مرض أبو بكر ووفاته
قضى أبو بكر على ردة العرب وعلى الثورة التي اندلعت إثر وفاة الرسول بسبب هذه الردة فأشعلت شبه الجزيرة نارًا، ثم إنه فتح العراق وأوشكت جيوشه أن تدخل المدائن عاصمة فارس، كما تقدم في فتح الشام وساير النصر أعلامه فيها إلى دمشق، وبينما تبهر هذه الانتصارات أنظار العالم إذا أبو بكر يقيم الحكم في البلاد العربية المتحدة على أساس الشورى، وإذا هو يجمع كتاب الله، فيقر له الجميع بأنه أعظم المسلمين أجرًا في جمعه بين اللوحين، هذه الأعمال ضخمة عظيمة أقرت الدين الحنيف في منزل الوحي، ومهدت لإقامة الإمبراطورية الإسلامية ولانتشار هذا الدين الحنيف فيها، وليقام الحكم بين أهلها على أساس متين من الإنصاف والعدل، وكان ذلك كله في سنتين وثلاثة أشهر.
أليست هذه بعض معجزات التاريخ؟! في سنتين وثلاثة أشهر تطمئن أمم ثائرة وتصبح أمة متحدة قوية مرهوبة الكلمة عزيزة الجانب، حتى لتغزو الإمبراطوريتين العظيمتين اللتين تحكمان العالم وتوجهان حضارته، لتنهض بعبء الحضارة في العالم قرونًا بعد ذلك، هذا أمر لم يسجل التاريخ مثله، فلا عجب أن يقتضي من أبي بكر مجهودًا تنوء به العصبة أولو القوة، أما وقد تخطى أبو بكر الستين يومَ بويع، فطبيعي أن يهيض هذا المجهود قوته وأن يعجل به إلى لقاء ربه.
ولعلك بعد الذي تلوته من تفصيل هذه الأعمال الجسام أن تقدر هذا المجهود وما كان له من أثر، بل لعلك قد رأيت أن هذا المجهود لا يمكن أن ينهض به رجل إلا إذا أوتي من توفيق الله ومعونته ما لا يؤتاه إلا الصديقون، هذا ما آمن به أبو بكر، ولهذا نقش على خاتمه: «نِعْم القادر الله.»
عجَّلت عظمة المجهود وتقدُّم السن وفاة الخليفة الأول، وإن جرت رواية في تعليل وفاته بأن اليهود دسوا له السم في طعام تناول منه عتاب بن أسيد معه، كما تناول منه الحارث بن كلدة لقيمات ثم كف، وأن هذا السم كان بطيء الأثر يقتل بعد عام من تناوله، ولذلك مات عتاب بمكة في اليوم الذي قبض فيه أبو بكر بالمدينة، وهذه الرواية لم تؤيد بسند جدير بالثقة. ومما يزيد من تهافتها أن أبا بكر لم يكن بينه وبين اليهود في خلافته نزاع، وأن اليهود جلوا منذ عهد رسول الله عن المدينة.
والرواية الراجحة في مرض أبي بكر ووفاته تسند إلى ابنته أم المؤمنين عائشة وإلى ابنه عبد الرحمن، قالا: كان أول ما بدأ مرض أبي بكر أنه اغتسل في يوم بارد فحمَّ خمسة عشر يومًا لا يخرج إلى الصلاة؛ وكان يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس.
على أن أبا بكر لم يفتأ في الأسبوعين اللذين قضاهما في مرضه إلى وفاته دائم التفكير في شئون المسلمين، دائم الحساب لنفسه عما قدم مذ تولى أمرهم، فقد كان قوي الشعور منذ مرض بأن أجله جاء، وأنه ملاق ربه، وقد كان مغتبطًا لذلك مطمئنًّا له؛ لأنه كان في السن التي اختار فيها رسول الله الرفيق الأعلى، ولأنه كان يشعر بأنه أدى لله حقه، قيل له يومًا: لو أرسلت إلى الطبيب! فكان جوابه: قد رآني. قيل: فما قال لك؟ قال: إني أفعل ما أشاء. يشير إلى أنه وكل الأمر لله، وأنه سعيد بقضاء الله، وأن أكبر همه أن يضمه الله إليه.
وأكثر ما شغل به أبو بكر أثناء مرضه إشفاقه من مصير المسلمين بعده، لقد ذكر اختلاف المهاجرين والأنصار بسقيفة بني ساعدة حين مات النبي، وذكر ما كان يوشك أن يحدث بين القوم لولا أن جمع الله كلمتهم على بيعته، ولئن اختلفوا حين وفاته ليكونن اختلافهم أجسم خطرًا، فلم يبقَ الأمر دائرًا بين المهاجرين والأنصار دون سائر العرب، بل لقد جاهد العرب جميعًا ولا يزالون يجاهدون في العراق والشام، يواجهون فارس والروم، فإذا قبض واختلفوا لم يقف خلافهم في حدود سقيفة بني ساعدة، بل يتخطاها إلى مكة والطائف، وقد ينتقل إلى اليمن، وعند ذلك تعود الثورة تتلظى في بلاد العرب، وهي إن عادت لم يكن مدارها ركنًا من أركان الدين، بل السلطان وولاية الأمر. واختلاف الناس على أمور الدنيا أشد إثارة للشر وإطارة لنار الفتنة، وما أجسم الخطر من ذلك على الإسلام والمسلمين في وقت يواجهون فيه الأسدين فارس والروم! فكيف يتلافى أبو بكر هذا الخطر، وكيف يجنب المسلمين ما ينشأ عن الفتنة من شر مستطير؟
فكر في هذا أثناء مرضه وطال فيه تفكيره، وألهمه الله الرأي وعزم له فلم يتردد، لا سبيل إلى ملافاة ما يشفق منه إلا أن يستخلف من يقوم بالأمر من بعده، وأن يجمع كلمة المسلمين عليه، هذا أمر لم يصنعه رسول الله؛ فقد قبض ولم يستخلف، لكن ذلك كانت فيه لله حكمة، وحكمته ألا يظن الناس أن من استخلفه رسول الله قد استمد الأمر على المسلمين من عند الله، فأصبح خليفة الله، وقد أراد الله من فضله أن يجمع كلمة المسلمين من بعد على أبي بكر وأن يهيئ له من التوفيق ما رأيت، فأما إن استخلف أبو بكر فإنما يستخلف برأيه، وبإرادة المسلمين، ولن يكون لخليفته على المسلمين إلا ما كان لأبي بكر، ولن تكون حكومته إلا كما كانت حكومة أبي بكر.
من ذا تراه يستخلف؟ لقد عجم عيدان من حوله من أولي الرأي جميعًا في عهد النبي، ولقد عجم عيدانهم مدة خلافته، وهو اليوم أشد ثقة بأن عمر بن الخطاب خير من يخلفه، لكنه إن فرض ذلك على المسلمين فقد يثقل أمره عليهم، وقد يبرمون به، لذلك دعا عبد الرحمن بن عوف وقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب. قال عبد الرحمن: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلمنا به. قال أبو بكر: وإن. قال عبد الرحمن: يا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة. قال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقًا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرًا مما هو عليه، ويا أبا محمد، قد رمقته فرأيته إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه. وسكت هنية ثم قال: لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئًا.
ودعا الصديق عثمان بن عفان بعد عبد الرحمن بن عوف، وقال له: يا أبا عبد الله، أخبرني عن عمر. قال عثمان: أنت أخبر به. فقال: على ذلك يا أبا عبد الله! قال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. قال أبو بكر: يرحمك الله يا أبا عبد الله! والله لو تركتُه ما عدوتك! لا تذكرن مما قلت لك ولا مما دعوتك له شيئًا.
ولم يكتفِ أبو بكر بمشاورة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، بل شاور كذلك سعيد بن زيد وأسيد بن حضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار، وسمع بعض أصحاب النبي بمشاورات أبي بكر وأنه يريد استخلاف عمر، فأشفقوا من شدة ابن الخطاب وغلظته أن يفرق ذلك كلمة المسلمين، فاجتمع رأيهم على أن يهيبوا بأبي بكر ليرجع عن عزمه، واستأذنوا فدخلوا عليه، فقال طلحة بن عبيد الله: «ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم بعد لقائك ربك؟!» هنالك غضب أبو بكر وصاح بقوة والمرض يهزه: أجلسوني! فلما أجلسوه وجه الحديث إلى القوم الذين دخلوا عليه فقال: «أبالله تخوفونني! خاب من تزود من أمركم بظلم! أقول: اللهم استخلفت على أهلك خير أهلك.» ثم اتجه إلى طلحة فقال له: «أبلغ عني ما قلت لك من وراءك.»
واضطجع أبو بكر وقد هده هذا الحوار، فانصرف عنه القوم لم يبقَ منهم إلا عبد الرحمن بن عوف، وقيل: بل خرج عبد الرحمن معهم ثم عاد إليه صبح اليوم التالي، وقال يحييه وقد جلس إلى جانب سريره: «أصبحت والحمد لله بارئًا.» قال أبو بكر: «أتراه؟» قال: «نعم!» فسكت أبو بكر وسكت عبد الرحمن هنيهة ثم تحدث الصديق وكأنما عنَّاه ما حدث بالأمس: «إني ولَّيتُ أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه.» واستطرد في حديث أحس معه عبد الرحمن بما يغص نفس الخليفة من ألم لحديث القوم، فقال له: «خفض عليك رحمك الله! فإن هذا يهيضك، إنما الناس في أمرك بين رجلين؛ إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا خيرًا، ولم تزل صالحًا مصلحًا.»
واطمأن أبو بكر إلى استخلاف عمر، فدعا عثمان بن عفان، وكان يكتب له فقال له: اكتب، وأملاه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجًا منها وعند أول عهده بالآخرة داخلًا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرًا، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدَّل فلكل امرئ ما اكتسب من الإثم، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله.» ثم ختم الكتاب.
وتذهب بعض الروايات إلى أن أبا بكر أملى عثمان حتى إذا بلغ «إني استخلفت عليكم» أغمي عليه قبل أن يملي اسم عمر بن الخطاب، فكتب عثمان في غيبوبة أبي بكر «إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرًا»، ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ عليَّ، فقرأ عليه فكبر أبو بكر وقال: «أراك خفت أن يختلف الناس إن افتلتت نفسي في غشيتي؟» قال عثمان: «نعم!» وأقر الصديق ما كتب، وقال له: «جزاك الله خيرًا عن الإسلام وأهله.»
خشي أبو بكر مع ذلك كله أن يختلف الناس من بعده، فأشرف من حجرة بداره على الناس بالمسجد وامرأته أسماء بنت عميس ممسكته موشومة اليدين، وقال يخاطب من بالمسجد جميعًا: «أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا.» قالوا: «سمعنا وأطعنا.»
لم يكن ذلك كل ما اختلجت به نفس أبي بكر وما دار بخاطره أثناء مرضه، فأنت تذكر أنه قد ترك التجارة ليفرغ لما يصلح شئون المسلمين، وأن أصحابه جعلوا له من بيت المال ما يصلح به نفسه وعياله، فلما رأى أنه مشفٍ على الموت لم تطب نفسه بما أخذ من بيت المال، بل قال: «ردوا ما عندنا من مال المسلمين فإني لم أصب من هذا المال شيئًا، وإن أرضي التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم.» واستخلص عمر ثمن هذه الأرض ورده على بيت المال تنفيذًا لأمر أبي بكر، وجعل يقول: «يرحم الله أبا بكر! لقد أحب ألا يدع لأحد بعده مقالًا!»
وفي رواية أن عمر قال هذه العبارة لأهل أبي بكر حين أبلغوه مشيئته في هذا الأمر ثم أردفها بقوله: «وأنا والي الأمر من بعده، وقد رددتها عليكم.»
ولسنا نثق بصحة هذه الراوية وإن كانت البينات قائمة على أن أبا بكر إن كان قد ترك شيئًا بعده فإنما ترك غير كثير، فقد أوصى بخمس ماله وقال: «آخذ من مالي ما أخذ الله من فيء المسلمين.» أو قال: «لي من مالي ما رضي ربي من الغنيمة.» ولعل بعضهن ود لو أن أبا بكر أوصى بأكثر من الخمس، فأجابه: «لأن أوصي بالخمس أحب إليَّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إليَّ من أن أوصي بالثلث، ومن أوصى بالثلث فلم يترك شيئًا.» فلو أن أبا بكر لم تكن له تركة وصح ما روي عن عائشة أنها قالت: «ما ترك أبو بكر دينارًا ولا درهمًا ضرب الله سِكته» لما أوصى بالخمس؛ ولا بما دون الخمس، فإنما يوصي من يملك شيئًا وإن قل.
وكان أبو بكر قد وهب لعائشة أرضًا بالعالية، كان النبي أعطاه إياها، فأصلحها وغرس فيها ثم جعلها لابنته أم المؤمنين، فلما حضر وعائشة تمرضه جلس فتشهد ثم قال: «يا بنية، إن أحب الناس غنى إليَّ بعدي أنت، وإن أعز الناس فقرًا عليَّ بعدي أنت، وإني كنت نحلتك أرضي التي تعلمين، وأنا أحب أن ترديها عليَّ فيكون ذلك قسمة بين ولدي على كتاب الله؛ فإنما هو مال الوارث، وهما أخواك وأختاك.» ولم يكن لعائشة غير أخت واحدة، فسألت أباها في ذلك فقال: «ذو بطن ابنة خارجة فإني أظنها جارية.»
وبدأ أبو بكر يعالج سكرات الموت، وعائشة ابنته إلى جانبه، فلما رأته كذلك تمثلت بهذا البيت من قول حاتم:
فنظر الصديق إليها كالغضبان ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين، ولكن وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (ق: ١٩).
ولما ثقل جلست عند رأسه وتمثلت:
وقيل: إن أبا بكر هو الذي تمثَّل بهذه البيتين، وإن آخر ما تكلم به: «رَبِّ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ».
وقبض أبو بكر يوم الاثنين لإحدى وعشرين ليلة خلت من شهر جمادى الآخرة للسنة الثالثة عشرة للهجرة (٢٢ أغسطس سنة ٦٣٤)، وهو في الثالثة والستين من عمره توفي مساءً بعدما غابت الشمس، ودفن ليلًا، وتولت زوجه أسماء بنت عميس غسله وعاونها ابنه عبد الرحمن إذ كان يصب الماء، ثم إنه حُمل على السرير الذي حُمل عليه رسول الله إلى المسجد ليدفن كما أوصى إلى جواره ﷺ في بيت عائشة.
ووضع الجثمان في المسجد بين القبر والمنبر، وتولى عمر صلاة الجنازة فكبَّر أربعًا، ثم نقل الجثمان ودخل معه عمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأراد عبد الله بن أبي بكر أن يدخل فقال له عمر: «كُفيت.» ودفن أبو بكر في حفرة حفرت له إلى جنب النبي، وجعل رأسه إلى كتف رسول الله، وألصق اللحد باللحد، فلما أهالوا عليه التراب خرجوا وقد ودعوا خليل رسول الله وصفيه بعد أن جمع بينهما الموت، فودعوا أقرب الناس إلى قلب رسول الله وأحبهم إليه وآثرهم عنده، وأشدهم إيمانًا بالله ورسوله.
وقد ارتجت المدينة لوفاة أبي بكر، وتولى الناس دهش كدهشهم يوم قبض رسول الله، وأقبل علي بن أبي طالب مسرعًا باكيًا حتى وقف بالباب فقال: «رحمك الله يا أبا بكر! كنت والله أول القوم إسلامًا، وأخلصهم إيمانًا، وأشدهم يقينًا، وأعظمهم غنى، وأحفظهم على رسول الله ﷺ، وأحدبهم على الإسلام، وأحماهم عن أهله، وأنسبهم برسول الله خلقًا وفضلًا وهديًا وسمتًا، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيرًا، صدَّقت رسول الله حين كذَّبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وسمَّاك الله في كتابه صدِّيقًا فقال: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ، يريد محمدًا ويريدك. كنت والله للإسلام حصنًا، وللكافرين ناكبًا، لم تَضلِل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كالجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف. كنت كما قال رسول الله ﷺ ضعيفًا في بدنك، قويًّا في دينك، متواضعًا في نفسك، عظيمًا عند الله، جليلًا في الأرض، كبيرًا عند المؤمنين، لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى؛ فالضعيف عندك قوي، والقوي عندك ضعيف، حتى تأخذ الحق من القوي، وتأخذه للضعيف، فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك!»
وأبَّنته عائشة أم المؤمنين فقالت: «نضر الله يا أبت وجهك، وشكر لك صالح سعيك؛ فقد كنت للدنيا مذلًّا بإدبارك عنها، وللأخرة معزًّا بإقبالك عليها، ولئن كان أعظم المصائب بعد رسول الله ﷺ رزءك، وأكبر الأحداث بعده فقدك. إن كتاب الله (عز وجل) ليعدنا بالصبر عنك حسن العوض، وأنا متنجزة من الله موعده فيك بالصبر عنك، ومستعينة كثرة الاستغفار لك، فسلم الله عليك، توديع غير قالية لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك.»
وكان عمر بن الخطاب أوجز في القول، وكأنما عقد الرزء لسانه، قال حين دخل على أبي بكر بعد موته: «يا خليفة رسول الله! لقد كلفت القوم بعدك تعبًا ووليتهم نصبًا، فهيهات من شق غبارك، فكيف اللحاق بك.»
وتداولت أنباء الوفاة حواضر العرب وبواديها، فهزت كل نفس وأسبلت الدمع من كل عين؛ واضطرب أهل مكة لسماعها، وبلغ اضطرابهم سمع أبي قحافة فسأل: ما هذا؟ قيل: توفي ابنك. قال: رزء جليل! من قام بالأمر بعده؟ قالوا: عمر. فقال: صاحبه. ولم يزد، وأرادوا أن يردوا عليه حقه مما ترك أبو بكر فأبى وقال: بنوه أحق به، وما كان لهذا الشيخ الفاني بعد هذا الرزء الجسيم إلا أن يلحق ابنه في جوار الله. فتوفي بعد ستة أشهر من وفاته.
أفتدل هذه الكلمات الوجيزة التي نطق بها أبو قحافة على أنه كان أجمل العرب صبرًا لقضاء الله في خليفة رسول الله؟! أم إن جزعه لوفاة ابنه هو الذي أسكته، كما أنه هو الذي عجل به إلى لقاء ربه؟! ما نحسب أبًا يتجلد للمصاب في ابنه إلا تجملًا، وإن تقدمت به السن وأدركه الهرم، لذلك كان حزن أبي قحافة غير حزن سائر العرب، لقد حزن العرب إشفاقًا مما يخبئه الغيب، بعد أن غيبوا في التراب رجلًا كان البر بهم، والعطف عليهم، وإنكار الذات في سبيلهم، وكان إلى ذلك موفقًا كل التوفيق في ولاية أمرهم وسياسة دولتهم، أما أبو قحافة فحزن لأن أعز أجزاء نفسه عليه ذهب، فانهد ركنه وتداعت حياته.
وفدح الخطب أم المؤمنين عائشة، فأقامت النوح على أبيها وشاركتها أخته أم فروة وزوجتاه أسماء بنت عميس وحبيبة بنة خارجة ومن اجتمعن إليهن من نساء المدينة، فلما بلغ عمر ما يصنعن جاء إلى بيت عائشة ونهاهن عن النوح، فلم ينتهين، فقال لهشام بن الوليد: ادخل عليهن فأخرج إليَّ أم فروة بنة أبي قحافة أخت أبي بكر، وسمعت عائشة قول عمر فقالت لهشام: إني أُحرِّج عليك بيتي. قال عمر: ادخل فقد أذنت لك. ودخل هشام فأخرج أم فروة إلى عمر، فعلاها بالدرة فضربها ضربات وهو يقول: تردن أن يعذَّب أبو بكر ببكائكن! إن رسول الله ﷺ قال: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه.» وتفرق النوائح حين رأين ما أصاب أم فروة، ولم تستطع عائشة أن تحول بين عمر وما أراد.
ولعل عمر قد أزعجه هذا النوح لشدة جزعه على أبي بكر، فليس أوجع لنفوسنا من نوح النسوة على ميت نحبُّه ويحز الألم في قلوبنا لفراقه، وحق لعمر ولكل مسلم أن يشتد يومئذ جزعه، بل إننا اليوم لنشاركهم في حزنهم وفيما كان من مخاوفهم، مع علمنا بما أفاء الله على المسلمين في عهد عمر من نصر، وما أراد من فضله أن يتوج به سياسة أبي بكر من نجاح وفوز، فلم يمر الإسلام منذ هاجر النبي إلى المدينة بمثل ما مر به في عهد الصديق من محنة، ولم تسْمُ نفوس المسلمين فوق البأساء والضراء وحين البأس سموها بفضل إيمانه وعزمه، لقد امتحن الله المؤمنين في خلافته فأحسنوا البلاء، واجتاز الدين الناشئ بفضل إيمان الخليفة وعزمه مناطق الأعراف، صلبًا قوي الحياة، كفيلًا بأن يظل العالم بلواء التقدم والحرية، وأن يرفعه إلى حضارة سامية هي وحدها الجديرة بالإنسانية، وقد كانت روح أبي بكر من مصادر هذه القوة، أفكان الإسلام لا يزال في حاجة إلى فيضها؟ أم إنه قد تخطى خلال هاتين السنتين وثلاثة الأشهر مناطق الخطر، فآن له أن يمتد في طمأنينة وأمن، وأن يمد إلى الإنسانية المضطربة يوم ذاك يد النجاة ليقر بينها الإخاء والسلام؟!
لعلنا لا ندري ماذا كان يحدث لو لم يستخلف أبو بكر عمر، ولو لم يخرج على ما أخذ به نفسه، ولم يصنع ما لم يصنعه رسول الله، فقد كان هذا العمل الأخير في حياة الصديق حلقة قوية في السلسلة التي رفعت الإسلام مكانًا عليًّا، والتي أراد الله أن يتم بها كلمته وينصر دينه، ترى لو أن أبا بكر اختار عثمان أو غير عثمان، أفكان الإسلام ينتشر ما انتشر في عهد عمر، ثم يزداد في عهد خليفته انتشاره؟! أم إن اختيار عمر كان توفيقًا من الله للصديق، فكان الفاروق بطل الموقف ورجل الساعة؟! لا غناء اليوم في أن نعرض لهذا الأمر بحكم، لكن الذي لا مرية فيه أن أبا بكر وعمر كانا يتفقان في جوهر النفس على تباين مظاهرهما لينًا وشدة، صفى الإيمان بالله نفسيهما فتنزهتا وطهرتا وسمتا فوق خبائث الدنيا، وتجردتا لله، فكانتا العدل والرحمة والإيثار والحرص على أن ينتصر الحق وتعلو كلمة الله، بذلك كان استخلاف عمر عملًا صالحًا أراد الله به أن يعز دينه، وأن يقر به في الأرض كلمة الحق، وأن يعلي به منار البر والتقوى.
رحم الله أبا بكر ورضي عنه وألحقه بالصالحين.
وليس يسيرًا علينا أن نتثبت من صحة الرواية في الوصية ولا في الدعاء. بل لعل لمن شاء أن يرتاب في نسبة بعض ما انطويا عليه إلى الصديق (رضي الله عنه). وحسبنا أن نذكر عبارته الأخيرة في الوصية: «اجعله من خلفائك الراشدين»، ونذكر إلى جانبها إنكاره على من دعاه «خليفة الله» وقوله: ولكني خليفة رسول الله، لنتبين وجه الحجة لمن يرتاب. فإذا أضفت إلى ذلك ما في تاريخ أبي بكر من اختلاف الروايات ومن ضعيفها كان حقًّا علينا أن نتلقى ما يروى عنه في شيء كثير من الحذر.