العرب حين وفاة النبي
بينما يختلف أهل المدينة ثم يتفقون على بيعة أبي بكر إذا النعاة يسرعون إلى القبائل يحملون إليها النبأ بوفاة النبي، والواقع أنه لم يسر نبأ في بلاد العرب بسرعة البرق ما سار النبأ بوفاة رسول الله، ولم يلبث العرب حين ذاع النبأ فيهم أن اشرأبت أعناقهم من كل صوب يريدون أن يلقوا عن عواتقهم سلطان المدينة، وأن يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل مبعث محمد إليهم وانتشار أمره فيهم، لذلك ارتد العرب في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهودية والنصرانية، وكثر أعداء المسلمين؛ فأصبح هؤلاء لفقد نبيهم كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية.
لقد رأيت ما نجم بالمدينة بين المهاجرين والأنصار من نزاع على خلافة الرسول، ولولا حكمة أبي بكر وعمر وما أراده الله لدينه من النصر لما انحسم النزاع كما انحسم، ولما انتهى إلى النتيجة الموفقة التي انتهى إليها.
ولم يكن ما حدث بالمدينة بالشيء المذكور إذا قيس بما حدث بغيرها؛ فقد هم أهل مكة أنفسهم بالردة عن الإسلام حتى خافهم عتاب بن أسيد عامل رسول الله على أم القرى فتوارى منهم، ولولا أن قام فيهم سهيل بن عمرو فقال لهم بعد أن ذكر وفاة النبي: «إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه.» لترددوا في موقفهم، على أن سهيلًا أضاف إلى هذا الإرهاب ترغيبًا كان له أثره، أضاف: «والله ليتمن الله عليكم هذا الأمر كما قال رسول الله ﷺ.»، ولعل هذه الكلمة كانت أقوى أثرًا في نفوسهم من التهديد، وكانت لذلك سبب رجوعهم عن ردتهم، فقد رأوا الأمر بالمدينة آل إلى أبي بكر وإلى أبناء مكة من قريش، فاطمأنوا إلى ما ذكره سهيل من حديث رسول الله، واستمسكهم بالإسلام وأقاموا عليه.
وهمت ثقيف بالطائف أن ترتد، فقام عثمان بن أبي العاص عامل النبي عليهم فقال: «يا أبناء ثقيف! كنتم آخر من أسلم، فلا تكونوا أول من ارتد.» وذكرت ثقيف موقف النبي منها بعد حنين، وذكرت ما بينها وبين مكة من أواصر النسب والقربى، فاستمسكت بالإسلام، ولعل قيام أبي بكر بالخلافة ونهوض أهل مكة إلى جانبه في أمرها، قد كان له من الأثر في ثقيف مثل ما كان له في أم القرى.
كذلك ثبتت القبائل المقيمة بين مكة والمدينة والطائف على إسلامها، ثبتت عليه مزينة وغِفار وجُهينة وبِليّ وأشجع وأسلم وخزاعة، أما سائر العرب فاضطرب أمرهم، فارتد منهم من كان عهدهم بالإسلام قريبًا، ومن لم تكن نفوسهم قد أشربت تعاليمه، وتبلبلت عقائد سائرهم، ثم كان خيرهم من بقي على الإسلام ولم يرض مع ذلك عن بقاء السلطان لأهل المدينة مهاجريهم والأنصار، هؤلاء رأوا في أداء الزكاة جزية تفرضها المدينة عليهم، وتأباها نفوسهم التي ألفت الاستقلال عن كل سلطان، وهم إنما أدوها منذ أسلموا إلى الرسول الذي يوحى إليه، والذي اصطفاه الله من بين عباده نبيًّا، أما وقد اختار النبي جوار ربه، فأهل المدينة جميعًا لا يفضلونهم في شيء، وليس لهم ما كان للنبي من حق في المطالبة بها.
كانت القبائل التي أبت إيتاء الزكاة هي القبائل القريبة من المدينة من عبس وذبيان ومن انضم إليهم من بني كنانة ومن غطفان وفزارة، أما الذين قَصَتْ ديارهم عن المدينة فكانوا أكثر إلحاحًا في ردتهم، وكان أكثرهم يتابعون رجالًا منها ادعوا النبوة، كطليحة في بني أسد، وسجاح في بني تميم، ومسيلمة في اليمامة وذي التاج لقيط بن مالك في عمان، هذا إلى ما كان من أتباع طائفة كبيرة من أهل اليمن للأسود العنسي، ومتابعتهم إياه إلى حين مقتله، ثم إمعانهم بعد ذلك في الفتنة والانتقاض إلى آخر حروب الردة.
وليست ترجع هذه الصورة في انتقاض الحواضر والبوادي على سلطان قريش وفي ردتها عن الإسلام إلى موقعها الجغرافي من المدينة وكفى، بل ترجع كذلك إلى عوامل عربية وأخرى أجنبية، بدت آثارها وبرزت في الفترة الأخيرة من حياة الرسول.
فالإسلام لم ينتشر ولم يستقر في الأصقاع النائية عن مكة والمدينة من شبه الجزيرة إلا بعد فتح مكة وغزاة حنين وحصار الطائف، أما إلى ذلك العهد فقد ظل نشاط رسول الله محصورًا في المنطقة المحيطة بالمدينتين المقدستين، لم يخرج الإسلام عن حدود مكة إلا قبيل الهجرة إلى يثرب، ومن بعد الهجرة ظلت جهود النبي سنوات متعاقبة موجهة إلى كفالة الحرية للدعوة الإسلامية في موطنها الجديد، فلما قضى المسلمون على سلطان اليهود بيثرب، ثم لما فتحوا مكة، بدأ العرب يدينون بدين الحق، وأقبلت الوفود تترى من أنحاء شبه الجزيرة تعلن إسلامها، وجعل النبي يبعث إليهم عماله يفقهونهم في الدين ويجبون منهم الصدقات.
طبيعي ألا يتأصل الدين في نفوس هذه القبائل ما تأصل في نفوس أهل مكة والمدينة، وفي نفوس العرب القريبين منهما، لقد اقتضى استقرار الإسلام في منبته عشرين سنة كاملة، جاهده خصومه أثناءها أشد الجهاد، وناصبوه عداوة اتصلت على السنين، ثم كان من أثرها أن انتصر على خصومه، وأن ثبتت تعاليمه في نفوس العرب الذين اتصلوا برسول الله وبأصحابه من أهل مكة والطائف والمدينة وما جاورها من البلاد والقبائل، أما من نأى عن هذه البقعة التي شهدت نشاط محمد سنوات تباعًا، داعيًا إلى الله وإلى دين الله، فلم يتأثر بتعاليم هذا الدين الجديد ما تأثرت؛ ولذلك انتفض على الدين وعلى أهله، وحاول الرجوع إلى استقلاله السياسي وإلى استقلاله الديني.
ولم تكن العوامل الأجنبية أقل أثرًا في هذا الانتقاض من العامل الجغرافي، لقد كانت مكة والمدينة وما جاورهما من القبائل بعيدة عن الإذعان لنير الفرس والروم المتحكمين يومذاك في شئون العالم، أما شمال شبه الجزيرة المتصل بالشام، وجنوب شبه الجزيرة المتصل بالفرس والقريب من الحبشة، فكانا متأثرين بسلطان هاتين الإمبراطوريتين، بل كانت فيهما مناطق نفوذ لهما، وإمارات تابعة لحكمهما، فلا عجب إذن أن يحاول أصحاب هذا النفوذ وهذا حكم مناوأة الدين الجديد بشتى الأساليب؛ بالدعاية السياسية للاستقلال الذاتي، وبالدعاية الدينية للمسيحية تارة، ولليهودية ثانية، وللوثنية العربية تارة ثالثة.
كان نشاط هذه العوامل كلها واضح الأثر لأول ما انتشر الخبر بوفاة النبي؛ وكان هذا النشاط باديًا في شيء من الحذر قبل وفاته، وسترى من أثر ذلك في غضون هذا الكتاب ما لا يدع لديك مجالًا للشك فيه، وقد أقامت هذه العوامل الجغرافية والأجنبية لنفسها منطقًا يغري بالتصديق بها والانضواء تحت لوائها، وهذا المنطق الذي أذاعه الدعاة بين مختلف القبائل هو الذي دعاهم للانتقاض وللفتنة.
قال الذين أبوا أداء الزكاة فيما بينهم: إذا كان المهاجرون والأنصار قد اختلفوا في ولاية الأمر، وكان رسول الله قد قبض ولم يوصِ بمن يخلفه، فخليق بنا أن نحتفظ باستقلالنا احتفاظنا بالإسلام دينًا، وأن يكون لنا ما جعله المهاجرون والأنصار لأنفسهم من حق في اختيار من يقوم مقام رسول الله فينا، أما أن نذعن لأبي بكر أو لغير أبي بكر فليس ذلك من الدين ولا من كتاب الله في شيء، وإنما تجب الطاعة علينا لمن نوليه نحن أمورنا.
ولعل الذين حدثتهم أنفسهم بمثل ذلك أن يكون لهم من العذر عنه أن رسول الله أقر لمدن العرب ولقبائلها حظًّا من الاستقلال الذاتي طوع لأهلها أن يفكروا في استرداد هذا الاستقلال كاملًا بعد وفاته، فهو قد أبقى بدهان عامل الفرس على أرض اليمن في ملكه حين أعلن بدهان إسلامه وألقى نير المجوس، وهو قد ترك لسائر الأمراء، في البحرين وفي حضرموت وفي غيرهما، ما كان لهم من سلطان بعد أن آمنوا بالله ورسوله، وكان أمره أن توزع الزكاة التي تجبى من بعض هذه الأنحاء على الفقراء من أهلها، ولم يفرض الإسلام الجزية إلا على أهل الكتاب، والعرب مسلمون كأهل المدينة، فما لهم يؤدون الزكاة لصاحب السلطان في المدينة!! وما لهم لا تبقى صلتهم بالمدينة صلة وحدة في الدين لا شأن لها بسياسة الحكم!! وإذا كان لأهل المدينة من السابقة في الإسلام ما يجعلهم أدرى بفروضه وتعاليمه، فحسبهم أن يبعثوا إلى سائر البلاد والقبائل من يفقههم في الدين على ما كان يصنع رسول الله، وأن يكونوا وإياهم أشبه شيء بعصبة أمم إسلامية، لا تبغي إحداها على الأخرى، ولا تلتمس الوسيلة للاعتداء على استقلالها.
دار هذا التفكير بخواطر بعض القبائل القريبة من المدينة ومكة والطائف، أما أهل اليمن وما حاذاها من جنوب شبه الجزيرة، وأما سائر الأصقاع البعيدة عن منزل الإسلام، فإنما أسلم الكثير من أهلها إكبارًا لسلطان محمد الذي امتد في سنوات قليلة حتى جاور الروم والفرس في ملكيهما، فكان امتداده السريع معجزة بهرت الأنظار، وأخذت بالألباب، وجعلت الوفود من كل القبائل تقبل إلى المدينة تترى معلنة إلى النبي إسلامها وإسلام القبائل التي تنتمي إليها، أما وقد ذاع فيها النبأ بوفاة النبي فلا عجب أن يتزلزل إيمانها وأن ترتد عن دين طرأ عليها، بل لا عجب أن تثور بهذا الدين وأن تتابع الذين يذكون فيها نار الفتنة باسم العصبية والنعرة العربية.
ولقد خدع هؤلاء أول ما قام فيهم من يدعي النبوة منهم ويزعم أنه يوحى إليه كما يوحى إلى محمد، خدعوا عن الإسلام بعد قليل من إقبالهم عليه؛ بل خُدع بعضهم عنه والنبي ما يزال بين أظهر العرب لم يختر جوار ربه. سمع كثير من بني أسد لطليحة حين ادعى النبوة، وأيد زعمه بالتنبؤ بموقع الماء في يوم كان قومه فيه يسيرون ويكاد الظمأ يقتلهم. وسمع كثير من بني حنيفة لمسيلمة حين بعث اثنين من رجاله إلى محمد يبلغانه أن مسيلمة نبي مثله، وأنه له نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريشًا لا يعدلون، وسمع أهل اليمن للأسود العنسي ذي الخمار حين تولى أمر اليمن وطرد منها عمال النبي، على أن رسول الله لم يعر هؤلاء المدعين كثيرًا من عنايته، ثقة منه بأن قوة الحق في دين الله كفيلة بإظهار كذبهم، وبأن إيمان المؤمنين بالله كفيل بالقضاء عليهم.
وكان هؤلاء المدعون للنبوة يشعرون بموقفهم ذاك من رسول الله، فلم يثر به أحد منهم ثورة الأسود العنسي ذي الخمار، فقد قيل إنه تنبأ وظهر أمره وقُتل في عهد الرسول، على أن جماعة من المؤرخين يذكرون أنه سلك مسلك زميليه فصبر حتى قبض النبي، ثم قام بالثورة على الإسلام، يقول اليعقوبي في تاريخه: «أما الأسود بن عنزة العنسي فقد كان تنبأ على عهد رسول الله، فلما بويع أبو بكر ظهر أمره واتبعه على ذلك قوم، فقتله قيس بن مكشوح المرادي وفيروز الديلمي، دخلا عليه منزله وهو سكران فقتلاه.» ويقول الطبري في إحدى الروايات: «فأول حرب كانت في الردة بعد وفاة النبي ﷺ كانت حرب العنسي، وكانت حرب العنسي باليمن.»
لم تكن شبه الجزيرة إذن هادئة مطمئنة في العهد الأخير من حياة الرسول، ولم تكن كلها قد سكنت واستقرت تحت لواء واحد ودين واحد، بل كانت أسباب الفتنة تضطرم تحت ثراها، ونُذر الثورة تتبدى في جوها؛ وكانت بوادر الانتقاض في الشمال الشرقي وفي الجنوب كله تأجج نارًا لا يسكن من انتشارها إلا القوة الروحية التي أمد الله بها رسوله، وإلا النصر الذي كان يلازم أعلامه، بل إن هذا النصر لم يُسكت مسيلمة ولا أسكت الأسود العنسي عن القيام في قومهما يزعمان النبوة، ليكون لبني حنيفة ولليمن ولغيرهم من العرب أن يدَّعوا لأنفسهم ما تدعيه قريش لنفسها، ولولا حكمة رسول الله وحسن رأيه وبعد نظره وفضل الله عليه وعلى الإسلام لخيف أن تتلظى الفتنة وأن يصلى العرب جميعًا نارها في حياته.
وأغلب الظن أن فتنة العنسي قامت في آخر عهد الرسول، وسواء أصح ذلك أم صح أنها قامت في عهد أبي بكر، فإن لقصة هذه الثورة على ما يرويها المؤرخون طرافة تستوقف النظر وتكشف عن جوانب من النفس الإنسانية تدعو إلى التفكير.
ومات بازان، فقسم رسول الله سلطانه بين أشخاص عدة، منهم شهر بن بازان تولى أمر صنعاء وما جاورها، ومنهم أشخاص من أهل اليمن، وآخرون من رجاله ﷺ بالمدينة، وإن هؤلاء الولاة لينظم كل منهم أمر ولايته إذ جاءتهم كتب من الأسود العنسي ينذرهم فيها أن يردوا ما بأيديهم فهو أولى به، وكانت تلك أول ظاهرة لفتنته.
نهض الأسود على رأس هذه الجماعة بعد أن أعلن الفتنة، وسار إلى نجران فأجلى عنها خالد بن سعيد وعمرو بن حزم أميري المسلمين عليها، وانضم من أهل نجران إلى الأسود من بهرهم انتصاره، وساروا معه إلى صنعاء حيث لقي شهر بن بازان فقتله وهزم جنده، عند ذلك فر المسلمون المقيمون بصنعاء وفي مقدمتهم معاذ بن جبل؛ ولحق خالد بن سعيد وعمرو بن حزم بالمدينة، وتم للأسود الغلب، وصار إليه ملك اليمن، وأسلم الناس لأمره ورأيه، ودانت له البوادي والحواضر ما بين مفازة حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والأحساء إلى عدن.
ولقد تعجب إذ تعلم أن الأسود لقي شهر بن بازان بصنعاء وليس معه إلا سبعمائة فارس، منهم من خرج معه من مذحج ومنهم من انضم إليه من نجران، وبهذا العدد القليل انتصر هذا الكاهن المشعبذ على أهل هذه الأصقاع واستطار أمره بينهم كالحريق، ولم تجد قوة منهم إلى مقاومته سبيلًا، ولعلك إن تلتمس لذلك تأويلًا تجده في أن هذه البلاد كانت خاضعة لفارس، ثم خضعت من بعدهم للمسلمين من أهل الحجاز، وأنت تعرف ما كان بين اليمن والحجاز من خصومة ترجع إلى أقدم الحقب، فلما قام هذا العنسي يسترد اليمن لأهل اليمن لم يجد من يقاومه، ولم يجد الفرس أنصار شهر وأبيه ولا وجد المسلمون أبناء الحجاز نصيرًا من أهل البلاد يدفع عنهم كيد الأسود وشعبذته، ولعلك واجد هذا التأويل كذلك في أن هذه البلاد كانت مسرحًا لأديان مختلفة: كانت فيها اليهودية، والنصرانية، والمجوسية؛ وكانت هذه الأديان تجاور فيها أصنام العرب وعبادتها، ثم كان الإسلام الحديث بين هؤلاء اليمنيين لما تقو في نفوسهم أصوله، فلما قام ذلك المتنبئ فيهم يدعوهم إليه ويهيب بقوميتهم ويزعم أنه يطرد الأجانب من بلادهم، أسرعوا إليه ملبين دعوته؛ فلم يكن أمام المسلمين إلا الفرار، ولم يكن أمام البقية الباقية من الفرس إلا الإذعان أو الموت.
بلغت هذه الأنباء محمدًا بالمدينة وهو يعد العدة لغزو الروم، وللانتقام من مؤتة، تعزيزًا لهذا الجانب المحفوف بالخطر من جوانب شبه جزيرة العرب؛ وكان لذلك يجهز جيش أسامة، أفيصرف هذا الجيش إلى اليمن يسكن ثائرتها، ويرد على المسلمين هيبتهم؟! أم يستعين على هذا الأسود بمن كان باليمن من المسلمين، فإن قدروا عليه فذاك، وإلا كان انتصار جيوش المسلمين على الروم، والروم قد غلبوا الفرس من زمن غير بعيد، جديرًا بأن يعيد الأمر في شبه الجزيرة إلى نصابه؛ فإن لم يعد وجه محمد جيشه ليقمع الأسود وغير الأسود من الخارجين عليه؟! هذا الرأي الأخير هو ما اطمأن محمد إليه، لذلك بعث رسوله وبر بن يحنس بكتاب إلى زعماء المسلمين إلى اليمن يأمرهم فيه بالقيام على دينهم والنهوض في الحرب، والقضاء على الأسود إما غيلة وإما مصادمة، وأن يستعينوا على ذلك بمن يرون عنده نجدة ودينًا، واكتفى محمد من أمر اليمن بهذا، وجعل كل همه لتنظيم جيش أسامة والتغلب على الروم.
ومرض رسول الله من بعد ذلك مرضًا وقف بسببه جيش أسامة عن المسير، أما الأسود العنسي فأخذ يستمتع بنصره وينظم ملكه، يقيم القواد على الجيوش والعمال على الإمارات؛ بذلك ثبت ملكه، واستغلظ أمره، ودانت له سواحل اليمن إلى عدن، كما دانت له الجبال والبوادي من صنعاء إلى الطائف.
واستعمل الأسود على جنده قيس بن عبد يغوث، وجعل وزيريه فيروز وداذويه الفارسيين، ثم إنه تزوج آزاد امرأة شهر بن بازان، وكانت ابنة عم فيروز، بهذا وبذاك انضم العرب والفرس إلى لوائه، فلما رأى من تعاظم شأنه ما رأى خيل إليه أنه دانت له الأرض، فلم يبق له إلا أن يأمر فيطاع.
على أن العوامل التي أدت إلى انتصاره قد تضافرت من بعد على الائتمار به، ذلك أنه لما استغلظ أمره وأثخن في الأرض استخف بقيس وبفيروز وداذويه، وجعل يرى في الأخيرين وفي سائر الفرس من تنطوي أضالعهم على المكر به.
وعرفت امرأته الفارسية ذلك منه، فثار في عروقها دم قومها، وتحركت في نفسها عوامل الحقد على الكاهن القبيح، قاتل زوجها الشاب الفارسي الذي كانت تحبه من أعماق قلبها، ولقد استطاعت بسجيتها النسوية أن تخفي ذلك عنه، وأن تسخو في البذل له من أنوثتها سخاء جعله يركن إليها ويطمع في وفائها له، لكنه شعر بأن الرجال الذين حوله، وزيريه وقائد جيشه، لا يضمرون له من الولاء ما يراه حقًّا عليهم لولي نعمتهم، وإذا كان الجيش أشد ما يحذر ويخاف فقد دعا إليه قيس بن عبد يغوث وأنبأه أن شيطانه أوحى إليه يقول: «عمدت إلى قيس فأكرمته حتى إذا دخل منك كل مدخل، وصار في العز مثلك، مال ميل عدوك، وحاول ملكك، وأضمر على الغدر.» وأجاب قيس: «كذب وذي الخمار؛ لأنت أعظم في نفسي وأجل عندي من أن أحدث بك نفسي.» وأجال الأسود في قيس نظره من مفرق رأسه إلى أخمصه، وقال له: «ما أجفاك! أتكذب الملك! قد صدق الملك وعرفت الآن إنك تائب مما اطلع عليه منك.»
وخرج قيس من عنده وكله الريبة فيما يضمر له، ولقي فيروز وداذويه فذكر لهما ما جرى بينه وبين الأسود وسألهما رأيهما، فقالا: نحن في حذر، وإنهم لفي ذلك إذا أرسل الأسود إليهما يحذرهما مما يأتمران مع أصحابهما به، وخرجا من عنده ولقيا قيسًا وهم جميعًا في ارتياب وعلى خطر عظيم.
واتصل نبأ ما يجري ببلاط ذي الخمار بمن بقي من المسلمين باليمن أو على مقربة منها، وذكروا رسالة النبي لهم، فأرسلوا إلى قيس وأصحابه أنهم وإياهم على رأي واحد في أمر الأسود، وعرف المسلمون الذين أقاموا بنجران وبغيرها من تلك الأنحاء سرًّا من هذه الأنباء، فكتبوا إلى زملائهم القريبين من الأسود أنهم ورجالهم طوع أمرهم في قتاله، واستمهلهم زملاؤهم وطلبوا إليهم أن يلزموا أماكنهم، وألا يقوموا بأمر يدعو لريبة فيهم أو ينبه أصحاب الأسود لهم.
وإنما كان ذلك رأي المقيمين على مقربة من الأسود؛ لأنهم رأوا أخذه غيلة أدنى إلى النجاح من محاربته، فقد دخلت آزاد زوجه في مؤامرتهم وإن تظاهرت له بالحب أعظم الحب، وطوع لها اتصالها بفيروز وداذويه وقيس أن تدبر وإياهم أمر اغتياله، دلتهم على حجرة نومه، وأظهرتهم على أن القصر الذي تقيم به معه حوله الحرس من كل ناحية إلا من خلف هذه الحجرة؛ فلينقبوها إذا كان الليل، وليدخلوا من النقب، وليقتلوا غريمهم؛ فإن يفعلوا فقد تخلصوا وخلصوها منه.
وقد فعلوا، فلما كان الفجر تنادوا بشعارهم الذي اتفقوا مع أصحابهم عليه، ثم نادوا بأذان الإسلام وقالوا: نشهد أن محمدًا رسول الله، وأن عبهلة — وهو اسم الأسود العنسي — كذاب، وألقوا إليهم رأسه، وأحاط بهم حرس القصر، وتنادى الناس في المدينة فخرجوا في عماية الصبح، واضطرب الأمر، ثم استقر على أن يتولاه قيس وفيروز وداذويه، وكان لآزاد في استقراره كما كان لها في اضطرابه من قبل أكبر الأثر.
أفقتل العنسي قبل موت الرسول أم بعده؟ ذلك ما اختلف فيه، وقد ذكرنا رواية اليعقوبي من قبل، أما الطبري وابن الأثير فيذكران أنه مات قبل أن اختار رسول الله الرفيق الأعلى، وأنه ﷺ أوحي ذلك إليه ليلة حدوثه فقال: «قتل العنسي، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين.» قيل من قتله؟ قال: «قتله فيروز.»
والرواية الأخرى تذهب إلى أن موت العنسي لم يصل النبأ به إلى المدينة إلا بعد أن قبض رسول الله، وأنه كان أول بشارة أتت أبا بكر وهو بالمدينة، وتجري الرواية بأن فيروز قال: «لما قتلنا الأسود عاد أمرنا كما كان، وأرسلنا إلى معاذ بن جبل فصلى بنا ونحن راجون مؤملون لم يبق شيء نكرهه إلا تلك الخيول من أصحاب الأسود، ثم جاء موت النبي فانتقضت الأمور واضطربت الأرض.»
كيف اضطربت، ولماذا اضطربت؟ تفصيل ذلك لا يدخل في نطاق هذا الفصل، وحسبنا ما أجملنا عنه في أوله، وسنتناول حوادثه في موضعها من جهاد أبي بكر أهل الردة.
وإنما أفضنا في حديث عبهلة وثورته بالمسلمين في اليمن لتواتر الروايات بأنه قام بهذه الثورة في عهد الرسول، فأما ما كان من أمر اليمن على عهد أبي بكر فيتخطى العنسي وثورته ومقتله، ويتناول ما تم بعد ذلك من أحداث نفصلها في موضعها.
كانت ثورة اليمن هذه أعنف مظاهر الانتقاض على الدين الجديد في بلاد العرب حين وفاة النبي، لكن اليمامة وما حاذى الخليج الفارسي من القبائل قد كان يتلظى بنذر الثورة في هذا العهد كذلك، فكان المسلمون فيه على حذر، يلجئون إلى المصانعة حينًا وإلى البطش حينًا آخر، ليظل سلطانهم قائمًا وكلمتهم مسموعة، ولا عجب أن يكون ذلك أمر حواضر واد تبعد عن منزل الوحي بمكة والمدينة، وتتصل بالفرس وتبادلهم التجارة وتقر لهم بتفوق الحضارة، بل لا عجب أن تكون للفرس يد خفية في تحريك هذه الحواضر والبوادي لتنتقض على الدين الجديد والسلطان الناشئ.
أشرنا إلى بعث مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة رسولين إلى محمد بالمدينة يحملان رسالة جاء فيها: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا لنصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم لا يعدلون.» وسأل النبي الرسولين حين سمع الكتاب: فما تقولان؟ قالا: نقول كما قال، فنظر إليهما مغضبًا وقال: أما والله لولا أن الرسل لا تُقتل لضربت أعناقكما! ثم كتب إلى مسيلمة: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده المتقين.»
لم يغفل رسول الله عما تنطوي عليه رسالة مسيلمة من نذير، لذلك بعث من المسلمين نهارًا الرحال، وكان قد فقه الدين، ليشغب على مسيلمة، وليفقه المسلمين من أهل اليمامة في الإسلام، وسنرى من بعد كيف انضم نهار إلى مسيلمة، وكيف شهد بأنه شريك محمد في الرسالة، بذلك ازداد مسيلمة نفوذًا وازداد ادعاؤه انتشارًا، وتجاوبت باليمامة أصداء انتصار العنسي في اليمن فقوَّى تجاوبها ساعد مسيلمة وفتَّ في أعضاد المسلمين، لكن رسول الله لم يتجه بسياسته إلى قمع هذه الفتنة قبل استفحالها، موقنًا أن الله ناصره على الروم في الشمال، وأن انتصاره عليهم سيكون له الأثر الحاسم في القضاء على أسباب الانتقاض والثورة الداخلية في أنحاء بلاد العرب.
فقد كانت سياسته ﷺ متجهة إلى حماية التخوم العربية في الشمال من عدوان هرقل ورجاله عليها، فهرقل هو الذي دحر الإمبراطورية الفارسية، وهو الذي رد الصليب الأعظم إلى بيت المقدس، وهو لذلك الذي تخشى صولته، وقد ارتد جيش المسلمين في مؤتة فلم يقو على قتال الروم وإن لم ينهزم أمامهم، وكانت تبوك غزوة موفقة، لكنها لم تبعد المخاوف من انحدار الروم إلى بلاد العرب، فإذا استطاعت قوات المسلمين أن تظهر على الروم في غزاة حاسمة قوَّى ذلك من عزم المنتشرين منهم في قبائل العرب، فلا يلبث كل منتقض عليهم أن يرجع عن انتقاضه، وأن يسلم المقادة إليهم طائعًا أو كارهًا، وكيف لا يفعل وقد تغلغل المسلمون في أنحاء شبه الجزيرة من الشمال إلى الجنوب، وصاروا قوة يحسب حسابها، فلم يقو مسيلمة في اليمامة، ولا لقيط في عمان، ولا طليحة في بني أسد، أن يناصبوها العداوة في جهر وإعلان.
لكن لقيطًا وطليحة كانا كمسيلمة يتربصان لإعلان عصيانهما أن تدور الدوائر على المسلمين، وأقام هؤلاء الثلاثة كل في ناحيته ينشر دعوته في غير ضجة أو جلبة، ودون أن يطعن على النبي الهاشمي أو ينتقص من رسالته، وإنما كانت دعواهم أنه نبي، وأنهم أنبياء مثله، بعث في قومه، وبعث كل منهم في قومه، وأنهم يريدون لأقوامهم الهدى كما يريد هو لقومه الهدى، وبوسائل تنقصها جرأة الأسود العنسي وإن لم ينقصها دهاؤه هيئوا حول المسلمين المقيمين بين أظهرهم جو قلق وتربص تتلظى نيران الفتنة تحت رماده ريثما تتقد فيه.
ولم يكد النبأ بوفاة الرسول ينتشر في بلاد العرب حتى بدأت نذر هذه الفتنة تتحرك في كل أنحاء شبه الجزيرة، وقد تحركت في صور مختلفة وألوان متباينة تباين العوامل التي أثارتها، وسنفصل ذلك من بعد في وضوح وجلاء، لكنا نقف من حديث هؤلاء المتنبئين وتربصهم بالإسلام عند أمور لها بالعرب حين وفاة النبي أوثق اتصال.
أول هذه الأمور أن رسول الله قبض وبوادر الفتنة تجري نذرها في جو شبه الجزيرة، بل يوشك قسم كبير منها أن يضطرب أشد اضطراب، فقد رأيت كيف استغلظ أمر الأسود وامتد ملكه من أقصى الجنوب عند حضرموت إلى مكة والطائف، ثم رأيت كيف تربص مسيلمة وطليحة بالمسلمين، وهذه الربوع التي أعلنت العصيان على دين محمد وسلطانه كانت أكثر بلاد شبه الجزيرة حضارة وأضخمها ثروة كما كانت أكثرها ببلاد الفرس اتصالًا، فلا عجب وذلك شأنها أن يلفت انتفاضها نظر الخليفة الأول، وأن يطيل تفكيره في تدبير سياستها، ليعيدها إلى حظيرة الإسلام، وليقر فيها الأمن والسلام.
الأمر الثاني الذي تدل عليه فتنة الأسود وتربص مسيلمة وطليحة أن الاضطراب الديني بلغ بين القوم في ذلك العصر أن استهل تحريك النفوس باسمه، ولم يكن ذلك يرجع إلى تعصب الناس لدين من الأديان، بل كان يرجع على العكس إلى عدم استقرار العقيدة في النفوس استقرار طمأنينة وسكينة، فالنصرانية واليهودية والمجوسية والأصنام كانت كلها تتجاور، وكان لكل منها أنصار ظاهرون أو مستترون؛ لكنها كانت جميعًا موضع الجدل: أيها الحق، وأيها أدنى إلى تحقيق الخير والسعادة للناس، وهذا هو ما سهل على الذين ادعوا النبوة أن يطالعوا الناس بمزاعمهم، وأن يخدعوهم بألوان من المظاهر يتخذونها آيات صدقهم، وبهذه الوسيلة استطاع المتنبئون أن يجمعوا حولهم من الأتباع ما جمعوا، وأن يحرزوا أول أمرهم من النجاح ما أحرزوا.
ولم يكن ادعاء النبوة وتصديق الناس هذا الادعاء هو العنصر الجوهري في نجاح هؤلاء المدعين، فقد رأيت أن الأسود اعتمد على عوامل أخرى، في مقدمتها برم أهل اليمن بالفرس كبرمهم بأهل الحجاز، وسترى من ذلك في أمر مسيلمة وطليحة ما يؤيد قولنا كل التأييد. ولو أن الإسلام كان قد استقر في النفوس وبلغ منها مبلغ العقيدة والإيمان لما قامت لواحد من هؤلاء المدعين قائمة، فللعقيدة المتأصلة سلطان على النفوس قل أن يغلبه سلطان، لكن أهل هذه الأصقاع لم يكونوا قد آمنوا وإن كانوا قد أسلموا؛ فلما أتيح لهم أن يخلعوا إسلامهم باسم القومية أو باسم غيره لم يصدهم عن ذلك إيمان حق، فاندفعوا وراء الأسود وغير الأسود من المتنبئين.
ويزيد رأينا هذا تأييدًا ما كان من بقاء مكة والطائف على الإسلام، صحيح أن أهل اليمن بدأ فيهم الإسلام واطمأن إلى سلطان الحاكم منذ دان بازان بدين الحق، وكان ذلك قبل أن يطمئن الإسلام إلى سلطان الحاكم بمكة والطائف، لكن قيام رسول الله بمكة سنوات الدعوة الأولى، وهي تزيد على عشر، واتصاله بالطائف وأهلها أثناء ذلك، ترك من الأثر الديني في نفوس المكيين والثقفيين ما لم يتركه إسلام بازان والفرس المحيطين به في اليمن، وتعاليم رسول الله كانت أبقى أثرًا في مكة والطائف، حتى مع ثورتهما عليه، من تعاليم معاذ بن جبل باليمن وإن تمتع من حماية بازان بما تمتع به.
الأمر الثالث الذي نستخلصه، أن فتنة اليمن شجعت اليمامة وشجعت بني أسد على القيام بفتنتهم إثر وفاة النبي، فقد كان طليحة ومسيلمة يخشيان قوة المسلمين ويريان أن لا قبل لهما بمقاومتها، ولذلك لم يثورا بها ولم يخرجا عليها، فلما اجترأ الأسود على رفع لواء العصيان ولقي من النجاح ما لقي وأثار مخاوف المسلمين، امتدت عدوى الجرأة منه إلى طليحة وإلى مسيلمة، ثم زادها جرأة أن اختار النبي الرفيق الأعلى، ولو أن الأسود لم يقم قومته ولم يعلن فتنته لبقي الآخران على استحياء في إعلان فتنتهما، ولما جرؤ واحد منهما على مواجهة سلطان المسلمين.
ولم يقض موت الأسود على أسباب الفتنة التي كانت تتلظى يومئذ في أنحاء شبه الجزيرة، بل بقيت أسباب هذه الفتنة تضطرم ويزداد اضطرامها حتى اندلعت وفاة الرسول.
ويعلل بعض المستشرقين هذه الظاهرة في بلاد العرب لذلك العهد بما كان بين أهلها من تباين في نوع الحياة قل أن يجد الإنسان له في غير هذه البلاد نظيرًا، وبما أدى هذا التباين إليه على حقب التاريخ من خصومات لم تهدأ، فحياة الحضر وحياة البدو تتجاوران في هذا المحيط تجاورًا عجيبًا، وبين البداوة والحضارة من التباين ما يجعل الوحدة القومية لبلاد ذلك شأنها أمرًا غير ميسور، ثم إن حياة البداوة تجعل الإذعان لحاكم على النحو الذي يفهمه أهل الحضر مستحيلًا أو يشبه المستحيل، فالبدوي لا يعدل باستقلاله الفردي شيئًا، والقبيلة البادية ترى في استقلالها حياتها، وترى كل تحيف من هذا الاستقلال عدوانًا عليها لا بد من دفعه، وقد كان هذا وما يتصل به سبب الخصومة التي تأصلت على الزمان بين اليمن وأهل الشمال.
والمستشرقون الذين يبدون هذا الرأي يذهبون إلى أن هذا التباين في طباع أهل البادية وأهل الحضر، وما جر إليه من خصومة بين الشمال والجنوب، كان له أثر بالغ في اضطراب العرب قبيل وفاة النبي وفي السنة الأولى من خلافة أبي بكر، فالإسلام دين توحيد في العقيدة، وبذلك قضى على عبادة الأصنام، فامتد الإيمان بالله الواحد الأحد إلى أنحاء بلاد العرب جميعًا، أَوَلا يخشى العرب أن يمتد الأمر من وحدة الإيمان بالله إلى وحدة سياسية تجني على استقلال أهل البادية وتثير الخصومات القديمة؟! ذلك ما دار بخواطرهم فيما يرى هؤلاء المستشرقون، ذلك ما أدى إلى انتقاض اليمن وغير اليمن في ذلك العهد.
وسواء أصح هذا التعليل أم لم يصح، فلسنا نستطيع أن نتجاهل العامل الأجنبي في تحريك البواعث التي أدت إلى انتقاض العرب وردتهم، لقد رأى عاهل الفرس وإمبراطور الروم في رسالة محمد إليهما وإلى غيرهما من الملوك والأمراء ليدينوا بالإسلام ما جعلهما يعملان على إيقاظ نار الفتنة في بلاد ليس بها من أسباب الوحدة غير الدين الجديد يجمع كلمتها ويضاعف قوتها، ولا شيء كالفتنة يضعضع العزائم ويفتت في أعضاد الأمم.
وأيًّا كانت الأسباب التي أدت إلى فتنة العنسي، ثم إلى فتنة طليحة وفتنة مسيلمة، وإلى انتقاض العرب على سلطان المسلمين حتى فيما جاور المدينة، فإن الأمر الثابت أن وفاة النبي بعثت كل أسباب الفتنة من مرقدها.
كيف دبر أبو بكر لمواجهة هذه الفتنة والقضاء عليها؟ وكيف استطاع أن يتغلب على عوامل الفتنة وأن يجمع كلمة العرب؟ وكيف مهد للإمبراطورية الإسلامية كي يقيمها خلفاؤه على أقوى دعامة وأمتن أساس؟
ذلك كل عهده، وفي هذا الكتاب حديثه.