الْفَصْلُ الْخَامِسُ
– مَا أَبْدَعَ مَا سَمِعْنَاهُ لَيْلَةَ أَمْسِ مِنْ رَائِعِ الْأَسَاطِيرِ!
– كُنَّا نَحْسَبُ أَنَّ هُنَاكَ مَدِينَةً وَاحِدَةً لِلزُّجَاجِ، فَإِذَا بِنَا نَسْمَعُ عَنْ مَدَائِنَ كَثِيرَةٍ، جَدِيرَةٍ بِهَذَا الِاسْمِ.
– كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الصَّوَابِ أَنْ تَقُولَ:
إِنَّكَ سَمِعْتَ أَسَاطِيرَ عَنْ مَدَائِنَ مُخْتَلِفَةٍ!
– مَنْ يُدْرِينَا؟ لَعَلَّهَا لَا تَعْنِي غَيْرَ مَدِينَةٍ وَاحِدَةٍ.
– مَاذَا تَعْنِي؟
– إِنَّ رُوَاةَ الْأَسَاطِيرِ يَخْلِطُونَ، كَمَا قُلْتُ لَكُمْ، بَيْنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْدَاثِ وَالْعُصُورِ.
وَلَكِنْ تَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، هِيَ أَنَّ شُهْرَةَ «مِصْرَ» بِصِنَاعَةِ الزُّجَاجِ، هِيَ الَّتِي أَوْحَتْ إِلَى مُبْدِعِي الْأَسَاطِيرِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَخْيِلَةِ الشَّائِقَةِ.
– الْآنَ فَهِمْتُ مَا تَعْنِيهِ.
– وَمِنَ الْمُحَقَّقِ أَنَّ «طِيبَةَ» قَدْ عَرَفَتِ الزُّجَاجَ مُنْذُ أَقْدَمِ الْعُصُورِ، كَمَا قُلْتُ لَكُمْ أَمْسِ.
– لَوْلَا ذَلِكَ، لَمَا أَطْلَقَتْ عَلَيْهَا الْأَسَاطِيرُ اسْمَ: «مَدِينَةِ الزُّجَاجِ».
– لَقَدْ أَمْتَعَنَا «ثَرْوَةُ» بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ عَنْ مَدَائِنِ الزُّجَاجِ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَنْ يُحَدِّثَنَا عَنْ مَدِينَةِ «الْيَاقُوتِ» الَّتِي أَنْشَأَهَا السَّاحِرُ «يَاقُوتٌ».
– مَا أَشْوَقَنَا إِلَى سَمَاعِ هَذِهِ الْقِصَّةِ! وَلَكِنْ خَبِّرْنِي يَا أَبِي: كَيْفَ عَرَفْتَ أَنَّ صِنَاعَةَ الزُّجَاجِ قَدِ اخْتَصَّتْ بِهَا مَدِينَةُ «طِيبَةَ»؟
مَا أَظُنُّكَ قَدِ اعْتَمَدْتَ عَلَى الْأَسَاطِيرِ — وَحْدَهَا — فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ!
– كَلَّا! لَمْ أَعْتَمِدْ عَلَى الْأَسَاطِيرِ وَحْدَهَا، بَلِ اعْتَمَدْتُ عَلَى مَا وَجَدَهُ الْبَاحِثُونَ فِيهَا مِنْ طَرَائِفِ الْآثَارِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ عَامٍ قَبْلَ الْمِيلَادِ، وَقَدْ رَأَوْا عَلَيْهَا نُقُوشًا تُمَثِّلُ جَمَاعَةً مِنَ الْعُمَّالِ يَعْمَلُونَ فِي نَفْخِ الزُّجَاجِ، أَمَامَ أَفْرَانٍ مُرْتَفِعَةٍ، تُمَاثِلُ أَفْرَانَ عَصْرِنَا الْحَاضِرِ.
وَقَدْ حَفَلَ مُتْحَفُ «بِرْلِينَ» بِبَعْضِ طَرَائِفِ الزُّجَاجِ الْمِصْرِيِّ الْقَدِيمِ، كَمَا حَفَلَ غَيْرُهُ مِنَ الْمَتَاحِفِ فِي مُخْتَلِفِ الْبُلْدَانِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّرَائِفِ.
عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُؤَرِّخِينَ لَا يَزَالُونَ يُسَاوِرُهُمُ الشَّكُّ فِي أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ الْقُدَمَاءَ كَانُوا يَعْرِفُونَ طَرِيقَةَ نَفْخِ الزُّجَاجِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَاسُورَةَ الزُّجَاجِ لَمْ تُخْتَرَعْ إِلَّا فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْمِيلَادِ، وَأَنَّ الْفِينِيقِيِّينَ اسْتَعْمَلُوهَا بِمَدِينَةِ «صَيْدَا».
وَيَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ النُّقُوشَ كَانَتْ لِصِنَاعَةِ صَهْرِ النُّحَاسِ وَالْبُرُنْزِ.
– إِذَا صَحَّ ذَلِكَ — وَهُوَ صَحِيحٌ بِلَا شَكٍّ — فَإِنَّ الْمِصْرِيِّينَ كَانُوا أَوَّلَ مَنِ اهْتَدَى إِلَى تَعَرُّفِ أَسْرَارِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ، وَاكْتِنَاهِ دَقَائِقِهَا.
– ذَلِكَ مَا تُثْبِتُهُ الْآثَارُ، وَتُؤَيِّدُهُ النُّصُوصُ، وَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ رَأْيُ الْبَاحِثِينَ، وَقَدْ حَالَفَ الْمِصْرِيِّينَ التَّوْفِيقُ، فَتَدَرَّجُوا مِنَ الزُّجَاجِ الْعَادِيِّ، إِلَى الزُّجَاجِ الْمُلَوَّنِ.
– لَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ تُرْبَةَ «مِصْرَ» تَحْتَوِي جَمِيعَ الْعَنَاصِرِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا الزُّجَاجُ إِذَا امْتَزَجَتْ.
– الْآنَ وَضَحَ مَا تَهْدِفَ إِلَيْهِ الْأُسْطُورَةُ مِنْ صِدْقٍ.
– لَا تَنْسَ أَنَّ الْأَسَاطِيرَ مِرْآةٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الْحَقَائِقِ.
أَعْنِي أَنَّ أَغْلَبَ مَا نَقْرَأُ مِنْ أَسَاطِيرَ، إِنَّمَا هُوَ — كَمَا قُلْتُ لَكَ — صُورَةٌ خَيَالِيَّةٌ، تُعَبِّرُ بِهَا الشُّعُوبُ عَنْ حَقَائِقَ وَاقِعَةٍ، كَمَا رَأَيْتَ فِيمَا قَصَصْتُهُ عَلَيْكَ.
– تَعْنِي أَنَّهُمْ يُلْبِسُونَهَا ثَوْبَ الْخَيَالِ؟
– وَيَصُوغُونَهَا فِي قَالَبٍ قَصَصِيٍّ بَارِعٍ، لِيَشُوقَ سَمَاعُهَا الْآذَانَ، عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ.
– ذَلِكَ حَقٌّ، لَا مِرَاءَ!
– لَقَدْ بَلَغَتْ «مِصْرُ» مِنَ الْحَضَارَةِ وَالرُّقِيِّ وَالِافْتِنِانِ فِي صُنْعِ الزُّجَاجِ مَبْلَغًا عَظِيمًا، فَاسْتَخْدَمَهُ الْمِصْرِيُّونَ فِي تَزْيِينِ حَدَائِقِهِمْ.
– لَسْتُ أَدْرِي: كَيْفَ زَيَّنُوا بِهِ حَدَائِقَهُمْ؟
– رَوَى بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّ «طِيبَةَ» كَانَ بِهَا أَعْمِدَةٌ زُجَاجِيَّةٌ مُضِيئَةٌ.
– مَعْنَى هَذَا أَنَّهَا كَانَتْ مُجَوَّفَةً وَمُضَاءَةً مِنَ الدَّاخِلِ، فَهِيَ أَشْبَهُ بِمَا نَرَاهُ مِنْ أَمْثَالِهَا فِي شَوَارِعْنَا عِنْدَمَا تُضَاءُ.
– عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْبَاحِثِينَ أَظْهَرُوا شَكَّهُمْ فِي أَنَّ «طِيبَةَ» كَانَ بِهَا أَعْمِدَةٌ زُجَاجِيَّةٌ مُضِيئَةٌ، وَرَأَوْا أَنَّ صِنَاعَةَ الزُّجَاجِ عِنْدَ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ لَمْ تَتَعَدَّ صُنْعَ آنِيَةِ الزِّينَةِ وَحُلِيِّهَا.
– لَعَلَّ رُوَاةَ الْأَسَاطِيرِ — الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ بَعْضَ الْكَهَنَةِ وَالْفَرَاعِنَةِ قَدْ أَنْشَئُوا سَمَوَاتٍ مِنَ الزُّجَاجِ، وَأَنَارُوهَا بِمَصَابِيحَ مِنَ الْكَوَاكِبِ — قَدِ اسْتَوْحَوْا خَيَالَهَا مِنْ هَذِهِ الْحَقَائِقِ التَّارِيخِيَّةِ الثَّابِتَةِ، وَلَعَلَّهُمْ — لَمَّا عَجَزُوا عَنْ فَهْمِ أَسْرَارِهَا — نَسَبُوهَا إِلَى الْجِنِّ.
– لَقَدْ رَأَيْتُمْ، عَلَى كُلِّ حَالٍ، مَدَى مَا أَحْرَزَتْهُ «مِصْرُ» مِنْ نَجَاحٍ فِي صُنْعِ الزُّجَاجِ.
– أَذْكُرُ أَنَّنِي قَرَأْتُ، فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّارِيخِ، أَنَّ صِنَاعَةَ الزُّجَاجِ كَانَتْ فِي بِلَادِ «فَارِسَ» ذَائِعَةً، وَاسِعَةَ الِانْتِشَارِ.
– ذَلِكَ حَقٌّ يَا عَزِيزِي، وَقَدْ رَأَى سُفَرَاءُ الْيُونَانِ، الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى مَلِكِ «فَارِسَ»، مِنْ طَرَائِفِ الْآنِيَةِ وَالْأَقْدَاحِ الزُّجَاجِيَّةِ، مَا أَثَارَ دَهْشَتَهُمْ وَهُمْ يَتَغَدَّوْنَ عَلَى مَائِدَةِ الْمَلِكِ.
– تَعْنِي أَنَّ «فَارِسَ» كَانَتْ أَيْضًا مِمَّنْ أَحْرَزَ قَصَبَ السَّبْقِ فِي هَذَا الْمِضْمَارِ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ.
– لَمْ تَنْفَرِدْ «فَارِسُ» بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ، وَلَمْ تَكُنْ وَقْفًا عَلَى أَهْلِهَا وَحْدَهُمْ، فَقَدْ عَرَفَهَا «الرُّومَانُ» كَذَلِكَ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ.
– مَتَى عَرَفَهَا «الرُّومَانُ»؟
– مُنْذُ أَوَّلِ عَهْدِ الْإِمْبِرَاطُورِيَّةِ.
وَلَمْ تَلْبَثْ هَذِهِ الصِّنَاعَةُ النَّاشِئَةُ أَنِ اتَّسَعَتْ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، وَزَادَ انْتِشَارُ الْمَصَانِعِ، حَتَّى أَصْبَحَتْ — لِكَثْرَتِهَا — تَشْغَلُ حَيًّا بِأَكْمَلِهِ.
– وَقَدْ بَرَعَ صُنَّاعُ الرُّومَانِ، فِي هَذَا الْبَابِ، بَرَاعَةً اسْتَرْعَتْ إِعْجَابَ أَحَدِ حُكُّامِ «رُومَةَ»، وَأَغْرَتْهُ بِتَشْيِيدِ مَسْرَحٍ، طَبَقَتُهُ الْأُولَى مِنَ الزُّجَاجِ.
– وَهَلْ نَجَحَ الْحَاكِمُ فِي تَحْقِيقِ مَا أَرَادَ؟
– أَوْفَى نَجَاحٍ.
– أَتَذْكُرُ اسْمَهُ؟
– اسْمُهُ: «سِكُورُسُ».
– شَدَّ مَا تُسْعِدُنَا يَا أَبَتَاهُ، بِمَا تُمْتِعُنَا بِهِ مِنْ أَمْثَالِ هَذَهِ الْحَقَائِقِ التَّارِيخِيَّةِ الشَّائِقَةِ.
– وَقَدْ وَجَدُوا مِنْ زُجَاجِ بَعْضِ النَّوَافِذِ مَا يُمَاثِلُ مَا لَدَيْنَا الْيَوْمَ.
– فِي أَيِّ الْمُدُنِ وَجَدُوهَا!
– فِي «بُومْبِي» و«هَرْكُولانُومَ».
– إِذَا لَمْ تَخْدَعْنِي ذَاكِرَتِي، فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْمَدِينَتَيْنِ قَدْ طَمَرَهُمَا بُرْكَانُ «فِيزُوفَ» عَامَ ٧٩ قَبْلَ الْمِيلَادِ، فِي إِحْدَى ثَوْرَاتِهِ.
– لَقَدْ صَدَقَتْ ذَاكِرَتُكَ يَا «ثَرْوَةُ».
– مَا دَامُوا قَدْ وُفِّقُوا إِلَى صُنْعِ زُجَاجِ نَوَافِذِهِمْ عَلَى غِرَارِ مَا نَصْنَعُ مِنْ زُجَاجٍ، فَهُمْ بِلَا رَيْبٍ جَدِيرُونَ بِالْإِعْجَابِ.
– عَلَى أَنَّنِي قَرَأْتُ رَأْيًا لِبَعْضِ الْبَاحِثِينَ يَنْفِي هَذَا الرَّأْيَ، وَيُؤَكِّدُ أَنَّ زُجَاجَ النَّوَافِذِ لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا فِي الْقَرْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ الْمِيَلادِيِّ.
– وَيَقُولُ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ إِنَّ أَوَّلَ كَنِيسَةٍ اسْتَخْدَمَتِ الزُّجَاجَ الْمُلَوَّنَ كَانَتْ كَنِيسَةَ «أَيَا صُوفْيَا».
– مَا أَعْجَبَ مَا تَقُولَ يَا أَبِي!
– وَلَا تَنْسَوْا أَنَّ الْأَقْدَاحَ الزُّجَاجِيَّةَ الْمَنْحُوتَةَ كَانَتْ مَعْدُودَةً، فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ الْغَابِرَةِ، مِنْ نَفَائِسِ الطُّرَفِ الْغَالِيَةِ.
– كُلَّمَا نَدَرَ الشَّيْءُ غَلَتْ قِيمَتُهُ.
– لَا تَعْجَبُوا، إِذَا عَلِمْتُمْ، أَنَّ «نِيرُونَ» قَدْ حَصَلَ عَلَى قَدَحَيْنِ مِنَ الْأَقْدَاحِ الزُّجَاجِيَّةِ ذَوَاتِ الْآذَانِ الَّتِي صُنِعَتْ فِي مِصْرَ، بَعْدَ أَنِ اشْتَرَاهَا بِآلَافٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ.
– إَذَا صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ دَلَالَةٌ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ فِي مِصْرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَتَمَكُّنِ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ تَجْوِيدِهَا.
– وَكَانَ «نِيرُونُ»، كَمَا تَعْلَمُونَ، مِمَّنْ يُفْقِدُهُ الْغَضَبُ رُشْدَهُ، فَلَا يُبَالِي الْعَوَاقِبَ.
– كَانَ مَغْلُوبًا عَلَى أَعْصَابِهِ.
– وَقَدِ اسْتَبَدَّ بِهِ الْغَضَبُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَحَطَّمَ قَدَحًا مِنْهُمَا.
– مَا أَقْبَحَ الْغَضَبَ، وَأَجْمَلَ الْحِلْمَ!
– كَانَ تَحْطِيمُ ذَلِكَ الْقَدَحِ مِنَ الْخَسَائِرِ الْفَادِحَةِ.
– لَا رَيْبَ أَنَّهُ نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ.
– وَمَاذَا يُجْدِي النَّدَمُ؟ أَتُرَاهُ يُعَوِّضُ صَاحِبَهُ مِمَّا أَفْقَدَهُ الْغَضَبُ؟
– هَيْهَاتَ، هَيْهَاتَ!
– وَكَانَ مِنَ الْهَدَايَا الْمَأْثُورَةِ، مَا بَعَثَ بِهِ كَبِيرُ الْكَهَنَةِ مِنَ الْمِصْرِيِّينِ إِلَى الْإِمْبِرَاطُورِ «أَدْرِيَانَ»، مِمَّا أَبْدَعَتْهُ «مِصْرُ» مِنَ الزُّجَاجِ الثَّمِينِ.
– أَيُّ هَدِيَّةٍ اخْتَارَهَا الْكَاهِنُ لِلْإِمْبِرَاطُورِ؟
– كُوبَانِ مِنْ زُجَاجٍ مُخْتَلِفٍ أَلْوَانُهُ، وَآخَرَانِ مِنْ أَكْوَابِ الْمَائِدَةِ، فَبَعَثَ بِهَا الْإِمْبِرَاطُورُ إِلَى سَلَفِهِ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَلَّا يَسْتَعْمِلَهَا فِي غَيْرِ الْمُنَاسَبَاتِ الرَّفِيعَةِ النَّادِرَةِ.
– لَا رَيْبَ أَنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْخَسَائِرِ أَنْ تُفْقَدَ هَذِهِ الطُّرَفُ الزُّجَاجِيَّةُ، وَتَضِيعَ فِي غِمَارِ النِّسْيَانِ، فَلَا يَكْتَشِفَهَا أَحَدٌ إِلَى الْيَوْمِ.
– لَمْ تُفْقَدْ كُلُّهَا، فَقَدْ كَشَفَ الْبَاحِثُونَ جَمْهَرَةً مِنْهَا.
– أَتَذْكُرُ شَيْئًا مِمَّا عَثَرُوا عَلَيْهِ؟
– لَا تَنْسَ أَنَّهُمْ وُفِّقُوا إِلَى الْعُثُورِ عَلَى إِنَاءِ «بُرْتِلَنْدَ» الْمَعْرُوفِ فِي «إِنْجِلْتِرَا»، وَهُوَ مِنْ طَرَائِفِ التُّحَفِ الزُّجَاجِيَّةِ، وَيَتَمَيَّزُ بِزُجَاجِهِ الْأَزْرَقِ، وَمِينَائِهِ الْبَيْضَاءِ.
وَلَكِنَّ أَبْدَعَ اكْتِشَافٍ — فِيمَا يَقُولُ الْخُبَرَاءُ الْعَارِفُونَ — هُوَ إِنَاءٌ زُجَاجِيٌّ، عَثِرَ عَلَيْهِ الْمُنَقِّبُونَ فِي قَبْرٍ رُومَانِيٍّ، فِي مَدِينَةِ «اسْتَرَسْبُرْجَ» عَامَ ٨٢٥م.
– أَيُّ إِنَاءٍ هَذَا؟
– هُوَ إِنَاءٌ مِنَ الزُّجَاجِ الْأَبْيَضِ، يُحِيطُ بِهِ إِنَاءٌ آخَرُ مِنَ الزُّجَاجِ الْأَحْمَرِ، وَقَدْ أَبْدَعَ صَانِعُهُمَا فِي صُنْعِ الْإِنَاءِ الْأَحْمَرِ عَلَى هَيْئَةِ شَبَكَةٍ مِنْ شِبَاكِ الصَّيْدِ، نُسِجَتْ خُيُوطُهَا بِمَهَارَةٍ فَائِقَةٍ، تَبْدُو — مِنْ خِلَالِهَا — ثُقُوبٌ مُتْقَنَةُ الصُّنْعِ، يُخَيَّلُ لِمَنْ يَرَاهَا أَنَّهَا حِبَالَةُ صَيْدٍ (شَبَكَةٌ) حَقِيقِيَّةٌ، وَلَا يَدُورُ بِخَاطِرِهِ أَنَّهَا طُرْفَةٌ زُجَاجِيَّةٌ فَنِّيَّةٌ، خُيُوطُهَا مِنْ زُجَاجٍ!
– أَيُّ افْتِنَانٍ، وَأَيُّ إِبْدَاعٍ!
– وَوَجَدُوا عَلَى تِلْكَ الطُّرْفَةِ الزُّجَاجِيَّةِ كِتَابَةً، تَدَلُّ عَلَى أَنَّهَا قَدْ صُنِعَتْ فِي عَهْدِ الْإِمْبِرَاطُورِ «مَكْسِمِلْيَانَ».
– تَعْنِي أَنَّهَا قَدْ صُنِعَتْ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ بَعْدَ الْمِيلَادِ؟
– ذَلَكَ مَفْهُومٌ بِالْبَدَاهَةِ.
– وَهَذَا الزُّجَاجُ — الَّذِي يُمَاثِلُ فِي جَمَالِهِ زُجَاجَ «بُوهِمْيَا» وَ«الْبُنْدُقِيَّةِ» — دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ قَدْ بَلَغَتْ عِنْدَ الرُّومَانِيِّينِ مَبْلَغًا عَظِيمًا مِنَ الْإِتْقَانِ وَالتَّجْوِيدِ.
وَلَسْتُ أَسْتَبْعِدُ أَنْ يَكُونُوا قَدِ اهْتَدَوْا إِلَى اخْتِرَاعِ الزُّجَاجِ اللَّيِّنِ، الَّذِي يَنْعَطِفُ وَلَا يُكْسَرُ.
– وَكَيْفَ تَيَسَّرَ لَهُمْ بُلُوغُ هَذِهِ الْغَايَةِ؟
– لَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَبْعَدٍ عَلَيْهُمْ، وَلَا مُسْتَكْثَرٍ عَلَى فَنِّهِمْ.
وَلَوْ صَحَّتْ قِصَّةُ الْإِمْبِرَاطُورِ «تِيبِيرَ»، لَكَانَتْ دَلِيلًا عَلَى مَا أَقُولُ.
– مَا قِصَّتُهُ؟
– كَانَ فِي عَهْدِ ذَلِكَ الْإِمْبِرَاطُورِ مُهَنْدِسٌ بَارِعٌ، اسْتَهْدَفَ لِغَضَبِ الْإِمْبِرَاطُورِ، فَأَقْصَاهُ — فِيمَا يَقُولُ رُوَاةُ الْأَسَاطِيرِ — فَلَمْ يَلْبَثْ أَنِ اهْتَدَى إِلَى وَسِيلَةٍ أَمْكَنَتْهُ مِنْ أَنْ يُلِينَ الزُّجَاجَ وَيَجْعَلَهُ لَدْنًا كَالرَّصَاصِ.
– مَا أَجْدَرَهُ بِالثَّنَاءِ وَالتَّشْجِيعِ! فَكَيْفَ كُوفِئَ عَلَى صَنِيعِهِ؟
– لَمْ يَنْتَهِ الْمُهَنْدِسُ إِلَى الظَّفَرِ بِهَذِهِ النَّتِيجَةِ، حَتَّى أَيْقَنَ أَنَّهُ سَيُقَرَّبُ إِلَى الْإِمْبِرَاطُورِ بِمَا وُفِّقَ إِلَيْهِ مِنَ اخْتِرَاعٍ عَجِيبٍ، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ:
«لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْكَشْفَ الْبَاهِرَ سَيُكْسِبُنِي عَطْفَ الْإِمْبِرَاطُورِ الْغَاضِبِ، وَيُعِيدُ إِلَيَّ رِضَاهُ، وَيُغْرِيهِ بِالْعَفْوِ عَنِّي، وَمُكَافَأَتِي بِالْعَوْدَةِ إِلَى وَطَنِي، مُكَرَّمًا مُعَزَّزًا.»
– لَا رَيْبَ أَنَّ تَأْمِيلَهُ صَادِقٌ، فَلَيْسَ أَجْلَبَ لِلْعَطْفِ وَأَدْعَى لِلْمُكَافَأَةِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ، يَتَقَرَّبُ بِهِ الْبَارِعُ الْمَوْهُوبُ إِلَى الْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ.
– صَدَقْتَ، وَلَكِنَّ أَمَلَهُ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ قَدْ خَابَ.
– لَهُ اللهُ! فَكَيْفَ خَابَ أَمَلُ الْمِسْكِينِ؟
– لَمْ يَكَدِ الْمُهَنْدِسُ يَرْجِعُ إِلَى قَيْصَرِ «رُومَةَ» وَيَمْثُلُ فِي حَضْرَتِهِ، حَتَّى تَجَهَّمَ لَهُ، وَلَمْ يُطِقْ أَنْ يَرَاهُ.
وَتَمَلَّكَهُ الْغَضَبُ، فَابْتَدَرَهُ سَائِلًا:
«كَيْفَ سَوَّلَتْ لَكَ نَفْسُكَ أَنْ تَجْرُؤَ عَلَى عِصْيَانِ أَمْرِي، وَتَعُودَ إِلَى «رُومَةَ»؟»
فَأَجَابَ الْمُهَنْدِسُ:
«أَغْرَانِي بِذَلِكَ طَمَعِي فِي التَّقَرُّبِ بِمَا وُفِّقْتُ إِلَيْهِ مِنْ كَشْفٍ رَائِعٍ، جَدِيرٍ أَنْ يُكْسِبَنِي عَطْفَ مَوْلَايَ الْقَيْصَرِ.»
فَسَأَلَهُ الْقَيْصَرُ مُتَعَجِّبًا: «أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟»
فَقَدَّمَ لَهُ الْمُهَنْدِسُ قَدَحًا مِنَ الزُّجَاجِ، يُمْكِنُ بِوَاسِطَةِ سِرٍّ اكْتَشَفَهُ أَلَّا يُكْسَرَ، وَيُمْكِنُ فِيمَا بَعْدُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّ شَكْلٍ يُرَادُ.
– فَكَيْفَ قَابَلَ الْقَيْصَرُ بَرَاعَةَ الْمُخْتَرِعِ؟
– أَسْوَأَ مُقَابَلَةٍ؛ فَقَدْ أَمْسَكَ «تِيبِيرُ» بِالْقَدَحِ، وَهُوَ غَاضِبٌ، وَقَذَفَ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ لِيُحَطِّمَهُ، وَهُوَ يَصِيحُ: «هَذَا مَا يَلْقَاهُ اخْتِرَاعُكَ لَدَيَّ!»
– وَا خَسَارَتَاهُ! كُسِرَ الْقَدَحُ بِلَا رَيْبٍ!
– كَلَّا، لَمْ يَنْكَسِرِ الْقَدَحُ، وَلَكِنَّهُ انْثَنَى مِنْ شِدَّةِ الصَّدْمَةِ.
– دُونَ أَنْ يُكْسَرَ؟
– كَذَلِكَ كَانَ. وَقَدْ دَهِشَ الْإِمْبِرَاطُورُ لِهَذِهِ الظَّاهِرَةِ.
وَثَمَّ وَضَعَ الْمُهَنْدِسُ الْقَدَحَ عَلَى سِنْدَانٍ صَغِيرٍ كَانَ قَدْ جَاءَ بِهِ مَعَهُ، وَأَقْبَلَ يَدُقُّ عَلَيْهِ بِمِطْرَقَةٍ كَانَتْ لَدَيْهِ، حَتَّى أَعَادَهُ كَمَا كَانَ.
– سَمِعْتُكَ يَا أَبِي، تَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ نَسْجِ مُبْدِعِي الْأَسَاطِيرِ، فَمَا هُوَ الْجَانِبُ الْأُسْطُورِيُّ فِيهَا؟
– الْجَانِبُ الْأُسْطُورِيُّ الَّذِي يَتَعَارَضُ مَعَ الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ هُوَ أَنَّ مُبْدِعَ الْأُسْطُورَةِ وَرَاوِيَهَا فَاتَهُمَا أَنَّ الزَّجَاجَ — عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَتَبَايُنِ تَرْكِيبِهِ — هُوَ — فِي جَوْهَرِهِ — مَادَّةٌ غَيْرُ عُضْوِيَّةٍ، تُسْتَحْدَثُ مِنْ صَهْرِ أُكْسِيدَاتٍ بِعَيْنِهَا، وَأَنَّ هَذِهِ الْأُكْسِيدَاتِ لَا تَكَادُ تَخْرُجُ مِنَ الْفُرْنِ حَتَّى تَبْرُدَ وَتَتَصَلَّبَ، وَتَتَّخِذَ — لِلْحَالِ — شَكْلَهَا النِّهَائِيَّ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى إِلَانَتِهِ أَوْ تَبْدِيلِهِ.
– فَمَاذَا صَنَعَ «الْقَيْصَرُ»؟
– زَادَتْ دَهْشَةُ «تِيبِيرَ»، وَقَالَ لَهُ:
«وَهَلْ يَعْرِفُ أَحَدٌ سِوَاكَ سِرَّ هَذَا الْقَدَحِ الْبَدِيعِ؟»
– فَكَيْفَ أَجَابَهُ الْمُهَنْدِسُ؟
– قَالَ لَهُ، وَهُوَ يَتَرَقَّبُ الْفَوْزَ بِجَائِزَةٍ كَبِيرَةٍ:
«كَلَّا، لَا يَعْرِفُ سِرَّهُ أَحَدٌ سِوايَ!»
– فَمَاذَا صَنَعَ «تِيبِيرُ»؟
– صَاحَ بِصَوْتٍ كَالرَّعْدِ: «الْآنَ أُبَشِّرُكَ بِالْمَوْتِ، أَيَّهُا الْمُخْتَرِعُ الْعَظِيمُ! أَنَسِيتَ — أَيُّهَا الْغَبِيُّ أَنَّ الزُّجَاجَ إِذَا صَارَ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْكَسْرِ، وَاحْتَفَظَ بِجَمِيعِ مَزَايَاهُ وَخَوَاصِّهِ الْأُخْرَى، فَقَدَ كُلَّ قِيمَتِهِ، وَكَسَدَتْ بِذَلِكَ صِنَاعَةٌ مُزْدَهِرَةٌ؟»
– أَيُّهُمَا الْغَبِيُّ؟!
– «حُجَّةُ الْأَقْوَى قَوِيَّةٌ» كَمَا يَقُولُ الشَّاعِرُ. وَقَدْ أَمَرَ الْإِمْبِرَاطُورُ الْقَوِيُّ بِضَرْبِ عُنُقِ الْمُخْتَرِعِ الْمَوْهُوبِ؛ جَزَاءً لَهُ عَلَى إِبْدَاعِهِ!
– خَبِّرْنِي يَا أَبِي: هَلِ اسْتَطَاعَ الْقُدَمَاءُ الَّذِينَ اخْتَرَعُوا الزُّجَاجَ أَنْ يَهْتَدُوا إِلَى صُنْعِ الْمَرَايَا أَيْضًا؟
– أَأَنْتِ — يَا «لَيْلَى» — مَعْنِيَّةٌ بِاخْتِرَاعِ الْمَرَايَا أَكْثَرَ مِنْ عِنَايَتِكِ بِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ زُجَاجِ الْأَكْوَابِ وَالنَّوَافِذِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ؟!
أَلَا تَعْلَمِينَ — يَا عَزِيزَتِي — أَنَّ الْمَرَايَا قَدْ وُجِدَتْ مُنْذُ أَقْدَمِ الْعُصُورِ؟
– أَتَعْنِي الْمَرَايَا الزُّجَاجِيَّةَ بِذَلِكَ؟
– لَمْ تَكُنِ الْمَرَايَا الْقَدِيمَةُ مِنَ الزُّجَاجِ.
– فَمِمَّ كَانَتْ؟
– مِنَ الْمَعَادِنِ، أَوِ الْحِجَارَةِ الْمَصْقُولَةِ.
وَقَدْ وُجِدَ بَعْضُهَا فِي قُبُوِرِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ.
– لِمَ وَضَعَهَا الْمِصْرِيُّونَ الْقُدَمَاءُ فِي قُبُورِهِمْ، وَمَاذَا تُجْدِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ؟
– كَانَ مِنْ تَقَالِيدِ دِينِهِمْ وَشَعَائِرِ عِبَادَتِهِمْ — فِي تِلْكَ الْعُصُورِ الْخَوَالِي — أَنْ يَدْفِنُوا مَعَ النِّسَاءِ كُلَّ مَا يُؤْثِرْنَهُ (يَخْتَرْنَهُ) وَيَسْتَعْمِلْنَهُ فِي حَيَاتِهِنَّ مِنَ الطَّرَائِفِ وَالْحُلِيِّ.
وَفِي هَذَا تَعْلِيلٌ لِمَا نَرَاهُ — غَالِبًا — فِي التَّوَابِيتِ الْمِصْرِيَّةِ الْقَدِيمَةِ فِي قُبُورِ النِّسَاءِ، مِنْ صَنَادِيقَ مَنْقُوشَةٍ، بِهَا قَلَائِدُ وَأَسَاوِرُ، زُجَاجِيَّةٌ أَوْ مَعْدِنِيَّةٌ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَوَانِي الَّتِي كُنَّ يَضَعْنَ فِيهَا الْعُطُورَ وَمَا إِلَيْهَا.
وَقَدْ تَجَلَّى فِي تِلْكَ الْمَقَابِرِ حِرْصُهُنَّ الشَّدِيدُ عَلَى مَرَايَاهُنَّ.
– كَيْفَ كَانَتِ الْمَرَايَا؟
– كَانَتْ مُسْتَدِيرَةَ الْأَشْكَالِ، وَقَدْ نُقِشَتْ مَقَابِضُهَا بِالْمِينَاءِ، وَكَثِيرًا مَا حُلِّيَتْ بِالْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ.
– الْآنَ عَرَفْتُ السَّبَبَ، فَشُكْرًا لَكَ يَا أَبَتَاهُ. وَإِنَّهُ لَجَمِيلٌ أَنْ يُودَعَ مَعَ الْمَوْتَى كُلُّ مَا أَحَبُّوهُ فِي حَيَاتِهِمْ مِنَ الطَّرَائِفِ وَالْمُتَعِ.
– وَبَعْدَئِذٍ صُنِعَتِ الْمَرَايَا مِنَ الزُّجَاجِ، وَقَدْ شُوهِدَ فِي النُّقُوشِ الَّتِي وُجِدَتْ فِي «بُومْبِي» غَادَاتٌ يَسْتَعِنَّ عَلَى زِينَتِهِنَّ بِمَا لَدَيْهِنَّ مِنْ مَرَايَا مُسْتَدِيرَةٍ غَايَةٍ فِي الْجَمَالِ. وَقَدْ كَانَتِ الْحُجُرَاتُ — كَمَا هِيَ فِي أَيَّامِنَا — مُزْدَانَةً بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمَرَايَا الْكَبِيرَةِ.
– لَا أَظُنُّ مَنَازِلَ الرُّومَانِيِّينَ كَانَتْ شَدِيدَةَ الشَّبَهِ بِمَنَازِلِنَا.
– يَقُولُ الْمَثَلُ: «لَا جَدِيدَ فِي الْأَرْضِ!»
– كَمَا يَقُولُ مَثَلٌ آخَرُ: «لَا جَدِيدَ تَحْتَ الشَّمْسِ!»
وَقَدِيمًا قَالَ الشَّاعِرُ:
– هَذَا صَحِيحٌ، وَطَالَمَا انْطَبَقَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّ تَارِيخَ الْمَرَايَا يَرْجِعُ إِلَى عَهْدٍ بَعِيدٍ. أَتَذْكُرُونَ مَا يَرْوِيهِ التَّارِيخُ عَنْ «أَرْشِمِيدِسَ» الْمَعْرُوفِ.
– نَعَمْ. إِنَّهُ ذَلِكَ الرِّيَاضِيُّ الَّذِي اسْتَطَاعَ — بِوَاسِطَةِ مَرَايَاهُ — أَنْ يُحْرِقَ أُسْطُولَ «مَرْسِيلُوسَ» الرُّومَانِيِّ، وَهُوَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ!
– حَسَنٌ يَا وَلَدِي. مَا أَعْظَمَ غِبْطَتِي وَابْتِهَاجِي إِذْ أَجِدُكَ عَارِفًا بِأَهَمِّ أَحْدَاثِ التَّارِيخِ. وَثَمَّ مَا يَحْمِلُ عَلَى الظَّنِّ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَرَايَا كَانَتْ ذَاتَ زُجَاجٍ مُقَعَّرٍ، تُحْصَرُ فِيهِ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ، ثُمَّ تُرْسَلُ مِنْهَا بِقُوَّةٍ مُحْرِقَةٍ مَرْهُوبَةٍ.
– وَلَكِنْ، أَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ مَعْدِنٍ مَصْقُولٍ؟
– حَقِيقَةً. وَلَكِنْ مِنَ الْمُحَتَمَلِ أَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الزُّجَاجِ، لِأَنَّ «أَرْشِمِيدِسَ» كَانَ قَدْ صَنَعَ مِرْآةً مِنَ الزُّجَاجِ كُرِيَّةَ الشَّكْلِ، تَنْعَكِسُ عَلَيْهَا الْكَوَاكِبُ. فَلَيْسَ مِنَ الْمُدْهِشِ إِذَنْ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الزُّجَاجَ فِي صُنْعِ تِلْكَ الْمَرَايَا الْقَوِيَّةِ!
– وَلَكِنْ، أَيُمْكِنُ — يَا أَبِي — أَنْ يَحْرِقَ الزُّجَاجُ أُسْطُولًا؟!
– لَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَحِيلٍ، عَلَى كُلِّ حَالٍ!
– كَيْفَ؟
– لَقَدْ أَرَادَ الْعَالِمُ الطَّبِيعِيُّ «بُوفُونُ» فِي الْقَرْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ أَنْ يُجْرِيَ مِثْلَ هَذِهِ التَّجْرِبَةِ، فَمَاذَا صَنَعَ؟
اهْتَدَى بِرَأْيِ «أَرْشِمِيدِسَ»، فَأَنْشَأَ «عَاكِسَ الضَّوْءِ»، مِنْ زُجَاجٍ مُقَعَّرٍ مُكَوَّنٍ مِنْ مَائَةٍ وَسِتِّينَ مِرْآةً صَغِيرَةً مُتَحَرِّكَةً.
– فَهَلْ كُتِبَ لَهُ النَّجَاحُ؟!
– تَمَكَّنَ بِهَذِهِ الْآلَةِ، مِنْ أَنْ يُحْرِقَ كُومَةً مِنَ الْخَشَبِ، تَبْعُدُ عَنْهُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ وَمِائَةِ مِتْرٍ.
– يَا لِلْعَجَبِ!
– كَمَا تَمَكَّنَ مِنْ إِذَابَةِ الْقَصْدِيرِ عَلَى بُعْدِ خَمْسِينَ مِتْرًا.
– وَهَذَا أَعْجَبُ!
– وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي حَاجَةٍ إِلَى الثِّقَابِ.
– أَلَا تَدْرِي يَا «ثَرْوَةُ»، أَنَّنِي كُنْتُ أُشْعِلُ وَرَقَةً بِزُجَاجَةِ سَاعَةٍ، إِذَا أَرَدْتُ!
– حَقِيقَةً، إِنَّ مِنَ الزُّجَاجِ لَعَجَائِبَ وَغَرَائِبَ!
– صَدَقْتِ يَا «لَيْلَى»، وَبَعْدَ سُقُوطِ «الْإِمْبِرَاطُورِيَّةِ الرُّومَانِيَّةِ» اتَّسَعَتْ هَذِهِ الصِّنَاعَةُ، وَارْتَقَى فَنُّ الزُّجَاجِ، وَبِخَاصَّةٍ فِي «الْبُنْدُقِيَّةِ» وَ«بُوهِمْيَا» وَ«فَرَنْسَا» وَ«إِنْجِلْتِرَا».
وَكَانَ فِي «فَرَنْسَا» فِي الْقَرْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ مُزْدَهِرًا لِلْغَايَةِ؛ إِذْ صُنِعَ مِنَ الزُّجَاجِ التُّحَفُ والطُّسُوتُ وَالْأَوَانِي وَالْأَقْدَاحُ الْمَنْقُوشَةُ، وَبِخَاصَّةٍ الْأَلْوَاحُ الزُّجَاجِيَّةُ الْبَدِيعَةُ فِي الْكَنَائِسِ.
وَلَكِنَّ الْفَضْلَ فِي هَذَا التَّقَدُّمِ يَرْجِعُ — فِي الْأَكْثَرِ — إِلَى «كُلْبِيرَ» الَّذِي اسْتَطَاعَ أَنْ يَجْتَذِبَ كَثِيرًا مِنْ عُمَّالِ «الْبُنْدُقِيَّةِ»، وَأَنْشَأَ مَصْنَعًا لِلْمَرَايَا.
وَفِي سَبِيلِ تَرْقِيَةِ هَذَا الْفَنِّ، تَقَرَّرَ — مُنْذُ الْقُرُونِ الْوُسْطَى — أَنْ يُرْفَعَ كُلُّ مَنْ يَعْمَلُ فِي صِنَاعَةِ الزُّجَاجِ إِلَى مَرْتَبَةِ السَّادَةِ الْأَشْرَافِ.
– وَمَنَحَ «شَارْلُ السَّابِعُ» — وَمَنْ خَلَفُوهُ — أَلْقَابَ النُّبْلِ لِصَانِعِي الزُّجَاجِ.
وَاسْتَطَاعَ السَّرَاةُ مِنْ أَبْنَاءِ الْأُسَرِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَكُونُوا صُنَّاعَ زُجَاجٍ، دُونَ الْحَطِّ مِنْ نُبْلِهِمْ، وَأُعْفُوا مِنَ الْجِزْيَةِ وَالضَّرَائِبِ الَّتِي يَدْفَعُهَا الشَّعْبُ.
– عَلَى أَنَّ هَذَا النُّبْلَ الصِّنَاعِيَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْهَيْبَةِ وَالْوَقَارِ.
وَقَدْ أُلْغِيَ هَذَا النُّبْلُ بَعْدَئِذٍ، وَلَمْ يَحُلْ إِلْغَاؤُهُ دُونَ رُقِيِّ صِنَاعَةِ الزُّجَاجِ ﺑ «فَرَنْسَا» وَسَائِرِ «أُورُوبَّةَ» حَتَّى أَيَامِنَا هَذِهِ.
– وَلَقَدِ انْقَضَى الْوَقْتُ الَّذِي كَانَتْ أَلْوَاحُ الزُّجَاجِ فِيهِ نَادِرَةً جِدًّا وَغَالِيَةً جِدًّا فِي «إِنْجِلْتِرَا»، إِلَى حَدٍّ جَعَلَ أَصْحَابَ الْقُصُورِ يَحْرِصُونَ عَلَى خَلْعِ نَوَافِذِهَا، إِذَا غَادَرُوهَا إِلَى بَعْضِ أَسْفَارِهِمْ.
– لِمَاذَا؟
– خَوْفًا مِنْ أَنْ تُحَطِّمَ الرِّيحُ الزُّجَاجَ!
– كَانَ الزُّجَاجُ — لِنُدْرَتِهِ — مِنْ أَثْمَنِ الطُّرَفِ حِينَئِذٍ، فَلَا عَجَبَ إِذَا خَشُوا عَلَيْهِ الْكَسْرَ، فَحَرَصُوا عَلَيْهِ، وَبَذَلُوا كُلَّ جُهْدِهِمْ فِي صَوْنِهِ وَرِعَايَتِهِ.