيل إلى بعضهم أنه من صناعة فارس! ورأى أبو بكر أنه لا نفع فيه فرده إلى العراق مع قائده.
ألهبت هذه الغزاة حمية المسلمين، حتى لقد استمر المثنى الشيباني يطارد الفرس المنهزمين وكأنما يريد ألا يفوتهم قبل أن يبلغ المدائن، وفيما يتعقبهم جاءته الأنباء بأن جيشًا عظيمًا من الفرس أقبل من المدائن لملاقاة خالد وجنوده، ذلك أن الملك أردشير ما لبث حين جاءته رسالة هرمز أن دعا إليه قارن بن قريانس أحد الأمراء الذين تم شرفهم، وجعلهم على رأس قوة سارت مددًا لجيش الثغور، ولقي قارون في طريقه إلى الجنوب قباذ وأنوشجان على رأس الفلال المنهزمين، فاستوقفهم وتحدث إليهم وبعث السكينة إلى نفوسهم وضمهم إلى جيشه وعسكر بهم في المذار على ضفاف قناة تصل دجلة بالفرات، وأيقن المثنى أن انفراد جيشه بلقاء هذه القوة العظيمة قد يجر عليه الهزيمة، فاختار مكانًا قريبًا من المذار أنزل جنده فيه، وكتب إلى ابن الوليد بتفصيل ما عنده، وخشي خالد أول ما بلغه النبأ أن يلقى قارن بن حارثة فيهزمه فيفت ذلك في أعضاد المسلمين، فطار بجيشه وبلغ المذار، وقارن يعد للقاء المثنى عدته، وجنود المثنى لا يعلمون ما الله صانع بهم.
كان للمثنى ولجنوده العذر أن تثور مخاوفهم، فقد بعثت هزيمة هرمز الحقد والحفيظة إلى نفوس الفرس، فأقبلوا وكلهم حب الانتقام، وحسبوا أنهم بالغون منه غايتهم بهزيمة المثنى وجنوده وهم بعيدون عن مركز القيادة، فلما بلغ خالد المذار أخاف الفرس وإن لم يخفف وصوله غلواء قارن ولم يضعف من عزمه، ورأى قباذ وأنوشجان فرصة الثأر لهزيمة الحفير سانحة، وأرادا أن يغسلا بفعالهما ما تجللاه ثم من ثياب الخزي والعار فاستنهضاهم الجند الذين كانوا معهما ودفعاهم إلى الميدان يغلي في عروقهم حرص على الثأر لا تهدأ ناره، وخيل إليهما وإلى قارن أنهم إن هاجموا خالدًا قبل أن يتخذ للموقف عدته لم يفتهم الظفر بالمسلمين وأن يردوهم على أعقابهم إلى شبه الجزيرة منكسة رءوسهم، صريعًا في أذهانهم كل أمل في قتال كسرى أو منازلة رجاله.
ورأى خالد تأهب جيوش الفرس فبقي على تعبئته التي جاء بها من الجسر الأعظم وشد بقواته عليهم، ورأى المثنى في مقدم خالد عليهم معجزة أمدهم الله بها لينصرهم، فانقلبوا من الخوف إلى اليقين بالنصر أسودًا كاسرة لا تهاب الموت بل تلقاه باسمة، وهنا حقت كلمة خالد لهرمز: «إني جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون الحياة.» والتحم الجمعان، فإذا قارن وقباذ وأنوشجان يذبحون بأعين رجالهم، وإذا سيوف المسلمين تطيخ برءوس الفرس من كل جانب، وإذا الجيش الذي خيل إليه أن النصر بين يديه يفر أمام خالد وجنده إلى السفن يتخذونها مطاياهم للنجاة، وإذا المسلمون يغنمون مما تركوا ما شاء الله أن يغنموا، وحال الماء بين المسلمين وتعقبهم، فأقام خالد بالمذار وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت، وقسم الفيء ونفل من الأخماس من أحسنوا البلاء.
أقام خالد بالمذار، فسبى أبناء المقاتلة ومن أعانهم، وأقر الفلاحين ومن أجاب إلى الخراج من جميع الناس، وكان أبو الحسن البصري بين الأسرى في هذه الموقعة، وحرص خالد بعد أن اطمأن له الأمر على تأمين مواصلاته إلى الخليج الفارسي، فأمر القواد على الجند الذين استبقاهم بالحفير وعلى الجسر الأعظم، وولى العمال على الجباية، وأقام مكانه يتنطس أخبار عدوه.
وما كان ليحسب أنه، وهو لا يزال على مقربة من خليج فارس، قد قضى على قوات كسرى بالعراق؛ فهو بعد من الحيرة على آماد غير قليلة؛ والحيرة تكاد تنتصف الطريق بين الخليج والمدائن، وإلى شمال المدائن من أرض الفرس ما يعج بالجند عجيجًا، ولا يأمن المسلمون أن يستعين الفرس قبائل العرب بالعراق عليهم، وهذه القبائل منتشرة على تخوم العراق إلى البادية، منتشرة في جزيرة العراق بين النهرين، وأكثرها على النصرانية لم تزعجها فارس المجوسية عنها، فإذا جاء هؤلاء المسلمون فدعوها إلى الإسلام أو الجزية رأت أن الخير لها في أن تبقى كما هي متمتعة بحريتها، لا جرم إن رأت ذلك أن تنضم إلى الفرس وأن تعينهم، هذه كلها احتمالات دارت بخلد القائد العبقري، فقدرها، وحسب لها حسابها.
ولم يخطئ خالد فيما قدر؛ فإن الفرس ما لبثوا، حين رأوا ما أصابهم بالحفير والمذار، أن اتجه تفكيرهم إلى الاستعانة على العرب بالعرب، فإنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وكان كسرى يطمئن إلى ولاء قبائل عربية كثيرة بينها جماعات عظيمة من بني بكر بن وائل، لذلك دعاهم وجعل عليهم قائدًا منهم ووجههم إلى الولجة ولكي لا يكون لهم كل فخار النصر أقام قائدًا من أقدار قواده، هو بهمن جاذويه، على جيش من الفرس ووجهه في أثرهم، ولقد ازداد جيش القبائل العربية بمن انضم إليهم بين الحيرة والولجة من العرب والدهاقين الذين عسكروا إلى جانبهم، وبلغهم بهمن على رأس الجنود الفارسية وأعد معهم لقتال المسلمين عدته.
بلغت هذه الأنباء خالد بن الوليد وهو بالمذار، فأمر من خلف من قواده وجنوده على الحفير وكاظمة وسائر ما اطمأن له من أرض العراق أن يكونوا على حذر، وألا يغتروا بما فتح الله عليهم من النصر، وخرج في جنده إلى الولجة يقاتل جنود كسرى، وكان الفريقان في الغاية من قوة البأس والعزم، حتى لقد تردد النصر بينهما زمنًا أي الفريقين يصاحب، وكان خالد في عبقرية قيادته قد أمر اثنين من أمراء جنده أن ينفصلوا أثناء السير عنه وأن يكمنوا وراء العدو فيأخذوه أثناء القتال على غرة، لكن هذا الكمين تأخر فلم يظهر على حين كانت صفوف المقاتلين من المسلمين ومن عدوهم تترجح متقدمة طورًا متراجعة طورًا آخر … وظن الفريقان أن الصبر قد نفد وأن المعركة لن تنتهي إلى غاية. وإنهم لكذلك إذ خرج كمين من المسلمين في ناحيتين من وراء جيش كسرى في حين كان خالد يشتد في الضغط عليهم من أمامهم، هنالك انهزمت صفوف الأعاجم فولوا وقد أخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم، فلم ير رجل منهم مقتل صاحبه، ولى الأعاجم وولى العرب الموالون لهم وسيوف المسلمين آخذه برقابهم، وجنود المسلمين يأسرون منهم من لم يتردَّ قتيلًا؛ وسبى خالد ذراري المقاتلة ومن أعانهم.
كان هذا شأن العرب؛ فماذا كان شأن فارس حامية الحضارة في عالم يومئذ، ومهد الترف والنعمة والعلم والفن؟ إن تعجب لأمر بعد الولجة فلأن الذين غلى الدم في عروقهم للهزيمة التي نزلت بهم لم يكونوا الفرس، بل كانوا بني بكر بن وائل من العرب، هؤلاء شق عليهم أن يغلبهم بنو عمومتهم من شبه الجزيرة، فغضبوا وغضب لهم نصارى قومهم، فكاتبوا الأعاجم وكاتبهم الأعاجم، فاجتمعوا جميعًا بأليس على صلب الفرات في منتصف الطريق بين الحيرة والأبلة، وكتب كسرى أردشير إلى بهمن جاذويه أن سر حتى تقدم أليس بجيشك إلى من اجتمع بها من فارس ونصارى العرب، ورأى بهمن أن يسير إلى أردشير ليحدث به عهدًا وليتلقى أوامره، فقدم جابان أحد القواد وأمره أن يحث السير إلى أليس وقال له: «كفكف نفسك وجندك عن قتال القوم حتى ألحق بك إلا أن يعجلوك.» وألفى بهمن أردشير مريضًا فأقام إلى جانبه، وترك الأمر إلى جابان ولم يبعث له عن مقامه بنبأ ولم يحدث له منه ذكرًا، وبلغ جابان أليس، فوقف إلى جانب عبد الأسود العجلي أمير الجند على بني بكر بن وائل ومن نفر من نصارى العرب، وجعل يدبر وإياه أمر القتال.
لم يقف خالد بن الوليد على نبأ من مسيرة جابان وجنود فارس، وإنما بلغه ما كان من تجمع العرب النصارى بأليس، فخرج في جيشه ومن انضم إليه من عرب العراق وكر راجعًا إلى الحفير يؤمن مؤخرته، واطمأن إلى ما أراد، ثم انقلب مسرعًا يلقى العدو حيث عسكر، ولم ينظر القوم حين بلغ أليس، بل دعاهم إلى القتال، وأسرع العرب إلى لقائه، فلم يمهلهم أن قتل قائدهم مالك بن قيس، ولما رأى جابان صفوفهم تضطرب تقدم بجنود فارس يعززهم، وهو وجنوده أشد ما يكونون بالفوز ثقة، أليس بهمن قد وعدهم أنه آت إليهم! فليصبروا للمسلمين وليصابروا حتى يجيئهم المدد، وليستميتوا في الدفاع عن مواقفهم، ورأى خالد صبرهم وقوة تجلدهم لبأسه، وإن لم يعرف باعثهم على هذا وذاك، وترجحت الموقعة حينًا حار له خالد فتوجه إلى ربه يستنصره ويقول: «اللهم إن لك عليَّ إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدًا قدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم.» وأنت تعرف معنى هذه الكلمة صادرة من أعماق سيف الله ومن صميم قلبه، هذا القلب الذي لا يعرف الخوف ولا يهاب الموت ولا يفزع لمرأى الدماء، وطال بالفرس وأنصارهم الصبر وبهمن لا يقبل، ولم يذر خالد أثناء ذلك لونًا من ألوان المداورة التي تفيض بها عبقريته في القيادة إلا ضيق به الخناق على أعدائه، فلما عيل صبرهم وتداعت قوتهم ولم يبق لهم من الهزيمة مفر، تحطمت صفوفهم وانقبلوا على أعقابهم يسارعون إلى الهرب ولا مأرب لهم إلا النجاة، ورأى خالد فرارهم فمر مناديه فنادى في رجاله: «الأسر! الأسر! لا تقتلوا إلا من امتنع.» ولحق فوارس المسلمين بالفرس وأنصارهم من العرب، وجاءوا بهم أفواجًا أسارى يساقون سوق النعم.
وكان الفرس قد أعدوا قبل المعركة طعام غدائهم فأعجلهم خالد عنه، فلما انهزموا وقف خالد على الطعام وقال لرجاله: «قد نفلتكموه فهو لكم.» وجلس المسلمون إلى الموائد يتناولون عشاء شهيًّا رأى الكثيرون منهم فيه عجبًا، رأوا الرقاق ولم يكونوا يعرفونه، فجعلوا يقولون: ما هذه الرقاع البيض! وجعل من عرفها يجيبهم مازحًا: هل سمعتم برقيق العيش؟! فهذا هو، ولذلك سمي الرقاق، أما العرب فكانت تسميه القِرَى.
ودعا خالد بالأسرى يستعرضهم لتبر يمينه أن يجري نهرهم بدمائهم، ووكل بهم رجالًا يضربون أعناقهم في النهر بعد أن صد الماء عنه، وأقام الموكلون يضربون يومًا وليلة والنهر لا يجري دمًا، وقال قوم من أصحاب خالد يخاطبونه: «لو أنك قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم، إن الدماء لا تزيد على ترقرق، فأرسل عليها الماء تبر يمينك.» وأمر خالد فأعيد الماء إلى النهر فجرى دمًا عبطًا ومن يومئذ سمي هذا النهر «نهر الدم»، روى الطبري أنه كانت على النهر أرحاء طحنت في ثلاثة أيام قوت ثمانية عشر ألفًا من الجند والماء من تحتها يتدفق أحمر قانيًا.
لم يكف خالدًا أن يجري النهر دمًا، بل قصد إلى بلد قريب من أليس يسمى أمغيشيا أو منيشيا كان مصرًا كالحيرة، وكان يقع عند ملتقى الفرات بنهير باديقلي، وكان أهله قد اشتركوا في الحرب بضاحية أليس فأمر جنده فهدموه وجعلوا عاليه سافله، وأصابوا كل ما كان فيه وعدوه مغنمًا فكان نصيب الفارس منه ألفًا وخمسمائة سوى ما منحه خالد من أحسنوا البلاء في أليس.
يقف بعض المؤرخين عندما قصصنا من حوادث أليس وأمغيشيا يبدون الأسف أن تقع من قائد عبقري كخالد فعال ذلك مبلغها من الوحشية، ويودون لو أن ما روي عنها غير صحيح، وإن رجحوا صحته لتضافر رواة المسلمين على ذكره ولست أقف عند ترجيح ما روي أو عدم ترجيحه، لكني لا أملك نفسي دون الابتسام حين أرى هذه الفعال تنعت بأنها وحشية، ولست أبتسم إنكارًا لهذا النعت أو استنكارًا له، وإنما أبتسم لأنني أرى أن كل حرب وحشية، والحرب مع ذلك مسوغة في نظر الأمم المتحضرة، فإذا كان الالتجاء إلى الحرب مع وحشيتها تسوغه قضية نعتقدها عادلة، فتصوير ما يترتب على الحرب الوحشية في أصلها وصميمها بأنه وحشي يدعو إلى الابتسام وإلى أكثر من الابتسام.
والحق أن الحضارة الإنسانية لما تصل إلى المدينة السامية التي تنزهها عن الوحشية وتسمو بها عليها، فهذه الوحشية لا تزال تعد من مقومات الحضارة، ولا يزال الاستعداد للحرب يعد جوهريًّا في حياة الأمم، بل جوهريًّا لحفظ كيانها حتى تكسب المناعة من أسباب الانحلال، فما يلجأ إليه قائد من القواد في أثناء الحرب، مما يزيد في وحشيتها بعض الزيادة أو ينقص منها بعض النقص، ليس أمرًا ذا بال في حياة هذه الإنسانية، وقد اعتاد الناس في مختلف العصور أن يعدوا النصر عذرًا عن كل ما سبقه، وقد حالف النصر خالدًا في كل مواقعه، فليكن له من انتصاره العذر، إن لم يكن من التماس العذر بد.
وحسبك لتطمئن إلى هذا العذر أن تعلم أن انتصار خالد وفعاله قد حطمت الروح المعنوية في قلوب الفرس ومن والاهم من العرب، فانكمشوا ولم يفكر أحد منهم في الثأر بعد أليس، كما أرادوا من قبل أن يثأروا للمذار وللحفير، بل لقد بلغت هزائم الفرس من نفس كسرى أردشير فلم يطق أن يقاوم المرض الذي أصابه واستبقى بهمن إلى جواره فمات غمًّا وكمدًا، وكيف للفرس أو لأوليائهم من العرب أن يفكروا في الثأر وقد رأوا قائدهم وكأنه إله الحرب استحال رجلًا! أليس خيرًا لهم، وذلك ما تراه أعينهم، أن يلقوا سلاحهم وأن يسلموا لحكم القدر؟!
وذلك ما فعلوا، تشاغل الفرس بموت مليكهم، وتشتت العرب في البادية وفي جزيرة بين النهرين، وانقطع كل نبأ عن التهيؤ للحرب أو لإجلاء المسلمين عن البلاد، لكن خالدًا كان أحصف من أن يلهيه سكوتهم أو يبطره الظفر فلا يرى ما يطوي الغد في ضميره، وقبائل العرب هي التي حرضت الفرس على القتال في أليس، وهذه القبائل إن سكنت يومًا فلتغدر في غده، فإن لم يقض خالد على كل أمل لهم في الثورة أو في الغدر، وإن لم يؤمن كل طريق يؤدي إلى شبه الجزيرة، فلا يلومن إن أصابه المكروه إلا نفسه، والحساب لكل صغيرة وكبيرة لم يفته في يوم من الأيام، لهذا حسب للموقف حسابه وأحكم تدبيره، وأيسر هذا الحساب أن يحتل الحيرة عاصمة العرب، وأن يضع يده على منازلهم غرب الفرات إلى حدود شبه الجزيرة.
وكان حاكم الحيرة مرزبانًا فارسيًّا يدعى آزاذيه، وكانت عاصمة العراق العربي قد تقلص سلطانها في ذلك العهد بعد أن كان قبل خمس وعشرين سنة منه قوي الجانب مسموع الكلمة، ذلك أن اللخميين الذين أنشأوا الملك في الحيرة منذ القرن الثاني للمسيح وقاموا به قرونًا متوالية، اختلفوا مع الطائيين اختلافًا أنشب الحرب بينهم، وانتهز كسرى فرصة خلافهم فنصر الطائيين على النعمان بن المنذر ثم قبض عليه فحبسه وقتله، وأقام إياس بن قبيصة الطائي حاكمًا للحيرة وما يقع في سلطانها، وبعد سنوات من ولايته هزم بنو بكر بن وائل جيشًا من الفرس يؤيده أنصار إياس بذي قار هزيمة أطاحت إياسًا عن عرشه وطوعت لكسرى أن يقيم مرزبانًا من لدنه حاكمًا للحيرة، بذلك زال نفوذها وانحل سلطانها، لكن مكانتها في نفوس العرب جعلتهم مع ذلك يرمقونها بعضهم وينالونها برعايتهم، ولهذا خشي خالد حين رأى حقدهم عليه أن يتضافر بنو بكر بن وائل مع الطائيين وسائر العرب المقيمين بالحيرة وفيما حولها لمقاومته أو قطع الطريق عليه، فعزم مهاجمتها والاستيلاء عليها واتخاذها مقر قيادته ومصدر نشاطه.
ولم يكن أهل الحيرة في شك من مقدمه عليهم وحصاره إياهم بعد أن استفاضت بينهم أخبار أليس وأمغيشيا وانتصاره عندهما وفعاله فيهما، وقدر حاكم الحيرة أنه سيركب إليه النهر متخذًا من سفن أمغيشيا مطيئته، لذلك نهض آزاذيه في عسكره إلى خارج الحيرة، وأمر ابنه فسد قناطر الفرات ليحول دون مسيل الماء فيما وراءها، وليعوق بذلك سير السفن إليه.
ولم يخطئ آزاذيه في تقديره؛ فقد استقل خالد وجيشه سفن أمغيشيا ودفعوها شمالًا إلى ناحية الحيرة، وإنهم لكذلك إذ جنحت السفن وارتطمت بقاع النهر وريع المسلمون لجنوحها وارتطامها، وأخذ الغضب من خالد مأخذه وسأل عن علة ما حدث، فأجابه الملاحون بأن أهل فارس سدوا القناطر وحولوا الماء فلم يبق منه بالنهر ما يحمل سفنهم، فخرج في كتيبة من فرسانه فلقي ابن آزاذيه على فم العقيق، ففاجأه ورجاله وهم في مأمنهم، وأعاد الماء يجري في النهر وأقام مع فرسانه يحرسه، وعادت السفن إلى المسير وحملت إليه جيشه فسار به إلى الخورنق أنزله ليعد لفتح الحيرة عدته.
ووضع خالد يده على قصري الخورنق والنجف، وكانا مصيف أمراء الحيرة، في حين عسكر جيشه أمام أسوار المدينة، أما آزاذيه ففر هاربًا من غير قتال، متأثرًا بما أصاب ابنه، وبموت أردشير، ولم يثن فراره أهل الحيرة عن التحصن بقلاع المدينة الأربعة وبأسوارها، وعن اتخاذ العدة للدفاع عنها ما وجدوا إلى الدفاع سبيلًا.
لكن عدتهم لم تكن لتجديهم فتيلًا، فقد أثار الخورنق وأثارت الحيرة خيال الجند المسلمين وبعثت إلى نفوسهم ذكرى النعمان الأكبر ابن المنذر، وذكرى سنمار وما أصابه لبناء هذا القصر المنيف وما قيل من الشعر فيه، فزادهم ذلك قوة على قوتهم وعزمًا على عزمهم، والقائد النابغة، ابن الوليد، سيف الله وسيف دينه الحق، ما غناء عدة وإن عظمت أمام عبقريته وبأس لقائه؟! لقد أبى أهل الحيرة أن يسلموا وألحوا في إبائهم، فعهد خالد إلى أمرائه أن يبدءوهم بالدعوة إلى التسليم، فإن أجابوا إليه قبلوا منهم، وإن أصروا على الإباء أجلوهم يومًا ثم قاتلوهم وقتلوهم، ودعا أمراء المسلمين زعماء الحيرة إلى إحدى ثلاث: الإسلام، أو الجزية، أو المنابذة، واختار الزعماء المنابذة، ففض الجند عليهم قصورهم وأكثروا القتل فيهم، وكان بأديار الحيرة عدد عظيم من القسيسين والرهبان مالوا حين رأوا المذبحة تصيبهم وتصيب غيرهم أن نادوا: «يا أهل القصور ما يقتلنا غيركم!» ورأى أهل القصور المقاومة عبثًا فنادوا: «يا معشر العرب! قد قبلنا واحدة من ثلاث، فكفوا عنا حتى تبلغونا خالدًا.»
وخلا خالد بأهل كل قصر دون الآخر، وقال لهم: «ويحكم! أأنتم عرب، فما تنقمون من العرب؟ أو عجم فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟» وكان جوابهم: «بل عرب عاربة وأخرى متعربة.» قال خالد: «لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا؟» وأجابوا: «ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا العربية.» قال خالد: «فاختاروا واحدة من ثلاث: أن تدخلوا في ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، إن نهضتم وهاجرتم وإن أقمتم في دياركم، أو الجزية، أو المنابذة والمناجزة، فقد والله أتيتكم بقوم هم على الموت أحرص منكم على الحياة.» وأجابوا: «بل نعطيك الجزية.»
وعجب خالد منهم لإلحاحهم في نصرانيتهم، وقال لهم: «تبًّا لكم! ويحكم؛ إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان أحدهما عربي فتركه واستدل الأعجمي.» ولم يغير هذا الكلام من إصرار القوم على دينهم ولعلهم إنما فعلوا متأثرة نفوسهم باعتبار الكرامة الإنسانية التي تحول بين المرء والرجوع عن عقيدة يؤمن بها؛ لأنه غلب على أمره وأكره على تبديل دينه؛ متأثرة كذلك بأن المسلمين لا يزالون في أول عهدهم بالعراق، وليس يدري أحد أيطمئن لهم الأمر فيه أم تجليهم الحوادث عنه.
وصالح خالد القوم على الجزية تسعين ومئة ألف درهم، وكتب بينه وبين نقبائهم عدي وعمرو بن عبد السميح وإياس بن قبيصة وحيري بن أكال كتابًا عاهدهم فيه برضا أهل الحيرة وأمرهم على هذه الجزية، تقبل في كل سنة على أن يمنعهم، فإن لم يمنعهم فلا جزية عليهم، أما إن غدروا بفعل أو قول فذمته منهم بريئة.
وشق هذا الأمر على أهلها وأعظموا الخطر؛ فقالت لهم: «هونوا عليكم وأسلموني فإني سأفتدى، وما تخافون على امرأة بلغت ثمانين سنة! إنما هذا رجل أحمق رآني في شبيبتي فظن أن الشباب يدوم!» ودفعت إلى شويل، فقالت له: «ما أربك إلى عجوز كما ترى؟ فادني.» قال: «لا، إلا على حكمي.» قالت: «فلك حكمك مرسلًا.» قال: «لست لأم شويل إن نقصتك من ألف درهم.» وتظاهرت كرامة باستكثار المبلغ لتخدعه، ثم أتته به ورجعت إلى أهلها وسمع أصحاب شويل بما صنع فسخروا منه لقلة الفداء وعنفه بعضهم؛ فكان اعتذاره: «ما كنت أرى أن عددًا يزيد على ألف.» وشكا أمره إلى خالد، وقال: «كانت نيتي غاية العدد.» قال خالد «أردت أمرًا وأراد الله غيره، نأخذ بما يظهر وندعك ونيتك كاذبًا كنت أو صادقًا.»
ولما تم لخالد فتح الحيرة صلى صلاة الفتح ثماني ركعات لا يسلم فيها، فلما أتمهن انفتل إلى أصحابه يقول: «لقد قاتلت يوم مؤتة فتقطع في يدي تسعة أسياف، وما لقيت قومًا كمن لقيتهم من أهل فارس، وما لقيت من أهل فارس قومًا كأهل أليس.»
وأقام خالد بالحيرة وجعلها مركز قيادته، فكانت أول عاصمة إسلامية خارج بلاد العرب، على أنه ترك أمر إدارتها للزعماء من أبنائها، لذلك اطمأنوا إلى حكمه، ونشروا حولهم جوًّا من السكينة إليه، ورأى أهل البلاد القريبة من الحيرة عدلًا شاملًا، ورأوا بلاط فارس مشتغلًا عنهم، ففكروا في مصالحة خالد والانضواء للوائه، أليس قد ترك الفلاحين يعملون في الأرض لم يتعرض لهم، بل رفع عنهم ما كان نازلًا بهم من ظلم دهاقين الفرس، وحفظ عليهم كل حقوقهم؟ وكان أول من صالحه صلوبا بن نسطونا صاحب قس الناطف على بانقيا وبسما، وكتب معه عهدًا على الجزية والمنعة لقاء عشرة آلاف دينار في كل سنة، القوي على قدر قوته، والمقل على قدر إقلاله، وختم هذا العهد بالعبارة الآتية وجه فيها الحديث إلى صلوبا: «وإنك قد نقبت على قومك وإن قومك قد رضوا بك، وقد قبلت ومن معي من المسلمين.»
وأسرع غير صلوبا من الدهاقين إلى مصالحة خالد على ما بين الفلاليج إلى هرمز جرد على ألفي ألف، بذلك بلغ سلطان خالد إلى شاطئ دجلة، وجعل عماله يقتضون الجزية في هذه البلاد جميعًا ما بين الخليج الفارسي جنوبًا إلى الحيرة شمالًا، ومن حدود بلاد العرب غربًا إلى دجلة شرقًا.
وأقام خالد فيالق من جيشه في أماكن حصينة ليمنعوا من أجارهم من عدوان غيرهم عليهم، وليكون مقامهم في مختلف المواطن مظهر السلطان الإسلامي بين أهل البلاد، ولقد كان لتوزيع هذه القوات في مواطن حصينة أثره الحاسم في القضاء على كل تفكير في الفتنة، وفي توطيد الأمر للمسلمين لا ينازعهم فيه منازع.
وإنما خشي خالد ثورة الفتنة من ناحية القبائل العربية، أما الفرس فكفاهم أن بقيت المدائن بعيدة عن غزو المسلمين، ثم كفاهم ما كانوا فيه من اضطراب حال بينهم وبين التفكير فيما عداه، فقد قتل شيري بن كسرى وخلفاؤه كالوارث للعرش من أبناء كسرى وبهرام جور، فلم يجد الفرس من يملكونه عليهم وتجتمع الكلمة حوله، وتعاقبت على العرش أميرات زدنه ضعفًا على ضعف، لهذا قنع الأعاجم بأن تظل عاصمتهم آمنة بما أقاموا حولها من قوات اتخذت نهر شير الذي يصل بين دجلة والفرات معقلًا لها، في حين قد ظل ملكهم فيما هو فيه من فساد واضطراب.
وما كانت هذه القوات الفارسية لتصد خالدًا عن مهاجمتهم لولا أوامر أبي بكر إليه ألا يبرح الحيرة أو يوغل في الفتح حتى يدركه عياض بن غنم ليحمي ظهره، وقد بقي عياض بدومة لم يستطع التغلب على أهلها من يوم خرج إليهم، لذلك أقام خالد سنة كاملة بعاصمته الجديدة، ويكاد بعده عن ميادين القتال يقتله، ولطالما قال لأصحابه: «لولا ما عهد إليَّ الخليفة لم أتنقذ عياضًا، وما كان دون فتح فارس شيء إنها لسنة كأنها سنة نساء!» ثم إنه غلبه السأم، فدعا إليه من أهل الحيرة رجالًا دفع إليهم كتابين، أحدهم إلى ملوك فارس، والآخر إلى مرازبتها، في أولهما: «الحمد لله الذي حل نظامكم، ووهن كيدكم، وفرق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك بكم كان شرًّا لكم، فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم، ونجوزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون، على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.» وجاء في الثاني: «أسلموا تسلموا، وإلا فاعتقدوا مني الذمة وأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر.»
ماذا عساه يفعل بعد هذين الكتابين وأوامر أبي بكر إليه صريحة «ورأي الخليفة — في تعبير خالد — يعدل نجدة الأمة»؟! لقد حرم أبو بكر عليه المدائن قبل أن يدركه عياض، أَوَلا يجد فيما سوى المدائن رياضة لنشاطه الحربي تتفق وأوامر الخليفة؟! نعم! فهؤلاء هم الفرس قد أقاموا كتائب في الأنبار وعين التمر على مقربة من الحيرة، وقد تسول لهذه الكتائب أنفسها أن تهدد المسلمين في مستقرهم الجديد، فليتحرك خالد إليهم وليقض عليهم، وليجعل لنفسه من ذلك رياضة عن سنة النساء التي قضاها قاعدًا لا يقاتل ولا يقتل، وترك القعقاع على الحيرة، وجعل على مقدمته الأقرع بن حابس وسار على شاطئ الفرات يبدأ بالأنبار.
ونزل خالد فحاصر المدينة، وأمر جنده فرشقوا رجالها بالنبل، لكنها ظلت متحصنة بأسوارها وبالخندق العميق الذي حفر حولها، وخالد قائد لا صبر له دون النصر، لذلك طاف بالخندق، حتى إذا كان عند أضيق مكان منه أمر بالإبل الضعاف فنحرت وألقيت في أعماقه فطمته، واقتحم الجند من فوقها إلى الأسوار فحطموا أبوابها؛ وكانوا على أهبة الدخول إلى المدينة يمعنون فيها قتلًا وسبيًا؛ لكن قائدها الفارسي شيرزاد أرسل إلى خالد أنه قبل مطالبه في الصلح على أن يلحقه بمأمنه في كتيبة من خيل ليس معهم من المتاع والأموال شيء، وقبل خالد وسرح شيرزاد، ودخل الأنبار واستقر بها وصالح من حولها، واستتب له الأمر وتم له بعض ما أراد من رياضة عبقريته على القيادة.
اطمأن الأمر لخالد في الأنبار وما حولها، فاستخلف عليها الزبرقان بن بدر، وقام في جنوده يقصد عين التمر على شفا الصحراء بين العراق وبادية الشام فبلغها في ثلاثة أيام، وكان مهران بن بهرام جوبين حاكم عين التمر من قبل فارس وكان حوله فيها جمع عظيم من العجم، وإلى جانب هؤلاء الأعاجم أقام عشير عظيم من قبائل البادية، بني تغلب والتمر وإياد يرأسهم عقة بن أبي عقة والهذيل ومن كانوا معهم على قيادة الجنود التي نفرت مع سجاح لتغزو المسلمين بالمدينة، ورأى أهل عين التمر مقدم خالد عليهم، فقال عقة لمهران: «إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالد!» وابتسم مهران وقال: «صدقت! لعمري لأنتم أعلم بقتال العرب وإنكم لمثلنا في قتال العجم؛ دونكموهم! وإن احتجتم إلينا أعناكم.» ولم يفطن بعض الفرس لخدعة مهران وخالوا كلامه عجزًا فلاموه عليه، فأجابهم: «دعوني، فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم، إنه قد جاءكم من قتل ملوككم وفل حدكم، فاتقيته بهم، فإن كانت لهم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم يبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوى وهم مضعفون.»
ونزل عقة لخالد على الطريق وحمل بجنده على جيش المسلمين، فأسرع خالد إليه فاحتضنه فأخذه أسيرًا، فولى البدو منهزمين من غير قتال، وتعقبهم المسلمون فأكثروا الأسر فيهم في حين نجا الهذيل ومن معه من أمرائهم، ولم يلبث مهران حين رأى من الحصن ما حدث أن فر في جنده وترك الحصن تحميه الكتائب التي امتنعت فيه، وتحميه فلول البدو التي عادت هزيمة إليه، ورأى من بالحصن أن لا طاقة لهم بخالد، فسألوه الأمان فأبى إلا أن ينزلوا على حكمه، وأجابوه إلى ما طلب وفتحوا له أبواب الحصن، فاعتقلهم وأمر بعقة فضرب عنقه، ثم ضرب أعناق المقاتلة بالحصن وسبى نساءهم وغنم أموالهم.
ويفسر الرواة شدة خالد في هذا الموقف بأن أعداءه قتلوا عميرًا الصحابي كما قتلوا أحد الأنصار غدرًا؛ ويرى بعضهم أن هذه القسوة أورثت عرب العراق حقدًا على خالد كان ذا أثر في الانتقاض الذي حدث بعد ذهابه لفتح الشام.
وكان بالحصن بيعة يتعلم الإنجيل فيها أربعون غلامًا عليهم باب مغلق، وقد كسر خالد الباب عليهم وسألهم: ما أنتم؟ قالوا: رهن، فقسمهم فيمن أحسنوا البلاء، وأكبر الظن أن ما كانوا يتعلمونه في هذه البيعة كان عظيم الجدوى؛ فقد نشأ منهم سيرين أبو محمد بن سيرين فقيه البصرة، ونصير أبو البطل الفاتح موسى بن نصير فاتح الأندلس.
ولما أتم خالد فتح الأنبار وعين التمر بعث إلى أبي بكر بالأخماس والأنباء مع الوليد بن عقبة، وقص الوليد على الخليفة ما حدث، ولعله قص عليه سأم خالد سنة مقامه بالحيرة وقوله للمسلمين: «لولا ما عهد إليَّ الخليفة لم أتنقذ عياضًا، وما كان دون فتح فارس شيء! إنها لسنة كأنها سنة نساء!» وكان أبو بكر من جانبه قد بدأ يسأم موقف عياض ويرى فيه ما يضعف الروح المعنوية للمسلمين، ولولا فعال خالد بالعراق لأزرى هذا الموقف بهم، ولأغرى خصومهم بالانتقاض عليهم ومحاولة النيل منهم، فلما سمع قصص الوليد عن خالد وسأمه أمر الوليد أن يتوجه مددًا لعياض بدومة الجندل، وألفى الوليد عياضًا يحاصر القوم ويحاصرونه وقد أخذوا عليه الطريق، ولم يجد بعد مداولة الرأي معه وسيلة تنقذه من هذا الموقف، هنالك قال له: «الرأي في بعض الحالات خير من جند كثيف، ابعث إلى خالد فاستعده.»
وما كان لعياض أن يتردد في قبول المشورة وقد بقي سنة كاملة لا يقوى على خصومه ولا يبلغ منهم، وبعث إلى خالد رسولًا أدركه غداة فراغه من عين التمر، فلما فض خالد كتاب عياض ورأى ما فيه تهلل وأخذ منه الطرب ورد الرسول لساعته يحمل كتابًا منه إلى عياض يقول فيه:
إياك أريد:
وخفة خالد لنجدة عياض وهذه الشطرات من الرجز تقطع في الدلالة على ما قدمنا من أن سأمه سنة النساء وبعده عن ميادين القتال كادا يقتلانه، كما تدل على أن الأنبار وعين التمر لم تشفيا غلته، ولم تكفيا رياضة لعبقريته الجبارة.
وخلف خالد عويم بن الكاهل الأسلمي على عين التمر وخرج في جنده يسرع السير إلى دومة جهده، وكان بين دومة الجندل وعين التمر ثلاثمائة ميل قطعها خالد في أقل من عشرة أيام، اجتاز خلالها بادية الشام وصحراء النفود، منحدرًا من الشمال إلى الجنوب، مستعرضًا خطر الصحراء ورمالها السافية بعزم لا يعرف الخطر، فلما كان قريبًا من دومة وتسامعت القبائل بمقدمه بهتت ثم اختلف زعماؤها بينهم ما يصنعون.
وكانت القبائل المعسكرة بدومة في ذلك الحين أضعاف عددها يوم جاءها عياض قبل عام، ذلك أن بني كلب وبهراء وغسان نفروا من العراق ونفر معهم غيرهم منحدرين إلى دومة يريدون أن يثأروا من عياض لهزائمهم أمام خالد، وكان مجيئهم مما زاد موقف عياض حرجًا، وكان أكيدر بن عبد الملك الكندي صاحب دومة هو الذي انتقض على سلطان المدينة، وهو الذي دفع أبا بكر ليبعث إليه عياضًا يرده بالسيف عن انتقاضه، ولم يكن أحد من أهل هذه القبائل أعرف بخالد من أكيدر؛ فهو لم ينسَ عام تبوك ورجوع رسول الله منها إلى المدينة، وانقلاب خالد بن الوليد بأمر الرسول إلى دومة في خمسمائة فارس، وانقضاضه عليه وأخذه إياه أسيرًا، وتهديده إياه بالقتل إن لم تفتح دومة أبوابها، وهو لم ينسَ كيف فتحت دومة الأبواب فداء لأميرها، وكيف ساق خالد منها ألفي بعير وثمانمائة شاه وأربعمائة وسق من بر وأربعمائة درع، ولم ينس أخذه إياه إلى المدينة حيث أسلم وحالف رسول الله، لم ينس أكيدر هذا كله، لذلك لم يلبث حين عرف مقدم صاحبه أن توجه بالقول إلى الجودي بن ربيعة أمير القبائل التي انحدرت تنصر دومة وتثأر من عياض ينصحه أن يصلح خالد، قال: «أنا أعلم الناس بخالد! لا أحد أيمن طائرًا منه ولا أَحَدَّ في حرب، ولا يرى وجه خالد قوم أبدًا كثروا أو قلوا إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوا القوم.»
أبت القبائل رأي أكيدر فقال لهم: «لن أمالئكم على حرب خالد، فشأنكم.» وخرج لطيته يلقاه، وتختلف الرواية فيما أصابه حين أدخل على خالد: يقول بعضهم أمر به خالد فضرب عنقه، ويقول آخرون: بل أسر وأرسل إلى المدينة ثم سرحه عمر في خلافته، فذهب إلى العراق وأقام على مقربة من عين التمر بمكان أسماه دومة.
ومضى خالد فجعل دومة بين عسكره وعسكر عياض بن غنم، وكان الجودي بن ربيعة قد بقي على أهل دومة، في حين ترأس كل قبيلة من القبائل التي أمدت دومة زعيمها، وقد ضاق حصن دومة بهذا العدد، فأقام سائر القوم حوله يحيطون به، واستفتح الفريقان القتال، فلم يلبث الجودي أمام خالد إلا قليلًا ثم أخذه خالد أخذًا؛ وأخذ الأقرع بن حابس زميله على أهل دومة، وهزم عياض من يليه من جند القبائل، عند ذلك أسرع القوم جميعًا إلى الفرار يريدون دخول الحصن والاحتماء به، فلما امتلأ أغلق من فيه أبوابه دون أصحابهم وتركوهم عرضة للمسلمين يقتلونهم ويأسرون منهم من يشاءون.
وأقبل خالد فقتل الذين ظلوا خارج الحصن حتى سد بهم بابه، ودعا بالجودي فضرب عنقه، ودعا بالأسرى فضرب أعناقهم، إلا أسرى كلب فإنه أطلقهم على كره منه أن أجارهم الأقرع وعاصم، قال هذان لخالد: «قد أمَّناهم.» فأطلقهم وهو يقول: «ما لي ولكم! أتحفظون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام!»
وطوف خالد بالحصن، حتى إذا كان عند بابه أمر به فاقتلع، واقتحم المسلمون على من فيه فقتلوا المقاتلة وسبوا النساء وباعوهن خير المشترين، واشترى خالد أجمل فتاة فيهن ابنة ربيعة وأقام معها بدومة، ورد الأقرع بن حابس إلى الأنبار.
ما عناية المسلمين بدومة الجندل كل هذه العناية؟ وما حرصهم على الاستيلاء عليها كل هذا الحرص؟! لقد رأيتهم على عهد الرسول تتجه أنظارهم إليها، ثم يحالفونها ويضمونها إليهم، وها هم أولاء في عهد أبي بكر يقضون سنة أمام حصونها، ثم لا ينفكون عنها حتى تدين لهم وتعود إلى سلطانهم، ولعلك عرفت الجواب من خلال هذا القصص؛ فدومة كانت تقع على رأس الطريق الذي يؤدي إلى الحيرة وإلى العراق، وعلى أبواب وادي سرحان الذي يؤدي إلى الشام، فطبيعي أن تنال من عناية رسول الله ما نالت حين كان أكبر همه إلى تأمين الحدود ما بين الشام وشبه الجزيرة وطبيعي أن تنال مثل هذه العناية من أبي بكر وجنوده تقاتل بالعراق، تقف على تخوم الشام، وتلك هي العلة في أن عياضًا لم يبرحها على طول ما أقام أمامها، وفي أن خالدًا خف إليها أول ما استشير في الوسيلة للتغلب عليها، ولو أن دومة لم تذعن للمسلمين ولم تخضع لسلطانهم لبقي أمرهم في العراق تحت رحمة المقادير، ولما استطاعوا فتح الشام.
ولنقف الآن هنيهة مع خالد بدومة نسأله: ما سر هذه الموهبة التي جعلت النصر طوع يده، بل جسمت النصر في شخصه وجعلته مثاله، فلو أنه عاش بين اليونان الأقدمين لأسموا إله النصر خالدًا؟! أتراه يجيبنا؟ ما أظن! وهو لا يضن بالجواب استكبارًا، بل لأنه لا يعرف هذا السر أكثر مما نعرف، فهذا السر يتصل بالروح، والروح من أمر ربي، وخالد مثلنا لم يؤت من العلم إلا قليلًا، ومتى عرف صاحب موهبة مكانها من نفسه ومصدر نبعها من روحه! إنما هي فيض من فضل الله يتجلى به على من يشاء من عباده، فإذا هذا خالد بن الوليد، وذلك عمر بن الخطاب، وغيرهما ابن سينا، وابن رشد، ورفايل، وبتهوفن، وشكسبير، والمعري، وشوقي، وهذا الفيض الإلهي الذي يتصل بروح عبد من خلق الله هو الذي يسمو به وبالأمة التي ينشأ فيها إلى حيث يريد الله، فإذا التقت تيارات الفيض في زمن واحد وفي أمة واحدة ما التقت في أبي بكر وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد ومن عاصرهم وعمل معهم، سمت في فترة وجيرة من الزمن إلى حيث سمت الأمة الإسلامية في سنوات معدودة، فانتقلت في أقل من جيل من بداوة شبه الجزيرة إلى هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف المتغلغلة بسلطانها الروحي في أعماق النفوس، والتي حملت عبء الحضارة عن العالم كله عشرة قرون اتباعًا حتى احتملته أوربا ولا تزال تنهض بعبئه إلى اليوم.
والناس يشعرون بسلطان هذه المواهب فتعنو لها وجوههم، فإذا ارتحل عنهم صاحبها خلا لهم الجو فرفعوا رءوسهم وحاولوا الظفر بحريتهم، وكذلك صنع أهل الحيرة وغيرهم من أهل العراق في غيبة خالد بدومة، ظن الأعاجم ومن ناصرهم من العرب أن الحظ موات والفرصة سانحة، وخيل إلى بني تغلب أن الثأر لمقتل عقة قد حان، ولم يكن في طاقة القعقاع إلا أن يحمي ما كسب المسلمون فلا يدع ما وراء حدودهم يتقدم إلى غزوهم، وبلغت خالدًا هذه الأنباء فلم يطق البقاء بدومة بل خرج وعلى مقدمته الأقرع بن حابس ومعه عياض بن غنم، وما لبث حين بلغ الحيرة أن جعل عليها عياضًا، ووجه القعقاع إلى الحصيد حيث تواعد الثائرون من العرب والفرس، أما هو فأقسم ليبغتن في دارها.
ولقد كفى أن علم أهل العراق بمقدمه فأسقط في أيديهم وتنكر وجه الحظ لهم، وخاب ما ظنوا أن هؤلاء الغزاة من شبه الجزيرة سيرحلون عنهم كما رحل من قبل أمثالهم، وبدا ذلك كله واضحًا في وجوههم حين خرج القعقاع إلى استقبال خالد بظاهر الحيرة، فقد وقف في طرقاتها رجال من أهلها يرون جيش المسلمين يمر بهم فيقولون لأصحابهم إذا رأوهم: مروا بنا فهذا فرح الشر.
وسار القعقاع إلى حصيد وقد أمده خالد من روحه بقوة على قوته، فلم يلبث له العجم بل قتل قائدهم، وفر جيشهم، وغنم المسلمون ما شاء الله أن يغنموا، وخيل إلى الفارين أنهم يستطيعون التحصن ببلدة الخنافس مع من بها من العجم، لكن قائدها فر أول ما سمع بمقدم جيش المسلمين، فلم يلق هذا الجيش من يحاربه، وانتهى خبر ذلك كله إلى خالد، فكتب إلى قواده فواعدهم ليلة وساعة يجتمعون فيها ببلدة المصيح منازل هذيل الثائرة بهم، واجتمعوا ليلة موعدهم وأغاروا على هذه القبائل وهم نائمون، فملأوا الفضاء بقتلاهم، حتى كأنهم غنم مصرعة.
وقتل بالمضيح رجلان من المسلمين معهما من أبي بكر كتاب بإسلامهما فلما بلغ مقتلهما أبا بكر وداهما، ولكن عمر أخذها على خالد وأضافها إلى قتل مالك بن نويرة، وكما دافع الصديق عن ابن الوليد في الأولى دافع عنه في هذه بقوله عن الرجلين: «كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب».
وآن لخالد بعد المضيح أن تبر يمينه ليبغتن تغلب في دارها، لذلك تقدم إلى قائديه القعقاع وأبي ليلى أن يرتحلا أمامه، وواعدهما الغارة على التغلبيين في ليلة عينها، واجتمع القواد الثلاثة من ثلاثة أوجه فجردوا السيوف، فلم يفلت من جيش بني تغلب مخبر، وأخذ خالد السبي والمغانم، فبعث بالخمس إلى أبي بكر مع النعمان بن عوف الشيباني، وقد اشترى علي بن أبي طالب من السبي صابحة بنت ربيعة بن بجير التغلبي فولدت له عمر ورقية.
ذاعت أنباء خالد وشنه الغارة على القبائل ليلًا في منازلها، وأخذه النساء والبنات سبيات منها، وقسمته المغانم والسبي بين عسكره، وعجز القبائل جميعًا عن مقاومته، ففت ذلك في أعضاد رجال البادية بالعراق، فألقوا سلاحهم وطلبوا الأمان، وجعل خالد يسير شمالًا على شاطئ الفرات وفيما حوله، فلا يلقى إلا الإذعان له والإيمان بعبقريته، فلما بلغ الفراض، وهي تخوم العراق والشام، نزلها بجيشه وأفطر بها رمضان في تلك السفرة التي اتصلت له فيها الغزوات والأيام ونظمت نظمًا.
ولننزل مع خالد الفراض نستجم قليلًا، فالفراض هذا أدنى إلى شمال العراق وشمال الشام، فلو أن عياض بن غنم ساعفه الحظ فأخضع دومة أول ما ذهب إليها لما كان هذا الشمال الذي بلغه خالد هو الذي عناه أبو بكر حين أمر عياضًا أن ينزل العراق من شمال، إنما كان مقصد الصديق إلى شمال الحيرة، أما أن تبلغ جنوده تخوم الشام من أعلاه فتلك معجزة لم يفكر الخليفة فيها، وهي معجزة لم يؤتها إلا الذي عقمت النساء أن يلدن مثله، وأية معجزة كمواجهة الروم من تخوم فارس! وأية جرأة كمقام خالد بالفراض شهرًا كاملًا وليس بينه وبين جيوش الروم المعسكرة بالشام غير مجرى الفرات! أولا يخشى أن تضيق هذه الجيوش صبرًا بمرآه فتنازله فيتضاعف بذلك عدوه؟ وأي عدو! فارس من الشرق، والروم من الغرب، وقبائل البدو الحاقدة المحنقة من كل جانب، أليس خيرًا له وقد قضى على ثورة العراق أن ينسحب إلى الحيرة وأن يقيم بها فيوطد ملك المسلمين فيها!!
كلا! لئن فعل ليكونن السياسي الذي يريد أن يجعل الزمن من جنده، والصبر من أعوانه، وخالد ضيق صدرًا بالزمن وأكثر ازدراء للصبر وأشد مقتًا للسياسة المحاولة المطالة من أن يمر شيء من ذلك بخاطره، وما الفرس وما الروم وما رجال البادية وما جموعهم وإن زخرت أمام نظرته القوية الصارمة التي تلقي الرعب في القلوب فتهز الميادين وتبطش بالدول أسرع البطش! إنه مقيم ها هنا بالفراض، وللروم رأيهم إن شاءوا مصاولته.
ولما تكن الروم قد ذاقت بأس خالد، لذلك غاظهم أن يقيم جيش المسلمين في وجوههم وأن يطيل المقام، وثارت في عروقهم حمية أذكاها الفرس والعرب الذين ذاقوا من نكال خالد أهوالًا، فقد كان للفرس كتائب قريبة من الفراض، وأهل البادية من تغلب والتمر وإياد منتشرون في كان مكان؛ هؤلاء وأولئك انضموا للروم وحرضوهم وأمدوهم، فساروا حتى إذا لم يبق إلا الماء بينهم وبين خالد بعثوا إليه يقولون: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم، قال خالد: بل اعبروا إلينا وفيما يعبرون صف صفوفه ودبر خطته، وقالت الروم لحلفائهم: امتازوا حتى نعرف اليوم ما يكون من حسن أو قبيح من أينا يجيء، والتقى الجمعان وقد أمر خالد رجاله أن يلحوا عليهم ولا يرفهوا عنهم؛ فكان صاحب الخيل يحشر منهم الزمر برماح أصحابه، فإذا جمعوهم قتلوهم، على أن قوات الروم وحلفائهم تؤذن بالمعركة أن تطول؛ لذا أبدع خالد ألوانًا من المداورة في القيادة لم يعهدها أعداؤه من قبل فلم يثبتوا لها، وانكشف الروم وحلفاؤهم مدبرين والمسلمون من ورائهم يمعنون فيهم قتلًا، وبلغ من ذلك أن قتل بالفراض في المعركة وفي الطلب مائة ألف في رواية جميع المؤرخين.
أقام خالد على الفراض بعد الموقعة عشرة أيام، ثم أذن في الناس بالرجوع إلى الحيرة، وكان أذانه ذاك لخمس بقين من ذي القعدة من السنة الثانية عشرة للهجرة.
ترى أيعود خالد مع الجيش يستقر بالعاصمة الجديدة؟!
إن عليه لله دينًا يجب قبل كل شيء أداؤه، وهو قد شعر بعد الفراض بجلال هذا الدين وبأنه لم يعد في وسعه إرجاؤه، لقد فتح الله عليه اليمامة، ثم فتح عليه العراق، وأدال له من دولة كسرى، وبشره في الفراض بإدالة الروم ودولتهم، فلله الحمد على ذلك كله ألف حمد، جل ثناؤه، وتباركت أسماؤه! ترى أويكفي الحمد ويجزئ الثناء عما أنعم الله به عليه؟ أوليس فرضًا لله عليه أن يحج بيته، يزيده تبارك وتعالى حمدًا وشكرًا، ويستغفره عما فرط منه، إنه هو الغفور الرحيم!!
وتجسم الشعور بهذا الواجب في نفس خالد بعد موقعة الفراض، وجعل يزداد في العشرة الأيام التي قضاها بها، ثم صار قوة قاهرة لا فكاك له منها ولا سلطان له عليها، بل صار أمامها أضعف من جيش الروم ومن جيش الفرس أمامه، لم يغب عنه ما يهيئ بعده عن العراق من فرص للفرس يحركون أثناءها أسباب الفتنة ويشجعون بها عوامل الانتفاض والثورة، ذلك أمر يجب لا ريب اتقاؤه لكنه لن يرده بحال عن عزمه، ولن يصرف عن أن يؤدي لله دينه، ولا سبيل إلى اتقاء هذا الأمر إلى أن يحج خالد وأن يعود إلى العراق، ثم لا يعلم بذلك أحد إلا أصفياؤه الذين يخرجون معه، لكن! أليس واجبًا عليه أن يبلغ الخليفة وأن يتلقى أوامره! فإن أبى عليه الخروج كان له عند الله عذره، وهبه أجازه ثم حدث ما يخشى وانتفض العراق فأي خير للإسلام في أن يعود بعد حجه يجاهد كما جاهد بعد دومة! وإن لم يجزه الخليفة لم يسترح ضميره لنكوله، ليس له إذن إلا أن يمضي في عزمه وأن يتم حجه في سر من أبي بكر ومن الناس جميعًا وإنه لواثق أن الصديق سيلتمس له عن صنيعه عذرًا، وأن الله سيكتب له بحجه أجرًا.
أمر خالد الجيش إذن أن يعود إلى الحيرة متمهلًا وأظهر أنه في الساقة، وخرج في نفر من أصحابه ينهب الأرض إلى مكة، متخذًا أكثر الطرق استقامة وإن كان أشدها وعورة، ومتى صده الوعر عن شيء؟ ولم يحتج في سلوك هذا الطريق إلى دليل يهديه، وما حاجته إلى دليل وهو من أبناء مكة يعرف ما يعرفون من طرق بلاد العرب لتجارتهم، وهو قائد جاب أرجاء البادية جميعًا وعرف أوديتها وكثبانها، سهولها ونجودها! وبلغ مكة وأتم فرائض الحج وأدى لله دينه؛ ثم عاد أدراجه لم يعلم بمقدمه إلى مكة أحد من الألوف الذين قدموا إليها، ولم يعلم به أبو بكر، وفي رواية أنه كان بمكة على الحج في ذلك العام.
عاد أدراجه ينهب الأرض إلى الحيرة في ذلك الطريق الوعر، كما نهبها من قبل إلى مكة، ودخل الحيرة حين دخول ساقة الجيش من الفراض إليها، بذلك لم يفطن إلى رحلته لأداء الفريضة أحد من فرس العراق ولا من عربه، ولم يترتب على غيبته هذه الفترة عن العراق أثر.
قيل: إن عمر هو الذي كان على الحج حين ذهب خالد إلى مكة، وإن أبا بكر لم يرأس الحج في خلافته، والمؤرخون يرجحون أن أبا بكر هو الذي كان على حج ذلك العام وأيما الروايتين صحت فإن أبا بكر لم يعرف بحج قائده الأكبر إلا بعد أن رجع الناس جميعًا من الفريضة وبعد أن استقر خالد بالحيرة، أفغضب الخليفة لخروج خالد من غير إذنه؟ وهل ترك هذا الغضب موجدة في نفس الصديق عليه؟ ذلك ما سنراه بعد حين.