غزوة اليمامة
سار خالد بن الوليد من البطاح على رأس عسكره ومعه المدد الذي أمده أبو بكر به، ومقصدهم جميعًا اليمامة، يلقون بها مسيلمة بن حبيب متنبئ بني حنيفة، ولم يكن هذا المدد الذي بعث به الصديق دون جيش خالد أيدًا أو قوة، فقد تألف من رجال من المهاجرين والأنصار أصحاب رسول الله الذين شهدوا الحرب فشهدت لهم الحرب، ومن القبائل التي عُرفت في القتال بالبأس والبطش، ولقد كان ثابت بن قيس والبراء بن مالك على رأس الأنصار، وأبو حذيفة وزيد بن الخطاب على رأس المهاجرين؛ أما القبائل فكان على كل قبيلة زعيمها. وهل كان لأبي بكر أن يضن على قائد عسكره للقاء مسيلمة بمدد؟! لقد كان يعلم أن أربعين ألفًا يقفون إلى جانب هذا المتنبئ في عدة القتال، وأنهم يؤمنون به ويلاقون الموت في سبيله، فإذا هو لم يرمهم بخيرة المسلمين في القيادة، وفي البطولة، وفي خوض المعامع تعرضت سياسته في قتال أهل الردة جميعًا للفساد، وأبو بكر أحصف وأعلى رأيًا وأبعد نظرًا وأقوى إيمانًا من أن يعرض الإسلام الناشئ لمثل هذا المصير.
وكان بين هؤلاء الذين أمد بهم أبو بكر خالدًا جماعة من القراء حفاظ كتاب الله، كما كان بينهم جماعة ممن شهدوا بدرًا، هذا مع أن أبا بكر كان يضن بأهل بدر ويقول: «لا أستعمل أهل بدر، أدعهم حتى يلقوا الله بصالح أعمالهم؛ فإن الله يدفع بهم وبالصالحين أكثر مما ينتصر بهم.» وإنما خرج الصديق على رأيه ذاك فأمد خالدًا بالبدريين وبمن شهدوا المواقع في عهد الرسول؛ لأن مسيلمة كان قد استغلظ أمره في اليمامة؛ فكل تضحية في سبيل القضاء عليه دفع عن دين الله، وكل تعاون معه يزيد الثورة في بلاد العرب ضرامًا، ويزيد موقف المسلم حرجًا.
والحق أن ما أدركه المسلمون إلى ما قبل اليمامة من النصر قد كان بالقياس إليها هينًا يسيرًا، كانت القبائل القريبة من المدينة والتي أرادت محاصرتها غداة بيعة الصديق، لا يدعي أحد فيها النبوة، ولا تطمع في شيء إلا أن تعفى من الزكاة، وقد نجح عدي بن حاتم في صرف القبائل عن طليحة الأسدي، فهان أمره فلم يقو على المقاومة، ولم تكن أم زمل لتقوى عليها بمن اجتمع حولها من فلول تلك القبائل، وكان بنو تميم على خلاف بينهم، وكانت سجاح قد وهنت من عزم مالك بن نويرة، فلم يكن بينه وبين خالد بن الوليد قتال، أما مسيلمة ومن اجتمع حوله باليمامة فكانوا ينكرون أن يكون محمد رسول الله إليهم، وكانوا يرون لأنفسهم ما لقريش من حق، فلهم نبي ورسول، كما لقريش نبي ورسول؛ ولهم في العرب مكانة تضارع مكانة قريش، وبينهم من الجند البواسل أضعاف جند قريش عددًا، وهم إلى ذلك كتلة واحدة، لا يفت في عضدهم خلاف ولا يضعضع من عزمهم تنافس، ليس بينهم من التفاوت في العقيدة والجنس ما بين أهل اليمن، لا جرم، وذلك شأنهم، أن يكونوا أولي بأس وقوة يجب أن يحسب الصديق لها الحساب.
ولم تكن هذه العوامل وحدها هي التي لفتت نظر أبي بكر لتقوية غزاة اليمامة ما استطاع تقويتهم، فهو حين عقد ألويته الأحد عشر لحرب أهل الردة لم يكن يقيم لمسيلمة كل هذا الوزن، أو يحسب لبني حنيفة كل هذا الحساب، لذلك وجه إليهم عكرمة بن أبي جهل، ثم وجه في أثره شرحبيل بن حسنة يعاونه، وسار عكرمة إلى اليمامة ولم ير أن ينتظر شرحبيل، بل بادر بلقاء مسيلمة ليكون له فخار النصر عليه، وكان عكرمة بطلًا مجربًا وفارسًا مغوارًا، وقد اجتمع في لوائه أبطال صناديد طالما أبلوا في الحرب أحسن البلاء، مع ذلك لم يثبت عكرمة ولا ثبت لواؤه لمسيلمة، بل نكبهم بنو حنيفة فانهزموا، وبلغ من نكر هزيمتهم أن أقام شرحبيل بالطريق حيث أدركه الخبر على حقيقته الفاجعة، وكتب عكرمة لأبي بكر بالذي أصابه وأصاب جنده، فملك أبا بكر الغضب وكتب إليه: «يا بن أم عكرمة! لا أرينك ولا ترني، لا ترجعن فتوهن الناس، امض إلى حذيفة وعرفجة فقاتل أهل عمان ومهرة، ثم تسير أنت وجندك تستبرئون الناس حتى تلقى المهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت.» ولا أراني في حاجة إلى بيان ما في هذا الكتاب من مظهر الغضب، وحسبك بدؤه بقوله: «يا بن أم عكرمة»، ففي هذه العبارة ما فيها من زراية واستخفاف.
كيف استغلظ أمر مسيلمة حتى بلغ هذا المبلغ؟ لقد كان على تعبير مؤرخي العرب، «رويجلًا، أصيفر، أخينس» لا يدعو مظهره إلى تقدير أو احترام، ولقد ذهب مع وفد بني حنيفة إلى النبي عام الوفود، فلما بلغ الوفد المدينة لم يأخذه قومه ليلقى النبي معهم، بل خلفوه على رحالهم، ولما أسلم القوم بذل لهم النبي العطاء، فذكروا له مسيلمة، فأمر له بمثل ما أمر به لكل منهم، وقال يجامله: «أما إنه ليس بشركم مكانًا.» وذلك لحفظه رحال أصحابه. أفيكون ذلك هو الذي يدعي النبوة من قومه! لذلك لم يصدقه منهم أول الأمر إلا نفر قليل.
أفمعجزة تلك التي جمعت الألوف وعشرات الألوف حوله فيما دون السنتين؟ كلا! وإنما هي شعبذة المشعبذين، وحيل المحتالين، وانقياد الجماعات لهؤلاء وأولئك، فقد كان من أهل هذه الأرجاء رجل يدعى «نهارًا الرجَّال، أو الرحال، ابن عنفوة»، وكان قد هاجر إلى رسول الله بالمدينة، فقرأ القرآن وفقه الدين، وعرف تعاليم الإسلام؛ وكان ذكيًّا ذا بصيرة، أرسله رسول الله معلمًا لأهل اليمامة يفقههم في الدين، ويرد من اتبع منهم مسيلمة، ويشد من عزائم المسلمين ويشغب معهم على المتنبئ الكاذب، لكن «نهارًا» كان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة نفسه، فهو لم يلبث، حين رأى السواد يتبعه، أن أقر بنبوته وأن شهد بأن محمدًا يقول: إن مسيلمة قد أُشرك في الرسالة معه. ما عسى أن يقول أهل اليمامة عن هذا! لقد شهد شاهد من أهل محمد لمسيلمة، وهذا الشاهد رجل فقيه عالم، يتلو عليهم قرآن محمد، ويقص عليهم تعاليمه، ويفقههم في دينه، وهو يشهد لمسيلمة بالنبوة، ما إلى نفي ذلك أو الطعن في صحته بعدئذ من سبيل، لذلك أقبل الناس على مسيلمة أفواجًا يؤمنون به رسولًا لله إلى بني حنيفة؛ وبذلك أقبلت عليه الدنيا وأصبح في متناول يده كل ما يشاء ويهوى.
ووضع مسيلمة كل ثقته في «نهار الرجال»، وصار ينتهي إلى أمره في كل ما يريد أن يقلد محمدًا فيه، وجعل نهار، لقاء ذلك، يعب من نعيم الحياة الدنيا ويستمتع بكل ما لذ له أن يستمتع به منها، وإذا الفقهاء والعلماء أسلموا لمتاع الدنيا أنفسهم، وأخضعوا لمن يملكون هذا المتاع علمهم، فويل للعلم والفقه، وويل للحقيقة أي ويل!!
ولسنا نقف عند ما يروى من محاولة مسيلمة إتيان المعجزات، ولا عند ما أوحي إليه في زعمه، فذلك كله سخف لا يثبت للتاريخ ونقده، وحسبنا ما تقدم بيانًا للأسباب التي أدت إلى متابعة الناس مسيلمة وإلى استفحال أمره، حتى لم يستطع عكرمة حين لقيه إلا أن يعود منكوبًا مهيض الجناح.
ولا تسل كيف اتبع مسيلمةَ عقلاءُ قومه، وأنت تعرف العصبية العربية وتعصب القبائل لاستقلالها وحريتها، ذكروا أن طليحة النمري جاء اليمامة فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مَهْ! رسول الله، قال: لا، حتى أراه، فلما جاء قال له: من يأتيك؟ قال: رحمان، قال: أفي نور أم في ظلمة؟ قال مسيلمة: في ظلمة، فرد طليحة: أشهد أنك كذاب وأن محمدًا صادق، لكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر. وفي رواية ذكرها الطبري أن طليحة قال: كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر، واتبع الرجل مع ذلك مسيلمة وقاتل وقُتل معه.
أما وذلك شأن مسيلمة وما أصاب عكرمة في قتاله، فلم يكن بين قواد العرب من ينازله غير داهية الحرب وعبقريتها خالد بن الوليد، ولم يكن عجبًا أن يعزز أبو بكر خالدًا بالمدد، ثم إن الصديق كتب إلى شرحبيل بن حسنة أن يقيم حيث هو حتى يجيء خالد إليه، فإذا فرغوا من مسيلمة لحق شرحبيل بعمرو بن العاص يعينه على قضاعة في شمال شبه الجزيرة …
وفيما خالد يسير إلى اليمامة التقت جيوش مسيلمة بلواء شرحبيل واضطرته إلى الارتداد، يقول بعض المؤرخين إن شرحبيل صنع ما صنع عكرمة، وأراد أن يفوز بفخار النصر فأصابه ما أصاب سلفه، ولعل الأمر لم يكن كذلك، وإنما تقدمت جند من اليمامة فلاقوا شرحبيل فارتد عنهم حتى يجيئه خالد، وأي ذلك كان فقد بقي شرحبيل حيث تراجع حتى بلغته جيوش المسلمين، فلما عرف خالد ما أصابه لامه أشد اللوم على صنيعه، ولعله كان يؤثر أن يتراجع من غير أن يشتبك مع خصمه حتى لا يقوي الظفر روحهم المعنوية.
وإن جيوش خالد لتتلاحق إلى أرض اليمامة وتبلغ أنباؤها مسيلمة إذ خرج مُجَّاعة بن مرارة في سرية يطلب ثأرًا له في بني عامر وبني تميم، وقد خاف أن يفوته إذا شغل بلقاء المسلمين وقتالهم، وأدرك مجاعة ثأره وكر راجعًا مع أصحابه، حتى إذا بلغوا ثنية اليمامة كان التعب قد أخذ منهم فناموا، وأدركهم جيش خالد فتنبهوا؛ وعرف خالد أنهم من بني حنيفة، وظن أنهم خفوا لقتاله فأمر بقتلهم، لم يغن عنهم قولهم إنهم خرجوا لثأرهم، فقد سألهم عن رأيهم في الإسلام، فكان جوابهم: نقول منا نبي ومنكم نبي. وقال أحدهم، سارية بن عامر، وهو يعرض على السيف يخاطب خالدًا: «أيها الرجل! إن كنت تريد بهذه القرية غدًا خيرًا أو شرًّا فاستبق هذا الرجل.» وأشار إلى مجاعة، واستبقى خالد مجاعة لم يقتله، وجعله كالرهينة؛ لأنه كان من أشراف بني حنيفة، وكان له عندهم مقام كريم، ولأن خالدًا كان يطمع في معاونته إياه بالرأي. ولقد قيده بالحديد، وجعله في قبته، وجعل زوجه الجديدة ليلى أم تميم على حراسته.
كان مسيلمة قد جمع جنده بعقرباء في طرف اليمامة، وجعل الأموال وراء ظهورهم، وكان هذا الجند أربعين ألفًا، وقيل ستين ألفًا، وهذه أعداد قلما سمع العرب بمثلها في الجيوش من قبل، وأقبل خالد غداة اليوم الذي ارتهن فيه مجاعة فصف جنده في وجه مسيلمة صف القتال، ووقف الجيشان ينظران أمر الصدام، وكل يقدر أن مصيره معلق بمصير ذلك اليوم، ولم يبالغ أيهما في تقدير هذا الأمر؛ فيوم اليمامة من الأيام الحاسمة في تاريخ الإسلام، وفي تاريخ العرب.
كانت قوة مسيلمة قوة الردة الملحة والإنكار الصريح أن تكون نبوة محمد لغير قريش، وأن تكون للناس كافة، وكانت هذه القوة هي المركز التي تتطلع إليه الأعين من اليمن وعمان ومهرة والبحرين وحضرموت والجنوب كله من شبه الجزيرة منحدرًا من مكة والطائف إلى خليج عدن، وتتطلع إليه الأعين كذلك من بلاط فارس، وكانت جيوش مسيلمة تؤمن به وتتفانى في سبيله، ثم تزيدها الخصومة القديمة بين الحجاز وجنوب الجزيرة إيمانًا وتفانيًا، وكانت جيوش المسلمين زهرة قوتهم والملاذ والحمى لدين الله وكلمته؛ عليها خالد أعظم قائد عرفه التاريخ في عصره، وبينها حفاظ كلام الله قراء القرآن، وقد جاءوا جميعًا يملأ الإيمان قلوبهم بأن الجهاد في سبيل الله والدفع عن دينه الحق أول فرض على المؤمن، وأنه فرض عين على كل ذي علم وبينة، لا محيص إذن أن تكون المعركة حامية، وأن تكون مثلًا لما لقوة الإيمان من بأس وسلطان.
«يا بني حنيفة! اليوم يوم الغيرة، إن هُزمتهم تُستردف النساء سبيات، ويُنكحن غير حظيات، فقاتلوا عن أحسابكم، وامنعوا نساءكم.» وأمرهم أن يشدوا، والتقى الجمعان والمسلمون لمَّا تحتدم حميتهم؛ يقول المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: تخشى علينا من نفسك شيئًا؟ فيجيبهم بئس حامل القرآن أنا إذًا، بل لقد تنابزوا بشر من هذا الحديث وأسوأ منه أثرًا، جعل المهاجرون والأنصار يرمون بالجبن أهل البوادي، ويرميهم أهل البوادي بمثل ما يرمونهم به، يقول أهل القرى: «نحن أعلم بقتال أهل القرى يا معشر أهل البادية منكم.» ويقول أهل البادية: «إن أهل القرى لا يحسنون القتال ولا يدرون ما الحرب.»
لذلك لم يثبتوا لجموع بني حنيفة، مع ما كان بين الفريقين من قتال شديد؛ فانثنى صف المسلمين هزيمًا، وزال خالد عن فسطاطه، فدخله بنو حنيفة فرأوا فيه مجاعة مقيدًا بالحديد، ورأوا على مقربة منه أم تميم، وحمل رجل منهم بالسيف على ليلى يريد أن يقتلها، فصاح به مجاعة: «أنا لها جار، فنعمت الحرة؛ عليكم بالرجال!» وقطع الجند حبال الفسطاط ومزقوه بسيوفهم تاركين مجاعة وليلى ينظران ما الله صانع بالقوم جميعًا.
على أن المسلمين لم يتراجعوا حتى قتلوا من بني حنيفة خلقًا كثيرًا، وكان في الأولين الذين قتلوا نهارٌ الرجال القارئ الفقيه الخائن الخادع، خرج في طليعة بني حنيفة، فلقيه زيد بن الخطاب فقتله، فأزال بقتله من الوجود روح الإثم التي طوعت لمسيلمة أن يبلغ ما بلغ، وأن يقف وجنده يهدد المسلمين ويرسل الروع في نفس كل حريص على دين الله.
لم تزايل خالد بن الوليد رباطة جأشه حين زال عن فسطاطه، ولم يداخله ريب في مصير اليوم، لقد رأى أنَّما انهزم من جند المسلمين من انهزم لتنابز الناس وتواكلهم، فلو لم يتواكلوا انتصروا، لذلك لم يلبث، حين لاحت له فترة تهادن بين الفريقين أن صاح في الجند صيحة بطش وغضب: «امتازوا أيها الناس لنعلم بلاء كل حي، ولنعلم من أين نؤتى.» ودوت هذه الصيحة تداولها سمع الجيش كله فنبهته إلى حقيقة أمره، واطمأن خالد، حين رأى الناس امتازوا، إلى أنه قطع بأمره كل مظنة للتواكل، وأنه هيأ للنصر طريقه.
أثارت صيحة خالد ما ركِّب في الفطرة العربية من قوة العصبية، ورأى زعماء المسلمين ما حل بهم، فثارت في قلوبهم الحمية لدين الله، وسما الإيمان بنفوسهم إلى ما فوق مراتب الحياة، وتجلى الاستشهاد أمامهم باسمًا مضيئًا يفتح لهم أبواب الجنة خالدين فيها، وأظلتهم نسمة من روح الله أرتهم الحياة لهوًا ولعبًا وغرورًا باطلًا، فانقلبوا من الهزيمة يطلبون النصر أو الشهادة، قال ثابت بن قيس، وكان على رأس الأنصار: «بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين! اللهم إني أبرأ إليك مما يعبد هؤلاء (وأشار إلى أهل اليمامة) وأبرأ إليك مما يصنع هؤلاء (وأشار إلى المسلمين).» ثم اندفع في الوطيس يقاتل ويقتل، وينادي: «هكذا عني حتى أريكم الجلاد.» وأبلى بلاء أذهب عن الأنفس الروع، وظل يجاهد حتى خلصت إليه الجراح من كل جانب فمات وقد رزق الشهادة. وكان البراء بن مالك من الصناديد الذين لا يعرفهم الفرار، فلما رأى ما صنع الناس وثب وقال: «أين يا معشر المسلمين! أنا البراء بن مالك، هلم إلي!» وسمعه المسلمون وكلهم يعرفون بأسه، ففاء إليه منه فئة قاتلت القوم وقتلت منهم حتى أجلتهم عن مواقفهم، وهبت ريح أثارت الرمال في وجوه المسلمين، فذهب قوم يتحدثون إلى زيد بن الخطاب ما يصنعون، فكان جوابه: «لا والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم، أو ألقى الله فأكلمه بحجتي، غضوا أبصاركم وعضوا على أضراسكم أيها الناس، واضربوا في عدوكم وامضوا قدمًا.» واندفع في صدر القوم يقاتل ويقتل، وجنده من ورائه، حتى لقي الله يكلمه بحجته، وصاح أبو حذيفة بمن حوله: «يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال.» وألقى بنفسه في الغمار يقاتل وقومه حتى ضمه الله إليه، وأخذ سالم مولى أبي حذيفة الراية وقال: «بئس حامل القرآن أنا إن لم أثبت.» وقاتل حتى قُتل. بهذه الصيحات الصادرة من قلوب ملأها الإيمان قوة وبأسًا، سرت روح الاستشهاد في جند المسلمين جميعًا، فهانت أمامهم الحياة واستحبوا الشهادة عليها، فاندفعوا يطلبونها صادقين، فردوا جيوش مسيلمة إلى ما وراء خطوطها الأولى.
وكانت جيوش مسيلمة تقاتل قتال المستيئس هي كذلك، كانت تقاتل عن وطنها وتقاتل عن أحسابها، وتقاتل عن عقيدة مريضة هي عندها دون الوطن، ودون الحسب مقامًا: لذلك ثبتت للمسلمين وجعلت ترد منهم من تستطيع رده، وتحارب عن كل شبر من الأرض لا تتزحزح عنه حتى يعود وتحاول استرداده.
لم يُرَع خالد لاستبسال بني حنيفة، بل أيقن حين سمع صيحات المسلمين، ورأى إقدامهم على الموت مستبشرين، أنه ملك زمام اليوم، وأن النصر صار منه قريبًا.
لكنه حرص مع ذلك على أن يرى المسلمون هذا النصر قريبًا كما يراه هو، لذلك خرج على رأس رجاله وقال لحماته: «لا أوتَيَنّ من خلفي.» ثم صاح صيحة المعركة: «يا محمداه!» وهو لم يكن يريد بخروجه وبصيحته أن يشدد العزائم فحسب، بل كان يريد كذلك أن يسلك إلى النصر أسرع طرقه، وأن يستله من مكمنه، فقد رأى بني حنيفة يسقطون حول مسيلمة قتلى لا يبالون الموت، فأيقن أن أقرب الطرق إلى النصر قتل مسيلمة نفسه، لذلك داور برجاله حتى كان حياله، ثم جعل يستدرجه ليخرج إليهم، وأقبل المحيطون بمسيلمة يخرجون إلى لقاء خالد فيلقاهم الموت من سيفه قبل أن يبلغوه، وكثر في هؤلاء القتل، وشعر مسيلمة بالخزي يركبه لشدة جبنه، فساورته أن يخرج كما خرجوا، لكنه أيقن أنه مقتول إن خرج لا محالة؛ فتردد واضطرب، وإنه لفي اضطرابه وتردده إذ شد خالد بن الوليد برجاله عليه وعلى من حوله وركبوهم يعملون فيهم السلاح، هنالك صاح أصحاب مسيلمة به: «أين ما كنت تعدنا؟!» فأجابهم وقد ولى مدبرًا: «قاتلوا عن أحسابكم.» وكيف يقاتلون وقد أسرع هو إلى الفرار! أوليس المنطق أن يتبعوه فارًّا كما اتبعوه نبيًّا؟!
ورأى محكم بن الطفيل فرار القوم، ورأى المسلمين يتعقبونهم، فصاح بهم: «يا بني حنيفة! الحديقة.» يريد منهم أن يحتموا بها، وكانت هذه الحديقة على مقربة منهم، وكانت لمسيلمة وتدعى حديقة الرحمان، وكانت فسيحة الأرجاء منيعة الجدران كأنها الحصن، وقد فروا إليها وتحصنوا بها من هزيمتهم بعد أن خر الألوف منهم صرعى مجدلين في الميدان بسيوف المسلمين، ووقف المحكم برجاله يحمي ظهورهم أثناء فرارهم، وإنه لكذلك يحاول صد المسلمين ويحرض رجاله على دفعهم، ويقاتل وإياهم أشد قتال حتى يتحصن قومه؛ إذ رماه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بسهم وقع في نحره فقتله.
تحصن مسيلمة وقومه بالحديقة، أفيحاصرهم المسلمون وإن طال حصارهم؟! كلا! إن هذا الجيش الثمل بنشوة الظفر يريد النصر كاملًا، ويريده سريعًا، لذلك أحاط بالحديقة يلتمس فيها فرجة تغنيه عن فتح بابها الوثيق الرتاج فلم يجد، قال البراء بن مالك: «يا معشر المسلمين، ألقوني عليهم في الحديقة.» قال الناس: «لا تفعل يا براء.» وماذا عسى أن يصنع البراء وحده بين هذه الألوف التي تكدست في الحديقة لاجئة من الموت! لكن البراء أصر على قوله وزاد: «والله لتطرحُنَّني عليهم فيها.» ورفعه المسلمون إلى أعلى الجدار، فلما رأى القوم وكثرتهم تردد وتراجع وقال: أنزلوني. لكنه ما لبث أن عاد يقول: احملوني. وتكرر ذلك منه، ثم إنه وقف على الجدار تحدثه نفسه: إنه البراء البطل الذي يتحدث في شبه الجزيرة كلها بفعاله، ألا لئن عاد أدراجه ليقولن الناس: همَّ ولم يفعل، وليذهبن ذلك بشهرته في البطولة، وليتندرن الناس بإحجامه بعد الإقدام، وإن حدث ذلك فماذا يبقى له، وأي وجه يطالع الناس به؟! لذلك نضا عنه تردده وألقى بنفسه على بني حنيفة أمام باب الحديقة، فقاتلهم وقتل منهم يمنة ويسرة، حتى فتح الباب للمسلمين، ودخلوا منه زمرًا تلمع في أيديهم سيوفهم، ويطل الموت من حدق عيونهم؛ فما لبث بنو حنيفة حين رأوهم أن فروا أمامهم يتراكضون في الحديقة التي انقلبت سجنًا تراكض الأغنام رأت الذابح يدخل عليها بسكينه.
هذه رواية، ورواية أخرى أن المسلمين تسوروا الحديقة من الجدران وحاولوا اقتحام الباب، ولعل البراء كان بين الذين تسوروا الجدران أقربهم مكانًا من الباب، وأنه ألقى بنفسه في الحديقة ففتحه للمسلمين بعد أن قاتل من وجده من القوم دونه: وذلك حين كان اللاجئون إلى الحديقة في شغل عنه بمن شدوا عليهم يرمونهم بالنبل من أعلى.
اقتحم المسلمون الحديقة والتحموا بأعدائهم فيها، وما عسى أن تجدي سيوف بني حنيفة والأشجار من حولهم تعوقهم! مع ذلك استحر القتال وكثر القتل بين الفريقين، وإن زاد قتلى بني حنيفة على قتلى المسلمين أضعافًا مضاعفة، وكان وحشي الحبشي قد أسلم بعد أحد، وبعد أن قتل حمزة سيد الشهداء فيها، وكان حاضرًا اليمامة، ولقد رأى مسيلمة في الحديقة فهز حربته، حتى إذا رضي عنها دفعها عليه فأصابته، وقد اشترك معه رجل من الأنصار ضرب مسيلمة بسيفه، فكان وحشي يقول: ربك أعلم أينا قتله. وصاح رجل يقول: قتله العبد الأسود.
انهدت عزائم بني حنيفة حين سمعوا الصيحة بموت مسيلمة وأسلموا أنفسهم لا يقاومون، وأمعن المسلمون فيهم قتلًا، فلم تعرف بلاد العرب في تلك العصور موقعة كان فيها ما كان في موقعة اليمامة من دماء، لذلك أطلق على حديقة الرحمان اسم حديقة الموت، ولا يزال هذا اسمها في كتب التاريخ جميعًا.
ولما انتهت الموقعة أمر خالد فجيء بمجاعة من فسطاطه، فطلب إليه أن يدله على مسيلمة، وجعل القوم يكشفون عن القتلى حتى مروا بمحكم اليمامة، وكان المحكم وسيمًا، فلما رآه خالد سأل مجاعة: هذا صاحبكم؟ وأجاب مجاعة: لا! هذا والله خير منه وأكرم؛ هذا محكم اليمامة. ودخل خالد ومجاعة حديقة الموت فمروا بجثة ذلك الرويجل الأصيفر الأخينس، فقال مجاعة: هذا صاحبكم قد فرغتم منه. وقال خالد: هذا الذي فعل بكم ما فعل.
الآن وقد انتهت فتنة مسيلمة، واجتث أصلها، وقد قُضي على جيشه هذا القضاء المبرم، أفما آن لخالد أن يطمئن ولجنده أن يستريح؟
كلا! ليس هذا من طبع خالد، وليست هذه السياسة سياسته في الحرب إنما سياسته أن يبلغ النصر مداه حتى لا يترك وراءه ما قد تخشى عواقبه، لم يكفه من حرب بني أسد ومن والاهم فرار طليحة، بل بقي حتى استبرأ الأرض، وحتى قضى على أم زمل وفلولها، وهو لم يدع بني تميم حتى قضى في ديارهم على كل نافخ في نار للفتنة أو في رماد، وكذلك فعل ها هنا، قال له عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن أبي بكر وقد فرغ ممن لجئوا إلى حديقة الموت: «ارتحل بنا وبالناس فانزل على الحصون.» يريدان حصون اليمامة، فكان جواب خالد: دعاني أبث الخيول فألقط من ليس بالحصون، ثم أرى رأيي. وبث الخيول فجاءوا بما وجدوا من مال ونساء وصبيان، فضمه إلى العسكر، ثم نادى بالرحيل لينزل على الحصون فيفتضها على من بها، ويفرغ بذلك من بني حنيفة فلا تقوم لهم من بعد قائمة أبدًا.
كان خالد قد وثق بمجاعة بعد الذي كان من جواره أم تميم ومن إخلاصه القول له في مسيلمة ومن معه، وجاء مجاعة هذا إليه وقال: والله ما جاءك إلا سرعان الناس، وإن الحصون لمملوءة رجالًا؛ فهل لك إلى الصلح على ما ورائي؟ ونظر خالد إلى جيشه فرأى قومًا نهكتهم الحرب وقد أصيب من أشراف الناس فيهم خلق كثير، وهم إلى ذلك حراص على أن يعودوا متوجين بفخار النصر، أما وقد يكون مجاعة صادقًا فقد رأى خالد من الخير أن يصالحه، وتصالحا على أن يحتفظ المسلمون بما غنموا إلا نصف السبي، واستطرد مجاعة يقول: الآن آتي قومي فأعرض عليهم ما قد صنعت. وانطلق فقال للنساء: البسن الحديد ثم أشرفن على الحصون. وقد فعلن، ورآهن خالد فأيقن أن مجاعة لم يكذبه، وعاد مجاعة يزعم أنهم أبوا أن يجيزوا ما صنع، وإنما أشرف على رءوس الحصون منهم من أشرف حتى يرجع إليهم فيروا رأيهم، ونزل خالد عن النصف مما كان قد تصالح عليه من السبي، فلما فتحت الحصون لم يجد إلا النساء والصبيان ومشيخة فانية ورجالًا ضعفى، عند ذلك نظر إلى مجاعة مغضبًا وقال: ويحك! خدعتني! وأجاب مجاعة مطمئنًا: هم قومي، ولم أستطع إلا ما صنعت. وأكبر منه خالد صدق وطنيته فأجاز الصلح وسرح صاحبه.
ويُروى أن مجاعة ذهب إلى قومه قبل كتابة عهد الصلح، وقبل أن يرى خالد مَن بالحصون، فعرضه عليهم، فاعترضه سلمة بن عمير الحنفي وقال: «لا والله لا نقبل حتى نبعث إلى أهل القرى العبيد فنقاتل ولا نصالح خالدًا؛ فإن الحصون منيعة والطعام كثير والشتاء قد حضر.» وأجابه مجاعة: «إنك امرؤ غر مشئوم، غرك أني خدعت القوم حتى أجابوني إلى الصلح، فهل بقي أحد فيه خير أو به دفع! وإنما بادرتكم قبل أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن مسيلمة: قبل أن تستردف النساء سبيات، وينكحن غير حظيات.» وسمع إليه القوم فأجازوا صلحه ولم يحفلوا بقول سلمة بن عمير.
وجاء خالدًا رسول من أبي بكر ومعه أمر أن يقتل كل قادر على القتال من بني حنيفة، لكن خالدًا كان قد صالحهم؛ وهو رجل متى عهد وفى، وحُشر بنو حنيفة للبيعة والبراءة مما كانوا عليه؛ وجيء بهم إلى خالد في عسكره، فبايعوا وأعلنوا براءتهم من الردة ورجوعهم إلى الإسلام، وبعث خالد بوفد منهم إلى أبي بكر بالمدينة، فلما قدموا عليه قال لهم: ما هذا الذي استذل منكم ما استذل؟ قالوا: يا خليفة رسول الله، قد كان الذي بلغك مما أصابنا، وقد كان امرأ لم يبارك الله له ولا لعشيرته فيه.
ولعلك تسأل: كيف رضي خالد عن مجاعة بعد أن خدعه، وخالد من نعرف بأسًا وشدة! لكن نصر المسلمين المؤزر جعل خالدًا أدنى إلى التسامح؛ وقد بلغ قتلى بني حنيفة مبلغًا زاده تسامحًا … قيل: إن الذين قتلوا في حديقة الموت بلغوا سبعة آلاف، وإن مثل هذا العدد قتل منهم في الميدان، وإن سبعة آلاف أخرى قتلوا حيث بث خالد جنوده تطارد الفارين، هذا إلى أن الصلح الذي عقده مجاعة قد ترك للمسلمين كل ما غنموا من ذهب وفضة وسلاح، وجعل لهم ربع السبي، وجعل لهم في كل قرية من قرى بني حنيفة حديقة ومزرعة يختارهما خالد، فإن يكن مجاعة قد أنجى بعد ذلك من بقي من قومه فلم يقتل منهم كل قادر على القتال، فإن قومه جميعًا قد رجعوا إلى الإسلام وأقروا بسلطان أبي بكر، أما وقد بلغ خالد ذلك كله فليس له أن يغضب من مجاعة لخدعته أو ينقم منه بسببها.
وكما بلغ قتلى بني حنيفة ذلك العدد لم يكن يدور بخلد أحد من أهل ذلك العصر في بلاد العرب، بلغ عدد القتلى من المسلمين مبلغًا جاوز كل ما كان يجري في تقديرهم، قتل فيها من المهاجرين ثلاثمائة وستون، ومن الأنصار ثلاثمائة، وذلك خلا من قتلوا من أهل القبائل، وبلغ مجموع قتلى المسلمون مائتين وألفًا.
ولقد عير المهاجرون والأنصار أهل القبائل وفاخروهم بعدد قتلاهم، ولم يكن تفوق المهاجرين والأنصار مقصورًا على زيادة العدد في القتلى، بل كان بين هؤلاء تسعة وثلاثون من كبار الصحابة ومن حفاظ القرآن، وأنت تعرف ما لهؤلاء وأولئك من قدر ومقام بين المسلمين، ولكن! رب ضارة نافعة؛ فقد كان مقتل هؤلاء الحفاظ سبب جمع القرآن في خلافة أبي بكر مخافة أن يستحر القتل في سائرهم من بعد، كما استحر فيمن حضر منهم غزوة اليمامة.
ولم يكن يعدل حزن المسلمين بمكة والمدينة على هؤلاء القتلى إلا فرحهم بما آتاهم الله من النصر، عاد عبد الله بن عمر بن الخطاب بعد أن أبلى في اليمامة أحسن البلاء، فلما لقيه أبوه قال له: «ما جاء بك وقد هلك زيد! ألا واريت وجهك عني!» وأجاب عبد الله: «قد حرصت على ذلك أن يكون، ولكن نفسي تأخرت فأكرمه الله بالشهادة.» وفي رواية أنه قال: «سأل الله الشهادة فأعطيها، وجهدت أن تساق إليَّ فلم أعطها.» وليس حزن عمر لمقتل أخيه زيد إلا مثلًا لما عم مكة والمدينة من أسى على الأبطال الذين استشهدوا في قتال مسيلمة.
أفحزن خالد بن الوليد كما حزنوا؟ أفأزعجه منظر القتلى وروعه مسيل الدماء؟! كلا! ولو أن ذلك كان لما جاز له يومًا أن يتولى القيادة، وأن يكون فاتح العراق والشام، وموطد الأساس الأول للإمبراطورية الإسلامية، وأين القائد القادر الذي لا يهتز طربًا حين يرى الألوف من الأعداء يخرون صرعى أمام جيوشه! لم يُرَع خالد إذن ولم ينزعج؛ بل إنه لم يلبث حين اطمأن إلى النصر وأتم الصلح وتسلم زمام الأمر أن دعا مجاعة إليه وقال له: «زوجني ابنتك.» وكان مجاعة قد سمع بحديث ليلى أم تميم وباستدعاء أبي بكر خالدًا وتعنيفه إياه على ما فعل مما يخالف تقاليد العرب، فقال: «مهلًا! إنك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك.» ولم يعجب خالدًا هذا الكلام فلم يعره أية عناية، بل حدق إلى الرجل وقال: «أيها الرجل زوجني.» ومن ذا يستطيع أن يعصي له إثر نصره في اليمامة أمرًا! وزوجه مجاعة ابنته، فدخل بها في بيت أبيها، ثم جعل لها فسطاطًا يجاور فسطاط أم تميم.
وبلغ أبا بكر ما صنع خالد، فتولته الدهشة أول ما عرفه، ثم استحالت الدهشة غضبًا، فاستحال الغضب ثورة، لقد كان كل دفاعه عنه في حادث أم تميم أنه لم يقتل زوجها ليتزوجها، وأنه إن يكن أخطأ فإنما خطؤه أنه خالف تقاليد العرب وصنع ما يعيبونه من مثل هذا التزوج والدماء تقطر والمآتم قائمة، فكيف به يكرر فعلته في اليمامة وقد قُتل بها من المسلمين مائتان وألف، ولم يكن قتل منهم أحد في حادث مالك بن نويرة! لذلك لم يملك أبو بكر وهو الحليم غضبه، بل دفعته ثورته فكتب إليه كتابًا «يقطر بالدم» على حد تعبير الطبري، جاء فيه: «لعمري يا بن أم خالد إنك لفارغ! تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجفف بعد!» وتناول خالد الكتاب ونظر فيه فتألم لغضب أبي بكر وهز رأسه وجعل يقول: هذا عمل الأعيسر. يعني عمر بن الخطاب، لكن الأمر لم يجاوز الأسف لغضب أبي بكر من جانب خالد، ولم يجاوز هذه الثورة على خالد وهذا الكتاب إليه من جانب أبي بكر.
ومن تكون بنت مجاعة في أعياد النصر التي يجب أن تُقام لخالد؟! إنها لن تزيد على قربان يطرح على قدمي هذا العبقري الفاتح الذي روى أرض اليمامة بالدماء لعلها تطهر من رجسها، بل إنها لن تزيد على جارية من الجواري اللائي يضربن بالدفوف في هذه الأعياد ويتغنين مطربات، أن عاد مهد الإسلام كاملًا إلى حمى الإسلام. لكن تبارك اسمك اللهم، إن الإسلام لا يعرف هذه الأعياد، وإنما يعرف أن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء، وقد آتاه خالدًا، فأعز به دينه الحق، ومحق به الردة والمرتدين.
محا خالد الردة والمرتدين بغزوة اليمامة ومحقهم، بذلك آن لبلاد العرب أن تطمئن وتدين بدين الله، فأما ما بقي من أنباء حروب الردة بمهرة وعمان واليمن مما تلا اليمامة فلم يكن في مثل خطرها، من ثم آن لأبي بكر بعد اليمامة أن تسكن نفسه، وآن لخالد بعدها أن يستريح.
وتحول خالد إلى وادٍ من أودية اليمامة يقال له الوبر، وكان له به منزل جمع فيه بنت مجاعة وأم تميم.
أفطال هناك مقامه وكملت هناك راحته؟ ذلك شأن لم تحدثنا به كتب التاريخ، لكن سياسة أبي بكر وسياسة الإسلام كانت لا تزال في حاجة إلى سيف خالد، وسنلقاه لذلك عما قريب، فإلى الملتقى عبقري الحرب وسيف الله! إلى الملتقى على شواطئ الفرات!