بين العراق والشام
تحدث الناس في مختلف الأقطار بفعال خالد بن الوليد في العراق العربي، وبانتصار المسلمين على الفرس في جميع المواقع التي التحموا فيها، وكان لهذه الأنباء من الصدى في الشام وفي باديته ما نبه عاهل الإمبراطورية الرومية الشرقية في مستقره بيزنطية وما أثار تفكيره، فالغساسنة الذين يقيمون تحت كنفه بالشام عرب كاللخميين وبني تغلب وإياد والنمر وغيرهم ممن يقيمون على حدود العراق ويتغلغلون بين النهرين فيه، وقبائل بني بكر وبني عذرة وبني عدوان وبني بحرة تقع منازلهم على تخوم الغساسنة وبادية الشام، أليس طبيعيًّا أن يفكر المسلمون في غزو الشام العربي كما فكروا في غزو العراق العربي؟! هذا أمر يجب الاحتياط له والحذر منه ويجب لذلك تحصين التخوم بين الشام وبلاد العرب وجعلها من المنعة بحيث تصد المسلمين عن التفكير في العدوان على أية ناحية من الإمبراطورية الرومية.
إلى هذا الاتجاه انصرفت سياسة الروم، فانقلبت من الطمأنينة إلى الحذر لقد كان هم المسلمين في عهد الرسول أن يحصنوا تخوم العرب في الشمال مخافة عدوان الروم عليهم بتحريض اليهود والنصارى الذين أجلاهم الدين الجديد عن شبه الجزيرة، أما اليوم فالروم هم الذين يعنون بتحصين تخومهم في الجنوب مخافة عدوان المسلمين عليهم بقوة إيمانهم وبما كفل لهم هذا الإيمان من نصر وفتح ولم يكن هذا الخاطر الذي أثار هواجس هرقل بعيد عن تفكير أبي بكر، بل كان يتردد في نفسه مذ بدأت طلائع النصر تساير أعلام المسلمين في حروب قبل الفراغ من هذه الحروب، خشية انتفاض العرب عليه وثورتهم به كرة أخرى، فلما هون المثنى بن حارثة الشيباني أمر العراق، ولما انطلق خالد بن الوليد يكتسح أمامه الفرس وأهل البادية ويضع يده على الحيرة ويجعلها عاصمته، ازداد أبو بكر تفكيرًا في أمر الشام، إن به من قبائل العرب مثل ما بالعراق، وقد انضمت بعض قبائل العراق إلى جيوش المسلمين وحاربت في صفوفهم جيوش كسرى مع بقائها على نصرانيتها، لا جرم أن تفعل قبائل الشام فعلها، فالروم حكام على الشام، وبينهم وبين قبائل البادية المقيمة به من اختلاف الجنس واللغة ما بين الفرس والعرب على شواطئ دجلة والفرات، فإذا تقدم العرب في الشام وتغلبوا على جنود الروم تنضم عرب الشام إلى أبناء عمومتهم من أهل شبه الجزيرة، ومن شأن هذا الانضمام أن يزيد المسلمين طمأنينة إلى النصر على عدوهم، وأن ينتهي بهم إلى الاستقرار في هذه البلاد الممرعة الخصب مع بني عمومتهم، فإن أسلم هؤلاء يومًا كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
وزال كل تردد في نفس أبي بكر حين سلمت دومة الجندل وفتحت أبوابها للمسلمين، لكن انشغال قوات المسلمين بالعراق وبقتال المرتدين في الجنوب من شبه الجزيرة جعله يؤثر أن يقف من الروم موقف المدافع، فلا يبدؤهم بقتال إلا أن يبدءوه به، ولقد كانت أوامره إلى قواده على تخوم الشام صريحة في هذا المعنى كل الصراحة، ولم تكن الروم من جانبها لتجازف باجتياز تلك التخوم وهم يرون المسلمين ينتصرون في كل مكان، بذلك ظل الفريقان على حذر بعضهم من بعض، وأكبر هم هؤلاء وأولئك ألا يشتبكوا في قتال.
وزاد الروم إيثارًا لهذا الموقف أن القوات التي أوفدها أبو بكر عقب بيعته إلى شمال شبه الجزيرة لقتال من ارتد ولحماية التخوم بقيت سليمة لم يصبها أذى فقد عادت القبائل هناك إلى سلطان المدينة دون أن يستحر قتال، اللهم إلا دومة الجندل، إذ أصرت على انتفاضها فقاومت عياضًا وظلت متحصنة منه حتى فض ابن الوليد حصونها، وكانت قوات الروم من أهل فلسطين ومن عرب البادية المقيمين على حدود الحضر؛ فلم يكن يدفعها إلى مقاتلة العرب وازع نفساني يحبب إليها الموت انتصارًا لحق تعلى كلمته، أو لمثل أعلى تحرص على تحقيقه.
كان قائد المسلمين على هذه التخوم خالد بن سعيد بن العاص قيل: إن أبا بكر لما عقد الألوية لقتال أهل الردة عقد لخالد فيمن عقد، فنهاه عمر بن الخطاب عن تأميره، وقال له: «إنه لمخذول، وإنه لضعيف التروئة؛ وما زال يحرضه على عزله حتى جعله أبو بكر ردءًا بتيماء على تخوم الشام، ولم يجعله على من يقاتلون المرتدين.
ونزل خالد تيماء وقد أمره أبو بكر ألا يبرحها، وأن يدعو القبائل التي حولها إلى الانضمام إليه إلا من ارتد منهم، وألا يقاتل إلا من قاتله حتى يأتيه أمره ونفذ خالد أمر الخليفة، فاجتمعت إليه جموع كثيرة جعلت عسكره عظيمًا وترامت إلى الروم أنباء هذه الجموع على تخومهم، فلم يبق لدى هرقل ريب في وجوب دفعهم؛ ولهذا الأمر اتخذ عدته وترامت إلى خالد بن سعيد من ذلك أنباء سارع فبعث بها إلى المدينة مشفوعة برأيه أن يأذن الخليفة له في منازلة الروم ومن انضم إليهم من قبائل العرب بالشام، مخافة أن يأخذوه ومن معه على غرة.
فكر أبو بكر في رسالة خالد بن سعيد وطال تفكيره، إن الأنباء الواردة من جنوب شبه الجزيرة حسنة كلها، لقد قضى عكرمة بن أبي جهل والمهاجر بن أبي أمية على المرتدين هناك، وعما قريب يرجع عكرمة بجيوشه ويظل المهاجر أميرًا على اليمن ومتى عادت جنود المسلمين كان إرسال المدد إلى الشام يسيرًا، لكن أوتكفي هذه الجنود لقتال الروم ولغزو الشام وعند الروم من العدد والعدة ما لا يجهله أبو بكر، وما تغلب هرقل به من قبل على فارس؟ أوليس من الخير أن يستعين بمن بقي على إسلامه من أهل الجنوب ليبعثهم إلى الشام! فإذا ذهبوا فلن يقاوم الروم أكثر مما قاوم الفرس في العراق العربي.
وأصبح يومًا دعا إليه عمر وعثمان وعليًّا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بين الجراح ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وجلة المهاجرين والأنصار من أهل بدر وغيرهم، فدخلوا عليه، فتحدث إليهم وذكر لهم أن رسول الله كان عول أن يصرف همته إلى الشام فقبضه الله إليه، واختار له ما لديه «والعرب بنو أم وأب وقد أردت أن استنفرهم إلى الروم بالشام، فمن هلك منهم هلك شهيدًا، وما عند الله خير للأبرار، ومن عاش منهم عاش مدافعًا عن الدين، مستوجبًا على الله (عز وجل) ثواب المجاهدين» ثم طلب إليهم رأيهم؛ فقال عمر: «والله ما استبقنا إلى شيء من الخير قط إلا سبقتنا إليه، قد والله أردت لقاءك بهذا الرأي الذي ذكرت، فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن، فقد أصاب الله بك سبل الرشاد سرب إليهم الخيل في إثر الخيل، وابعث الرجال تتبعها الرجال والجنود تتبعها الجنود؛ فإن الله عز وجل ناصر دينه ومقر الإسلام وأهله ومنجز ما وعد رسوله».
على أن عبد الرحمن بن عوف كان أدنى إلى الحذر وأشد اتقاء للمغامرة.
قام فقال: «يا خليفة رسول الله، إنها الروم وبنو الأصفر! حد حديد، وركن شديد! والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إقحامًا، ولكن تبعث الخيل فتغير في أداني أرضهم، ثم تبعثها فتغير فترجع إليك ثم تبعثها فتغير ثم ترجع إليك، فإذا فعلوا ذلك مرارًا أضر بعدوهم وغنموا من أدنى أرضهم فقووا بذلك على قتالهم ثم تبعث إلى أقاصي أهل اليمن وإلى أقاصي ربيعة ومضر فتجمعهم إليك جميعًا فإن شئت بعد ذلك غزوتهم بنفسك، وإن شئت بعثت على غزوهم غيرك».
جلس ابن عوف بعد هذا الكلام فسكت الناس وسادت هنيهة صمت اتجه بعدها أبو بكر إلى الحاضرين يسألهم: «ماذا ترون رحمكم الله؟» وتكلم عثمان بن عفان فقال: «أرى أنك ناصح لأهل هذا الدين، شفيق عليهم فإن رأيت رأيًا فيه لهم رشد وصلاح وخير فاعزم على إمضائه، فإنك غير ضنين ولا متهم عليهم»، وأقر الحاضرون جميعًا رأي عثمان وقالوا: «ما رأيت من رأي فأمضه، فإنا سامعون لك مطيعون، لا نخالف أمرك ولا نتهم رأيك، ولا نتخلف عن دعوتك وإجابتك» فقام أبو بكر يدعو القوم للتجهز إلى غزو الروم بالشام، ويقول: «فإني مؤمر عليكم أمراء وعاقد لهم عليكم، فأطيعوا ربكم ولا تخالفوا أمراءكم، ولتحسن نيتكم وسيرتكم؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون».
لا عجب وذلك موقف المسلمين أن يطول تفكير الصديق فيه، وأن يشغل به عن كل ما سواه كان جرير بن عبد الله ممن خرج مع خالد بن سعيد إلى الشام، فاستأذن خالدًا إلى أبي بكر ليكلمه في قومه وليتخلصهم وليجمعهم له، وكانوا أوزاعًا في العرب وأذن له خالد، فقدم على أبي بكر فذكر له عدة من النبي وأتاه على العدة بشهود وسأله إنجازها، فلما سمع أبو بكر حديثه غضب وقال له: «ترى شغلنا، وما نحن فيه بغوث المسلمين ممن بإزائهم من الأسدين فارس والروم، ثم أنت تكلفني التشاغل بما لا يغني عما هو أرضى لله ورسوله؛ دعني وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله في هذين الوجهين» وسار جرير حتى قدم على خالد بالحيرة.
ولا عجب كذلك إذا انصرف تفكير الصديق إلى هذه الحرب التي نشبت منذ بويع؛ فقد جعلت تزداد على الأيام دقة وخطرًا، وتقتضي العناية بها والسهر عليها فهذه الجيوش المنتشرة بالعراق، والقائمة على تخوم الشام، أفي حاجة هي إلى المدد؟ وأيها أشد إلى المدد حاجة؟ وهؤلاء المقيمون بالمدينة ومكة والطائف ممن ذهب أهلوهم إلى صفوف القتال، أيعوزهم شيء؟! وقبائل العرب من الشمال إلى الجنوب ما شأنها؟ وما عواطفها إزاء المدينة وإزاء الخليفة؟ والأنباء الواردة من ميادين القتال بالنصر تارة، وبالعجز طورًا كشأن عياض بن غنم بدومة، بأي شيء تقابل، وعلى أي نحو تذاع في الناس؟! كان أبو بكر في شغل بهذا كله وبما يتصل به ولئن كان أهل الرأي حوله موضع ثقته واطمئنانه، لقد كان هو المرجع الأخير وصاحب الرأي النافذ في هذه الأمور جميعًا تلك أيام حرب إذا لم يوحد فيها التوجيه خيف الاضطراب وسوء الأثر والخليفة هو المسئول الأول أمام الذين بايعوه عن كل ما يقع، فعليه التبعة العظمى أمام الله وأمام ضميره وأمام الناس.
وكان شعور أبي بكر بجسامة هذه التبعة عظيمًا، وذلك ما دعاه للمقام بالمدينة منذ اشتدت حروب الردة، كي يفرغ لشئون الدولة لا يشغله شيء عنها، أما وقد تضاعفت هذه الشئون وامتدت الحرب إلى فارس وأوشكت أن تمتد إلى الروم، فقد نسي الرجل ما عداها ليتم له التفرغ لها وإن فاته كل ما يرفه عنه؛ بذلك يكفل للمسلمين النجاح، ولدين الله النصر، سائرًا دائمًا في الطريق الذي رسمه رسول الله، لا يتنكبه ولا يحيد عنه.
كانت سياسة أبي بكر خير كفيل بالنصر والنجاح فقد كان في حكمه مثال العدل والرحمة مجتمعين، كما كان العزم الذي لا تفل منه قوة، ولا يعرف الوهن إلى ناحية من نواحيه مأتى لم يلبث حين عادت بلاد العرب إلى دين الله أن ترك لكل منها من الاستقلال ما ترك لها رسول الله من قبل، فلم يطلب إليها إلا الزكاة التي كانت تؤديها أيام النبي وكانت الزكاة ينفق جانب عظيم منها في شئون هذه البلاد وعلى فقرائها بإشراف عماله الذين ولاهم أمورها، والذين كانوا على مثاله عدلًا ونصفة بذلك اطمأنت العرب جميعًا إلى عيشهم، وزال كل خوف من انتفاضهم.
ولم يكن أبو بكر يستبقي لنفسه من الزكاة أو من أخماس الفيء إلا ما فرضه المسلمون له، ثم ينفق أكثرها في تجهيز الجيوش للجهاد، ويوزع ما بقي على الفقراء وأبناء السبيل وكل من له حق في بيت مال المسلمين وكان بيت المال في دار أبي بكر بالسنح، فلما انتقل إلى المدينة نقله إلى داره بها ورأى بعضهم ما يجيء من مغانم فارس، فقال له: ألا تجعل على بيت المال من يحرسه!! قال: لا! ذلك أنه كان ينفق كل ما فيه فلا يبقى به ما يحتاج إلى حارس ولم يقف أمر ذلك عند الزكاة وأخماس الفيء فقد فتح أثناء خلافته منجمًا للذهب في بني سليم على مقربة من المدينة، هو عرق الذهب الذي يستغل في عصرنا الحاضر، فكان أبو بكر يسوي في قسمه بين السابقين الأولين والمتأخرين في الإسلام، وبين الحر والعبد والذكر والأنثى وقيل له: «ألا تقدم أهل السبق على قدر منازلهم؟»؛ فقال: «إنما أسلموا لله ووجب أجرهم عليه، يوفيهم ذلك في الآخرة؛ وإنما هذه الدنيا بلاغ».
أدى هذا العدل بين الناس جميعًا إلى اطمئنانهم جميعًا وأدى حزم أبي بكر وحمله تبعة الأمر كاملة إلى مهابتهم إياه وإكبارهم له كان عمر بن الخطاب أقرب المشيرين إلى قلبه وأرجحهم رأيًا عنده، وكان عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم موضع تقديره واحترامه، لا يقطع في أمر برأي مشورتهم لكنه لم يكن مع ذلك يلقي على أحد منهم تبعة، ولم يكن يتوارى وراء مشورتهم ليدفع عن نفسه لومًا، ولقد رأيته كيف خالف الجماعة في بعث أسامة، وكيف أبدى من الحزم وقوة العزم في محاربة المرتدين ما جعل مشيريه كلهم يقرون من بعد بسداد رأيه وبعد نظره؛ ثم رأيته كيف خالف ابن الخطاب في خالد بن الوليد حين مقتل مالك بن نويرة وكيف كان يستخير الله في كل شيء، فإذا خار له في أمر لم يرجع عنه ولم يتراجع لأي اعتبار دونه.
ولم يغير تزايد تبعاته من شظف عيشه، بل زاده انصرافًا عن كل ما يرفه به عن نفسه كان حين مقامه بالسنح لا يأبى على نفسه ألوانًا من الرفه تعينه على الحياة والجهد فيها؛ فكان يغدو إلى المدينة وربما ركب فرسه وعليه إزار ورداء ممشق فيصلي بالناس؛ وكان يستريح بالسنح أحيانًا فيصلي عمر بهم وكان يقيم بداره صدر النهار يوم الجمعة يصبغ رأسه ولحيته، ثم يذهب إلى المدينة يخطب الناس ويؤمهم للصلاة أما مذ أقام بالمدينة لتزايد أعباء الدولة فقد تم تفرغه لشئون المسلمين وإن فاته ما يرفه عنه وأقام مع تزايد هذه الأعباء لا يتخذ لنفسه خادمًا في داره ولا في أعمال الدولة ثم كان يجلس في المسجد حيث كان يجلس رسول الله، يسمع للناس ويحدثهم، ويستشيرهم ويشير عليهم، ويقضي فيما يعرض عليه من شتى الشئون.
وكان على إيثاره الشظف شديد البر بالفقراء والضعفاء كان يشتري الأكسية ويفرقها على الأرامل في الشتاء، وكان يرعى الفقراء والمساكين بنفسه في سر من الناس كان عمر بن الخطاب يتعهد امرأة عمياء بالمدينة ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها ألفاها قد قضيت حاجاتها وترصد عمر يومًا، فإذا أبو بكر هو الذي يكفيها مئوتها، لم تصرفه عن ذلك الخلافة وجسامة تبعاتها وقال عمر حين رآه: «أنت هو لعمري!» ولا حاجة إلى القول بأن مثال أبي بكر كان أسوة عماله في سائر بلاد شبه الجزيرة، وأن طمأنينة العرب إلى عدل الخليفة وإنصافه، وإلى بره ورحمته، وإلى حكمته وحسن سياسته، كانت من العوامل ذات الخطر في نجاح سياسته.
وكان أبو بكر مطمئنًا من جانبه إلى النجاح كل الاطمئنان لقد وعد الله ورسوله لينصرن دينه، ووعد الله حق وقد نصر الله المسلمين في حروب الردة، وها هي ذي جيوشهم بالعراق يسايرها النصر حيث سارت، ويفيء النصر عليها من المغانم ما جعل قبائل العرب أشد على الحرب إقبالًا وقد رأيت ما استفاء المسلمون بالعراق ولم يكن يرسل للخليفة من هذا الفيء إلا خمسه، أما أربعة الأخماس فكانت توزع بين الجند في ميادين القتال وكان لأهل الجند في مختلف القبائل من حظ رجالهم نصيب يغري من تخلف على أن يخف إلى الميدان ليكون له ولأهله مثله هذا إلى ما غرسه الإسلام في النفوس من حب الاستشهاد لذلك كان أبو بكر مطمئنًا إلى إقبال القبائل على الحرب إذا دعيت إليها، لا تضن عليها بتضحية، بل تخف إليها سراعًا يجذبها حب الاستشهاد، وتغريها مغانم النصر.
وكان أبو بكر يعلم ما للحرص على الاستشهاد في نفس الأكثرين من أثر لا يقاس إليه إغراء الفيء وهل نسيت صيحات الأبطال الذين اندفعوا إلى الوطيس في معركة اليمامة، لا يشك أحدهم في أنه ملاق ربه، وهو بهذا اللقاء سعيد كل السعادة! وحب الاستشهاد هو الذي أملى على خالد بن الوليد ما كتبه إلى هرمز وإلى غيره من الفرس يقول لهم: «لقد جئنكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة» وهم يقبلون على الاستشهاد؛ لأنه طريق الجنة؛ إذ يغفر الله للمجاهد في سبيله كل ذنوبه وقد كان أحدهم يرى صاحبه يتخطفه الموت من صفوف القتال فيرى في استشهاده آية الرضا من الله عنه، ويتمنى لنفسه مثل هذا الحظ من رضا ربه قوم ذلك حرصهم على الموت طبيعي أن توهب لهم الحياة في أسمى مكان من العز والسؤدد، وأن يطمئن خليفة رسول الله إلى نصرهم، وأن يبعثهم إلى الشام يفتحونه كما فتح إخوانهم العراق.
على أن إغراء الفيء لم يكن بالأمر الذي يستهان به فهو في فطرة البدوي منذ خلقه، ولن يزال في فطرته أبد الدهر، وقد رأيت خالد بن الوليد حين وقف بعد غزاة أليس بالعراق يقول لجنده: «إنه إذا لم يكن في العراق إلا هذا الثراء الضخم وهذا الفيء الذي يعد في بلاد العرب حلمًا لكفى مغريًا بالحرب» ولقد كانت القبائل التي ارتدت تعض أصابعها ندمًا على ما فعلت مما حرمها الاشتراك في حروب العراق والذين أقاموا على إسلامهم في أنحاء شبه الجزيرة كثيرون ولن يتردد هؤلاء في إجابة الدعوة إلى الجهاد متى وجهها الخليفة إليهم، ولن يكونوا إذا غزوا الشام إلا أبطالًا فاتحين.
لذلك كله لم يتغير عزم أبي بكر على غزو الشام حين دعا القوم إلى التجهز إليه فسكتوا متأثرين بقول عبد الرحمن بن عوف: «إنها الروم وبنو الأصفر، حد حديد وركن شديد!» بل بدأ يستنفر الناس، وكتب إلى أهل اليمن يقول لهم: «أما بعد، فإن الله كتب على المؤمنين الجهاد وأمرهم أن ينفروا خفاقًا وثقالًا؛ قال: «وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله» فالجهاد فريضة مفروضة، وثوابه عند الله عظيم وقد استنفرنا من قبلنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام، فسارعوا إلى ذلك وعسكروا وخرجوا وحسنت في ذلك نيتهم وعظمت في الخير حسبتهم، فسارعوا عباد الله إلى فريضة ربكم».
لقيت هذه الدعوة أذنًا سميعة فما كاد رسول الخليفة يتلوها حتى خف ذو الكلاع الحميري إلى فرسه وسلاحه ونهض في قومه ومن عسكر معه من جموع اليمن وسار يطلب المدينة كذلك خف قيس بن هبيرة المرادي في مذحج وجندب بن عمرو الدوسي في الأزد، وحابس بن سعد الطائي في طيء، بينما كان رسول أبي بكر إلى اليمن قد بلغها وأقام يتحدث إلى أهلها، وبينما كان أهل اليمن في استعدادهم ومسيرتهم، كان أبو بكر يستنفر إليه من حوله من المهاجرين والأنصار وأهل مكة وغيرهم يجمعهم ليوفدهم إلى الشام.
والكثير من هذه الروايات يذهب إلى أن أول جيش سار إلى الشام إنما سار بعد أن عاد أبو بكر من حجه في آخر السنة الثانية عشرة وأول السنة الثالثة عشرة من الهجرة وتذهب روايات أخرى إلى أن أبا بكر سير خالد بين سعيد بن العاص إلى حدود الشام حين سير خالد بن الوليد ذهب إلى العراق في أول السنة الثانية عشرة، والراجح عندي أن خالد بن الوليد ذهب إلى العراق فتولى القيادة العامة فيه على المثنى ومن معه قبل أن يفرغ المسلمون من حروب الردة في اليمن وكندة وحضرموت، وأن خالد بن سعيد، إن كان قد ذهب في هذا الوقت أو ذهب قبله، فإنما ذهب لحماية التخوم لا للغزو، والراجح عندي كذلك أن أبا بكر لم يفكر في غزو الشام إلا بعد أن تم النصر للمسلمين في حروب الردة باليمن وما حولها، وبعد أن دخل ابن الوليد الحيرة واطمأن بها، وبعد أن فتحت دومة أبوابها فصار طريق وادي سرحان إلى الشام آمنًا بفتحها.
يؤيد هذا الرأي ما سبق أن ذكرناه من استنفار أبي بكر قبائل اليمن، وما كان ليستنفرها قبل القضاء على الردة فيها، ثم إن عكرمة بن أبي جهل وذا الكلاع الحميري لم يقيما باليمن إلا بعد أن اطمأن الأمر في ربوعها، بل ذهبا مع المهاجر بن أبي أمية للقضاء على الردة بكندة وحضرموت، فلما اطمأن أمر الجنوب كله وآن لعكرمة أن يعود إلى المدينة سرح الجند الذين جاهدوا معه، ثم تولى قيادة جيش آخر تألف بديلًا من جيشه، ومن اليسير عليك أن تقدر ما يستغرقه العود من اليمن إلى المدينة، ثم السفر من المدينة إلى الشام، وأنت تعلم أن الطريق بين مكة والمدينة تقطع على ظهور الإبل في أكثر من عشرة أيام، وأن العير كانت تطرد في ذلك الزمن إلى الشام شهرًا مقبلة وشهرًا مدبرة.
ولقد اختلفت الروايات كذلك؛ أي أمراء الجند ذهب إلى الشام أول ما فكر أبو بكر في غزو الروم؟ قيل: إن خالد بن سعيد بن العاص الأموي كان هذا الأمير وقد ذكرنا فيما سلف أن خالدًا إنما ذهب أول حروب الردة ردءًا بتيماء على تخوم الشام وتجري رواية غير هاتين بأن خالدًا كان باليمن من قبل رسول الله، وأنه قدم إلى المدينة بعد شهر من وفاة النبي، فلما رأي علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان قال لهما: «يا بني عبد مناف لقد طبتم نفسًا عن أمر يليه غيركم!» فلما وجه أبو بكر الجنود إلى الشام جعل خالد بن سعيد عليها؛ فقال له عمر: «أتؤمره وقد صنع ما صنع وقال ما قال!» ولم يزل به حتى عزل خالدًا وأمر يزيد بن أبي سفيان، وفي رواية أن عمر قال لأبي بكر في شأن خالد: «إنه رجل فخور يحمل أمره على المغالبة والتعصب» وقيل: إن خالدًا لم يذهب أميرًا وإنما ذهب في جيش أبي عبيدة بن الجراح ونحن نرجح، رغم هذا الاضطراب في الروايات، أن خالدًا ذهب ردءًا بتيماء، وأنه أقام بها، وأنه لم يكن بالمدينة حين استنفر أبو بكر الناس لقتال الروم، وأن أبا بكر إنما استنفر الناس تلبية لنداء خالد حيث بعث إليه يستمده ويذكر له من أنباء الروم وتحركهم ما حرك الخليفة لغزو الشام.
ولقد كان للروم كل العذر في أن يتحركوا وأن تزداد حركتهم نشاطًا فالأنباء كانت تصل إليهم تترى بانتصار المسلمين في العراق وبانقضاء الثورة التي كانت قائمة في بلاد العرب وهم لم ينسوا مجازفة محمد وأصحابه بالغارة عليهم والانتقاص من أطرافهم وموادعة القبائل المقيمة على تخومهم وها هم أولاء أتباعه يقيمون اليوم على تلك التخوم، وقد تحدثهم أنفسهم باجتيازها لذلك دعا الروم الغسانيين وغيرهم من القبائل المقيمة ببادية الشام ليقفوا سدًّا منيعًا في وجه المسلمين واجتمع من هذه القبائل عدد عظيم لا يقل عمن اجتمع حول خالد بن سعيد ووقف الجمعان، هذا في أرض العرب وذاك في أرض الشام، وكل يتربص بصاحبه الدوائر، وفيما هم كذلك كانت أنباء خالد بن الوليد تدوي في جو الفرس والروم والعرب كله فالأنبار تفتح أبوابها، وعين التمر يقتل مقاتلتها وتسبى نساؤها، وجنود المسلمين يغنمون ما شاء الله أن يغنموا أفيبقى إخوانهم في الدين بمنزلتهم من تيماء لا يقتحمون الشام كما اقتحم ابن الوليد وجيوشه العراق!!
وكتب خالد بن سعيد إلى الخليفة كرة أخرى كتب إليه باجتماع الروم ومن نفر إليهم من بهراء وكلب وتنوخ ولخم وجذام وغسان، واستأذنه في منازلتهم وكان أبو بكر يعد إذ ذاك جيوشه لغزو الروم؛ لذلك كتب إلى خالد بن سعيد يقول: «أقدم ولا تحجم واستنصر الله!»
وكانت هذه الكلمات أول فتح الشام.