حكومة أبي بكر
لما بويع أبو بكر خاطبه رجل من المسلمين بقوله: «يا خليفة الله»، فلم يدعه أبو بكر يمضي في حديثه، بل قال له: «لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله.»
هذه عبارة أوردها المؤرخون حجة على تواضع أبي بكر وصدق تقديره، وهي في رأيي تستوقف النظر لمعنى أعمق في دلالته من هذا المعنى المتصل بشخص أبي بكر وخلقه؛ ذلك ما فيها من قوة الإبانة عن تصور المسلمين الأولين لفكرة الحكم، فقد خلت قرون قبل عهد رسول الله، وتعاقبت قرون بعده، قام أثناءها في كثير من الأمم ملوك وحكام زعم دعاتهم وزعموا لأنفسهم أنهم خلفاء الله على الأرض، وأن لهم بذلك قدسية ليست لغيرهم من الناس، كذلك كان الأمر في مصر أيام الفراعنة الأولين، ومن هؤلاء الفراعنة من كان يقول لقومه: «أنا ربكم الأعلى.» وكان سواد المصريين في ذلك العهد يؤمنون بما لملوكهم من صفات الربوبية، ثم تزيدهم دعايات الكهنة إيمانًا بهذه الصفات، وكذلك كان الأمر في آشور وإيران والهند وغيرها من الأمم التي عاصرت الفراعنة، وكان أكثر الملوك تواضعًا في ذلك العهد أولئك الذين يرون أنفسهم خلفاء الله على الأرض.
ولقد قام في عصور أوربا الوسطى دعاة من العلماء زعموا للملوك حقًّا مقدسًا مستمدًّا من الله يجعل لهم على الناس سلطانًا لا يعرف حدًّا، وعدوهم لذلك خلفاءه جل شأنه، فكانت كلمتهم منزلة كالوحي، وكان حكمهم كحكم الله لا مرد له، وظلت هذه الآراء مقبولة في أوربا إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وإلى القرن السابع عشر في بعض الأمم، ولم تستطع الشعوب أن تتغلب عليها، مع انتشار العلم وتقدم الحضارة، إلا بالثورات العنيفة، ذهبت فيها الألوف وعشرات الألوف من الأرواح ضحايا للمبادئ التي ثارت لها، مبادئ الحرية والإخاء والمساواة بين الناس.
هذه المبادئ التي سادت العالم دهرًا طويلًا، والتي كانت تسود أوربا إلى عهد قريب منا، هي التي أنكرها أبو بكر بقوله: «لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله.»
ولم يُرِدْ أبو بكر بأنه خليفة رسول الله إلا أنه خلفه ﷺ قيادة المسلمين وسياسة أمورهم في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه، أما ما اختص الله به رسوله فيما وراء ذلك فلم يدر بخاطر الصديق أنه خليفته فيه، وكيف يدور ذلك بخاطره ورسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين، لا يخلفه في نبوته أحد، ولا في رسالته أحد!! اصطفاه الله وأنزل عليه الكتاب بالحق فأكمل للمؤمنين دينهم وأتم عليهم نعمته، وهذا ما خطب به أبو بكر إثر بيعته إذ قال: «إني وليت هذا الأمر وأنا له كاره، ووالله لوددت أن بعضهم كفانيه، ألا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول الله ﷺ لم أقم به، كان رسول الله ﷺ عبدًا أكرمه الله بالوحي وعصمه به، ألا وإنما أنا بشر ولست بخير من أحد منكم، فراعوني، فإن رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإن رأيتموني زغت فقوموني.» وقد رأيت أبا بكر كيف قاتل الذين ادعوا النبوة، والذين ارتدوا عن دين الله وعن الإيمان به وبرسوله، وكيف كان صلبًا في حرب هؤلاء جميعًا، حتى ردهم إلى الهدى ودين الحق.
ولقد تولى أبو بكر قيادة المسلمين وسياسة أمورهم بعد رسول الله باختيار المسلمين ورضاهم، لم يبعثه الله خليفة عليهم كما بعث محمدًا رسولًا إليهم، ولم يجعل له فضلًا على أحد منهم إلا بالتقوى، وهو لم يكن يرى لنفسه حقًّا في حكم المسلمين إلا في حدود كتاب الله وسنة رسوله، وذلك قوله (رضي الله عنه) حين خطب الناس يوم بيعته: «أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.»
ولقد خَلَف عمر بن الخطاب أبا بكر، فلم يتخذ لنفسه لقب خليفة رسول الله، بل طلب إلى الناس فلقبوه: أمير المؤمنين، ذلك أنه أراد اتقاء التكرار في تلقيبه خليفة رسول الله، وهو تكرار يطول إلى غير حد بتعاقب الخلفاء، فلو أنه لقب خليفة خليفة رسول الله للقب عثمان من بعده خليفة خليفة خليفة رسول الله، ولكان علي بن أبي طالب خليفة خليفة خليفة خليفة رسول الله.
واتخاذ عمر لقب أمير المؤمنين اتقاءً لهذا التكرار يجعل عبارة أبي بكر: لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله، أكثر قوة في دلالتها وإبانة عن المعنى الذي قصده الصديق منها، ويشهد بأنه قصد معناها اللغوي من حيث تعاقب الزمن، فهو الرجل الذي خلف رسول الله على سياسة المسلمين بعد وفاته، ولو أن لقب الخليفة أريد به يومئذ غير هذا المعنى اللغوي للقِّب عمر كما لقب أبو بكر خليفة رسول الله، ولما اقتضى الأمر تغيير هذا اللقب بلقب أمير المؤمنين.
ولعل سببًا آخر دعا عمر ليتخذ إمارة المؤمنين لقبًا له، ذلك أنه رأى نظام الحكم تطور في بلاد العرب وفي البلاد التي تم فتحها في عهد أبي بكر، مع بقاء هذا الحكم في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه، وكان هذا التطور سريعًا في شبه الجزيرة وفيما وراءها سرعة أذهلت العالم وأدهشت المؤرخين، ولم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسوله تفصيل لنظام الحكم كيف يكون، وإن جعل الكتاب الشورى أساس الحكم، فقال تعالى مخاطبًا نبيه: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ وقال: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ، فلم يكن لعمر بد من أن ينظر في تفصيل هذا النظام بما يتفق واتساع رقعة الفتح، وما يكفل طمأنينة المحكومين، شأنه في ذلك شأن أمير الجيوش إذ يصفها وينظم تعبئتها بما يقضي به تطور المعارك وما يقتضيه موقف جنوده وموقف خصومه، غير مقيد برأي سلف ما دام في طاعة الله متأسيًا برسوله.
وأنت إذا رجعت البصر إلى هذا التطور السريع ازددت إعجابًا بأبي بكر وبمقدرته على مواجهته في لين ومرونة كانا مصدر قوته والسبب في نجاح سياسته، كانت بلاد العرب إلى عهد الرسول موزعة بين حياة الحضر وحياة البادية، مقسمة بين شتى الأديان، يكاد شمالها وجنوبها لا يتعارفان، كانت اليمن خاضعة لسلطان فارس، تتجاور فيها المسيحية واليهودية وعبادة الأصنام، وتتكلم لغة حمير التي تختلف في لهجتها عن لغة قريش كافة، وعن لغة مضر خاصة، ثم إن اليمن كانت مستقر حضارة تعاقبت على الأجيال، أما الحجاز فكان أدنى إلى البداوة، وكانت مدنه، مكة ويثرب والطائف، تستقل كل واحدة بنفسها وبنظامها، كاستقلال كل قبيلة بنفسها وبنظامها، ولا يحول هذا الاستقلال دون تجاور اليهودية والوثنية بيثرب، ولا دون تجاور النصرانية والوثنية بمكة، فلما انتشرت دعوة النبي العربي إلى التوحيد في أرجاء شبه الجزيرة، وأذن الله لدينه القيم أن يعم ربوعها، خلعت اليمن نير الفرس، وبقيت مستقلة بنفسها وبنظامها كما كانت من قبل؛ وكذلك بقيت سائر مدن الحجاز وقبائله مع إسلامها لله وللدين الذي أوحاه إلى رسوله، بذلك أصبحت بلاد العرب أشبه بعصبة أمم عربية تجمع بينها عقيدة واحدة، تدين كلها برسالة محمد وتؤمن بتعاليمه، ثم لا تنزل من استقلالها عن شيء إلا إيتاء الزكاة أداء لفرض الله وقيامًا بركن من أركان دينه الذي آمنت به.
على أن هذه الوحدة الدينية كانت بدء تطور في نظام البلاد السياسي لم يلقِ العرب بالهم إليه، لقد تحالفت القبائل والمدن على أن تدفع عن حرية العقيدة وتقاتل المشركين الذين يصدون عن سبيل الله، فلما سار جيش المدينة تحت راية الرسول ليغزو مكة بعثت القبائل من سليم ومزينة وغطفان وغيرها من انضم إلى المهاجرين والأنصار لفتح البلد الحرام، وفتحت مكة أبوابها وأسلم أهلها، فسار أبناؤها مع جيش الرسول إلى حنين والطائف. ثم إن رسول الله كان يبعث عماله إلى البلاد التي تدين بالإسلام ليعلِّموا الناس القرآن ويفقهوهم في الدين، وهؤلاء العمال هم الذين كانوا ينظمون الزكاة وتحصيلها فيرسلونها إلى المدينة أو يوزعونها بين الفقراء من أهل البلاد التي دخلت في دين الله، طبيعي أن يحدث ما صحب الانقلاب الديني من هذه الأحداث تطورًا في النظام السياسي يميل ببلاد العرب إلى وحدة لم تألفها من قبل، لكن أهل هذه البلاد في اليمن وفي غير اليمن لم يقدروا لهذا التطور، ولم يدر بخلد أحد منهم أن يكون له بعد رسول الله أثر، بل كان ظنهم أن هذه التعاليم التي يذيعها رسول الله بينهم ستصبح أصيلة فيهم، ثم يعودون إلى حالهم السياسية الأولى، وتظل كل أمة وكل قبيلة منهم مستقلة بنفسها وبنظامها كما كانت من قبل.
وهذا هو السبب في ثورة تلك البلاد إثر وفاة الرسول، وفيما ترتب على ذلك من حروب الردة، فقد أراد أبو بكر أن تظل هذه البلاد كما كانت في عهد الرسول، وأرادت هذه البلاد أن تسترد حريتها السياسية كاملة، وكان لأبي بكر من إيمانه بالله ورسوله أبلغ العذر عن الإصرار على أن يؤدي من أسلم كل ما فرض الله مما كان يُؤدِّي لرسول الله، وكانت هذه البلاد ترى لنفسها حقًّا في الاستقلال وتقرير المصير كحق أهل المدينة، وتأبى لذلك أن يفرض المهاجرون والأنصار رأيهم عليها بعد أن لم يبقَ بينهم رسول الله يوحى إليه فيؤمن الناس بكلمته؛ لأنها كلمة الله جل شأنه.
وما حدث من بيعة أبي بكر بالمدينة جدير بأن يقف نظرنا كما وقف نظر العرب في ذلك العهد، فما بال المهاجرين والأنصار قد استأثروا باختيار الخليفة دون سائر العرب؟! وما دلالة ذلك في تطور النظام السياسي يومئذ؟ أتراهم استأثروا باختيار أبي بكر؛ لأنهم رأوا في سبقهم إلى الإسلام وفي تقدمهم الصفوف للدفاع عنه ما يجعلهم أصحاب الأمر في شئون العرب، وما يقدمهم في ولاية السلطان عليهم؟! لعلك تذكر اعتراض عمر بن الخطاب على أبي بكر حين أرسل أهل مكة يشاورهم في فتح الشام ويستمدهم إليه، بعد أن قاتل أهل مكة المرتدين كما قاتلهم المهاجرون والأنصار، ثم لعلك تذكر كلمة سهيل بن عمرو لعمر في هذا المقام وإجابة عمر إياه، فقد قال سهيل: «ألسنا إخوانكم في الإسلام وبني أبيكم في النسب! أفئنكم أن كان الله قدَّم لكم في هذا الأمر قدمًا صالحًا لم نؤتَ مثله قاطعو أرحامنا ومستهينون بحقنا!» وكان جواب عمر: «إني والله ما قلت ما بلغكم إلا نصيحة لمن سبقكم بالإسلام وتحريًا للعدل فيما بينكم وبين من هو أفضل منكم من المسلمين.» فإن يكن ذلك رأي عمر ومن وافقه في أمر مكة وأهلها فما أحراه أن يكون رأيهم في أمر سائر العرب! أما كلمة سهيل فصريحة في إنكار رأي عمر، وفي تمسك أهل مكة بما لهم من حق في المشورة يعدل ما لأهل المدينة فيها.
هذا الحوار واضح الدلالة في تصوير العوامل التي كانت تتجاذب لتكيف النظام السياسي في الدولة الناشئة، فلئن قضت ضرورة المحافظة على كيان الدولة أن يسارع المهاجرون والأنصار بالمدينة إلى اختيار الخليفة ومبايعته، لقد انقضت هذه الضرورة أول ما تمت بيعة أبي بكر واطمأن المسلمون لها، ولقد أقامت مكة والطائف على الإسلام وشاركتا في حروب الردة، وصار لهما بذلك من حق الرأي في الحكم ما لأهل المدينة، أفيكون سبق المهاجرين والأنصار إلى الإسلام سببًا في تقدمهم على جميع المسلمين ومسوغًا لاستئثارهم بالأمر على العرب كلهم؟ ذلك ما رآه ابن الخطاب، مستندًا إلى ما دار في سقيفة بني ساعدة من حوار بين المهاجرين والأنصار، أما أهل مكة فبرموا به، وأنكره باسمهم عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو.
لم يذهب أبو بكر في هذا الأمر إلى المدى الذي ذهب إليه عمر، مع أنه في سقيفة بني ساعدة، هو الذي أيد بحجته البالغة حق المهاجرين في الإمارة لسبقهم الأنصار إلى الإسلام واحتمالهم الأذى في سبيله، ذلك أنه رأى سائر الذين أقاموا على إسلامهم من غير أهل المدينة قد شاركوا في حروب الردة، وذهب منهم من ذهب لغزو العراق؛ فمن العدل أن يكون لهم ما لأهل المدينة من حق في الرأي والمشورة، لهذا دعا أهل مكة يشاورهم في غزو الشام ويستمدهم إليه، كما أنه سوَّى في قيمة الذهب الذي كان يجيء من المنجم الذي فتح على مقربة من المدينة في عهده بين المسلمين، فلما قيل له في تفضيل السابقين إلى الإسلام كان جوابه: «إنما أسلموا لله ووجب أجرهم عليه، يوفيهم ذلك في الآخرة؛ وإنما هذه الدنيا بلاغ.» وبهذا التصرف الحكيم مهد للتطور السياسي في البلاد في لين ومرونة.
وقد تجدد الخلاف على هذا الرأي في عهد عمر فأصر على رأيه الأول فيه، مخالفًا مذهب الصديق وسياسته، ثم إنه حاول في آخر عهده أن يعود إلى رأي سلفه فعاجلته المنية دون أن يتم ما عزم.
أدت سياسة الصديق إلى تطور العرب نحو الوحدة السياسية، وجعلتهم ينظرون إلى المدينة على أنها عاصمة دولتهم ومصدر سياستهم، لذلك اتجهت أنظارهم إليها فانضووا تحت سلطانها واستظلوا برايتها.
لقد رأينا أنه لم يكن من نوع السلطان الديني الذي عرفته مصر الفراعنة، ولا الذي عرفته عصور أوربا الوسطى، لم يكن أبو بكر يستمد سلطة الحكم من الله، بل من الذين بايعوه، وقد انقضى نزول الوحي منذ اختار الله رسوله إليه، وبقي كتاب الله بين المسلمين هدًى لهم جميعًا، وحجة عليهم جميعًا؛ فهو ميثاقهم الذي آمنوا به وارتضوه، وهو دستور الحكم، يسير الحاكم في حدوده لا يتعداه، فإن فعل وجبت طاعته، وإلا فلا طاعة له على مسلم.
هذه الصورة الدقيقة للحكم الإسلامي تنأى به عن الفكرة الثيقراطية، فهو كما ترى حكم مقيد لا سبيل للقائم به إلى السلطان المطلق، وفي طبيعة الحكم الثيقراطي أن يكون مطلقًا لا يعرف قيدًا إلا هوى الحاكم وحرصه على الاحتفاظ بسلطانه، وهذا الحرص هو مصدر الزعم بأن إرادة هذا الحاكم الثيقراطي من إرادة الله، وأنها لذلك هي القانون، بل هي فوق القانون؛ بيد صاحبها كل شيء: بيده العذاب والرحمة، والشقاء والنعمة، والحياة والموت، شتان ما بين هذا وبين تقيد الحاكم بمشاورة، وبما أنزل الله في كتابه.
ويذهب قوم إلى أن التقيد بما أنزل الله في كتابه يهدر إرادة الشعب ويقضي عليها، ويحول دون تطور التشريع مع تطورها، وأنه يجعل الحكومة الإسلامية ثيقراطية في أسها وجوهرها، وهذا اعتراض لا مسوغ له، فما ورد في القرآن من التشريع لا يعدو المبادئ العامة التي تقررها قواعد العدل مصورة في مثلها الأعلى، أما ما جاء فيه من تفصيل لبعض هذه المبادئ العامة فإنما يتناول أمورًا بذاتها محصورة العدد، والمبادئ العامة التي قررها القرآن ضرورية لحياة الجماعة الحرة، فالخروج عليها يفسد هذه الحياة، وقد ثبت على التاريخ أن ما يخالف هذه المبادئ قد استحال قيامه في البلاد التي تلائم بين حرية الفرد ونظام الجماعة، والتي تقر لذلك نظام الأسرة والملك والميراث، ثم تفرض قدرًا من الاشتراكية يقتضيه تضامن الجماعة، وتدعو إليه مبادئ الرحمة الإنسانية التي تعد في الإسلام قاعدة مقررة لا كمالًا نفسيًّا وكفى.
ولو أن تحديد ما جاء في كتاب الله ترك لطائفة خصت به، كما خصت طائفة الكهنة في بعض الأديان بإعلان إرادة الله، لكان للخوف من إهدار إرادة الشعب موضع، أما والإسلام يأبى هذا التخصيص ويجعل الناس سواء في الحرص على إدراك ما أمر الله به وما نهى عنه، وفي محاسبة الحاكم على تصرفاته، فالفكرة الثيقراطية في الحكم الإسلامي منتفية لا وجود لها على الإطلاق.
وهذا الحكم الإسلامي المقيد خاضع لرقابة المسلمين جميعًا، لكل فرد منهم أن يحاسب القائم به، وليس لطائفة أن تستأثر لنفسها من أمور الحكم بما تمتاز به على غيرها من الطوائف، وقد رأيت في تصرف أبي بكر شدة الحرص على التقيد بكتاب الله والتأسي برسوله في التنزه عن كل مطامع الدنيا، ثقة منه بأن من ساس أمور الناس فأفاد لنفسه منها، كان ظالمًا لنفسه وللناس.
ولقد بلغ أبو بكر من هذا التنزه حدًّا يحسبه أهل جيلنا ممعنًا في المبالغة، لم تغيِّر الخلافة ولا غيَّرت الإمارة على المؤمنين من حياته، ولم تنتقل به من داره إلى دار غيرها، وقد نسي منذ تولي أمور المسلمين نفسه ونسي أهله وأبناءه، وتجرد لله تجردًا مطلقًا، وأوجب على نفسه أن يشعر بضعف الضعيف وحاجة المحتاج، تحقيقًا لمعنى الإخاء في أسمى صوره، وإيذانًا بأنه ليس له في الحياة هوى، وأنه يقدر لذلك على أن يقيم بين الناس عدلًا منزهًا لا يعرف محاباة، وإنما يعرف حدود الله في أن يعيش الناس جميعًا في ظل عدله، جل شأنه، آمنين مطمئنين.
حكومة ذلك شأنها، لم تعرف السلطان المطلق ولم يكن للكهنة وجود فيها، لا يمكن أن تكون ثيقراطية اللون، وهي لم تكن أرستقراطية، ولم يكن استئثار المهاجرين والأنصار باختيار الخليفة من الأرستقراطية في شيء، فقد كان هؤلاء رجالًا من طبقات شتى، وهم إنما استأثروا بالأمر صونًا للنظام القائم ودفاعًا عنه، ثم إنهم كانوا طبقة مؤقتة تزول بزوال أفرادها، لا يرثها أحد، ولا تقوم مقامها طبقة أخرى، بل لقد نازعهم أهل مكة السبق كما رأيت، وولاية بني أمية ثم بني العباس أمر المسلمين من بعدُ شاهد قوي على أن الفكرة الأرستقراطية لم يكن لها بين المسلمين الأولين وجود.
وإنما كانت حكومة أبي بكر حكومة شورى في منشئها وفي نزعتها، بويع الصديق بالانتخاب العام، وبويع لصفاته الذاتية ولمكانته من رسول الله، لا لأسرته ولا لعصبية قبيلته، ولم يطلب أبو بكر البيعة لنفسه، بل كان يرشح عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح ليبايع المسلمون أيهما شاءوا، وكان يرشحهما والأنصار ينازعون المهاجرين الأمر ويتهمونهم بأنهم يريدون غصبه منهم، ولقد تم ذلك كله في اجتماع عام، هو اجتماع السقيفة، ألقيت فيه الخطب، وكانت فيه المداورات الانتخابية أبرع ما تكون، فلما أقبل الناس على البيعة لم يكن المهاجرون أسبق إليها من الأنصار، وكان عمر وأبو عبيدة أول من مهد لها ثم أتمها.
هذه بيعة أنشأها الشورى؛ فليس انتخاب رئيس الجمهورية في فرنسا، بل في أمريكا، بأكثر حرية منها، فلما تولى أبو بكر الحكم كانت أول خطبة له موطدة أسس الشورى مثبتة قواعدها، ألم يقل للناس إثر بيعته العامة: «لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني»؟ أَوَلم يقل لهم: «أطيعوني ما أطعت الله ورسول فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم»؟ هذا إقرار صريح بحق الرأي العام في مراقبته وإرشاده، وبحق الناس في العصيان إذا عصى الخليفة الله وصدف عن أمره، والنتيجة المنطقية لتقرير مبدأ العصيان هي الإقرار للعصاة بحقهم في عزل من عصوه، ولا نحسب معنى أبلغ في تقرير مبادئ الشورى من هذا المعنى.
ومع أن الحرب امتدت طيلة عهد أبي بكر كما رأيت، لقد قام حكمه على الشورى في الجليل والصغير من شئونه، فهو لم يكن يبت في أمر قبل أن يشاور الناس فيه، ولم يكن يميز طائفة من الناس على طائفة في القضاء أو في العطاء، وهو لم يعرف من أبهة الملك ومن جاه السلطان ما عرف أهل الملك والسلطان في أمم العالم جميعها، وكان المسلمون أمامه سواء، وللذين يدخلون في الإسلام من غير أهله ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وإنما أبى الصديق على الذين ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام أن يشتركوا في قتال الفرس؛ لأنه حرص على أمن الدولة وسلامتها؛ فلما زالت مخاوفه أوصى عمر أن يمد المثنى بهم في حروب العراق.
بذلك مهد أبو بكر للتطور الذي أشرنا إليه في نظام الحكم، وهيأ الأسباب لوحدة بلاد العرب السياسية بعد أن تمت لها وحدتها الدينية، وكانت مرونة أبي بكر وكان حكمه من أقوى العوامل في التمهيد لهذه الوحدة السياسية، وقد رأيته كيف عفا عن زعماء الثائرين باليمن وغير اليمن من البلاد التي ارتدت في سبيل استقلالها؛ عفا عن قرة بين هبيرة، وعن عمرو بن معدي كرب، وعن الأشعث بن قيس، وعن غيرهم من سادات العرب، فكان عفوه عنهم بعد الذي أبداه من الحزم والشدة مع غيرهم داعيًا لهم ولأقوامهم أن يرتبطوا بالمدينة في وحدة لا تنفصم عراها، وزادت الشورى التي أقام عليها أبو بكر حكمه هذه الوحدة قوة، وزاد فتح العراق وفتح الشام جميع العرب عليها حرصًا.
وكان طبيعيًّا أن يقوم الحكم في ذلك العهد على أساس الشورى، فقد نشأ الإسلام في بلاد العرب، وكان كتابه عربيًّا، وكان رسول الله به عربيًّا، وكانت بلاد العرب تعيش يومئذ في نظام بلغت الحرية فيه أقصى مداها، ذلك أن الحرية كانت أعز شيء على العربي، بدويًّا كان أو حضريًّا، وفكرة المساواة متأصلة في النفس البدوية، كذلك كانت ولن تزال، وقد زادت تعاليم الإسلام هذه الفكرة قوة إذ سمت بها إلى المساواة التامة أمام الخالق البارئ المعز المذل، لا يتفاضل الناس أمامه جل شأنه إلا بأعمالهم، ولا فضل لعربي على أعجمي منهم إلا بالتقوى، فأما الإخاء الذي يتم مع الحرية والمساواة شعار الحكم الشعبي في عصرنا، فقد بلغ به الإسلام مبلغًا ما أشده وضوحًا في قول رسول الله: «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.» لا غرو، وهذه تعاليم الإسلام التي نشرها رسول الله بين الناس والتي تتفق مع أكرم ما في النفس العربية من سجايا، أن تتوطد الوحدة العربية حول هذا النظام الذي ثبَّت أبو بكر قواعده، وأن تؤدي سرعة التطور إلى تماسك هذه الوحدة وإلى استقرارها.
وقد امتدت حكومة أبي بكر إلى ما وراء بلاد العرب، ومهدت للإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف، أفكان ذلك مصادفة محضة تضافرت العوامل على نجاحها، أم إن التطور الذي صورناه وأدى الإسلام الناشئ إليه قد حتم هذا الفتح، وبلغ به مداه حين بلغت الإمبراطورية الإسلامية مداها؟
لا أتردد في القول بأن هذا التطور كان محتومًا؛ لأن تعاليم الإسلام تنطوي بطبيعتها عليه، فالإسلام في جوهره إمبراطوري، كما أنه في جوهره شعبي، وإن اختلفت الفكرة الإمبراطورية فيه عن الفكرة الإمبراطورية في عهدنا الحاضر في أسسها وفي غاياتها.
ويرجع الخلاف إلى أن الإسلام يدعو إلى حرية العقيدة، ويفرض على المؤمنين به أن يدافعوا عنها بأموالهم وأنفسهم، وهو إذ يدعو إلى هذه الحرية في العقيدة لا يفرض على الناس أن يدينوا به على كره منهم، فلا إكراه في الدين، وإنما يريد لكل إنسان حرية النظر والتقدير حتى يستمع إلى القول فيتبع أحسنه، وهو مطمئن إلى أن الناس متى عرفوا تعاليمه اتبعوه؛ لأنه يدعو إلى ما يرضاه العقل وما يتفق مع الفطرة السليمة في الإنسان.
وحرية العقيدة كانت ولا تزال في حاجة إلى الدفاع عنها وإلى الاستشهاد في سبيلها، فالظالمون لا يطيقونها، بل يمقتونها أشد المقت، والذين يريدون أن يستغلوا الشعوب يزينون للشعوب أسوأ ما في عقائدهم وأشده فسادًا؛ وهم لذلك لدٌّ في خصومة الأحرار المصلحين، أما والإسلام يريد الإصلاح ما استطاع، يقيمه على أساس من الرأي الحر يقتنع به صاحبه فيؤمن به، وللناس بعد ذلك أن يكيفوا مصالحهم في هذه الحياة كما يرون؛ لأنهم أعلم بأمور دنياهم، فالفكرة الإمبراطورية في الإسلام إنسانية روحية، غايتها الأولى تحرير العقل إلى حيث يسمو على كل ضغط وكل اضطهاد.
والحجة القاطعة على ذلك أن المسلمين لم يفرضوا دينهم على البلاد التي فتحوها، ولم يُكرهوا الناس يومًا حتى يكونوا مؤمنين، بل إنهم كانوا إذا فتحوا بلادًا أباحوا لأهلها حرية العقيدة، فمن أسلم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن آثر دينًا غير الإسلام أدى الجزية، ولم تكن الجزية مغرمًا يفرض أية ذلة أو خضوع، وإنما كانت تقابل الزكاة المفروضة بحكم الدين على المسلمين، لإقامة نظام الدولة وللدفاع عن كيانها، ولقد رأيت فيما عقده المسلمون من معاهدات الصلح مع أهل العراق وأهل الشام أن الجزية كانت تؤدى لقاء دفاع المسلمين عن أموال من لم يسلموا، وعن حريتهم في عقيدتهم وإقامة شعائر دينهم، ولذلك كانت هذه المعاهدات تنص على حماية بيعهم، وكنائسهم، ومعابدهم، وأحبارهم، ورهبانهم، فإذا لم يقم المسلمون بالتزاماتهم المفروضة في الصلح أعفي غير المسلمين من دفع الجزية بحكم العهود وبنصها الصريح.
إمبراطورية تقوم على هذه الأسس تختلف أغراضها عن الأغراض الإمبراطورية كما فهمها الرومان، وكما نفهمها في العصر الحاضر، اختلافًا جوهريًّا، فهي لا تجعل خضوع الناس للعرب أو لشعب بذاته غايتها، وإنما غايتها الأولى أن يعيش الناس أحرارًا، وأن تربط بينهم أواصر الرحمة والمودة والعدل، وأن يكون للأمم المفتوحة من ذلك ما للأمة الفاتحة، وكما يقوم الحكم في مهد الإسلام على أساس الشورى، يجب أن يقوم في كل أمة فتحها المسلمون على أساس الشورى، وأهل هذه الأمم يتمتعون بالحقوق التي يتمتع بها العرب؛ من أسلم فله ما للعرب المسلمين وعليه ما عليهم، ومن لم يسلم فله ما للعرب غير المسلمين؛ وعليه ما عليهم، فالذين احتفظوا بنصرانيتهم من أهل العراق أو من أهل الشام، مثلهم كمثل الذين احتفظوا بنصرانيتهم في نجران وفي غير نجران من بلاد العرب، وإنما يربط بين هذه البلاد التي تدين بالإسلام رباط واحد، ذلك رباط التوحيد والدعوة إليه والدفاع عن حرية هذه الدعوة، أما فيما وراء ذلك فأمر البلاد التي تؤلف الإمبراطورية الإسلامية كأمر بلاد العرب في عهد الرسول؛ عصبة أمم تسعى لغرض إنساني بالغ غاية السمو، تجاهد في سبيله، وتعمل لإعلاء كلمته، وسبيلها إلى هذه الغاية الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖوَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (يونس: ١٠٨).
لم ينفسح الأمد لأبي بكر كي يقيم على هذا الأساس نظامًا للحكم في البلاد التي فتحها المسلمون في عهده، وقد ترك خالد بن الوليد لأهل المدن المفتوحة في العراق أن يتولوا إدارتها، في حين احتفظ المسلمون بسياسة الدولة وتوجيه شئونها العامة، ولم يكن ذلك تنظيمًا للحكم، وإنما كان ضرورة قضت بها الخطط الحربية في وقت كان القتال ناشبًا فيه بين المسلمين والفرس، فكان الأمر فيه للقيادة العسكرية.
وكان شأن الشام حين الفتح كشأن العراق، ولقد كان الحكم على أساس الشورى جديدًا بين الشعوب التي فتحها المسلمون، كما كان الإسلام جديدًا بين الأديان التي أحاطت بشبه الجزيرة من كل جانب، وإنما كان حكم الفرد مطلقًا في هذا العهد، وكان الرهبان والكهنة وسائر رجال الدين يؤيدون هذا الحكم المطلق، ويخلعون على أصحابه قدسية رهيبة تنخلع القلوب من هيبتها، ويخر الناس سجدًا أمامها، لذلك لم يلبث الناس حين رأوا هذا الحكم الجديد قائمًا على الإنصاف والعدل، متحريًا إرادة الشعب في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه، أن أقبلوا عليه ورحبوا بأهله؛ فكان إقبالهم سببًا من أسباب النصر الذي أفاءه الله على المسلمين، فمد إمبراطوريتهم في سنوات محدودة لتحل محل الإمبراطوريتين الرومية والفارسية، ولتتخطى حدودهما إلى الهند شرقًا وإلى شمال إفريقية غربًا، فتنشر حيثما ذهبت لواء الحق والعدل والإيمان الصادق، وتقر مبادئ الحرية والإخاء والمساواة في أسمى صورها وأجدرها بالإنسانية الطامحة إلى الكمال.
لم ينفسح الأمد لأبي بكر كي يقيم نظامًا للحكم في البلاد التي فتحها المسلمون لعهده، ولم ينفسح له الأمد كذلك كي يقيم نظامًا ثابتًا للحكم في بلاد العرب نفسها، وكل ما تلوته في هذا الكتاب من خطب الخليفة الأول، ومن تصرفاته في إقامة عمر بن الخطاب على القضاء، وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت على الرسائل، يشهد بأن الفكرة الإسلامية في نظام الحكم كانت إلى يومئذ في طور الاستجنان، واضحة الأساس في كتاب الله وفي سنة رسوله، مبهمة التفاصيل فلا يستطيع أحد أن يذكر عنها ما يستطيع أن يذكره عن الحكومة الإسلامية في العهد الأموي أو في العهد العباسي، بل في عهد عمر وفي عهد عثمان، وذلك طبيعي في حكومة ألقت الأقدار عليها أن تكون حكومة انتقال من عهد إلى عهد جديد يختلف عن سابقه كل الاختلاف في لون الحضارة، وفي العقيدة، وفي طرائق التفكير وفي كل ما يتصل بنظم الحياة.
وهو طبيعي كذلك في عهد نضال وحرب، حكومته أدنى إلى الحكومة العسكرية منها إلى الحكومة المدنية، فالنظم المدنية تتقلص حين الحرب وتكاد تتفانى أمام النظم العسكرية، وذلك في البلاد التي استوت النظم المدنية فيها أمدًا طويلًا وأجيالًا متعاقبة، ما بالك وبلاد العرب لم يستقر فيها نظام مدني ثابت موحد قبل الإسلام! لا جرم في هذه الحال أن تطغى نظم الحرب والجهاد متسلطة على كل النظم، وأن تتأثر الحياة المدنية بتطورات الحرب أبلغ التأثر.
فإذا ذكرت أن هذه الحرب كانت حربًا أهلية في العام الأول من حكم أبي بكر، وأنها كانت قائمة من أجل الحكم ونظامه، ثم ذكرت أن مواجهة الفرس في العراق بدأت والحرب الأهلية ما تزال قائمة، وأن مواجهة الروم في الشام كانت وحرب العراق في أدق أدوراها، أيقنت أن التفكير في تنظيم حكم مستقر واضح التفاصيل لم يكن أمرًا ميسورًا، وأن أبا بكر كان في شغل بمواجهة الأسدين فارس والروم عن كل أمر سوى ما يحقق للمسلمين اجتماع الكلمة فيما بينهم والظفر بعدو الله وعدوهم.
وكان نظام هذه الحكومة العسكرية أدنى إلى البداوة التي سادت بلاد العرب وقبائلها من قبل عهد الرسول. لم يكن هناك جيش نظامي، بل كانت الفروسية تجعل من كل عربي جنديًّا، فإذا دقت طبول الحرب، ونادى المنادي للقتال خرجت القبائل والقرى وعلى رأس كل جماعة زعيمها، وقد رأيت كيف خرج العرب من أهل الجنوب حين دعوا لقتال الروم في الشام ومعهم نساؤهم وأبناؤهم، ومعهم ميرتهم وذخيرتهم، لا يكلفون الحكومة المركزية شيئًا، ويعتمدون في معاشهم على ما يغنمون في الحرب.
فقد كانوا ينفلون أربعة أخماس الغنائم حين الحرب، ويرسل الخمس إلى الخليفة ليرده على بيت المال، ولينظم به الشئون العامة القليلة التي يتولاها بصورة مباشرة، وكانت رعاية الفقراء من أهل المدينة ومن الوافدين عليها في مقدمة ما ينفق الخليفة هذا الخمس فيه، وكان أبو بكر حريصًا على أن يوزع الغنائم على هؤلاء وعلى كل ذي حق في بيت المال أول ما ترد إليه، لذلك كان بيت مال المسلمين في بيته بالسنح، فلما انتقل إلى المدينة نقله معه، وقيل له في ذلك وطلب بعضهم إليه أن يجعل عليه حراسًا وخزنة فأبى؛ لأنه لم يكن يحتفظ فيه بما يستوجب الحراسة، ولم يكن يختزن ما يخشى عليه عدوان المعتدين.
فهذه الصورة من حكومة أبي بكر تشهد بأنها كانت أدنى إلى بساطة البداوة، وأنها كانت عربية صرفة، لم تتأثر في قليل ولا كثير بالنظم التي كانت قائمة ذلك العصر في بلاد الروم أو في بلاد فارس، وهي مع هذه البساطة الحلقة القوية التي ربطت بين عهد الرسالة وعهد الإمبراطورية، واتصالها الزمني الوثيق بعهد الرسالة جعلها به أشبه، فلم يكن أبو بكر يصنع شيئًا كان رسول الله يدعه، ولم يكن يدع شيئًا كان رسول الله يصنعه، لكنه لم يجمد مع ذلك جمود المقلدين، بل فتح له تأسيه برسول الله باب الاجتهاد في سياسة المسلمين واسعًا، فهداه اجتهاده إلى أن فتح الله له العراق والشام، ثم مهد لحكومة العرب الموحدة أن تقوم من بعده على أساس من الشورى في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه، لم يتزمت في أمر ولم يفرط، وإنما اهتدى بنور الله لمصلحة عباد الله، فكان أكثر ما هداه الصراط المستقيم إيمانه بأنه محاسب أمام الله، كما أنه محاسب أمام عباده، والله شديد الحساب.
مرت الحكومة الإسلامية من بعد أبي بكر في أطوار شتى، فقد بدأ ابن الخطاب ينشئ الديوان في عهده متخذًا من نظام الحكم في فارس وفي الروم مثالًا ينسج عليه مع اعتصامه بكتاب الله وحدوده، ثم دنا عهد عثمان من الحكم المطلق دنوًّا لا يتفق وتقاليد العرب؛ فكان ذلك مقدمة الثورة التي انتهت إلى مقتله، وانقلبت إمارة المؤمنين في عهد الأمويين ملكًا عضودًا، يتوارثه أهل البيت المالك، وكذلك كان الأمر في عهد العباسيين، وفي أثناء هذه الأطوار كانت ليد الأعاجم من الفرس والروم أثر، لعله كان خفيًّا في عهد عمر وعثمان، ثم بدأ يظهر واضحًا بعض الشيء في عهد الأمويين، ليتجلى من بعد ذلك صريحًا كل الصراحة في عهد بني العباس.
وفي هذه الأثناء كان علماء المسلمين، وجلُّهم من الأعاجم، يضعون لنظام الحكم القواعد والتفاصيل يردونها إلى كتاب الله وسنة رسوله، وكان الخلاف يقع بين هؤلاء العلماء على هذا النظام، فتقوم الثورات بسببه فتطيح بالحاكم حينًا، وتقمع بيد البأس والبطش فيستقر الأمر لصاحب السلطان حينًا آخر، ما أعظم الفرق بين حكومة أبي بكر في بساطتها العربية المتأثرة بحياة البادية، وبين هذه الحكومات الأموية والعباسية التي وجدت من العلماء والفقهاء من شرع لها النظم المفصلة، والقواعد المترامية الأطراف!
كان إيمان أبي بكر بأنه محاسب أمام الله وأمام الناس هو الذي هداه سبيله، وخشية هذا الحساب جعلته لا يقدم على أمر ولا يحجم عنه، حتى يشاور ويروئ في المشورة ويستخير الله، فإذا خار له صح عزمه، فكان الحزم الذي لا يعرف التردد ولا الهوادة، لا يعرض عليه أمر المسلمين حتى يحسمه برأي قاطع.
وقد رأيت ما كان من ذلك طيلة عهده، ثم رأيته كيف استمع في مرضه للمثنى الشيباني حين جاء إليه من العراق يشير باستعمال الذين عادوا إلى الإسلام بعد ردتهم في حرب فارس، وكيف أوصى عمر أن يمد المثنى بهؤلاء ليسيروا إلى الميدان معه، وفي هذا المرض كان الصديق أكثر ما يكون في أمور المسلمين تفكيرًا، وأشد ما يكون على وحدتهم حرصًا، وأعظم ما يكون من خلافهم إشفاقًا، لذلك أوصى، فكانت وصيته آخر عمل له في الحكم لخير الإسلام ولخير المسلمين.