الْفَصْلُ الثَّانِي
مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ، لَا يَقِلُّ عَنْ آلَافٍ ثَلَاثَةٍ مِنَ السِّنِينَ، عَاشَ جَمَاعَةٌ مِنَ التُّجَّارِ الْفِينِيقِيِّينَ، الْمَعْرُوفِينَ بِالنَّشَاطِ، وَكَانُوا يَتَنَقَّلُونَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، حَتَّى بَلَغُوا «مِصْرَ»، فَأَقَامُوا بِهَا زَمَنًا، ثُمَّ عَادُوا مِنْهَا بِأَكْيَاسٍ مَمْلُوءَةٍ بِالنَّطْرُونِ، وَهُوَ مَا نُطْلِقُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ اسْمَ: «كَرْبُونَاتِ الصُّودَا».
وَهِيَ — كَمَا تَعْلَمُونَ — مِنَ الْمَوَادِّ الْبَلُّورِيَّةِ، وَتُسْتَخْدَمُ فِي التَّبْيِيضِ وَالصِّبَاغَةِ، وَلَا تَزَالُ تُسْتَخْدَمُ فِي صِنَاعَةِ الزُّجَاجِ إِلَى الْيَوْمِ؛ وَلِسَائِلِهَا فِيهِ أَثَرٌ فَعَّالٌ، كَمَا تُسْتَخْدَمُ الصُّودَا الْكَاوِيَةُ فِي صِنَاعَةِ الصَّابُونِ.
وَبَيْنَا هَؤُلَاءِ التُّجَّارُ عَائِدُونَ مِنْ سَفَرِهِمُ الطَّوِيلِ إِلَى وَطَنِهِمْ: «سِيدُونَ»؛ بَلَغُوا نَهْرَ «بِيلُوسَ»: أَحَدَ أَنْهَارِ «فِينِيقِيَّةَ».
وَكَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ التَّعَبُ، فَأَمَرَهُمْ زَعِيمُهُمْ أَنْ يَحُلُّوا فِي هَذَا الْمَكَانِ، لِيَأْخُذُوا قِسْطَهُمْ مِنَ الرَّاحَةِ وَالنَّومِ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُوا سَفَرَهُمْ غَدًا.
فَضَرَبَتِ الْقَافِلَةُ خِيَامَهَا عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ.
وَأَسْرَعَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَتْبَاعِ الزَّعِيمِ إِلَى إِقَامَةِ الْخِيَامِ، وَأَسْرَعَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى لِتَجْلُبَ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْقَافِلَةُ مِنْ خَشَبٍ وَحَطَبٍ وَأَحْجَارٍ، لِكَي يَتَّخِذُوا مِنَ الْخَشَبِ وَالْحَطَبِ وَقُودًا، وَمِنَ الْحِجَارَةِ مَوْقِدًا.
وَكَانَ الْحَطَبُ كَثِيرًا مَوْفُورًا، فَلَمْ يَلْقَوْا فِي إِحْضَارِهِ أَقَلَّ عَنَاءٍ. أَمَّا الْحِجَارَةُ فَكَانَتْ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ بَحَثُوا عَنْهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَلَمْ يَظْفَرُوا بِحَجَرٍ، وَلَمْ يَعْثُرُوا لَهُ عَلَى أَثَرٍ. فَأَعْلَنُوا لِزَعِيمِهِمْ عَجْزَهُمْ عَنْ الِاهْتِدَاءِ إِلَى مَكَانِ الْحِجَارَةِ.
فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ لَدَيْنَا عِوَضًا عَنْهَا.»
فَسَأَلُوهُ: «أَيَّ عِوَضٍ تَعْنِي؟»
فَقَالَ: «عِنْدَنَا قِطَعٌ كَثِيرَةٌ مِمَّا جَلَبْنَاهُ مِنْ «مِصْرَ» مِنْ أَحْجَارِ النَّطْرُونِ الْكَبِيرَةِ، وَهِيَ تُغْنِينَا عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْجَارِ، فَاصْنَعُوا مِنْهَا مَوْقِدًا.»
فَحَبَّذُوا اقْتِرَاحَهُ، وَاتَّخَذُوا مِنْهَا أَثَافِيَّ (وَهِيَ الْأَحْجَارُ الَّتِي تُوضَعُ عَلَيْهَا الْقِدْرُ.)
وَظَلُّوا يُوقِدُونَ النَّارَ عَلَى الرِّمَالِ الدَّقِيقَةِ، الَّتِي تَتَأَلَّفُ مِنْهَا أَرْضُ ذَلِكَ الْمَكَانِ، بَعْدَ أَنْ وَضَعُوا عَلَيْهَا قِطَعَ الصُّودَا، وَأَقَامُوا فَوْقَهَا أَوَانِيَهُمْ؛ لِيُنْضِجُوا مَا فِيهَا مِنَ اللَّحْمِ.
فَلَمَّا أَكَلُوا، رَقَدُوا حَوْلَ مَوْقِدِهِمْ وَادِعِينَ.
وَظَلَّتِ النَّارُ تَتَلَظَّى مُشْتَعِلَةً طُولَ اللَّيْلِ.
وَلَمَّا هَمَّ التُّجَّارُ بِرَفْعِ أَوَانِيهِمْ فِي الصَّبَاحِ، وَعَزَمُوا عَلَى اسْتِئْنَافِ سَفَرِهِمْ، اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّهْشَةُ، حِينَ بَحَثُوا عَنْ أَحْجَارِ النَّطْرُونِ؛ فَلَمْ يَجِدُوا لَهَا أَثَرًا.
وَضَاعَفَ مِنْ دَهْشَتِهِمْ أَنَّهُمْ وَجَدُوا مَكَانَهَا مَادَّةً أُخْرَى بَرَّاقَةً شَفَّافَةً يَجْهَلُونَهَا الْجَهْلَ كُلَّهُ، وَلَا يَعْرِفُونَ مِنْ أَمْرِهَا شَيْئًا.
فَسَأَلَهُمُ الزَّعِيمُ: «أَيْنَ ذَهَبَتْ أَحْجَارُ الصُّودَا؟»
فَأَجَابَهُ أَحَدُ أَتْبَاعِهِ: «عَجِيبٌ أَنَّهَا اسْتَخْفَتْ، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا اسْتُبْدِلَتْ بِهَا تِلْكَ الْمَادَّةُ الصُّلْبَةُ اللَّامِعَةُ، الَّتِي تَخْتَرِقُهَا أَشِعَّةُ الشَّمْسِ.»
فَقَالَ زَعِيمُهُمْ مُتَحَيِّرًا:
«تُرَى مَنِ الَّذِي سَرَقَ حِجَارَتَنَا؟
وَهَلْ حَدَثَ هَذَا فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ وَنَحْنُ نَائِمُونَ؟»
فَقَالَ أَحَدُ أَصْحَابِهِ: «لَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْعَجِيبَةَ لَا يَجْرُؤُ عَلَيْهَا إِلَّا جِنِّيٌّ أَرَادَ أَنْ يُعَاكِسَنَا وَيَسْخَرَ مِنَّا.»
وَظَلَّ التُّجَّارُ الْفِينِيقِيُّونَ يَتَدَاوَلُونَ الْقِطَعَ الْجَدِيدَةَ، وَيُنْعِمُونَ النَّظَرَ فِيهَا، وَاحِدًا بَعْدَ الْآخَرِ، وَيُطِيلُونَ تَأَمُّلَهَا وَالْفَحْصَ عَنْهَا، وَقَدِ اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِمْ دَهْشَةٌ، يُخَامِرُهَا شَيْءٌ مِنَ الْفَزَعِ وَالرُّعْبِ.
وَكَانَ بَيْنَهُمْ شَيْخٌ مُجَرَّبٌ، مَعْرُوفٌ بِالْحَصَافَةِ وَالْحِكْمَةِ؛ فَرَاحَ يُعْمِلُ فِكْرَهُ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ لِرِفَاقِهِ:
«أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الرَّمْلَ — الَّذِي وَضَعْنَا فَوْقَهُ أَحْجَارَ الصُّودَا وَأَوْقَدْنَا عَلَيْهِ النَّارَ — قَدِ اسْتَخْفَى، كَمَا اسْتَخْفَتْ أَحْجَارُ الصُّودَا مَعَهُ، وَلَمْ تَبْقَ مِنَ الرَّمْلِ إِلَّا آثَارٌ قَلِيلَةٌ، لَا تَزَالُ عَالِقَةً بِهَذِهِ الْمَادَّةِ الْجَدِيدَةِ الشَّفَّافَةِ.
ارْجِعُوا الْبَصَرَ — كَرَّةً أُخْرَى — تَرَوْا قِطَعًا مِنَ الْفَحْمِ لَمْ تَخْمُدْ نَارُهَا بَعْدُ.
أَلَيْسَ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ تَكُونَ النَّارُ قَدْ مَزَجَتِ النَّطْرُونَ بِالرَّمْلِ، وَأَلَّفَتْ مِنْهُمَا — بَعْدَ الِامْتِزَاجِ — هَذِهِ الْمَادَّةَ الشَّفَّافَةَ؟»
فَقَالَ الزَّعِيمُ: «ذَلِكَ أَمْرٌ مُحْتَمَلُ الْوُقُوعِ.
فَلْنُوقِدِ النَّارَ عَلَى الرَّمْلِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلْنَضَعَ عَلَيْهَا قِطَعًا مِنْ أَحْجَارِ النَّطْرُونِ، لِنَرَى مَاذَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهَا.
فَإِذَا تَأَلَّفَتْ مِنْهَا تِلْكَ الْمَادَّةُ الْغَرِيبَةُ الشَّفَّافَةُ، صَحَّ مَا تَقُولُ.»
وَبَقِيَتِ الْقَافِلَةُ — فِي مَكَانِهَا — يَوْمًا آخَرَ، حَيْثُ أَوْقَدَتْ نَارًا حَامِيَةً، أَقَامَتْ عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنَ الصُّودَا.
وَظَلَّ التُّجَّارُ يَرْقُبُونَ النَّارَ سَاعَاتٍ طَوِيلَةً، وَهُمْ يُؤَجِّجُونَ وَقُودَهَا، وَلَا يَتَوَانَوْنَ عَنْ تَزْوِيدِهَا بِالْحَطَبِ وَالْخَشَبِ — بَيْنَ حِينٍ وَحِينٍ — حَتَّى انْقَضَى النَّهَارُ كُلُّهُ؛ فَرَأَوْا سَائِلًا أَحْمَرَ يَنْسَابُ مِنْ خِلَالِ الرَّمَادِ، وَيَجْرِي فِي أَثْنَائِهَ، ثُمَّ يَنْعَقِدُ مُتَجَمِّدًا — شَيْئًا فَشَيْئًا — كُلَّمَا بَرَدَ.
•••
فَأَقْبَلَ التُّجَّارُ عَلَى تِلْكَ الْمَادَّةِ مَدْهُوشِينَ مِمَّا وُفِّقُوا إِلَيْهِ مِنَ اخْتِرَاعٍ، وَأَخَذَ كُلُّ تَاجِرٍ قِطْعَةً مِنْهَا، لِيَحْمِلَهَا إِلَى «سِيدُونَ».
وَكَانَتْ هَذِهِ الرِّحْلَةُ بِدَايَةَ عَهْدٍ جَدِيدٍ، بَعْدَ أَنْ كُشِفَ لِلْعَالَمِ الْغِطَاءُ عَنْ سِرِّ الزُّجَاجِ، وَكَانَ مَطْوِيًّا قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وكَانَتْ خُطْوَةً مُوَفَّقَةً، تَبِعَتْهَا خُطُوَاتٌ، مَمْلُوءَةٌ بِالْيُمْنِ وَالْبَرَكَاتِ.