المثنى في العراق
ودع المثنى خالد بن الوليد حين سفره من العراق إلى الشام حتى تخوم البادية فلما رجع إلى الحيرة بدأ ينظم الدفاع عن البلاد التي فتحها المسلمون بما بقي له من قوات بعد الذين ارتحلوا مع خالد، ولم يكن المثنى في ريب من أن الفرس سيتحرشون به متى علموا بسفر خالد، وأنهم سيحاولون طرده وطرد المسلمين من الحيرة ومن أرض العراق جميعًا.
والحق أنه كان في موقف بالغ غاية الدقة؛ فقد بطش خالد بالبدو المقيمين بجزيرة العراق بطشًا جعلهم جميعًا خصومًا للمسلمين، يتربصون بهم الدوائر ويحرصون على مناصرة أعدائهم، وقد تنبه الفرس إلى أن دولتهم مؤذنة بالزوال إذا ظل لهؤلاء العرب الغزاة في العراق سلطان، وشعور خالد بن الوليد بدقة الموقف هو الذي دفعه فبعث بالنساء والصبيان والضعفاء من الرجال إلى المدينة قبل سفره إلى الشام. طبيعي أن يفكر المثنى في هذا كله، وأن يطول تفكيره فيه فهو الذي دفع أبا بكر إلى غزو العراق، وهو الذي تقدم خالدًا والمسلمين جميعًا إلى مفاتحه بالسير إلى دلتا النهرين، فليس من الهين على نفسه أن يهزم في بلد كان الطليعة في غزوه، وأشد من ذلك عليه أن تبلغ به الهزيمة حتى يجلو عن هذا البلد بعد فتحه.
وبلغت المثنى أنباء هذا التجهز، ثم بلغته أنباء تحرك هرمز وجيشه. أتراه ينتظر حتى يجيء إليه بالحيرة متخطيًا حدود البلاد التي فتحها المسلمون؟! كلا! بل خرج هو كذلك بجنوده، وجعل أخويه المعنى ومسعودًا على ميمنته وميسرته، وسار حتى بلغ أطلال بابل. وإنه لفي مسيرته إذ جاءته رسالة من شهريران يقول فيها: «إني قد بعثت إليك جندًا من أهل فارس، وإنما هم رعاة الدجاج والخنازير، ولست أقاتلك إلا بهم.» وتناول المثنى الرسالة وتلاها، فلم يلبث أن رد عليها مع الرسول الذي جاء بها برسالة يقول فيها: «من المثنى إلى شهريران: إنما أنت أحد رجلين، إما باغٍ، فذلك شر لك وخير لنا؛ وإما كاذب، فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله وفي الناس الملوك، وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما اضطررتم إليهم، فالحمد لله الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير.»
بهت أهل فارس حينما عرفوا رسالة المثنى وعرفوا مسيرته، فلم يكن أحد منهم يتوقع أن تكون في المسلمين هذه القوة بعد انصراف خالد عنهم؛ بل لقد آخذ بعضهم ملكهم أن يخاطب قائد جيش باللهجة التي أفرغ فيها رسالته، وقالوا له: «جرَّأت علينا عدونا بالذي كتبت به إليهم؛ فإذا كاتبت أحدًا فاستَشِر.»
عسكر المثنى بجيشه على مرتفع من أطلال بابل على خمسين ميلًا من المدائن، وأقام بين شبكة من جداول تتصل بدجلة ينتظر هرمز جاذويه وهجومه عليه، وأقبل هرمز بجيشه يتقدمه الفيل وكله الاطمئنان إلى أنه مشتت شمل المسلمين لا محالة، وسار الفيل يضرب بخرطومه يمنة ويسرة، ويفرق صفوف المثنى ويوقع الرعب فيهم.
وأيقن المثنى أن انتصاره رهن بالقضاء على الفيل، فخرج في جماعة من رجاله، فهاجموه فأصابوا منه مقتلًا فهوى جسمه إلى الأرض صريعًا، هنالك التأمت صفوف المسلمين وقويت روحهم، فهاجموا الفرس فهزموهم شر هزيمة، واحتل فريق من رجال المثنى معاقل الفرس، وتعقب سائرهم المنهزمين حتى انتهوا بهم إلى أبواب المدائن.
ونزلت أنباء الهزيمة بشهريران نزول الصاعقة، فَحُمَّ فماتَ، وأراد الفرس أن يملِّكوا عليهم ابنة كسرى ليفرغوا إلى تنظيم شئونهم كرة أخرى، ولم ينفذ لها أمر فخُلعت، وخلفها على العرش سابور بن شهريران، واستوزر سابور الفرخزاد، وأراد أن يزوجه آزرميدخت ابنة كسرى، فغضبت ألا يكون زوجها من بيت الملك، وقالت لسابور: «يا بن عم، أتزوجني عبدي؟!» لكن سابور لم يسمع لقولها وأغلظ لها في الخطاب، فاستعانت بسياوخش الرازي أحد فتاك الأعاجم، فلما كانت ليلة العرس ودخل الفرخزاد مخدع آزرميدخت ثار به الفاتك فقتله ومن معه، ثم سار بابنة كسرى وأعوانها إلى سابور فحاصروه ودخلوا عليه فقتلوه، وجلست آزرميدخت على العرش مكانه.
ترامت هذه الأنباء إلى المثنى فاطمأن. وما خوفُه من بلاطٍ عاد إليه الاضطراب والغدر واختلاف الجالسين على العرش؟! لكنه إن أمن يومه فالحذر يقتضيه الحساب لغده. وسار بجيشه يطارد الفرس حتى بلغ أبواب المدائن، فهو يطمع في أن يفتحها، ولا بد له ليفتحها من مدد يقوي جيشه، وما كان أبو بكر ليمده وجيوش المسلمين كلها بالشام؛ لذلك كتب المثنى يخبر الصديق بانتصاره على الفرس ويستأذنه في الاستعانة بمن ظهرت توبتهم من أهل الردة. وإذ كان يعلم أن أبا بكر لا يطيب نفسًا بهذا الرأي فقد أيده بأن التائبين من أهل الردة يطمعون في مغانم الغزو، وأنه لا يرى أحدًا أنشط إلى معاونته في محاربة فارس منهم. وفي انتظار المدد أقام يدبر خطته ويحكم تدبيره، لكن انتظاره طال وأبطأ عليه رد الخليفة، هنالك انسحب في الجيش إلى أدنى أرض العراق من حدود البادية، واستخلف بشير بن الخصاصية على من بالعراق من المسلمين، وذهب بنفسه إلى المدينة يدافع عن رأيه، وألفى أبا بكر اشتد به المرض حتى أشفى على الموت، مع ذلك استقبله الخليفة وسمع إليه واقتنع برأيه وقال: عليَّ بعمر، وكان قد استخلفه؛ فلما جاء قال له: «اسمع يا عمر ما أقول لك، ثم اعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا، فإن أنا مت فلا تمسينَّ حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحنَّ حتى تندب الناس مع المثنى، ولا يشغلنَّكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم، وقد رأيتني متوفى رسول الله ﷺ وما صنعت، ولم يصب الخلق بمثله، وبالله لو أنِّي أَنِي عن أمر الله وأمر رسوله لخذلنا، ولعاقبنا فاضطرمت المدينة نارًا، وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فإنهم أهله وولاة أمره وحده، وهم أهل الضراوة بهم والجرأة عليهم.»
ووعد عمر أن ينفذ أمر أبي بكر، وكان يقول من بعد: «قد علم أبو بكر أنه يسوءني أن أؤمِّر خالدًا، فلهذا أمرني أن أرد أصحاب خالد وترك ذكره معهم.»
وعاد المثنى إلى العراق أول ما استخلف عمر، ورفع عمر الحظر عمن عادوا إلى الإسلام من المرتدين لينهضوا إلى حرب فارس، وما لهم لا يفعلون وقد فتح الله على المسلمين؟! ثم ما لهم لا يسارعون إلى الخيرات يتطهرون بجهادهم من حوبة ردتهم، فإن استشهدوا فلهم الجنة، وإن أقاموا بعد النصر فلهم من الفيء ما يجعل الحياة جنة أمامهم؟!
ولقد استفتح عمر عهده بمتابعة حروب فارس؛ فكان لهؤلاء الذين عادوا إلى الإسلام من حسن البلاء ما أرجو أن أقص نبأه في خلافة الفاروق.