فتح الشام
قام خالد بن سعيد بتيماء في جيشه وفيمن نفر معه من قبائل البادية على تخوم الشام وأقام جيش الروم مضاعف العدد بمن انضم إليه من القبائل على الناحية الأخرى من هذه التخوم، ولقد أثار تقابل الجيشين على هذا النحو حمية المسلمين وحركهم لقتال خصومهم، فلما قرأ خالد في كتاب أبي بكر: «أقدم ولا تحجم واستنصر الله» أسرع بكل قواته فتخطى الحدود لمنازلة القوم، ولم يلبث الروم وأنصارهم حين رأوه دنا منهم أن تفرقوا وتركوا منازلهم، فدخل معسكرهم وغنم ما فيه، وكتب إلى أبي بكر بالنبأ؛ فأجابه: «تقدم ولا تقتحم حتى لا تؤتى من خلفك.» وتقدم خالد حتى بلغ القسطل في طريق البحر الميت، فهزم جيشًا من الروم على الشاطئ الشرقي لذلك البحر ثم تابع مسيرته هنالك ثارت حمية الروم وثارت حمية أهل الشام معهم، فتجمعوا في قوات تزيد على ما اجتمع قبالة تيماء أضعافًا مضاعفة.
ورأى خالد بن سعيد تجمعهم، فكتب إلى أبي بكر يستمده ليتابع مسيرته المظفرة، وكانت جيوش المسلمين قد بدأت السير من المدينة إلى الشام لغزو الروم، وأبو بكر متفائل بمسيرتها، مملوء أملًا بنصر الله إياها؛ فالروم ليسوا خيرًا من الفرس حالًا، وهم مذ غلبوا الفرس قد استغرقوا في سباتهم، وجعلوا كل اعتمادهم في حماية تخومهم على أبناء البادية. ولأبناء البادية في مواقف كثيرة آيات بأس وشجاعة ميزتهم، لكن روابط الجنس واللغة لم تكن قائمة بينهم وبين الروم كقيامها بينهم وبين بني عمومتهم العرب المسلمين، ولم تكن نصرانية عرب الشام كنصرانية هرقل؛ إذ كانوا من الأرثوذكس، وكان قيصر من الكاثوليك ولعلهم رأوا في ضن هرقل بالروم على القتال دليلًا على خوفه أن يهزم أبناء وطنه أو يقتلوا، لذلك تراخوا في القتال، وتركوا خالد بن سعيد يتقدم دون أن يثبتوا له.
أي جيوش المسلمين كان أسرع إلى إمداد خالد بن سعيد؟ اختلف الرواة في هذا الأمر كما اختلفوا في بدء خالد بغزو الشام كما قدمنا؛ أما والطبري يجعل لخالد هذا السبق ويوافقه ابن الأثير وابن خلدون ومن إليهما على هذا الرأي، فإننا نساير الطبري وأصحابه الآن في روايتهم، لنعود إلى رواية الواقدي والأزدي والبلاذري من بعد.
كان عكرمة بن أبي جهل قافلًا من كندة وحضرموت عن طريق اليمن ومكة، فلما بلغ المدينة أمره أبو بكر أن يسير مددًا لخالد بن سعيد، وكان عكرمة قد سرح الجند الذين قاتلوا معه في جنوب شبه الجزيرة، فاستبدل الخليفة بهم غيرهم، وأمرهم أن يسيروا تحت لواء عكرمة إلى الشام ولذلك سمي هذا الجيش جيش البدال، وسار ذو الكلاع على رأس الجند الذين صحبوه من اليمن مسرعًا مع عكرمة إلى الشام، حتى يطمئن خالد بن سعيد ويتابع مسيرته.
وكان عمرو بن العاص مقيمًا بقضاعة مذ قضى على الردة فيها، فبعث إليه أبو بكر يخيره أن يبقى حيث هو أو أن يسير إلى الشام، وكتب له: «وقد أردت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك.» وكان جواب عمرو: «إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم بها شيئًا إن جاءك من ناحية من النواحي.» وكتب الصديق إلى الوليد بن عقبة بمثل ما كتب إلى ابن العاص، فكان جوابه إيثار الجهاد، عند ذلك أمر الخليفة عمرًا على فلسطين، وكتب إلى الوليد فأمره بالأردن.
سارت هذه الجيوش متجهة إلى الشام، ولا يشك أبو بكر في أن الله قد فتحه عليه وكان الوليد بن عقبة أول من أدرك خالد بن سعيد، وقص عليه أنباء المدد وحماسة أبي بكر لفتح الشام، وغبطة أهل المدينة بانتصار إخوانهم على بني الأصفر، وفاضت نفس خالد بالمسرة، فأمر جيشه أن يتهيأ للسير حين يكون له من فخار النصر ما يجعله في قتال الروم ندًّا لابن الوليد في قتال الفرس وتقدم بالمسلمين ومعه الوليد بن عقبة يقابل جيشًا للروم على رأسه قائدهم الأكبر باهان، ونفسه تحدثه بأن ينقض على هذا القائد كما انقض ابن الوليد على هرمز، وأن يورده حتفًا كحتفه، وكيف لا يفعل وقد أدركه عكرمة وذو الكلاع فصار في قوة لا تثبت أمامها قوة!
ولم يكن جيش الروم قريبًا منه، مع ذلك تراجع باهان به متجهًا نحو دمشق وسار خالد في أثره يريد مرج الصفر بين واقوصة ودمشق، ليتخذ هناك معسكره ومكان قيادته العامة، ولم يكن تراجع باهان إلا خدعة لاستدراج خصمه حتى يعري ظهره فيتمكن من حصره ويجيئه من خلفه، وذلك ما حذر أبو بكر خالدًا منه لكن نشوة الظفر وحب الفخار أنسياه الحذر ودفعاه يغذ السير، حتى إذا كان على مقربة من مرج الصفر إلى الشرق من بحيرة طبرية ارتد باهان بجنوده وأحاط به وقطع عليه خط رجعته، وصادف باهان سعيد بن خالد بن سعيد في فرقة من العسكر منعزلة عن المسلمين فقتلهم وقتل سعيدًا في مقدمتهم، وبلغ خالدًا مقتل ابنه، ورأى نفسه قد أحيط به، فخرج هاربًا في كتيبة من أصحابه على ظهور الخيل والإبل، تاركًا وراءه جيش المسلمين يقوده عكرمة متقهقرًا.
ولم يقف خالد بن سعيد من فراره دون ذي المروة على مقربة من المدينة، وعرف أبو بكر فراره هزيمًا يريد مدينة الرسول، فأبى ذلك عليه وبعث له بكتاب لقيه بذي المروة جاء فيه: «أقم مكانك؛ فلعمري إنك مقدام محجام نجاء من الغمرات، لا تخوضها إلى حق ولا تصبر عليه.» وأقام خالد بذي المروة في فلول الفارين معه حسيرًا حزينًا لمقتل ابنه وللهزيمة التي حلت به، أما أبو بكر فكان يقول: «كان عمر وعلي أعلم بخالد مني، ولو أطعتهما فيه اتقيته.»
أأضعف فرار خالد بن سعيد من عزم أبي بكر فتح الشام ومن حماسته لهذا العزم؟ كلا! فقد جاءته الأنباء بأن عكرمة بن أبي جهل داور بجيوش المسلمين، وداور معه ذو الكلاع، فتراجع بهم إلى حدود الشام، وهناك تحصن ينتظر المدد فليمده، وليكن هذا المدد من القوة بما يزيل كل أثر لهزيمة ابن سعيد، وما يرد إلى المسلمين الإيمان بالنصر، وما ينزل في قلوب الروم الخوف والهلع.
كان شرحبيل بن حسنة مع خالد بن الوليد بالعراق، وقد جاء في هذه الآونة إلى المدينة بأنباء النصر وبالسبي والأخماس، فأمره أبو بكر أن يذهب إلى الشام مكان الوليد بن عقبة الذي باء مع خالد بن سعيد بما باء به، وجمع شرحبيل قوة من جيش ابن سعيد وابن عقبة وسار بها إلى عكرمة، ودعا أبو بكر يزيد بن أبي سفيان فأمره على جند عظيم جلهم من أهل مكة، ثم أردفه بأخيه معاوية، وجعله على بقية الجيش الذي استدرجه خالد بن سعيد للغزو معه، وندب الخليفة جيشًا عظيمًا جعل عليه أبا عبيدة بن الجراح وأمره على حمص، وكانت هذه الجيوش تعسكر بالجرف، فإذا آن لأحدهما أن يسير خرج إليه الخليفة وودعه على النحو الذي ودع به جيش أسامة غداة بيعته، وانطلقت هذه الجيوش جميعًا في طريقها إلى الشام مجاهدة في سبيل الله.
وأنت تذكر أن أبا بكر أوصى أسامة حين ودعه وصية تسجل له في تاريخ الحروب بحروف من نور، كذلك فعل مع هذه الجيوش، قال وهو يودعهم: «ألا إن لكل أمر جوامع، فمن بلغها فهي حسبه ومن عمل كفاه الله عليكم، بالجد والقصد فإن القصد أبلغ، إلا أنه لا دين لأحد لا إيمان له، ولا أجر لمن لا حسبة له، ولا عمل لمن لا نية له ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به هذه التجارة التي دل الله عليها ونجى بها من الخزي، وألحق بها الكرامة في الدنيا والآخرة.»
وكان مما قاله ليزيد بن أبي سفيان: «إذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم وابدأهم بالخير وعدهم إياه، وإذا وعظتهم فأوجز؛ فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضًا … وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم، وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به … وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت المتولي لكلامهم … واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عندك الأستار … واصدق اللقاء، ولا تجبن فيجبن الناس.»
واطمأن أبو بكر حين ودع هذه الجيوش جميعًا ورأى نصر الله منه قريبًا، وكيف لا يطمئن وفي هذه الجيوش زهرة المسلمين مهاجريهم والأنصار، وفيها ما يزيد على ألف من أصحاب رسول الله الذين سمعوا له وجاهدوا معه، وفيها أهل بدر الذين قال فيهم رسول الله يناجي ربه: «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد.» والذين أمدهم الله بالملائكة ونزل فيهم قوله تعالى: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ۗ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ أين من هؤلاء جيش خالد بن الوليد الذي غزا العراق ومزق الفرس! لقد تألف هذا الجيش من بقية قليلة من جيش اليمامة، ثم كان أكثره ممن استنفرهم خالد من أهل البحرين وعمان وممن قاتل أهل الردة وثبت على الإسلام في هذه النواحي، أفيقاس أولئك إلى الذين شهدوا بدرًا وأحدًا وحنينًا، والذين أمدهم رسول الله في حياته بنفحة منه؟! وهل يقاسون إلى الأبطال أمجاد مكة والمدينة والطائف ممن عركوا الحرب وعركتهم الحرب؟! فإن يكن خالد قد غلب الفرس بعرب الجنوب، فما أحرى عكرمة وأبا عبيدة وابن العاص ويزيد أن يقضوا بجيوش مكة والمدينة على الروم القضاء الحاسم! وأبو بكر لم يبالغ حين بعث هذه الجيوش كلها إلى الشام بعد أن انتصر عسكره بالعراق، فلو أن أمر المسلمين هناك وقف عند هزيمة خالد بن سعيد لذهب نصرهم بالعراق بددًا، ولاقتحم الروم عليهم شبه الجزيرة، ولوقف الإسلام من الأسدين فارس والروم موقفًا لا يرضاه الحق جل شأنه، وما كان ذلك ليحدث وأبو بكر في خلافة رسول الله، وما كان ليحدث ولو لم يبق في القرى غيره، على حد تعبيره رضي الله عنه عند اختلاف أصحابه معه عشية حروب الردة.
وظل أمراء الجند في مسيرتهم حتى نزلوا الشام، أما عمرو بن العاص فلم يتحرك جيشه من العربة حيث كان منذ أوفده أبو بكر، وأما أبو عبيدة فتخطى البلقاء إلى الجابية بعد أن أخضع من قاومه من عرب مآب وصالحهم، ولقد نزل شرحبيل الأردن، ونزل يزيد بن أبي سفيان البلقاء؛ وفي رواية أنه لقي قوة من الروم والبدو في دائن فتغلب عليها. ولقد اختلفت الروايات: أَلَقِيَ جنود المسلمين حربًا في جنوب فلسطين، أم تقدموا فيها فلم يجدوا من يواجههم؟ والراجح أنهم تقدموا حتى صاروا على مقربة من جيش عكرمة، وأن الروم لم يواجهوهم بقواتهم، بل تركوا أمرهم لرجال البادية، وأن ما حدث من وقائع بين العرب والروم في جنوب فلسطين قد حدث من بعد في عهد عمر بن الخطاب.
على أن اضطراب الروايات ينتهي حين تتصل جيوش المسلمين بجيش عكرمة؛ إذ يعسكر أبو عبيدة على طريق دمشق ويعسكر شرحبيل في مرتفع بأعلى الغور فوق طبرية ونهر الأردن، ويظل يزيد بالبلقاء مهددًا بصرى، ويبقى عمرو بالعربة مهددًا حبرون، وفي هذه المواقع وقفت الجيوش يتداول أمراؤها الرأي ما يصنعون.
ذلك أن الروم لم يكترثوا أول الأمر لهم، بل خيل إليهم أن هؤلاء العرب لن يتقدموا إلى أكثر مما تقدم محمد من قبل في غزوة تبوك، وأنهم عائدون أدراجهم لا محالة، فلما هزم خالد بن سعيد وفر من الميدان ازدادوا طمأنينة إلى ما توهموا، وظنوا أن ما يترامى إليهم من أنباء المسلمين وتجهيزهم مددًا لعكرمة على حدود الشام لن يزعجهم، ولن يكون مصيره إلا كمصير خالد بن سعيد، فلما رأوهم تقدموا إلى المواقع التي ذكرنا أفاقوا من سباتهم ورأوا الأمر أجل خطرًا من أن يستهينوا به، وأدركوا أنهم إن لم يواجهوه بكل قوتهم أصابهم ما أصاب فارس، وفتح هؤلاء الغزاة المسلمون الشام كما فتحوا العراق؛ لذلك سير هرقل إليهم قوات عظيمة، وقفت كل واحدة منها إزاء كل جيش من جيوش المسلمين، حتى يشتغل بعضهم عن بعض فيسهل التغلب عليهم وطردهم من البلاد.
وتجري الرواية في أمر الجيوش من الجانبين بأن عدد المسلمين كان ثلاثين ألفًا أو نحوها، وأن جيوش الروم بلغت عدتها أربعين ومئتي ألف؛ قيل: إن جيش عكرمة كان ستة ألاف، وإن الجيوش الثلاثة الأخرى بإمارة أبي عبيدة ويزيد وعمرو بن العاص كانت تترجح بين سبعة آلاف وثمانية آلاف لكل منها، أما جيوش الروم فكان أكبرها عددًا بإمارة تذارق (تيودوريك) أخي هرقل لأبيه وأمه، وكانت عدته تسعين ألفًا، وقد عسكر بإزاء عمرو بن العاص، ووقف جيش عدته ستون ألفًا بإمارة الفيقار بن نسطوس بإزاء أبي عبيدة، أما شرحبيل بن حسنة فاستقبل الدراقص على قوة من الروم عدتها أربعون ألفًا، واستقبل چرچة بن تدرا جيش يزيد بن أبي سفيان.
رأى المسلمون هذه الجيوش فهابوها وتداولوا في موقفهم منها؛ فهم لم يكونوا يتوقعون مقاومة منظمة هذا التنظيم، ثم إنهم علموا أن هرقل تحصن بحمص، وأنه يتتبع أنباء الغزاة بعناية بالغة، وأنه منذ علم بقدوم الجموع العربية إلى أراضي الإمبراطورية قد جعل كل همه إلى الاحتفاظ بالسلطان الذي كفله النصر على فارس له، أما وقد كان أخوه تذارق قائد الجيوش التي غلبت الأعاجم وعادت تتقدمها أعلام النصر، فليكن قائد الحملة على العرب ليطهر أرض المعاد منهم، وليلقي عليهم درسًا لا ينسونه أبد الدهر.
هاب المسلمون جيوش الروم حين رأوها يخطئها العد، ففزعوا بالكتب وبالرسل إلى عمرو بن العاص يلتمسون عنده الرأي، ورأى عمرو أنهم لا يستطيعون لقاء الروم متفرقين، فكاتبهم يقول: «إن الرأي الاجتماع؛ وذلك أن مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة، فأما إن تفرقنا لم تقم كل فرقة لمن استقبلها لكثرة عدونا.» وجاءهم كتاب من أبي بكر بمثل رأي عمرو، وفيه: «اجتمعوا عسكرًا واحدًا، وألقوا زحف المشركين بزحفكم، فأنتم أعوان الله، والله ناصر من نصره، وخاذل من كفره ولن يؤتى مثلكم من قلة، وإنما يؤتى العشرة الآلاف والزيادة عليها بذنوبها فاحترسوا من الذنوب، والله ناصركم.» واتعد المسلمون اليرموك على طريق دمشق، واجتمعت قواتهم كلها على شاطئه الأيسر فلما رأى الروم ذلك جمعوا قواتهم على الشاطئ الأيمن للنهر وتولى تذارق قيادتها.
ونهر اليرموك ينبع من جبال حوران وينحدر سريع التيار بين آكام مختلفة الارتفاع إلى غور الأردن وإلى البحر الميت، وعلى ثلاثين أو أربعين ميلًا من ملتقى اليرموك بنهر الأردن تقع واقوصة في منبطح فسيح من الأرض تحيط به من ثلاث نواح جبال بالغة الارتفاع، وقد اختار الروم هذا المنبطح معسكرًا لهم حين رأوه يتسع لجموعهم العظيمة، فلما قدموا إليه واستقروا به تخطى المسلمون النهر إلى شفته اليمنى واختاروا منبطحًا آخر على الطريق المفتوح لجيش الروم، فلم يبق للروم طريق إلا عليهم، ورأى عمرو بن العاص هذا الموقف، ورأى الروم حصرت بين الجبال، فقال: «أيها الناس أبشروا! حصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير!»
عن أي شيء أسفر الموقف الجديد؟ أفهاجم المسلمون الروم في بطيحهم فحصروهم فيه فقضوا عليهم؟ أفخرج الروم فلاقوا المسلمين فأتاح لهم تفوقهم في العدد الظفر بهم؟ لا هذا ولا ذاك؛ بل أقام المسلمون على طريق الروم ومخرجهم لا يقدرون منهم على شيء، ولا يقدر الروم منهم على شيء إذا خرج الروم على الطريق ردهم المسلمون إلى بطيحهم، وإذا غامر المسلمون بالهجوم لم يلبثوا ان يتراجعوا مخافة أن يحصرهم الروم بينهم وأن يقضوا عليهم، وأقام هؤلاء وأولئك على هذه الحال شهرين كاملين أيقن المسلمون خلالهما أن لا بد لهم من مدد يعينهم فكتبوا إلى أبي بكر يصفون له الحال ويستمدونه، حتى لا يظلوا الشهور، فيسأم الجند ويضعف إيمانهم بالنصر وتذهب ريحهم.
وكان أبو بكر أشد من أمراء الجند بالشام ضجرًا؛ فلم يدر قط بخلده أن يقف أبو عبيدة وزملاؤه هذا الموقف، ولم يحسب أن البدريين الذين غلبوا على قلتهم أهل مكة من المشركين يطيقون هذا المقام بإزاء الروم لا يَقتلون ولا يُقتلون، طال تفكير الخليفة في هذا الأمر، وجعل يشاور ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب وسائر أولي الرأي المقيمين بالمدينة، وبينما هو يفكر انكشفت له الحقيقة جلية واضحة، إن المسلمين لم ينتصروا يومًا بكثرة عددهم، وإنما انتصروا دائمًا بمهارة القيادة، وبقوة الإيمان، والإيمان لا ينقص جيوش الشام وفيها السابقون الأولون من أصحاب رسول الله مهاجريهم والأنصار، وفيها أهل بدر الذين فتحوا مكة ومن انتصروا على أهل الردة. لا بد أن تكون العلة إذن في القيادة، فهذا الموقف يحتاج إلى القائد الجسور الذي لا يعرف الهوادة ولا الإحجام، ولا يهاب الموت وأبو عبيدة على مقدرته رجل رقيق القلب، وابن العاص على دهائه في السياسة هياب غير مقدام، وعكرمة مداور مقدام إلا أنه تعوزه دقة التقدير، وسائر القواد لم يخوضوا بعد المعارك الكبرى؛ ثم إن هؤلاء الأمراء جميعًا لا يقرون لواحد منهم بالتفوق على سائرهم تفوقًا يكفل بسلطانه وحدة القيادة. تكشفت هذه الحقيقة لأبي بكر جلية واضحة، فقال لأصحابه: «والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد.»
أي أثر ترك هذا الخطاب في نفس خالد! إنه كان يرجو أن يظل بالعراق حتى يفتح المدائن عاصمة الفرس ويتربع فيها على عرش كسرى وخلفائه، ولم يخالجه في بلوغ هذا الغرض ريب؛ فقد سبر غور الفرس وعرف قوتهم وفتح المدائن فخار لا فخار بعده، فما اليمامة وما الحيرة وما هرمز وقواد فارس جميعًا بالقياس إلى العاصمة التي يتطلع إليها قيصر الروم ويتطلع إليها العالم من كل نواحيه، وبالقياس إلى كسرى وإيوانه وأبهة ملكه؟ لا مرية إذن في أن يكون خالد قد برم بكتاب أبي بكر وضاق به صدره، ولعله رأى فيه كيد عمر بن الخطاب له. روى الطبري أنه قال بعد تلاوته: «هذا عمل الأعيسر ابن أم سخلة — يعني عمر بن الخطاب — حسدني أن يكون فتح العراق على يدي.» بل لعله ظن أن عمر طمع في أن يجيء إلى العراق مكانه، وإن يكن هذا الظن قد دار بخاطره فلعله لم يكن مخطئًا ولا آثمًا فيه؛ فقد روي عن أبي بكر أنه قال وهو في مرضه الأخير: «وددت أني كنت إذ وجهت خالد بن الوليد إلى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله.»
ولقد توقع أبو بكر أن تدور مثل هذه الخواطر بنفس خالد فيكون لها أثر في تصرفه، ولذلك قال له: «إياك أن تعود لمثل ما فعلت.» يشير إلى حجه بغير استئذان، وينبهه إلى أن واجبه الأول أن ينفذ أمر الخليفة إليه، وألا يقوم بعمل لا يرضاه، وأكبر الظن أن ما توقعه الخليفة من برم خالد بترك العراق هو الذي جعله يفرغ كتابه في هذه الصيغة وفيها ما فيها من تمليق خالد وكبريائه، وفيها ما فيها من تخويفه الخسارة والخذلان إن دخله العجب أو دل بعمل؛ «فإن الله (عز وجل) له المن وهو ولي الجزاء».
ولم يك خالد في ريب من أن الله سيفتحه عليه ولئن بلغه من أنباء المسلمين هناك ما بلغه، لقد كان مطمئنًّا إلى أنه سيف الله وأنه لن يغلب، فليمتثل أمر أبي بكر وليذهب للقاء الروم وإِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، ذلك قوله تعالى في المؤمنين، وليس كإيمان خالد إيمان، وليس كسيف الله سيف مؤمن.
ويوم يهزم خالد الروم فذلك يوم الفصل الأكبر، ويومئذ لا يقول ابن الخطاب ولا غير ابن الخطاب مثل الذي قالوا في أعقاب مقتل مالك بن نويرة، وفي أعقاب غزوة اليمامة، ويومئذ لا يكون لطامع في العراق مطمع، بل يرجع هو إلى الحيرة فيتأهب لفتح المدائن وفض إيوان كسرى على من فيه، ثم يسير غازيًا أرض العجم ما شاء الله أن يسير.
على أن خالدًا قدر ما سيواجهه بأرض الروم، فأحضر أصحاب رسول الله الذين كانوا معه بالعراق واستأثر بهم لنفسه، وترك للمثنى مثل عددهم ممن لم يكن له مع الرسول صحبة، ونظر بعد ذلك فيمن بقي، فاختار من كان قدم على النبي وافدًا أو غير وافد وترك للمثنى مثل عددهم من أهل القناعة، ثم قسم سائر الجند قسمين، فلما رأى المثنى صنيعه غضب وقال: «والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر كله في استصحاب نصف الصحابة أو بعض النصف وكيف تعريني منهم! ووالله ما أرجو النصر إلا بهم!» فلما رأى خالد ذلك منه تلكأ عليه بعض الشيء، ثم عذره وأرضاه وأعاضه من الصحابة أبطالًا مجربين.
مع هذا خشي خالد أن يصيب المسلمين بالعراق شر بعد مغادرته إياهم، فرد الضعفاء والنساء منهم إلى المدينة، حتى لا يشغل المثنى بهم إذا أراد الفرس مناجزته، ولما اطمأن إلى مسيرتهم تجهز فيمن معه من الجند للسفر إلى الشام وخرج المثنى في كتيبة من الجند فشيعه إلى تخوم الصحراء.
أي طريق يسلك لينسي الروم وساوس الشيطان؟ إن بينه وبين الشام صحراء جرداء لا تطرقها قافلة ويضل في مفاوزها الدليل الخريت! أيتخطى البادية من الشمال بين عين التمر وما حاذاها من بلاد الشام؟ ذلك أقصر الطرق خلال البادية لكن قبائل العرب النازلة منه على تخوم الشام موالية كلها للروم ولقيصر، ثم جند مقيمون قد يلقونه فيقطعون عليه طريقه. أفينحدر إلى بلاد العرب ثم يأخذ الطريق التي سلكها عكرمة وأبو عبيدة وسائر الأمراء قبله؟ إنه إن يفعل فلن يبلغ جيوش المسلمين إلا بعد أمد طويل. ماذا يصنع إذن حتى يتقي مقاومة العدو ويقهر طول الأمد؟! إلى هذا انصرف تفكير القائد العبقري. وتفكير العباقرة لا يوجهه المنطق وإنما يهديه الإلهام؛ فليس لنا معشر هذا الناس إلا أن نسير وراء القائد الملهم لا نراجع منطقه ولا نسأله عما يفعل. وما لنا نسأله أو نراجعه! ألم يسر بنا من ظفر إلى ظفر! لقد سحر ألبابنا وملك أفئدتنا من قبل حين وقفنا معه مواقف أرتنا الموت رأي العين، ثم خرجنا وإياه من المعمعة متوجين بأكاليل النصر، فلنلق إليه قيادنا مطمئنين؛ فهو سيف الله، والله ناصره لا محاله.
والواقع أن مسيرة خالد من العراق إلى الشام أدنى إلى القصص الروائي منها إلى الحقيقة الواقعة، ذلك أيسر ما يقال عن أشهر الروايات فيها وأكثرها قصدًا، ولذلك يمر بعض المؤرخين بها لا يقفون عندها، ويكتفي بعضهم بالإشارة إليها، ويقدمها ابن خلدون لقارئه بكلمة «ويقال» ولم يفصلها أحد ما فصلها ابن قتيبة في بعض كتبه، ونقاد ابن قتيبة يذكرون عنه أنه مؤرخ أديب شديد الولع بالقصص، على أن الوقائع الأساسية في هذه الرواية مذكورة في تاريخ الطبري وفي ابن الأثير وفي أكثر الكتب، وقد يكون فيها ما يحير اللب ويذهل الذهن، لكن أعمال خالد، عبقري الحرب وأكبر قائد عرفه العالم في عصره، لا تخضع كلها للمقاييس المطردة في أمر غيره من القواد، فإذا أضفنا إلى ذلك ما ذكرنا غير مرة من اضطراب الروايات عن عهد أبي بكر، قام هذا وذاك عذرًا للمؤرخين جميعًا، سواء منهم من يثبت هذه الرواية المشهورة ومن يتخطاها أو يبدي الريبة فيها.
أدرك خالد وجيشه الري حين بلغوا هذا المكان، وأدركوا عنده مفاتح الشام ودخل خالد سوى قبيل الصبح فأغار على أهلها من بهراء، وفزع الناس حين رأوا المسلمين ولم يطيقوا مقاومتهم، فأذعنوا طوعًا أو كرهًا وسلم أهل تدمر بعد مقاومة يسيرة، ولم ير خالد أن يهاجم دمشق وهو إنما جاء مددًا لجيوش المسلمين المقيمة على اليرموك، فسلك غير بعيد طريق حوارين، حتى إذا أتى قصم صالح أهلها قضاعة، ومنها انحدر إلى أذرعات، وأغار على غسان بمرج راهط، ثم سار حتى نزل على قناة بصرى وعليها أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان، وتقدمهم خالد فاقتحموا بصرى وفتحها الله عليهم، ثم ساروا جميعًا إلى فلسطين مددًا لعمرو بن العاص بالعربات عند الغور، وعسكر خالد بجنوده إلى جوار زملائه، وبذلك اكتمل جمع المسلمين على اليرموك.
هذه هي الرواية المشهورة عن سير خالد من العراق إلى الشام، وأنت ترى أنها أقرب إلى القصص الروائي وإن تضافرت روايات المؤرخين عليها، واجتياز المفازة بدلالة رافع بن عميرة أعجب ما فيها، على أن هذا العجب لم يمنع من تصديقها، أن كان لخالد ما هو أعجب منها؛ فانحداره من عين التمر لغياث غياض بن غنم أمام دومة بعض هذا العجب، وحجة خالد في سر من الناس عجب أيضًا، وحروب خالد باليمامة وفتحه العراق عجب كل العجب، وهو إنما كان يختار أقرب الطرق إلى الظفر وأدناها إلى بلوغ النصر، وهذه المفازة التي اجتازها قد بعدت به عن مخاطر أراد اتقاءها، وأدنته من لقاء جيش المسلمين، فلا عجب أن تصدق الرواية عنها، ولا عجب أن يتخذ خالد هذا الطريق طريقه، وإن حير ذلك ألبابنا وأذهل أذهاننا.
أراد بعض المؤلفين الذين أقروا هذه الرواية أن ينفوا عنها كل ما يبعد بها عن مقتضى العقل. اختلف في عدد الجيش الذي سار به خالد من العراق، فقيل: كان تسعة آلاف وقيل: ستة آلاف، وذهب بعضهم إلى أنه ثمانمائة، أو ستمائة، أو خمسمائة، وأصحاب الرواية الأولى يذكرون أن خالدًا سار بنصف الجيش الذي كان بالعراق تنفيذًا لأمر أبي بكر، وكان هذا الجيش ثمانية عشر ألفًا أو نحوها، أما الذين يذكرون أن هذا الجيش كان دون الألف فيؤيدون رأيهم بأن القصد من مسيرة خالد إلى الشام إنما كان لعبقريته في القيادة؛ أما الجيوش التي كانت تواجه الروم فلم تكن قليلة العدد، وكان المدد يجيء لها من المدينة متصلًا؛ فمسيرة خالد في عدد قليل مقصودة حتى لا تحول ضخامة العدد بينه وبين السرعة في نجدة من رآهم الخليفة في حاجة إلى نجدته.
ويتوسط بعضهم فيذهب إلى أن خالدًا فصل من العراق في النصف من جيشه، فلما بلغ قراقر وعزم اجتياز المفازة سار خلالها في بضع مئات، وتابع سائر الجيش مسيرته بوادي سرحان حتى اتصل بجيوش المسلمين عند بصرى، وليس هذا الرأي بالمستحيل وإن اعترض عليه بأن مخافة خالد أن تستقبله جموع الروم فتحبسه عن غياث المسلمين تطعن على خالد أنه عرض القسم الأكبر من جيشه لأمر لم يرد أن يتعرض له هو ومن اختارهم للسير معه.
وأيًّا كان الرأي في مسيرة خالد وفي الجيش الذي صحبه من العراق فإنه أدرك المسلمين باليرموك وقام معهم لقتال الروم، ولقد صادف مجيئه أن عزز هرقل جيشه بباهان القائد القادر الذي هزم خالد بن سعيد، واغتبط الروم بباهان اغتباط المسلمين بخالد بن الوليد، وأقام الجيشان يتحين كل منهما فرصة النزال يريدها مواتية ليتم له بها النصر على عدوه.
والحق أنه كان موقفًا بالغًا غاية الدقة، ولم تكن كل دقته في فرق ما بين الجيشين في العدد؛ إذ كان المسلمون لا يزيدون على أربعين ألفًا، في حين كان الروم أربعين ومائتي ألف؛ بل كانت دقته كذلك في تفوق عدة الروم على عدة المسلمين، لم يكن هذا التفوق مما نعهده بين الجيوش في عصرنا الحاضر، فلم يكن الروم بأعلم من العرب بأساليب الحرب؛ لكنه كان تفوقًا يضاف إلى العدد فيزيده بأسًا وإن لم يظهر له أثر طيلة الشهرين اللذين انقضيا منذ جمع المسلمون وجمع الروم قواتهم على اليرموك، وعلة ذلك أن المسلمين كانوا يتفوقون على الروم بقوتهم المعنوية، كانت جموع الروم خليطًا من البدو المقيمين بالشام ومن جيوش هرقل التي غزت الفرس من قبل، ولم تكن بين هؤلاء وأولئك رابطة تجمعهم، ولم يكن لهم مثل أعلى يجاهدون في سبيله، أما المسلمون فكانوا جميعًا من العرب، وكانوا جميعًا يؤمنون بأنهم في غزوهم الروم يجاهدون في سبيل الله حق جهاده، فمن استشهد منهم فله الجنة فيها نعيم مقيم ومغفرة من الله ورضوان، ومن لم يؤت الشهادة كتب له جهاده عند الله، ثم كان له من مغانم الحرب ما يزيده حبًّا فيها وإقبالًا عليها.
ترى لأي القوتين في هذا الموقف يكون الغلب: قوة العدد أم قوة الإيمان؟ قوة المادة أم قوة الروح؟!
وتعاقبت الأيام وانقضى أسبوع وأسبوعان وثلاثة أسابيع والجيشان في موقفهما لا تحين لأيهما فرصة النزال. كيف أطاق خالد بن الوليد هذا الموقف وما صبر قط لمثله من قبل؟ أفراعته كثرة جيوش الروم فهابها كما هابها زملاؤه؟ أم كان يدرس الموقف ويفكر في أسباب النصر؟! أم إن عوامل أخرى كان لها في نفسه من الأثر ما قعد به كل هذا الزمن عن القيام بهجوم؟ كل ما تذكره الروايات أن جيش المسلمين لم يكن موحد القيادة، وأن خالدًا جاء من العراق مددًا لزملائه ولم يجئ أميرًا عليهم، بل لقد كان الأذان للصلاة ينادى به في كل معسكر على حدة، وكان كل أمير من أمراء الجند ينظم خطته بما يكفل عدم تراجعه، لذلك لم يستطع خالد أن يقوم بهجوم وحده، وليس في إمرته على أكثر تقدير غير تسعة الآلاف الذين جاءوا معه مع العراق، وقد أدى هذا التفرق في القيادة إلى هجمات من جانب الروم ردها المسلمون ثم قعد بهم تفرق القيادة عن القيام بمثلها.
ماذا يستطيع خالد أن يفعل في مثل هذا الموقف؟ إن أبا بكر لم يوله إمارة الجيش حين كتب إليه بالسير من العراق إلى الشام، فلو أنه طلب أن يتولاها لأوغر صدر زملائه ولأقام بالمدينة قيامة خصومة، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، لكن البقاء في هذا الموقف على ضفة اليرموك يزري به ويذهب عزم المسلمين، والروم ينشطون كل يوم وينظمون صفوفهم، وتدل أنباؤهم على أنهم يتجهزون لموقعة حاسمة، وقد عرف أمراء الجند من زملاء خالد هذه الأنباء، أفلا يستطيع أن يقنعهم برأيه في وحدة القيادة؟! لكنه لا يثق بأحد منهم ما يثق بنفسه، وهو إن دعا إلى أبي عبيدة أو إلى عمرو مثلًا أغضب سائر الأمراء، فماذا عساه يصنع؟!
تواترت الأنباء بتجهيز الروم وحماستهم لقتال المسلمين بعد أن جاءهم باهان بعدد كبير من القسيسين أقاموا شهرًا يحرضونهم وينعون لهم النصرانية إذا لم يقضِ على هؤلاء العرب البغاة القضاء الأخير، بل لقد ترامى إلى أمراء الجند على المسلمين أن الروم سينازلوهم في غدهم، وأن باهان صفهم للقتال صفًّا لم يسمع أحد من قبل بمثله، عند ذلك ريعوا واجتمعوا يتشاورون ما يصنعون.
وبدءوا الحديث عن كل أمير منهم ووجهته للقاء العدو، أما تعبئة الجيش فلم يتناولها البحث إذا كان كل أمير صاحب الرأي في صف جنوده، فلما آن لابن الوليد أن يتكلم حمد الله وأثنى عليه وقال: «إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، فهذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قومًا على نظام وتعبئة وأنتم على تساند وانتشار، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته.» أمسك الأمراء عن القول هنيهة بعد الذي سمعوا من خالد. إنه على حق؛ وآية ذلك بقاؤهم شهرين قبل مجيئه وشهرًا بعده وهم لا يقدرون من أمر الروم على شيء وقد تجهز الروم فعبئوا، ترى لو أنهم ظفروا بالمسلمين وردوهم، فلمن تكون الإمارات التي وعد أبو بكر بها هؤلاء الأمراء؟ لمن تكون حمص إذا لم يدركها أبو عبيدة؟ ولمن تكون البلقاء إذا لم يقم بها يزيد؟ ولمن تكون الأردن إذا جلا عنها شرحبيل، والعربة إذا أخلاها ابن العاص؟ وإذا ظفر الروم بالمسلمين فكيف يرجع هؤلاء الأمراء إلى المدينة وقد فصلوا عنها مددًا لعكرمة بعد أن أصاب خالد بن سعيد من خزي الهزيمة ما أصابه؟!
مر ذلك كله بخاطر الأمراء حين سمعوا خالدًا، فقالوا له بعد هنيهة: «هات! فما الرأي؟» قال: «إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لقد صحبكم، إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله! فقد أفرد كل رجل منكم ببلد لا ينتقصه منه إن دان لغيره من الأمراء، ولا يزيده عليه إن دانوا له، إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله. هلموا! فإن هؤلاء قد تهيئوا، وإن هذا يوم له ما بعده؛ إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها. هلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن بعضنا اليوم، والآخر غدًا، والآخر بعد غد، حتى تتأمروا كلكم، ودعوني أتأمر اليوم.»
ولم يتردد القوم في إجابة خالد إلى ما طلب بعد أن سمعوا كلامه؛ وما لهم لا يؤمرونه اليوم الأول وهذه المعركة لا ريب تطول، وإن هي إلا واحدة من المعارك التي تطاولت ثلاثة أشهر، والتي توشك أن تمتد حتى يتداول كل واحد منهم إمارة الجيش مرات! وهون عليهم ما بلغهم من تجهز الروم أن يدعوا خالدًا يتلقى الصدمة الأولى؛ لأنه قد عرض نفسه لها، وما كان لأحدهم أن ينكر مقدرته عليها وهو غازي اليمامة وفاتح العراق.
وكان خالد أثناء هذا الشهر الذي أقامه بالشام قد عرف من أسرار قيادة الروم ما طوع لعبقريته أن ترسم الخطة لملاقاتهم والظفر بهم، لذلك عبأ الجيش فرقًا، أو كراديس على تعبير المؤرخين، كل كردوس منها ألف رجل، وجعل على كراديس القلب أبا عبيدة، وعلى كراديس الميمنة عمرو بن العاص ومعه شرحبيل بن حسنة، وعلى كراديس الميسرة يزيد بن أبي سفيان، وجعل على كل كردوس رجلًا من القادة الشجعان أمثال القعقاع وعكرمة وصفوان بن أمية ومن إليهم، وهذه تعبئة لم تعبئها العرب من قبل؛ وإنما سوغها خالد بقوله لأصحابه: «إن عدوكم قد كثر وطغى، وليس أكثر في رأى العين من الكراديس.»
وعهد خالد إلى أبي سفيان في مهمة القاص، فكان ينتقل بين الكراديس فيقول: «الله، الله! إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا اليوم من أيامك! أنزل نصرك على عبادك!»
وسمع خالد رجلًا يقول: «ما أكثر الروم وأقل المسلمين!» فغضب حين سمعها وصاح: «بل ما أقل الروم وأكثر المسلمين! إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر بريء من توجيه وأنهم أضعفوا في العدد.» والأشقر فرسه، وكان حفي في مسيره بالمفازة.
وانتشرت عبارات خالد هذه في العسكر وجعل الجند يتناقلونها من كردوس إلى كردوس، فتلهب النفوس حمية وتوقظ في القلوب الشوق إلى الاستشهاد، بل لقد تكررت على كل الألسنة كلمته: «إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان.» وذكروا جميعًا غزواته، وذكروا قبلها غزوات الرسول، وكيف لا يذكرونها وبينهم ألف رجل من أصحاب رسول الله، منهم مائة من أهل بدر! وخالد بن الوليد هذا، أليس هو الذي دوخ الفرس وحطم جيوشهم، وكانوا بالنسبة لجيشه بالعراق كجيوش الروم بالنسبة لهم عددًا! النصر إذن آت لا محالة وإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.
وسرت إلى قلوب المسلمين قوة لم يكن لهم بمثلها عهد منذ نزلوا الشام، فقد أيقنوا أن خالدًا أراد لهذا اليوم أن يكون يوم الفصل، وهم يعلمون أن خالدًا إذا أراد لم ترده قوة عن عزمه، ثم إنهم رأوا الروم تهيئوا من جانبهم إلى موقعة حاسمة فليس إلى اتقائها سبيل، صدق إذن والله خالد: هذا يوم من أيام الله، يستحب فيه الاستشهاد، وتفتح فيه أبواب الجنة، وتوهب فيه الحياة لمن حرص على الموت، لذلك تقدم القادة صفوفهم، هذا يرتجز، وذاك يرتجل، والثالث يتمثل، وكلهم ينتظر الأمر بالهجوم بصبر نافد وعزم ثابت على النصر أو الموت.
اتصلت بالروم أنباء عن تجهز المسلمين كما اتصل بالمسلمين نبأ تجهزهم، أن كان بعض البدو من تلك الأصقاع ينقلون الأنباء متجسسين بين العسكرين، وقد عرف خالد من هؤلاء البدو أسرار قيادة الروم، كما عرف فزع بعض أمرائهم حين علموا بمقدمه من العراق، وكان چرچة أكثر هؤلاء الأمراء فزعًا، ولعل چرچة هذا كان عربيًّا أو روميًّا أقام بالشام السنين الطوال، فعرف العربية وسمع بأبناء المسلمين، ولقد مال قلبه إلى خالد حين نقل له المتجسسون أنباء نصره، وعرف خالد ذلك عنه فلما صدرت أوامر باهان إلى جيوش الروم بالزحف على المسلمين كان چرچة بجيشه في الطليعة، فتلقاه خالد وفسح له ولعسكره طريقًا، وظن فيلق من الروم أن چرچة في حاجة إلى المدد فانقضوا على المسلمين فأزاحوهم عن مواقفهم وحملوهم على التراجع.
كان عكرمة بن أبي جهل على كردوسه أمام فسطاط خالد بن الوليد، وقد رأى تسليم چرچة وجنوده فاستراح له، فلما رأى هجمة فيلق الروم وتراجع المسلمين أمامهم ثار في عروقه دمه وصاح في وجه الروم: «قاتلت رسول الله في كل موطن وأفر منكم اليوم!» ثم انقلب إلى أصحابه ينادي: «من يبايع على الموت؟!» وبايعه ضرار بن الأزور والحارث بن هشام في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم بينهم عمرو بن عكرمة ولده، واندفع هؤلاء أربع المائة الذين بايعوا على الموت على فيلق الروم هجمة رجل واحد، مستميتين في سبيل ربهم، وقد تجلى لهم وجهه الأكرم، وقد أضاء لهم بنوره سبيل الاستشهاد والجنة، وزلزلت الهجمة الروم وزادهم زلزالًا أن انضم چرچة وجنوده للمسلمين في مهاجمتهم، مما ثبت في نفوسهم اليقين بغدر بني وطنهم وانضمامهم لأعدائهم.
ورأى خالد فيلق الروم يرتد فأمر الجيش كله بالتقدم، فإذا الروم يلقونه بهجوم ليس دون هجومه عنفًا، هنالك أيقن المسلمون أن لا مفر لهم من الفناء إلا بالنصر، فازدادوا بالله إيمانًا، وزاد الإيمان هجومهم قوة، اندفع ابن الوليد في مقدمتهم يهوي بسيفه على عدوه فيخطف أرواحهم خطفًا، وبلغت الحماسة بالمسلمين حتى شارك النساء الرجال، فكانت لجويرية ابنة أبي سفيان مواقف تعيد إلى الذاكرة موقف أمها هند في غزوة أحد.
وقاتل الروم مستميتين، واندفعوا يقتلون من المسلمين كل من وقع في يدهم، ولذا ترجحت المعركة واستمر ترجحها طيلة النهار، ووقف عكرمة والذين بايعوه على الموت لا يتراجع أحد منهم قيد أنملة بعد أن وهب كل منهم لله نفسه، وبذلك حملوا وطيس المعركة من بداءتها إلى منتهاها، فلما كانت الشمس في المغيب بدأت قوات الروم تهن، وبدا الإعياء على وجوه فرسانهم، ورأى خالد أنهم يلتمسون إلى الهرب الوسيلة، أما والهاوية من ورائهم والمسلمون من أمامهم، فليس لهم إلى مهرب من سبيل.
وقدر خالد أن فرارهم يزيد أصحابهم ضعفًا، فأمر رجاله ففسحوا طريقًا يؤدي بهم إلى الوادي، ولم يلبث هؤلاء الفرسان حين رأوا وسيلة النجاة تهيأت لهم أن فروا هاربين وتفرقوا في البلاد، عند ذلك انقض خالد بفرسانه ومشاته على مشاة الروم فاقتحموا عليه خندقهم فتراجعوا؛ وكانت وراءهم هاوية الواقوصة فتردوا فيها وكأنهم جدار دك من أساسه، وشدد المسلمون الضغط عليهم فجعلوا يتراجعون فيتردى في الهاوية منهم فريق بعد فريق، وظلوا كذلك يتلاحقون، حتى قيل: إنه قتل منهم يومئذ مائة ألف، وقيل: مائة وعشرون ألفًا.
وقتل يومئذ تذارق أخو هرقل، كما قتل عدد كبير من أمراء الجيش على الروم، وكان الفيقار وطائفة معه من أشراف الروم قد نجوا من الموت، فلما رأوا ما حل بأصحابهم تجللوا برانسهم ونكسوا رءوسهم وجلسوا حيث كانوا فقتلوا، وكان الموت منجاتهم من العار، أما باهان ففر ونجا ليقف أمام المسلمين من بعد في مواقع لا يكون حظه فيها خيرًا من حظه في اليرموك.
تمت هزيمة الروم، فدخل المسلمون عسكرهم، واستقر خالد في رواق تذارق، وغنم المسلمون كل ما في عسكر الروم، فكان نفل الفارس منه ألفًا وخمسة دراهم، ومن الرواق الذي أقام به شقيق قيصر خلال ثلاثة الأشهر التي انقضت مذ وقف المسلمون والروم وجهًا لوجه، مد خالد بصره إلى الميدان الذي فر منه الروم فأصبح خلاء ليس لهم فيه نبأة ولا هسيس، ثم رفعه إلى السماء شكرًا لله على نعمائه.
ولم يكن عدد القتلى من المسلمين في وقعة اليرموك قليلًا؛ إذ بلغ ثلاثة الآلاف، من بينهم عدد من كبار الصحابة والفرسان ذوي المكانة والبلاء، وكان عكرمة بن أبي جهل وابنه عمرو قد أصابتهما الجراح من كل جانب أثناء المعركة، فلما أصبح القوم جيء بهما إلى خالد برواق تذارق، فوضع رأس عكرمة على فخذه ورأس عمرو بن عكرمة على ساقه وجعل يمسح عن وجهيهما ويقطر في حلقيهما الماء حتى استشهدا، وأصيبت عين أبي سفيان بسهم أخرجه منها أبو جثمة.
قضت موقعة اليرموك على كل أمل للروم في استبقاء الشام، فلم يكد هرقل يسمع بهزيمة جيشه حتى جلا عن معسكره بحمص وجعلها بينه وبين المسلمين، وأقام عليها أميرًا كما أقام من قبل على دمشق أميرًا، أما المسلمون فما لبثوا حين فرغوا من أمر اليرموك أن ساروا إلى أرض الأردن فطهروها من رافضة الروم، ثم لاحقوهم إلى دمشق وحاصروهم بها.
وحصار دمشق وتغلب المسلمين عليها وما تلا ذلك إلى أن تم فتح الشام قد حدث في خلافة عمر، على رواية الطبري ومن إليه.
لم نقف من قصصنا أنباء اليرموك عند نبأ تواترت روايته واختلف مع ذلك فيه، ذلك النبأ أن محمية بن زنيم قدم بريدًا من المدينة بعدما بدأت الموقعة، فأخذه الفرسان وسألوه ما وراءه، فأخبرهم بأن الأمداد في طريقها إليهم؛ فجاءوا به إلى خالد فأسر إليه أن أبا بكر قبض، ودفع إليه كتابًا أخذه خالد فجعله في كنانته مخافة أن ينتشر الخبر في الجند، وكان هذا الكتاب يحوي استخلاف عمر بن الخطاب وأمرًا بعزل خالد عن إمارة الجيش وبتأمير أبي عبيدة بن الجراح، فلما أتم خالد واجبه وظفر بالروم تنحى عن القيادة وتولاها أبو عبيدة مكانه.
هذا نبأ تختلف الروايات فيه مع تواتره، وليس يقع الخلاف على عزل خالد، فهذا أمر مسلم به؛ إنما يقع على تصويره في هذه الصورة التي روينا، فالأكثرون يؤيدونها وبعضهم يذكر أن الأمر بعزل خالد لم يسلم إليه، وإنما أخذه أبو عبيدة فأخفاه حتى تمت المعركة؛ ولم يطالع به خالدًا حتى حاصروا دمشق، ويذهب غير هؤلاء إلى أن أبا عبيدة أمسك عن ذكره حتى فتحت دمشق، فلما تم فتحها أظهر إمارته وعزل خالد.
وعزل ابن الخطاب خالدًا عن إمارة الجند بالشام على النحو الذي رواه الطبري ومن إليه يثير الدهشة؛ فلم يكن خالد أميرًا على جيش بالشام غير جيشه الذي جاء معه من العراق، ولم يكن أبو عبيدة في هذه الرواية أميرًا إلا على جيشه، شأنه في ذلك شأن عمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، وإنما قام خالد على إمارة الجيش عامة يوم اليرموك بالاتفاق بينه وبين سائر القواد، ولو أن النصر لم يتم له في اليوم الأول لكانت القيادة لغيره في اليوم الثاني، ولغيرهما في اليوم الذي يليه، والدهشة لعزل ابن الخطاب خالدًا تدعونا أن نتلمس في غير رواية الطبري وأصحابه ما يزيلها.
وسترى أن الأزدي والواقدي والبلاذري يخالفون الطبري كذلك في الترتيب التاريخي لوقائع الفتح في الشام، ويختلفون على هذا الترتيب فيما بينهم، فقد قيل: إن أجنادين ودمشق وغيرهما كانت قبل اليرموك، وقيل: إن اليرموك كانت آخر الوقائع، وسنقص هذه الروايات في إيجاز لا يجني عليها ويصور ما تنطوي عليه وما تتفق أو تختلف مع الطبري فيه.
وضاقت المدينة بالقادمين من أرجاء شبه الجزيرة، فخرج أبو بكر إلى ثنية الوداع فوجه الجيوش منها إلى الشام، وقد انضم خالد بن سعيد بن العاص إلى جيش أبي عبيدة بن الجراح مفضلًا إياه على ابن عمه يزيد بن أبي سفيان؛ لأنه أسبق في الإسلام، ولأنه أمين الأمة على لسان رسول الله ﷺ، وخرجت جيوش اليمن ومعها نساؤها وأبناؤها تسير مع المهاجرين والأنصار فيمتلئ بهم فضاء الصحراء، وجاء إلى المدينة بعد مسيرهم جند من اليمن ومن سائر العرب بعثهم الخليفة في إثر من تقدموهم لينضموا إلى أي الأمراء شاءوا.
وكان هرقل بفلسطين حين بلغته أنباء المسلمين ومسيرتهم لغزو بلاده، عند ذلك جمع رءوس المدن وحرضهم على قتال هؤلاء «الحفاة العراة الجياع» الذين خرجوا إلى بلادهم، وقال لهم: «وأنا شاخص عنكم وممدكم بالخيول والرجال، وقد أمرت عليكم أمراء فاسمعوا لهم وأطيعوا.» ثم إنه خرج من فلسطين إلى دمشق فإلى إنطاكية، وجعل يحرض الناس ويقول لهم مثل ما قال لأهل فلسطين، وأقام بإنطاكية يتخذ لمواجهة المسلمين عدته.
وبلغ أبو عبيدة أرض الشام مارًّا بوادي القرى وبالحجر، فلما دخل مآب قاومه جند من الروم لم يلبث أن شتتهم، ولما بلغ أبو عبيدة الجابية جاءته أنباء هرقل تصف تجهز الروم للقاء المسلمين بجيش لم يسمع بمثله عددًا وعدة، عند ذلك كتب إلى أبي بكر يستشيره ويستمده، وكتب يزيد بن أبي سفيان كذلك يذكر أن انسحاب هرقل إلى إنطاكية آية خوفه وانزعاجه، ورضي أبو بكر عن كتاب يزيد وأجابه يشجعه، أما جوابه إلى أبي عبيدة فلم يخل من بعض اللوم، وفي الكتابين ذكر أبو بكر أنه ممد المسلمين بأضعاف ما يمد هرقل به أمراء جنده.
وكتب الخليفة إلى أهل مكة يشاورهم، فغضب عمر ورأى في استشارتهم تسوية لهم بالسابقين الأولين من المسلمين، وعتب أهل مكة على ابن الخطاب، وكان مما قاله عكرمة بن أبي جهل: «أما إنكم إن كنتم تجدون قبل اليوم في عداوتنا عقالًا فلستم اليوم بأشد عليَّ من ترك هذا الدين وعادى المسلمين منا.»
كانت العرب في هذه الأثناء تنسل من كل صوب وحدب إلى المدينة تريد أن يكون لها في غزو الشام نصيب، وجمعهم أبو بكر، وجعل عمرو بن العاص عليهم وعلى من جاء من أهل مكة، وسأل عمرو: «ألست أنا الوالي على الناس؟» وأجابه الخليفة: «أنت الوالي على من معك من ها هنا، فإن جمعتكم حرب فأميركم أبو عبيدة بن الجراح.» ولما آن لعمرو أن يسير توجه إلى عمر بن الخطاب فسأله أن يكلم أبا بكر ليجعله أميرًا على المسلمين بالشام، قال عمر: «لا أكذبك، ما كنت لأكلمه في ذلك أبدًا وأبو عبيدة أفضل منزلة عندنا منك.» وألح ابن العاص يقول: «إنه لا ينقص أبا عبيدة شيئًا من فضله أن ألي عليه.» ولم يغير هذا الكلام من رأي ابن الخطاب، بل أجابه: «ويحك يا عمرو! إنك لتحب الإمارة، والله ما تطلب بهذه الرياسة إلا شرف الدنيا، فاتق الله يا عمرو ولا تطلب بشيء من سعيك إلا وجه الله، فاخرج إلى هذا الجيش؛ فإنك إن لم تكن أميرًا هذه المرة فما أسرع ما تكون إن شاء الله أميرًا ليس فوقك أحد.» ورضي عمرو وسار بجيشه إلى الشام بعد أن ودعه أبو بكر ونصح إليه.
وكتب أبو بكر إلى أبي عبيدة يستحثه على الغزو، لكن تقدم المسلمين بالشام كان بطيئًا لم يغير من بطئه وصول الأمداد ثم وصول عمرو بن العاص إليهم، بل لقد ظل أبو عبيدة يكتب إلى الخليفة يذكر له: «إن الروم وأهل البلد ومن كان على دينهم من العرب قد اجتمعوا على حرب المسلمين.» ويطلب إليه رأيه، عند ذلك ضاق أبو بكر ذرعًا، فرأى أن ينسي الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد، فكتب إليه بالعراق يقول: «إذا جاءك كتابي هذا فدع العراق وخلف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه، وامض متخففًا في أهل القوة من أصحابك الذين قدموا العراق معك من اليمامة وصحبوك من الطريق وقدموا عليك من الحجاز حتى تأتي الشام فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة والسلام عليك.»
غضب خالد حين بلغه الخبر، فقال قبل أن يقرأ كتاب الخليفة: «هذا عمل عمر، نفس عليَّ أن يفتح الله العراق على يدي.» فلما قرأ كتاب الخليفة ورآه قد ولاه على أبي عبيدة وعلى الشام كله اطمأن وقال: «أما إذ ولاني فإن في الشام خلفًا من العراق.»
يذهب المؤرخون الذين يروون الحوادث على هذا النحو إلى أن خالدًا كان بالحيرة ولم يكن قد فتح الأنبار ولا عين التمر حين جاءه كتاب أبي بكر، فلما تجهز للخروج إلى الشام سار إليهما ففتحهما وانحدر منهما إلى قراقر، ومن هناك اجتاز المفازة ودليله رافع بن عميرة الطائي حتى بلغ سوى من أرض الشام.
وفي هذه الأثناء كان أبو بكر قد كتب إلى أبي عبيدة يقول له: «أما بعد فإني قد وليت خالد بن الوليد قتال الروم في الشام فلا تخالفه، واسمع له وأطع أمره: فإني وليته عليك وأنا أعلم أنك خير منه، ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، أراد الله بنا وبك سبيل الرشاد.» وكتب خالد إلى أبي عبيدة يقول له: «أما بعد، فإني أسأل الله لنا ولك الأمن يوم الخوف، والعصمة في دار الدنيا، فقد أتاني كتاب خليفة رسول الله يأمرني بالمسير إلى الشام وبالمقام على جندها والتولي لأمرها، والله ما طلبت ذلك ولا أردته ولا كتبت إليه فيه، وأنت — رحمك الله — على حالك التي كنت بها لا يعصى أمرك، ولا يخالف رأيك، ولا يقطع أمر دونك؛ فإنك سيد من سادات المسلمين، لا ينكر فضلك، ولا يستغنى عن رأيك، تمم الله ما بنا وبك من نعمة الإحسان، ورحمنا وإياك من عذاب النار والسلام عليك ورحمة الله.»
ومن الغوطة سار خالد إلى ثنية العقاب يريد دمشق، وإنما سميت هذه الثنية «ثنية العقاب» بعد غارة خالد؛ لأنه نشر بها العقاب راية رسول الله، وعلى ميل من الباب الشرقي لدمشق نزل ديرًا عرف بعده باسم دير خالد، ويروى أن أبا عبيدة أدركه هناك، وأن أول حصار لدمشق بدأ يومئذ.
وبأجنادين اجتمع المسلمون جميعًا إجابة لكتاب وجهه خالد إلى أمراء الجند: يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، وعبأ خالد هذه الجنود فجعل أبا عبيدة على المشاة، ومعاذ بن جبل على الميمنة، وسعيد بن عامر بن حزيم الجمحي على الميسرة، وسعيد بن زيد بن عمرو على الفرسان، وطفق هو يحرض الناس متنقلًا بين الصفوف لا يستقر في مكان.
وبادر الروم المسلمين بالقتال، وكان خالد قد أمر رجاله أن يؤخروه إلى صلاة الظهر، ورأى سعيد بن زيد كثرة القتلى من المسلمين فنادى يستعجل المعركة، هنالك تقدم خالد الفرسان وأمرهم أن يحملوا معه، ثم حمل الناس بأجمعهم، فانهزم الروم وأنصارهم وقتلهم المسلمون كيف شاءوا وأصابوا عسكرهم وما فيه.
وارتد خالد بالمسلمين فحاصروا دمشق، فنزل هو دير خالد مما يلي الباب الشرقي، ونزل أبو عبيدة على باب الجابية، ونزل عمرو بن العاص على باب توماء، ونزل شرحبيل على باب الفراديس، ونزل يزيد على الباب الصغير الذي يعرف بكيسان، وأحاط المسلمون بالمدينة وضيقوا عليها الحصار، ولا يخامرهم الريب في أنها ستفتح لهم أبوابها وتسلمهم مفاتحها.
وكتب أهل دمشق إلى هرقل يستنصرونه ويذكرون له تضييق المسلمين عليهم وشدتهم في محاصرتهم، فأرسل هرقل إليهم جيشًا لقيه خالد والمسلمون بمرج الصفر فهزموه فارتد مدبرًا، وعادوا إلى حصار دمشق.
ودافع أهل دمشق عن مدينتهم ما استطاعوا، تحصنوا بأسوارهم، ورموا المسلمين بالنبل من أعلاها، وبالغوا في تحصين أبوابها؛ لكن ذلك كله لم يصد المسلمين عن الشدة في الحصار، وعاد أمراء دمشق فكتبوا إلى هرقل يذكرون أنه إن لم ينجدهم فلا سبيل لهم إلا مصالحة عدوه وعدوهم، وكتب هرقل إليهم يحرضهم ويشجعهم ويذكر لهم أنه مرسل المدد وراء رسوله إليهم، لكن المدد طال غيابه عنهم، فلم يكن لهم بد من التسليم.
وصالح أهل دمشق المسلمين. تجري بعض الروايات بأن أبا عبيدة صالح أهل دمشق القريبين من باب الجابية، فلما دخل المدينة بعد توقيع الصلح كان خالد قد فتح الباب الشرقي عنوة، والتقى الأميران، هذا يقول إنه صالح أهل المدينة، وهذا يقول إنه فتحها بقوة الجند، ثم أجيز الصلح، وتجري بعض الروايات بأن خالدًا هو الذي صالح أهل دمشق القريبين من الباب الشرقي، وأن أبا عبيدة دخل من باب الجابية عنوة، والمتفق عليه أن الأمر انتهى بالصلح بين الفريقين.
والروايات تجري كذلك بأن أبا بكر قبض وتولى عمر بن الخطاب أمر المسلمين وجيوشهم لا تزال على حصار دمشق، وأن ابن الخطاب بعث إلى أبي عبيدة بوفاة أبي بكر وبولايته وبعزل خالد بن الوليد، فلم يفض أبو عبيدة إلى خالد بعزله حتى فتحت دمشق أبوابها، وقيل: بل أفضى إليه بأمر العزل فلم يغير ذلك من نشاط خالد، وأن خالدًا صالح أهل دمشق حين دخل أبو عبيدة من باب الجابية عنوة، فلما قيل لأبي عبيدة: والله ما خالد بأمير فكيف يجوز صلحه، قال: إنه يجيز على المسلمين أدناهم، وأجاز صلحه.
هذه رواية الأزدي والبلاذري والواقدي عن فتح الشام، أوجزنا تفاصيلها ولم نطل الوقوف عند اختلاف الروايات فيها، وهي تختلف كما رأيت عن رواية الطبري في الترتيب التاريخي للوقائع، وتختلف كذلك معه في أمر خالد بن الوليد وإمارته على الجند وعزله عن هذه الإمارة.
على أن أمرين أساسيين لا يقع عليهما خلاف؛ أولهما أن أبا بكر هو الذي قرر غزو الشام كما قرر غزو العراق، وهو الذي جيش الجيوش وسير الأمداد إليهما، وأن ما تم للمسلمين من نصر على الروم وعلى الفرس في عهده كان أساس الإمبراطورية الإسلامية. والثاني أن سيف الله خالد بن الوليد كان القائد المظفر في فتح الشام، كما كان القائد المظفر في فتح العراق، وأن عزل عمر إياه عن إمارة الجند لم يغض من مكانته ولا من عبقريته في الحرب، هذه العبقرية التي عرفها رسول الله فيه فسماه سيف الله، وأقرها له أبو بكر فقال: «ما كنت لأشيم سيفًا سله الله على الكافرين.»
أما اختلاف المؤرخين في ترتيب الوقائع فليس يسيرًا تحقيقه، لقد رأيت من رواية الطبري ومن إليه أن خالد بن سعيد ما لبث حين أمره أبو بكر بالتقدم في الشام أن اجتاز حدوده فانسحب الروم وأنصارهم من العرب أمامه دون قتال، وأن باهان قائد الروم جعل يتراجع بجيوشه نحو دمشق فيتبعه خالد حتى كانا على مقربة من مرج الصفر؛ هنالك ارتد باهان فأحاط به وقطع عليه خط رجعته وقتل فرقة من عسكره فيها ابنه سعيد بن خالد بن سعيد، عند ذلك فر خالد في كتيبة من أصحابه حتى بلغ ذا المروة على مقربة من المدينة، أما سائر قوات المسلمين فتقهقر بها عكرمة بن أبي جهل إلى حدود الشام، وهناك أقام حتى أمده أبو بكر بالأمراء والجيوش الذين تقدموا معه إلى اليرموك دون أن يلقوا الروم، وعسكر الروم على ضفة اليرموك الأخرى، ولم يقع بين القوتين قتال طيلة شهرين سئم الخليفة جمود الموقف أثناءهما فأمد المسلمين بخالد بن الوليد، وأقام خالد مع القوم حتى هزم جيوش هرقل هزيمة نكراء، ويوم تم لخالد هذا النصر قدم محمية بن زنيم بريدًا من المدينة يحمل النبأ بأن أبا بكر قبض وأن عمر استخلف، وأنه عزل خالدًا عن إمارة الجيش.
هذه رواية الطبري ومن إليه أما البلاذري ومن شاكله فيذكرون أن اليرموك حدثت في عهد عمر، وهي في رأي بعضهم آخر الوقائع في فتح الشام، كما يذكرون أن أبا بكر جعل أبا عبيدة أميرًا على المسلمين لفتح الشام، وأنه أمده بجيوش كان خالد بن سعيد في بعضها وقد فتح أبو عبيدة الجابية ثم أبطأ في تقدمه وألح على الخليفة بالكتب يستمده ويذكر له من بأس الروم وقوتهم ما جعل أبا بكر يوفد خالد بن الوليد من العراق أميرًا على جيوش المسلمين بالشام، ويعزل أبا عبيدة عن هذه الإمارة، وسار ابن الوليد حتى انضم إلى قوات المسلمين على قناة بصرى، ومن هناك التقى المسلمون بقوات الروم العظيمة التي اجتمعت بأجنادين فغلبوها، ثم إنهم حاصروا دمشق وطال حصارهم إياها قبل أن تفتح أبوابها، ويوم فتحت هذه الأبواب جاء بريد بوفاة أبي بكر واستخلاف عمر وعزل خالد.
أكانت اليرموك في عهد أبي بكر كرواية الطبري ومن إليه، أم في عهد عمر كرواية البلاذري ومن شاكله؟! ربما أيد رأي الطبري أن واقوصة الواقعة على اليرموك والتي حدثت المعركة عندها، قريبة من بادية الشام، ومن تخوم العرب، ومن طريق وادي سرحان، وأنها كانت لذلك أدنى الأرض إلى جيوش المسلمين حين التقائها بعد أن جاءت من المدينة تغزو هرقل وإمبراطوريته، وربما أيد رواية البلاذري ومن شاكله ما ذكره الطبري نفسه من أن الروم تراجعوا منذ بدأت الحرب نحو دمشق، مطمئنين إلى حصونها وإلى قوة المدن الحصينة المحيطة بها، وأنهم أرادوا بتراجعهم أن يستدرجوا العرب إلى المواقع القوية ليوقعوا بهم ويردوهم منهزمين إلى بلادهم فلا تحدثهم أنفسهم بالعود إلى غزو الشام كرة أخرى.
من العسير، والأمر ما ترى، أن نقطع كيف كان ترتيب الوقائع في فتح الشام أما عزل ابن الخطاب خالدًا عن إمارة الجيش فالأمر فيه يسير فالطبري والبلاذري والمؤرخون جميعًا متفقون على أن أبا بكر بعث خالدًا من العراق إلى الشام لينسي الروم وساوس الشيطان، وذلك بعد أن سئم جمود قوات المسلمين هناك، وإنما يقع الخلاف على مكان خالد من زملائه الأمراء: أذهب أميرًا عليهم جميعًا، أم ذهب أميرًا على القوة التي فصل بها من العراق دون سواها فإذا انحسم هذا الخلاف تيسر لنا أن نفهم أمر ابن الخطاب بعزل خالد.
يذهب الطبري ومن إليه إلى أن ابن الوليد ذهب إلى الشام أميرًا على القوة التي فصل بها من العراق، وأنه لم يتول الإمارة العامة إلا يوم اليرموك، وذلك حين اتفق مع زملائه أن يتعاوروا الإمارة بينهم، وأن يتأمر هو اليوم الأول، أما البلاذري ومن شاكله فيذكرون أن أبا بكر بعثه أميرًا على قوات المسلمين كلها بالشام، ويثبتون نص الكتابين اللذين بعث بهما الخليفة إلى خالد وإلى أبي عبيدة متضمنين أمره هذا، ولسنا نتردد في الأخذ برواية البلاذري؛ فليس طبيعيًّا أن تقف جيوش دولة بعضها إلى جانب بعض ولا تسند القيادة العامة على القوات كلها إلى أحد أمراء هذه الجيوش، والطبري نفسه يثبت أن أبا بكر بعث إلى أمراء الجند بالشام أن يجتمعوا عسكرًا واحدًا وأن يلقوا زحف المشركين بزحفهم، وهذا أمر لا سبيل إلى نفاذه إذا تفرقت القيادة، وقد أصدر الخليفة هذا الأمر قبل أن يبعث ابن الوليد إلى الشام فلا بد أن إمارة الجيش العامة كانت لأبي عبيدة أو ليزيد بن أبي سفيان أو لغيرهما من سائر الأمراء، والراجح أنها كانت لأبي عبيدة وإن ذكر بعضهم أنه استعفى أبا بكر منها، أما وذلك ما لا نتردد في القطع به فلا شبهة في أن أبا بكر أوفد خالدًا من العراق إلى الشام أميرًا على جيوش المسلمين كلها على نحو ما رواه البلاذري ومن شاكله.
ولولا أن خالدًا كان الأمير على جيوش المسلمين لما عزله عمر بن الخطاب عن هذه الإمارة أول ما استخلف، فالثابت في كتاب الطبري وغيره من المؤرخين أن خالدًا ظل بعد عزله هذا أميرًا على القوات التي كان يباشر قيادتها، وأنه ظل كذلك حتى عزله عمر عن إمارة قنسرين وعن عمله في الجيش، وذلك في السنة السابعة عشرة من الهجرة، وهي السنة الخامسة من خلافه عمر؛ فالعزل الأول كان إذن عن القيادة العامة، أما العزل الذي حدث بعد ذلك بما يزيد على أربع سنوات فكان عن عمله كله.
هذا ما نقطع به، وما لا شبهة عندنا فيه، وهو وحده الذي يفسر تصرف عمر أول ما استخلف، فلو أن خالدًا كان أميرًا على القوات التي فصل بها من العراق دون سواها لما احتاج عزله إلى أمر من الخليفة، ولاسترد أبو عبيدة إمارته على جيوش المسلمين بعد يوم اليرموك في رواية الطبري، أو بعد دمشق في رواية البلاذري.
وهذا اليوم الذي عزل ابن الخطاب فيه خالدًا عن إمارة الجيش العامة إثر معركة من أكبر المعارك في فتح الشام هو في حياة خالد من أمجد أيامه، وليس يقف مجده في ذلك اليوم عند انتصاره على عدوه، فقد كان هذا النصر واحدًا من عشرات، إنما أكبر مجده يومذاك أنه انتصر على نفسه، فلم يضعف عزل الخليفة إياه من حماسته لله ولدين الله، ولم ينهنه من قوة بأسه وعظيم شعوره بواجبه؛ فقد رضي إمارة أبي عبيدة وسلم بها طائعًا، وسار على رأس لوائه يخوض المعارك واحدة بعد أخرى فإذا هو هو، وإذا النصر يسير في ركابه، وإذا المسلمون والروم يتحدثون بفعاله، وكأنه القائد الأول، وكأنه النصر تجسم رجلًا، وكيف لا يكونه وهو سيف الله فلا غالب له!
لا جناح علينا ونحن نختتم الآن حديث خالد في عهد أبي بكر أن نقص رواية أثبتها الطبري وأثبتها ابن الأثير، وإنما نقصها على علاتها لا نحمل تبعتها ولا نطلب إلى القارئ تصديقها فقد ذكرا أن چرچة القائد الرومي خرج صبح يوم اليرموك حتى كان بين الجيشين ونادى: ليخرج إليَّ خالد، فخرج خالد حتى اختلفت أعناق دابتيهما وقد أمن كل منهما صاحبه، عند ذلك قال چرچة: يا خالد اصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع، هل أنزل الله على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟ وأجابه خالد بالنفي، فقال: فيم سميت سيف الله؟ وأجابه خالد فحدثه عن بعث الله رسوله، وأن الله هداه للإيمان به والذود عن دينه، ولذلك قال رسول الله له: «أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين.» ودعا له بالنصر، فسمي «سيف الله» بذلك، ثم دار بين الرجلين حوار حول رسالة محمد انتهى بإسلام چرچة وصلاته ركعتين وإلى قتاله في صف خالد ومقتله مع المسلمين الذين قتلوا في الموقعة.
قصصت هذه الرواية على علاتها؛ لأنها تصور ما لخالد وعبقريته في النفوس من أثر جعل الطبري وابن الأثير وغيرهما من المؤرخين لا يرون بأسًا في تصديق كل ما يتصل بهذا القائد النابغة البطل صاحب المعجزات في الحرب، وهو في الحق جدير أن يبلغ إعجابنا به غاية ما نعجب ببطل من أبطال العالم في تاريخ العالم كله، وإن لم يسوغ لنا الإعجاب أن نقبل إلا ما يثبت أمام النقد وما يقره المنطق السليم.
والآن، وداعًا خالد! وداعًا فاتح العراق وسورية، وموطد القواعد من الإمبراطورية الإسلامية! وداعًا سيف الله البتار! ولعل الأقدار تجمعنا يومًا في عهد الفاروق عمر!