الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
عَادَ التَّاجِرُ «صَفَاءٌ» إِلَى بَلَدِهِ، بَعْدَ رِحْلَةٍ طَوِيلَةٍ اسْتَغْرَقَتْ شَهْرَيْنِ، وَنَعِمَ بِلِقَاءِ أُسْرَتِهِ. وَقَدْ غَمَرَ السُّرُورُ — بِعَوْدَتِهِ — قُلُوبَ وَلَدَيْهِ: «ثَرْوَةَ» وَ«لَيْلَى»، وَابْنَ أُخْتِهِ «مَحْمُودٍ».
وكَانَ «مَحْمُودٌ» قَدْ حَلَّ ضَيْفًا فِي بَيْتِ خَالِهِ مُنْذُ أَيَّامٍ.
وَكَانَتْ «لَيْلَى» — حِينَئِذٍ — طِفْلَةً فِي الثَّامِنَةِ مِنْ عُمْرِهَا، وَأَخُوهَا «ثَرْوَةُ» فِي الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ، أَمَّا ابْنُ عَمَّتِهِمَا «مَحْمُودٌ» فَكَانَ فِي الْعَاشِرَةِ.
وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْأَطْفَالُ مِنْ أَكْرَمِ الْأَوْلَادِ، وَأَذْكَاهُمْ، وَأَطْيَبِهِمْ نَفْسًا.
وَكَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ «صَفَاءً» قَلَّمَا يَعُودُ مِنْ سَفَرٍ إِلَّا وَمَعَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْهَدَايَا النَّافِعَةِ، الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ الْجَمَالِ وَالْفَائِدَةِ، وَكَانُوا جِدَّ مَشْغُوفِينَ بِمَعْرِفَةِ مَا تَخَيَّرَهُ لَهُمْ مِنَ الْهَدَايَا فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، وَبَعْدَ لَحَظَاتٍ قَلِيلَةٍ — نَعِمَ فِيَهَا «صَفَاءٌ» بِالرَّاحَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ — فَتَحَ صُنْدُوقًا جَمِيلَ الشَّكْلِ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ بِحُرُوفٍ كَبِيرَةٍ: «سَرِيعُ الِانْكِسَارِ».
وَأَخْرَجَ مِنْهُ أَوَّلًا ثُرَيَّا بَدِيعَةً مِنَ الْبَلُّورِ، مَحْزُومَةً بِعِنَايةٍ، وَقَالَ: «هَذِهِ لِأُمِّكُمَا.»
فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ:
«آهٍ! يَا لَهَا مِنْ مُفَاجَأَةٍ سَارَّةٍ، فَقَدْ طَالَمَا تَمَنَّيْتُ أَنْ أَظْفَرَ بِمِثْلِ هَذِهِ الثُّرَيَّا، لِأُجَمِّلَ بِهَا الْبَيْتَ.
أَلَا مَا أَبْدَعَ فُرُوعَهَا الْبَلُّورِيَّةَ الْمُزَخْرَفَةَ، الَّتِي تَتَدَلَّى مِنْهَا تِلْكَ الْكُرَاتُ الْجَمِيلَةُ، فَيَنْبَعِثُ — مِنْ سَنَاهَا وَلَأْلَائِهَا — مِثْلُ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ وَأَضْوَائِهَا.»
فَشَكَرَ لَهَا «صَفَاءٌ» مَا سَمِعَهُ عَلَى هَدِيَّتِهِ مِنْ ثَنَاءٍ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْأَوْلَادِ قَائِلًا: «كَلَّا، لَمْ أَنْسَكُمْ قَطُّ، أَيُّهَا الْأَعِزَّاءُ؛ فَهَذِهِ آنِيَةٌ مِنَ الْبَلُّورِ لِدُمْيَةِ «لَيْلَى»، وَقَدْ صُنِعَتْ عَلَى أَبْدَعِ نَسْقٍ شَهِدَتْهُ أَفْخَمُ الْمَوَائِدِ.»
فَقَالَتْ «لَيْلَى» وَهِيَ شَدِيدَةُ الْفَرَحِ بِالْهَدِيَّةِ: «شُكْرًا لَكَ يَا أَبِي، فَهِيَ جَمِيلَةٌ بِلا شَكٍّ، وَمَا أَلْيَقَ دُمْيَتِي (عَرُوسِي) بِهَا، أَمَّا هَذِهِ الْأَقْدَاحُ وَالْأَبَارِيقُ وَالْقَوَارِيرُ، فَإِنِّي سَأَدَّخِرُهَا عِنْدِي، فَلَا أُخْرِجُهَا إِلَّا إِذَا تَنَاوَلْتُ طَعَامَ الْعَصْرِ فِي الْحَدِيقَةِ، أَوْ دَعَوْتُ بَعْضَ صَوَاحِبِي وَصَدِيقَاتِيَ الْعَزِيزَاتِ.»
وَاسْتَأْنَفَ «صَفَاءٌ» قَائِلًا: «أَمَّا أَنْتُمَا — يَا وَلَدَيَّ — فَقَدْ أَحْضَرْتُ لِكُلٍّ مِنْكُمَا مِحْبَرَةً وَرَمْلِيَّةً مِنَ الْبَلُّورِ، قَائِمَتَيْنِ عَلَى خَشَبِ الْآبُنُوسِ.»
فَقَالَ «ثَرْوَةُ»: «مَا أَبْدَعَ مَا تَخَيَّرْتَ لَنَا يَا أَبَتَاهُ، وَلَنْ أُلَطِّخَ دَوَاتِي بِالْمِدَادِ (الْحِبْرِ) أَبَدًا.»
وَقَالَ «مَحْمُودٌ»: «سَأَجْعَلُ مِحْبَرَتِي (دَوَاتِي) نَظِيفَةً دَائِمًا، وَسَأَضَعُ فِي الرَّمْلِيَّةِ رَمْلًا أَزْرَقَ جَمِيلًا، كَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي مَكْتَبِكَ يَا خَالِي الْعَزِيزَ.»
فَقَالَ «صَفَاءٌ»، وَقَدْ سُعِدَ بِسُرُورِهِمَا: «سَأُعْطِيكُمَا مَا تَطْلُبَانِ مِنَ الرَّمْلِ.»
وَسَأَلَتْهُ زَوْجَتُهُ: «مِنْ أَيْنَ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ الطُّرَفَ الْجَمِيلَةَ؟»
فَقَالَ «صَفَاءٌ»: «زُرْتُ فِي رِحْلَتِي بَعْضَ مَصَانِعِ الْبَلُّورِ، وَاخْتَرْتُ هَذِهِ الطَّرَائِفَ مِنْهَا.»
فَقَالَ «ثَرْوَةُ»: «مَا أَشْوَقَنِي إِلَى رُؤْيَةِ بَعْضِ هَذِهِ الْمَصَانِعِ!
وَإِنَّ دَهْشَتِي لَتَعْظُمَ، كُلَّمَا فَكَّرْتُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْهَدَايَا الْبَدِيعَةِ — الَّتِي أَحْضَرْتَهَا لَنَا — وَحَاوَلْتُ أَنْ أَتَمَثَّلَ كَيْفَ تُصْنَعُ؟ وَبِأَيِّ وَسِيلَةٍ تَيَسَّرَ لِصَانِعِيهَا أَنْ يَصِلُوا بِهَا إِلَى هَذَا الْحَدِّ مِنَ الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ، وَالصَّقْلِ واللَّمَعَانِ، حَتَّى بَلَغَتْ هَذَا الْمَبْلَغَ مِنَ الْمَتَانَةِ وَالْجَمَالِ الشَّفَّافِ؟»
وَسَأَلَهُ مَحْمُودٌ: «أَحَقًّا — يَا خَالِيَ الْعَزِيزَ — أَنَّكَ رَأَيْتَ بِعَيْنَيْكَ مَصْنَعَ الْبَلُّورِ؟»
فَقَالَ «صَفَاءٌ»: «وَأَيُّ عَجَبٍ فِي ذَلِكَ؟
لَقَدْ رَأَيْتُ كَثِيرًا مِنْ مَصَانِعِ الزُّجَاجِ فِي مُخْتَلِفِ الْبُلْدَانِ، وَشَاهَدْتُ كَيْفَ يُبْدِعُ الصُّنَّاعُ أَنْوَاعَ الزُّجَاجِ عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهِ وَأَلْوَانِهِ، وكَيْفَ يَتَأَنَّقُونَ فِي صُنْعِ الْمَرَايَا وَالْآنِيَةِ وَالْكُئُوسِ وَالْأَقْدَاحِ وَالْأَكْوَابِ، وَمَا إِلَى هَذَا مِمَّا تُشَاهِدُونَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ.»
فَقَالَ «مَحْمُودٌ»: «مَا أَشْوَقَنَا إِلَى سَمَاعِ شَيْءٍ مِمَّا اسْتَرْعَى نَظَرَكَ مِنَ الْمَشَاهِدِ؛ فَقَدْ طَالَمَا شُغِفْنَا بِسَمِاعِ طَرَفٍ مِنْ أَخْبَارِ الزُّجَاجِ، يُوَضِّحُ لَنَا: مِمَّ يُصْنَعُ، وَكَيْفَ يُصْقَلُ ثُمَّ يُصَاغُ أَكْوَابًا وَأَوَانِيَ وَثُرَيَّا وَمَصَابِيحَ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنَ الطَّرَائِفِ؟
وَمَا نَدْرِي كَيْفَ يُوَفَّقُ الزَّجَّاجُونَ (صَانِعُو الزُّجَاجِ) إِلَى بُلُوغِ ذَلِكَ، بِحَيْثُ يَجْمَعُ بَيْنَ مَا نَرَاهُ مِنَ الدِّقَّةِ وَالْمَتَانَةِ؟! وَكَيْفَ أُتِيحَ لَهُمْ أَنْ يُكْسِبُوهُ ذَلِكَ الشُّفُوفَ الَّذِي لَا يَعُوقُ الْبَصَرَ عَنْ رُؤْيَةِ مَا وَرَاءَهُ، بِحَيْثُ تَتَخَطَّاهُ الْعَيْنُ، فَلَا تَفْطُنُ إِلَى وُجُودِهِ!»
فَقَالَ «صَفَاءٌ»: «إِنِّي مُجِيبُكُمْ إِلَى طِلْبَتِكُمْ، بَعْدَ أَنْ أَسْتَرِيحَ مِنْ عَنَاءِ السَّفَرِ.»
وَمَا مَضَتْ أَيَّامٌ قَلَائِلُ حَتَّى جَمَعَ «صَفَاءٌ» أُسْرَتَهُ، وَجَلَسَ يَسْمُرُ بَيْنَهُمْ فِي مُسْتَشْرِفِ الدَّارِ، الْمُزَيَّنِ بِمُخْتَلِفِ النَّبَاتِ وَالْأَزْهَارِ، تَحْقِيقًا لِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ.
سَأَلَتْهُ «لَيْلَى»: «مِنْ أَيْنَ يُسْتَخْرَجُ الزُّجَاجُ يَا أَبِي؟»
فَقَالَ «صَفَاءٌ»:
«إِنَّ الزُّجَاجَ الَّذِي تَسْأَلِينَنِي عَنْهُ — أَعْنِي الزُّجَاجَ الَّذِي تُصْنَعُ مِنْهُ الْأَقْدَاحُ وَالْآنِيَةُ وَالْقَوَارِيرُ (الزُّجَاجَاتُ) وَمَا إِلَيْهَا — لَيْسَ مِنَ الْمَعَادِنِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي يَسْتَخْرِجُهَا النَّاسُ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْفَحْمِ الْحَجَرِيِّ وَالْمَاسِ وَأَمْثَالِهَا.
إِنَّ الزُّجَاجَ — الَّذِي تَسْأَلِينَنِي عَنْهُ — لَيْسَ مِنْ مَعَادِنِ الْأَرْضِ، بَلْ هُوَ ثَمَرَةُ صِنَاعَةٍ بَارِعَةٍ، قَائِمَةٍ عَلَى الْخِبْرَةِ وَالتَّجْرِبَةِ، مُسْتَمَدَّةٍ أَسْرَارُهَا مِنَ الْبُحُوثِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُتَتَابِعَةِ.
وَقَدِ ارْتَقَتْ هَذِهِ الصِّنَاعَةُ عَلَى مَرِّ الْأَجْيَالِ، حَتَّى بَلَغَتِ الْغَايَةَ مِنَ الصَّقْلِ وَالْإِتْقَانِ، وَالشُّفُوفِ وَاللَّمَعَانِ: هَذَا هُوَ الزُّجَاجُ الصِّنَاعِيُّ.
عَلَى أَنَّ فِي جَوْفِ الْأَرْضِ نَوْعًا مِنَ الزُّجَاجِ الطَّبِيعِيِّ، وَالزُّجَاجِ الْبُرْكَانِيِّ، وَالْعَقِيقِ.
وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ قَلِيلٌ نَادِرٌ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَطَالِبِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ — لِقِلَّتِهِ وَنَدْرَتِهِ — لَا يَقُومُ بِحَاجَةِ النَّاسِ.»
فَسَأَلَتْهُ «لَيْلَى»: «خَبِّرْنِي يَا أَبِي، كَيْفَ اهْتَدَى الْبَاحِثُونَ إِلَى اخْتِرَاعِ الزُّجَاجِ؟»
فَقَالَ «صَفَاءٌ»:
«ذَلِكَ مَا لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ؛ فَهُوَ مِنَ الْأَسْرَارِ الِّتِي خُفِيَتْ عَنَّا، وَضَاعَتْ فِي مَجَاهِلِ التَّارِيخِ.
وَكَمْ مِنْ حَقَائِقَ غَفَلَ عَنْ تَسْجِيلِهَا الْبَاحِثُونَ، وَحَقَائِقَ أُخْرَى سُجِّلَتْ ثُمَّ بَدَّدَتِ الْحَوَادِثُ سِجِلَّاتِهَا، وَمَحَتْ صَفَحَاتِهَا، فَضَاعَتْ فِي زَوَايَا النِّسْيَانِ.
وَمِنْ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْمَجْهُولَةِ، الَّتِي لَمْ يُوَفَّقِ الْبَاحِثُونَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، اخْتِرَاعُ الزُّجَاجِ!
وَمَنْ يَدْرِي؟ فَلَعَلَّهُ انْتَقَلَ إِلَيْنَا مُصَادَفَةً، أَوْ لَعَلَّ بَعْضَ أَسْلَافِنَا — مِنَ الْقُدَمَاءِ — عَمَدُوا إِلَى مَا قَذَفَتْهُ الْبَرَاكِينُ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ الزُّجَاجِ!
وَلِئِنْ عَجَزْنَا عَنْ الِاهْتِدَاءِ إِلَى أَوَّلِ مَنِ اخْتَرَعَهُ، وَعَزَّ عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَرَّفَهُ عَلَى وَجْهِ الْيَقِينِ، لَمْ يُعْجِزْنَا أَنْ نَظْفَرَ بِمَا تَخَيَّلَهُ الْقُدَمَاءُ مِنْ أَسَاطِيرَ بَارِعَةٍ، تَمَثَّلُوا فِيهَا كَيْفَ ذَاعَ سِرُّهُ لِلنَّاسِ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اخْتِرَاعَ الزُّجَاجِ جَاءَ مُصَادَفَةً، فَإِنَّ النَّاسَ قَلَّمَا يَلْجَئُونَ إَلَى اخْتِرَاعِ الْأَسَاطِيرِ، إِلَّا إِذَا عَجَزُوا عَنْ الِاهْتِدَاءِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ.
وَإِلَيْكُمُ الْأُسْطُورَةَ الْأُولَى.»