الْفَصْلُ الثَّالِثُ
فَقَالَ «ثَرْوَةُ»: «مَا أَعْجَبَهَا قِصَّةً يَا أَبَتَاهُ!»
وَقَالَتْ «لَيْلَى» وَ«مَحْمُودٌ»: «مَا سَمِعْنَا أَبْرَعَ مِنْهَا فِي كُلِّ مَا سَمِعْنَاهُ.»
فَقَالَ «صَفَاءٌ»: «هَلْ سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةِ الزُّجَاجِ؟»
فَقَالَ «ثَرْوَةُ» وَ«مَحْمُودٌ»: «مَا سَمِعْنَا بِهَذِهِ الْمَدِينَةِ قَبْلَ الْآنَ!»
وَقَالَتْ «لَيْلَى»: «لَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ كَانَ يُطْلَقُ — مُنْذُ قَدِيمِ الزَّمَانِ — عَلَى مَدِينَةِ «طِيبَةَ»: تِلْكَ الْمَدِينَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَظِيمَةِ، الَّتِي كَانَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا — مُنْذُ آلَافِ السِّنِينَ — اسْمُ مَدِينَةِ الزُّجَاجِ، وَكَانَ لَهَا — فِيمَا سَمِعْتُ — مِائَةُ بَابٍ، وَلَا يَزَالُ مَا بَقِيَ مِنْ أَطْلَالِهَا وَآثَارِهَا مَاثِلًا إِلَى الْيَوْمِ، يُدْهِشُ مَنْ رَآهُ.»
فَقَالَ «صَفَاءٌ»: «صَدَقْتِ يَا «لَيْلَى»! فَهَلْ عَرَفْتِ لِمَ أُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ مَدِينَةِ الزُّجَاجِ؟»
– كَلَّا يَا أَبَتِ، وَمَا أَشْوَقَنِي إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ!
– لَقَدْ تَرَكَ لَنَا الْقَصَّاصُونَ أُسْطُورَةً بَدِيعَةً، زَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتِ السَّبَبَ فِي إِطْلَاقِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا.
– لَعَلَّهَا كَسَابِقَتِهَا إِمْتَاعًا وَتَشْوِيقًا!
– بَلْ هِيَ أَمْتَعُ مِنْهَا وَأَبْدَعُ.
– لَيْتَكَ تَقُصُّهَا عَلَيْنَا يَا أَبِي.
– لَكُمْ مَا تَشَاءُونَ، اسْتَمِعُوا لِي:
زَعَمُوا أَنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ «طِيبَةَ» الْأَقْدَمِينَ — وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَرَاعِنَةِ وَأَقْوَاهُمْ — كَانَ لَهُ بِنْتٌ، هِيَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي جَمَالِ الصُّورَةِ وَصَفَاءِ الطَّبْعِ، تَجْمَعُ بَيْنَ الذَّكَاءِ وَكَرَمِ النَّفْسِ.
وَرَأَى وَالِدُهَا أَلَّا يُزَوِّجَهَا أَحَدًا إِلَّا إِذَا كَانَ أَوْحَدِيَّ زَمَانِهِ؛ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ سَابِقٌ، لِيَكُونَ جَدِيرًا بِالزَّوَاجِ بِالْأَمِيرَةِ الَّتِي عَهِدَ إِلَيْهَا بِوِلَايَةِ عَهْدِهِ، وِالسَّهَرِ عَلَى مُلْكِ «مِصْرَ» مِنْ بَعْدِهِ!
فَأَعْلَنَ ذَلِكَ الْفِرْعَونُ فِي أَرْجَاءِ مُلْكِهِ أَنَّ الْأَمِيرَةَ لَنْ تَتَزَوَّجَ إِلَّا رَجُلًا مُنْفَرِدًا بِذَكَائِهِ وَكِفَايَتِهِ وَنَفَاذِ بَصِيرَتِهِ.
وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ أَنْ يُوَفَّقَ إِلَى صُنْعِ مَادَّةٍ بَرَّاقَةٍ كَالذَّهَبِ، شَفَّافَةٍ كَمَاءِ الْيَنْبُوعِ، لَيِّنَةٍ كَالرَّصَاصَ، رَنَّانَةٍ كَالنُّحَاسِ.
وَكَانَ الْمَلِكُ وَاثِقًا كُلَّ الثِّقَةِ أَنْ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ مَادَّةٌ تَجْتَمِعُ فِيهَا كُلُّ هَذِهِ الْمَزَايَا الْمُخَتَلِفَةِ. فَإِذَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا، كَانَ كُفْئًا لِلْأَمِيرَةِ الَّتِي لَيْسَ فِي الْعَالَمِ أَجْمَعَ مَنْ يُمَاثِلُهَا فِي صِفَاتِهَا النَّادِرَةِ، وَمَزَايَاهَا الْبَاهِرَةِ.
وَقَدْ يَئِسَ مِنَ الزَّوَاجِ بِالْأَمِيرَةِ جَمِيعُ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْمَطْلَبَ، وَكَانَ بَيْنَ أُولَئِكَ الْمُتَنَافِسِينَ الطَّامِعِينَ فِي زَوَاجِهَا، أَمِيرٌ ذَكِيٌّ مِنْ فِتْيَانِ النُّوبَةِ، يُدْعَى: «بِسَامِيتَ»، هَرَبَ مِنْ بِلَادِهِ إِلَى «مِصْرَ»؛ بَعْدَ أَنْ أَجْلَاهُ عَنْهَا أَعْدَاؤُهُ وَغَلَبُوهُ عَلَى أَمْرِهِ، وَقَتَلُوا أَبَاهُ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى مُلْكِهِ، ثُمَّ طَرَدُوا الْأَمِيرَ «بِسَامِيتَ»، وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَرْشِ أَبِيهِ.
فَهَرَبَ الْأَمِيرُ «بِسَامِيتُ» إِلَى مَدِينَةِ «طِيبَةَ»، حَيْثُ عَاشَ عِيشَةَ الْوَادِعِ الْفَقِيرِ، فِي كُوخٍ حَقِيرٍ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مِنْ مَوْرِدٍ يَرْتَزِقُ مِنْهُ غَيْرُ الْعِنَايَةِ بِتَرْبِيَةِ الْغَنَمِ.
وَرَأَى الْأَمِيرُ «بِسَامِيتُ» وَلِيَّةَ الْعَهْدِ: بِنْتَ «فِرْعَوْنِ مِصْرَ» أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، فَافْتَتَنَ بِمَا وَهَبَ اللهُ لَهَا مِنْ جَمَالِ الْخَلْقِ والْخُلُقِ، فَطَمَحَتْ نَفْسُهُ إِلَى الِاقْتِرَانِ بِهَا.
وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ؛ فَلَمْ يَكُنِ الْأَمِيرُ «بِسَامِيتُ» يَقِلُّ عَنْ بِنْتِ فِرْعَوْنَ شَرَفَ مَنْصِبٍ، وَعُلُوَّ مَنْزِلَةٍ، وَقَدْ كَانَ وَلِيَّ عَهْدٍ مِثْلَهَا.
وَلَكِنَّ مَا يُعَانِيهِ مِنْ فَقْرِهِ وَغُرْبَتِهِ، وَإِقْصَائِهِ عَنْ مَمْلَكَتِهِ، فَتَّ فِي عَضُدِهِ، وَقَعَدَ بِهِمَّتِهِ، فَلَمْ يَجْرُؤْ عَلَى مُفَاتَحَةِ «فِرْعَوْنَ» فِي زَوَاجِ الْأَمِيرَةِ.
وَجَلَسَ «بِسَامِيتُ» أَمَامَ بَيْتِهِ — ذَاتَ لَيْلَةٍ — كَاسِفَ الْبَالِ، مُنَكِّسَ الرَّأْسِ، حَزِينَ النَّفْسِ، وَهُوَ يَنْدُبُ حَظَّهُ التَّاعِسَ، مُتَأَلِّمًا مَحْزُونًا، مُقَابِلًا بَيْنَ يَوْمِهِ وَأَمْسِهِ، وَمَا لَقِيَهُ مِنْ حَالَيْهِ؛ فِي نَعِيمِهِ وَبُؤْسِهِ، وَكَيْفَ حَالَ الزَّمَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَرْشِهِ، وَبَاعَدَ بَيْنَ مَنْزِلَتِهِ وَمَنْزِلَةِ عِرْسِهِ.
وَأَحَسَّ الْأَمِيرُ أَنَّ الْعَاصِفَةَ تُنْذِرُ بِالْهُبُوبِ، وَرَأَى فِي الْجَوِّ سُحُبًا قَاتِمَةً تَتَجَمَّعُ فِي الْفَضَاءِ.
ثَمَّ تُدَوِّي رُعُودُهَا وَتَقْصِفُ فَيُسْمَعُ لَهَا أَصْوَاتٌ مُفَزِّعَةٌ، تَكَادُ تُصِمُّ الْآذَانَ، أَشْبَهُ بِزَئِيرِ الْأُسُودِ أَوْ عُوَاءِ الذِّئَابِ.
وَرَأَى — فِي خِلَالِ السُّحُبِ — بُرُوقًا خَاطِفَةً، يَكَادُ سَنَاهَا (ضَوْءُهَا) يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ.
•••
وَلَمْ يَمْضِ زَمَنٌ قَلِيلٌ؛ حَتَّى ظَهَرَ أَمَامَهُ فَجْأَةً شَيْخٌ وَقُورٌ، رَائِعُ السَّمْتِ، جَلِيلُ الْهَيْئَةِ، تَتَدَلَّى عَلَى صَدْرِهِ لِحْيَةٌ طَوِيلَةٌ بَيْضَاءُ، وَيَبْدُو عَلَى أَسَارِيرِهِ (خُطُوطِ جَبِينِهِ) التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ.
وَرَأَى الشَّيْخَ مُيَمِّمًا نَحْوَهُ، وَقَدْ عَلَاهُ الْغُبَارُ، حَتَّى إِذَا دَانَاهُ (اقْتَرَبَ مِنْهُ) أَقْبَلَ عَلَيْهِ يُحَيِّيهِ.
فَرَدَّ عَلَيْهِ الْأَمِيرُ تَحِيَّتَهُ أَحْسَنَ رَدٍّ، وَسَأَلَهُ إِلَى أَيْنَ يَقْصِدُ؟
فَأَجَابَهُ الشَّيْخُ: «كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُوَاصِلَ سَيْرَهُ فِي هَذَا الْجَوِّ الرَّاعِدِ الْمَطِيرِ؟
لَقَدْ تَحَيَّرْتُ؛ فَمَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ، بَعْدَ أَنْ تَحَالَفَ عَلَيَّ الْجُوعُ وَالتَّعَبُ فَأَعْجَزَانِي عَنِ السَّيْرِ؟»
فَقَالَ الْأَمِيرُ:
«فَمَاذَا عَلَيْكَ — يَا سَيِّدِي — لَوْ عَرَّجْتَ عَلَى دَارِي فَشَرَّفْتَهَا بِزِيَارَتِكَ، وَقَضَيْتَ فِيهَا مَا بَقِيَ مِنْ لَيْلَتِكَ؟»
فَأَجَابَهُ الشَّيْخُ: «شُكْرًا لَكَ يَا فَتَى.»
فَقَالَ الْأَمِيرُ: «إِنَّكَ لَتُضَاعِفُ مِنْ سَعَادَتِي، لَوْ حَلَلْتَ عِنْدِي ضَيْفًا، وَقَاسَمْتَنِي مَا لَدَيَّ مِنْ طَعَامٍ قَلِيلٍ، وَلَسْتُ أَمْلِكُ مِنَ الزَّادِ غَيْرَ الْحَلِيبِ وَالْقِشْدَةِ وَالْفَاكِهَةِ.»
فَقَالَ الشَّيْخُ: «مَا أَعْظَمَهَا مِنَّةً، وَأَكْرَمَهَا نِعْمَةً، وَمَا أَطْيَبَهُ طَعَامًا، وَأَشْهَاهُ إِدَامًا! لَقَدْ كُنْتُ أَطْمَعُ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذَا بِكَثِيرٍ. وَقَدْ قَبِلْتُ دَعْوَتَكَ، شَاكِرًا لَكَ أَرْيَحِيَّتَكَ، وَكَرَمَكَ وَمُرُوءَتَكَ.»
وَجَلَسَ الشَّيْخُ إِلَى الْمَائِدَةِ.
وَلَمْ يَأْلُ الْأَمِيرُ جُهْدًا فِي خِدْمَتِهِ، وَإِينَاسِهِ وَمُسَامَرَتِهِ، وَالتَّوَدُّدِ إِلَيْهِ، وَإِدْخَالِ الْبَهْجَةِ عَلَيْهِ.
وَأَدْرَكَ الضَّيْفُ مِنْ حَدِيثِ الْأَمِيرِ «بِسَامِيتَ» مَا لَقِيَهُ مِنْ كَيْدِ أَعْدَائِهِ الْأَقْوِيَاءِ، وَمَا كَابَدَهُ مِنْ أَحْدَاثِ الزَّمَنِ وَمَصَائِبِهِ، كَمَا عَرَفَ شَغَفَهُ بِزَوَاجِ الْأَمِيرَةِ ابْنَةِ «فِرْعَوْنَ».
وَتَأَلَّمَ لِحُزْنِ الْأَمِيرِ وَتَحَسُّرِهِ، لِعَجْزِهِ عَنْ تَحْقِيقِ رَغْبَةِ ذَلِكَ الْمَلِكِ، وَيَأْسِهِ مِنَ الظَّفَرِ بِمَهْرِ ابْنَتِهِ الَّذِي أَعْجَزَ كُلَّ خَاطِبٍ، وَأَيْأَسَ كُلَّ رَاغِبٍ.
وَخَتَمَ الْأَمِيرُ شَكْوَاهُ مُتَأَلِّمًا، وَهُوَ يَقُولُ: «وَمِنْ أَيْنَ لِمِثْلِي أَنْ يَهْتَدِيَ إِلَى تِلْكَ الْمَادَّةِ الْعَجِيبَةِ الْبَرَّاقَةِ كَالذَّهَبِ، الشَّفَّافَةِ كَمَاءِ الْيَنْبُوعِ، اللَّيِّنَةِ كَالرَّصَّاصِ، الرَّنَّانَةِ كَالنُّحَاسِ؟»
فَرَبَّتَ الشَّيْخُ كَتِفَ الْأَمِيرِ، وَقَالَ لَهُ بَاسِمًا: «مَا أَظُنُّ شَيْئًا فِي الْعَالَمِ — يَا وَلَدِي — يَتَعَذَّرُ عَلَى مَنْ مَنَحَهُ اللهُ مِثْلَ صَفَاءِ نَفْسِكَ، وَطِيبَةِ قَلْبِكَ!»
فَقَالَ الْأَمِيرُ:
«وَهَلْ يَحْتَوِي الْعَالَمُ كُلُّهُ مِثْلَ هَذِهِ الْمَادَّةِ الْعَجِيبَةِ؟ وَأَيْنَ السَّبِيلُ إِلَيْهَا، إِنْ كَانَ لَهَا وُجُودٌ؟»
فَرَبَّتَهُ الشَّيْخُ، وَقَالَ لَهُ مُهَوِّنًا عَلَيْهِ: «لَا عَلَيْكَ، أَيُّهَا الْفَتَى النَّبِيلُ.
كُنْ عَلَى ثِقَةٍ أَنَّ اللهَ فِي عَوْنِ الْأَخْيَارِ دَائِمًا.»
وَمَا إِنْ بَلَغَ الشَّيْخُ هَذَا الْحَدَّ مِنْ حِوَارِهِ، حَتَّى بَدَا عَلَى سِيمَاهُ الْجَهْدُ وَالتَّعَبُ، فَاسْتَأْذَنَ الْأَمِيرَ فِي النَّوْمِ.
وَكَانَ الْأَمِيرُ قَدْ هَيَّأَ لَهُ — فِي الْحُجْرَةِ الْمُجَاوِرَةِ — سَرِيرًا مِنْ وَرَقِ الْبَرْدِيِّ، وَأَعَدَّ لَهُ فَرْشًا وَثِيرًا مِنَ الْجِلْدِ فِي مِثْلِ نُعُومَةِ الْحَرِيرِ، فَنَامَ الشَّيْخُ وَادِعًا قَرِيرَ الْعَيْنِ.
وَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ، تَهَيَّأَ الشَّيْخُ لِاسْتِئْنَافِ سَيْرِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْأَمِيرِ — وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصَاهُ — مُسْتَأْذِنًا إِيَّاهُ فِي الذَّهَابِ إِلَى غَايَتِهِ.
فَاسْتَبْقَاهُ الْأَمِيرُ حَتَّى يُقَاسِمَهُ الْفَطُورَ، وَقَدَّمَ لَهُ كُوبًا مِنَ الْحَلِيبِ، وَصَحْفَةً مِنَ الْقِشْدَةِ، وَأَعَدَّ لَهُ رَغِيفًا سَاخِنًا أَنْضَجَهُ عَلَى الرَّمَادِ.
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ مُتَوَدِّدًا، وَهُوَ يَقُولَ:
«شُكْرًا لَكَ، أَيُّهَا الْفَتَى الصَّدِيقُ، فَقَدْ غَمَرْتَنِي بِكَرَمِكَ؛ عَلَى مَا تُعَانِيهِ مِنْ شُغْلِ الْبَالِ، وَتُكَابِدُهُ مِنْ رِقَّةِ الْحَالِ، وَقِلَّةِ الْمَالِ، لَقَدْ بَذَلْتَ فِي سَبِيلِ تَكْرِيمِ ضَيْفٍ لَمْ تَعْرِفْهُ أَكْثَرَ مِمَّا تَسْتَطِيعُ …
وَقَدْ تَبَيَّنْتُ مِنْ شَكْوَاكَ مَا دَلَّنِي عَلَى كَرَمِ أَصْلِكَ، وَطِيبَةِ قَلْبِكَ، وَرَجَاحَةِ عَقْلِكَ، وَلَنْ أُقَصِّرَ فِي تَيْسِيرِ طِلْبَتِكَ، وَتَحْقِيقِ رَغْبَتِكَ.
وَلَا بُدَّ مِنْ مُكَافَأَتِكَ — بَعْدَ أَنْ غَمَرَنِي وَفَاؤُكَ — وَرَدِّ الْمُلْكِ الَّذِي اغْتَصَبَهُ أَعْدَاؤُكَ. هَلُمَّ — يَا بُنَيَّ — فَاتْبَعْنِي إِلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ.»
فَتَبِعَهُ الْأَمِيرُ «بِسَامِيتُ»، وَقَدِ امْتَلَأَتْ نَفْسُهُ — مِمَّا سَمِعَ — رَجَاءً وَأَمَلًا.
وَلَمَّا بَلَغَ ضِفَّةَ النِّيلِ، أَمَرَهُ أَنْ يَجْمَعَ كُومَةً كَبِيرَةً مِنَ الْحَطَبِ، ثُمَّ يُوقِدَهَا عَلَى الشَّاطِئِ.
وَلَمَّا اشْتَعَلَتِ النَّارُ فِي الْحَطَبِ وَتَأَجَّجَتْ، أَلْقَى الشَّيْخُ فِي اللَّهَبِ قِطَعًا كَبِيرَةً مِنْ مَادَّةٍ بَلُّورِيَّةٍ بَيْضَاءَ، وَالْتَفَتَ إِلَى الْأَمِيرِ «بِسَامِيتَ»، وَهُوَ يَقُولُ:
«تَعَهَّدْ هَذِهِ النَّارَ — يَا فَتَى — وَابْقَ بِجِوَارِهَا إِلَى الْغَدِ، وَلَا تُقَصِّرْ فِي جَلْبِ مَا تَسْتَطِيعُ مِنَ الْخَشَبِ وَالْحَطَبِ لِإِذْكَاءِ اللَّهَبِ.
وَسَتَرَى — مَتَى اتَّبَعْتَ نُصْحِي — كَيْفَ أَجْعَلُكَ أَسْعَدَ خَلْقِ اللهِ إِنْسَانًا!»
وَلَمْ يَزِدِ الشَّيْخُ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ أَكْثَرَ مِنَ ابْتِسَامَةٍ وَتَحِيَّةٍ، ثُمَّ اسْتَخْفَى الشَّيْخُ فَجْأَةً، مُتَوَارِيًا فِي خِلَالِ النَّخِيلِ الَّذِي يَحُفُّ بِالطَّرِيقِ.
وَلَمْ يُدْرِكِ الْأَمِيرُ «بِسَامِيتُ» مَا يَقْصِدُ إِلَيْهِ الشَّيْخُ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ فَائِدَةَ اشْتِعَالِ النَّارِ عَلَى الرَّمْلِ.
وَلَكِنَّهُ لَمْ يُفَكِّرْ فِي عِصْيَانِهِ، وَمُخَالَفَةِ نُصْحِهِ، بَعْدَ أَنْ تَوَسَّمَ فِيهِ الْإِخْلَاصَ وَالْعَطْفَ وَبُعْدَ النَّظَرِ، فَلَمْ يُقَصِّرْ فِي إِنْفَاذِ مَا نَصَحَهُ بِهِ فِي دِقَّةٍ وَإِحْكَامٍ.
•••
وَلَا تَسَلْ عَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمِيرِ مِنَ الدَّهْشَةِ وَالْعَجَبِ، حِينَ رَأَى — عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ — مَادَّةً صَافِيةَ اللَّوْنِ، ذَاتَ بَرِيقٍ وَلَأْلَاءٍ، تَنْسَابُ مِنْ خِلَالِ الرَّمَادِ، كَمَا يَنْسَابُ الْجَدْوَلُ الرَّقْرَاقُ. وَسُرْعَانَ مَا تَجَمَّعَ السَّائِلُ وَانْعَقَدَ وَتَجَمَّدَ.
وَهُنَا ظَهَرَ الشَّيْخُ أَمَامَ الْأَمِيرِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ — فِي أَقَلَّ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ — جِنِّيًّا مَهِيبَ الطَّلْعَةِ، رَائِعَ السَّمْتِ، وَقَدِ انْعَقَدَ عَلَيْهِ إِكْلِيلٌ مِنَ النُّورِ، وَأَحَاطَتْ بِهِ هَالَةٌ مِنَ الضِّيَاءِ.
ثُمَّ قَالَ لِلْأَمِيرِ: «أَتَعْرِفُ — يَا فَتَى — مَنْ أَنَا؟»
فَانْعَقَدَ لِسَانُ الْأَمِيرِ مِنْ فَرْطِ الْحَيْرَةِ.
فَقَالَ الْجِنِّيُّ: «طِبْ نَفْسًا — يَا وَلَدِي — وَقَرَّ عَيْنًا، أَنَا «أُوزُورِيسُ» جَالِبُ الدِّفْءِ وَالْخِصْبِ وَالرَّفَاهِيَةِ لِمِصْرَ وَمَا فِيهَا؛ أَرْضِهَا وَأَهْلِيهَا.
وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَخْتَبِرَ سَجَايَاكَ، وَأَتَعَرَّفَ مَزَايَاكَ، قَبْلَ أَنْ أَمْنَحَكَ الثَّرْوَةَ وَالرَّغَادَةَ، وَالْحَظَّ والسَّعَادَةَ.
فَلَمَّا رَأَيْتُ نَفْسَكَ تَفِيضُ بِالْمَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ، أَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَجْدَرُ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْمُسَاعَدَةِ.
وَقَدْ جَلَبْتُ لَكَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، بَعْدَ أَنْ هَدَيْتُكَ إِلَى سِرِّ هَذِهِ الْمَادَّةِ الَّتِي طَلَبَهَا الْفِرْعَوْنُ. أَتَعْرِفُ مَاذَا تُسَمَّى هَذِهِ الْمَادَّةُ الْعَجِيبَةُ؟
إِنَّهَا الزُّجَاجُ. وَهَا هِيَ ذِي — كَمَا تَرَى — بَرَّاقَةٌ كَالذَّهَبِ، شَفَّافَةٌ كَمَاءِ الْيَنْبُوعِ، لَيِّنَةٌ كَالرَّصَاصِ، رَنَّانَةٌ كَالنُّحَاسِ.
وَفِي وُسْعِكَ — مُنْذُ الْيَوْمِ — أَنْ تَحْصُلَ عَلَى الزُّجَاجِ كُلَّمَا أَرَدْتَ، فَإِنَّ أَرْضَ «مِصْرَ» زَاخِرَةٌ بِمَادَّتِهِ.
وَلَنْ يُكَلِّفَكَ صُنْعُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَمْزُجَ الرَّمْلَ بِالنَّطْرُونِ، وَمَا أَكْثَرَ وُجُودَهُمَا فِي أَرْضِ هَذَا الْوَادِي، ثُمَّ تُوقِدُ النَّارَ عَلَيْهِمَا زَمَنًا طَوِيلًا — كَمَا عَلَّمْتُكَ اللَّيْلَةَ — فَإِذَا بِالزُّجَاجِ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ.
هَلُمَّ يَا فَتَى فَخُذْ مَا تَمَّ صُنْعُهُ مِنْ أَلْوَاحِ الزُّجَاجِ، وَاغْسِلْهُ فِي النَّهْرِ، ثُمَّ قَدِّمْهُ إِلَى «فِرْعَوْنِ مِصْرَ» مَهْرًا لَزَوَاجِكَ.»
فَفَاضَ قَلْبُ الْأَمِيرِ «بِسَامِيتَ» سُرُورًا بِمَا وُفِّقَ إِلَيْهِ، وَامْتَلَأَتْ نَفْسُهُ عِرْفَانًا بِجَمِيلِ «أُوزُورِيسَ»؛ رَاعِي «مِصْرَ» وَحَارِسِهَا فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ.
وَمَا هَمَّ الْأَمِيرُ بِالْكَلَامِ، حَتَّى اسْتَخْفَى «أُوزُورِيسُ» وَغَابَ عَنْ نَاظِرِهِ. وَأَخَذَ الْأَمِيرُ أَلْوَاحَ الزُّجَاجِ الْبَدِيعَةَ الْمُلْقَاةَ عَلَى الْأَرْضِ، وَمَضَى بِهَا إِلَى مَلِكِ «طِيبَةَ»، بَعْدَ أَنْ غَسَلَهَا بِمَاءِ النَّهْرِ، وَقَدَّمَ لَهُ هَذِهِ الْمَادَّةَ الزُّجَاجِيَّةَ الْجَدِيدَةَ.
فَأُعْجِبَ «فِرْعَونُ» بِهَدِيَّتِهِ أَيَّمَا إِعْجَابٍ، وَابْتَهَجَ بِهَا أَيَّمَا ابْتِهَاجٍ، وَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِي تَزْوِيجِهِ بِابْنَتِهِ.
ثُمَّ أَمَرَ «فِرْعَوْنُ مِصْرَ» بِإِنْشَاءِ أَفْرَانٍ كَبِيرَةٍ لِصُنْعِ الزُّجَاجِ عَلَى مُخْتَلِفِ أَنْوَاعِهِ. وَسُرْعَانَ مَا تَدَرَّجَتْ هَذِهِ الصِّنَاعَةُ فِي طَرِيقِ التَّحْسِينِ، حَتَّى بَلَغَتْ مَا بَلَغَتْهُ مِنَ الْإِتْقَانِ، الَّذِي يَتَجَلَّى فِيمَا نَرَاهُ مِنْ بَدَائِعِ الْمَرَايَا وَالْأَوَانِي الْفَنِّيَّةِ.
وَمَا زَالَتْ صِنَاعَةُ الزُّجَاجِ تَرْقَى فِي مَدَارِجِ الْفَنِّ وَالتَّجْوِيدِ، حَتَّى وُفِّقَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْعَصْرِ إِلَى اخْتِرَاعِ خُيُوطٍ دَقِيقَةٍ مِنَ الزُّجَاجِ، تُمَاثِلُ أَبْدَعَ أَنْوَاعِ الْحَرِيرِ رِقَّةً وَمَتَانَةً.