الْفَصْلُ السَّادِسُ
– كُنْتَ عَلَى وَشْكِ أَنْ تُحَدِّثَنَا — أَوَّلَ أَمْسِ — عَنْ «يَاقُوتٍ» السَّاحِرِ، صَاحِبِ مَدِينَةِ الْيَاقُوتِ.
ثُمَّ تَطَرَّقَ بِنَا الْحَدِيثُ إِلَى مَوْضُوعٍ آخَرَ.
– لَمْ تَضِعْ فُرْصَةُ الْحَدِيثِ، عَلَى أَيِّ حَالٍ.
– فَهَلْ تَذْكُرُ هَذِهِ الْقِصَّةَ؟
– أَذْكُرُهَا كَأَنَّمَا انْتَهَيْتُ مِنْ قِرَاءَتِهَا الْيَوْمَ.
وَسَتَرَوْنَ أَنَّهَا أَعْجَبُ مِنْ كُلِّ مَا سَمِعْتُمُوهُ مِنْ غَرَائِبِ الْأَسَاطِيرِ.
– مَا أَعْجَبَ ذَاكِرَتَكَ يَا «ثَرْوَةُ»! فَهَاتِ حَدِيثَكَ.
– صِلْ مَا انْقَطَعَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَقُصَّ عَلَى إِخْوَتِكَ مَا وَعَدْتَهُمْ بِهِ.
– لَيْسَ أَبْهَجَ لِنَفْسِي مِنْ تَلْبِيَةِ مَا تَطْلُبُونَ:
كَانَ السَّاحِرُ قَزَمًا مُفْرِطًا فِي الْقِصَرِ، وَكَانَتْ لِحْيَتُهُ طَوِيلَةً، مُفْرِطَةً فِي الطُّولِ.
– جَمَعَ بَيْنَ الْقَمَاءَةِ (الْمَذَلَّةِ وَصِغَرِ الْجِسْمِ)، وَضَخَامَةِ اللِّحْيَةِ!
– كَأَنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَتَلَافَى مَا نَقَصَ مِنْ جِسْمِهِ بِمَا زَادَ مِنْ لِحْيَتِهِ!
– كَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةَ أَشْبَارٍ، وَطُولُ لِحْيَتِهِ سِتَةً!
– مَا أَعْجَبَهُ مَنْظَرًا، وَأَغْرَبَهَا صُورَةً!
لِحْيَةٌ أَطْوَلُ مِنْ رَجُلٍ، وَرَجُلٌ أَقْصَرُ مِنْ لِحْيَةٍ!
– وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ.
– قَامَتُهُ نِصْفُ لِحْيَتِهِ.
– وَلِحْيَتُهُ ضِعْفُ قَامَتِهِ!
– فَكَيْفَ يَمْشِي؟ لَا رَيْبَ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَثَّرُ فِيهَا!
– لَوْ مَشَى عَلَى سَاقَيْهِ، لَتَعَثَّرَ فِيهَا بِلَا شَكٍّ.
– فَكَيْفَ يَصْنَعُ؟
– كَانَ يَمْشِي عَلَى سَاقَيْنِ مِنَ السَّاجِ، طُولُ كُلٍّ مِنْهُمَا سِتَّةُ أَشْبَارٍ.
– تَقُولُ: «عَلَى سَاقَيْنِ مِنَ السَّاجِ!» فَمَا هُوَ السَّاجُ؟
– هُوَ شَجَرٌ مُتَنَاهٍ فِي الْكِبَرِ، يَنْبُتُ فِي الْمَنَاطِقِ الِاسْتِوَائِيَّةِ، وَيَكْثُرُ فِي بِلَادِ الْهِنْدِ، وَخَشَبُهُ غَايَةٌ فِي الْمَتَانَةِ.
– سَمَعِتُ مِنْ بَعْضِ أَسَاتِذَتِي أَنَّ خَشَبَ السَّاجِ أَسْوَدُ رَزِينٌ، لَا تَكَادُ الْأَرْضُ تُبْلِيهِ.
– هُوَ كَذَلِكَ، صَدَقْتَ يَا «مَحْمُودُ»، وَصَدَقَ أُسْتَاذُكَ.
– الْآنَ عَرَفْنَا كَيْفَ يَرْتَفِعُ بِلِحْيَتِهِ عَنِ الْأَرْضِ إَذَا مَشَى!
فَمَاذَا يَصْنَعُ إِذَا قَعَدَ؟
– كَانَ يَفْرِشُ لِحْيَتَهُ عَلَى وِسَادَةٍ مِنَ الدِّيبَاجِ أَوِ الْحَرِيرِ.
– مَا كَانَ أَغْنَاهُ عَنْ هَذَا الْعَنَاءِ!
– الْجُنُونُ فُنُونٌ!
– كَانَ «يَاقُوتٌ»، كَمَا قُلْتُ لَكَمْ، لِحْيَانِيًّا (طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، عَرِيضَهَا)، فَكَانَتْ تُكْسِبُهُ مَهَابَةً وَرَوْعَةً.
فَلَا عَجَبَ إِذَا رَأَى فِي كِبَرِ لِحْيَتِهِ مَظْهَرًا مِنْ مَظَاهِرِ عَظَمَتِهِ.
– لَعَلَّ بَيَاضَ شَعْرِهَا فِي زَمَنِ شَيْخُوخَتِهِ قَدْ حَبَّبَ إِلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهَا.
– لَعَلَّكُمْ تَعْجَبُونَ إِذَا قُلْتُ لَكُمْ: إِنَّ لِحْيَتَهُ لَمْ تَكُنْ بَيْضَاءَ!
– أَسَوْدَاءَ كَانَتْ؟
– لَمْ تَكُنْ سَوْدَاءَ وَلَا حَمْرَاءَ، بَلْ زَرْقَاءَ.
– يَا لَلْعَجَبِ! يَأْبَى ذَلِكَ الْقَزَمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَاذًّا فِي كُلِّ شَيْءٍ:
قَامَةٌ مُفْرِطَةٌ فِي الْقِصَرِ وَالنَّحَافَةِ، وَلِحْيَةٌ مُفْرِطَةٌ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَشَعْرٌ أَزْرَقُ!
وَهَكَذَا يَجْتَمِعُ فِيهِ كُلُّ مَا يَنْبُو عَنْهُ النَّظَرُ وَلَا تَأْلَفُهُ الْعَيْنُ.
– وَكَانَ — إِلَى قِصَرِ قَامَتِهِ، وَضَخَامَةِ لِحْيَتِهِ — أَصْلَعَ، يَنْحَسِرُ شَعْرُهُ فَتَمْتَدُّ جَبْهَتُهُ حَتَّى تَبْلُغَ نِصْفَ رَأْسِهِ.
– لَكَأَنَّمَا عَنَاهُ الْقَائِلُ:
– لَقَدْ أَبْدَعْتَ فِي تَمَثُّلِكَ يَا «مَحْمُودُ».
– فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يُعْنَى بِهِ — أَيُّهَا الْأَعِزَّاءُ — غَيْرُ تَنْظِيمِ تِلْكَ اللِّحْيَةِ الزَّرْقَاءِ، وَتَنْسِيقِهَا عَلَى نِظَامٍ مُبْتَكَرٍ.
– أَيَّ نِظَامٍ ابْتَكَرَ؟
– كَانَ يَسْلُكُ فِي شَعَرَاتِهَا نَفَائِسَ مِنْ حَبَّاتِ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ، مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَلْوَانِ.
– شَدَّ مَا تَحَالَفَ عَلَيْهِ الشُّذُوذُ، فَأَصْبَحَ نَسِيجَ وَحْدِهِ فِي مُفَارَقَاتِهِ وَتَنَاقُضِهِ.
– وَلَمْ يَقِفْ شُذُوذُهُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ.
– فَمَاذَا بَلَغَ مِنْ أَمْرِهِ؟
– كَانَ شُذُوذُهُ فِي مَخْبَرِهِ، أَضَعَافَ شُذُوذِهِ فِي مَظْهَرِهِ!
– أَيُّ مَخْلُوقٍ هَذَا؟!
– لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ.
– صَدَقْتَ؛ فَقَدْ بَلَغَ بِهَذَا الِادِّعَاءِ غَايَةَ دَرَجَاتِ الْخَبَالِ.
– كَذَلِكَ تُمَثِّلُهُ الْأُسْطُورَةُ.
– وَمَا الَّذِي أَغْرَاهُ بِهَذَا الْجُنُونِ؟
– كَانَ، كَمَا حَدَّثْتُكُمْ، مِنْ أَبْرَعِ السَّحَرَةِ فِي زَمَنِهِ، وَرَأَى مَا أُوتِيَهُ مِنْ سُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ، وَمَا تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ، فَاسَتَعْبَدَ النَّاسَ.
وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ تَمَلَّكَهُ الزَّهْوُ وَالْخُيَلَاءُ، وَزَيَّنَ لَهُ شَيْطَانُ الْغُرُورِ أَنْ يَقُولَ لِأَتْبَاعِهِ: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى.»
– الْآنَ تَمَّ لَهُ الْخَبَالُ، وَبَلَغَ غَايَاتِ الضَّلَالِ، وَخُتِمَ لَهُ بِالْوَبَالِ.
– فَهْلَ تَبِعَهُ فِي ضَلَالِهِ أَحَدٌ؟
– مَا أَكْثَرَ الْمَجَانِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمَصْرٍ؛ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمَخْدُوعِينَ يُقْسِمُونَ بِهِ وَيَسْجُدُونَ لَهُ!
– بَهَرَهُمْ بِسَمَائِهِ الزُّجَاجِيَّةِ الَّتِي أَقَامَهَا عَلَى مَدِينَتِهِ.
– وَكَانَ — إِلَى ذَلِكَ — يُوهِمُهُمْ أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَيَنْخَدِعُونَ بِهِ وَيُصَدِّقُونَهُ.
– مَاذَا يَعْنِي بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ؟
– أَمَّا الْغَيْبُ فَهُوَ — كَمَا تَعْلَمُونَ — عَالَمُ الْأَشْيَاءِ الْمَسْتُورَةِ الَّتِي لَا تُرَى.
– فَمَا الشَّهَادَةُ؟
– هِيَ عَالَمُ الْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي نَرَاهَا.
– فَهُوَ يَعْنِي بِذَلِكَ مَا غَابَ مِنَ الْأُمُورِ وَمَا ظَهَرَ.
– صَدَقْتَ يَا وَلَدِي، وَلَمْ تُخْطِئْ مُرَادَهُ.
– فَمَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ «يَاقُوتٍ»؟
– طَبَّقَ صِيتُهُ الْآفَاقَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ «سَيْفَ الْيَمَنِ»، بَعَثَ إِلَيْهِ بِأَحَدِ رُوَّادِهِ لِيَتَعَرَّفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ.
– بِأَيِّ رُوَّادِهِ بَعَثَ؟
– ﺑِ «مُسَابِقِ الْعَيَّارِ»، وكَانَ آيَةً فِي النَّشَاطِ وَالشَّجَاعَةِ وَالذَّكَاءِ.
– فَمَا مَعْنَى «الْعَيَّارِ»؟
– مَعْنَاهُ: الْأَسَدُ.
– أَتَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يُسَابِقُ الْأَسَدَ؟
– كَذَلِكَ شَاءَ رَاوِي الْقِصَّةِ أَنْ يُلَقِّبَهُ.
– أَلَمْ يَكُنْ أَلْيَقَ بِنَشَاطِهِ أَنْ يُلَقِّبَهُ ﺑِ«مُسَابِقِ الْغَزَالِ»؟
– أَوَلَيْسَ أَجْدَرَ بِشَجَاعَتِهِ أَنْ يُلَقَّبَ ﺑِ «مُسَابِقِ الْأَسَدِ»؟
– مَا بَالُكُمَا تَذْهَبَانِ بَعِيدًا، أَلَا تَعْلَمَانِ أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَلِفُوا — مُنْذُ قَدِيمٍ — أَنْ يُطْلِقُوا لَقَبَ «الْعَيَّارِ» عَلَى الذَّكِيِّ النَّشِيطِ مِنَ الرِّجَالِ؟
– الْآنَ فَهِمْنَا مَا تَعْنِيهِ يَا أَبِي؛ إِنَّ اسْمَهُ: «مُسَابِقٌ»، وَ«الْعَيَّارَ»: لَقَبُهُ. فَهُوَ «مُسَابِقٌ الْعَيَّارُ».
– ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ، وَأْدَنى إِلَى الْفَهْمِ.
– مَا أَجْدَرَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ!
– فَمَاذَا صَنَعَ «مُسَابِقٌ»؟
– أَسَرْعَ بِالذَّهَابِ إِلَى السَّاحِرِ، فَلَقِيَ فِي طَرِيقِهِ خَادِمَ «يَاقُوتٍ»، فَاحْتَالَ عَلَيْهِ حَتَّى عَرَفَ أَسْرَارَهُ وَأَسْرَارَ سَيِّدِهَ.
ثُمَ قَتَلَ الْخَادِمَ، وَتَمَثَّلَ فِي هَيْئَتِهِ، وَتَزَيَّا بِزِيِّهِ.
وَكَانَ بَارِعًا فِي التَّنَكُّرِ، فَأَصْبَحَ صُورَةً مُكَرَّرَةً مِنْهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى «يَاقُوتٍ»، وَمَعَهَ مَا طَلَبَهُ مِنْ خَادِمِهِ.
– فَكَيْفَ لَقِيَهُ «يَاقُوتٌ»؟
– هَشَّ لِلِقَائِهِ وَبَشَّ.
– لَقَدْ عَرَفَ كَيْفَ يَخْدَعُ السَّاحِرَ الذَّكِيَّ.
– لَمْ يَكَدْ «يَاقُوتٌ» يَرَاهُ، حَتَّى دَارَ بَيْنَهُمَا الْحِوارُ الْآتِي:
– هَلْ أَحْضَرْتَ الطَّعَامَ؟
– نَعَمْ.
– وَالثِّيَابَ؟
– نَعَمْ.
– وَهَلْ قَتَلْتَ خَادِمِي، وَلَبِسْتَ ثِيَابَهُ؟
– لَقَدْ فَطِنَ الْخَبِيثُ إِلَى حِيلَةِ «مُسَابِقِ الْعَيَّارِ»!
– يَا لَهُ مَأْزِقًا حَرِجًا! فَبِمَاذَا أَجَابَهُ «مُسَابِقٌ»؟
– بُهِتَ، وَلَمْ يُحِرْ جَوَابًا.
– لَقَدْ أَدْرَكَ أَنَّ أَمْرَهُ قَدِ انْكَشَفَ، وَأَيْقَنَ أَنَّ الْهَلَاكَ مَصِيرُهُ.
– لَمْ يَبْقَ أَمَامَهُ غَيْرُ الْهَرَبِ.
– إِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا!
– أَلَمْ تَقُلْ لَنَا: «إِنَّهُ كَانَ آيَةً فِي النَّشَاطِ» فَمَاذَا يُعْجِزُهُ عَنِ الْهَرَبِ؟
– قَيَّدَهُ «يَاقُوتٌ» بِسِحْرِهِ، وَخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّ قَدَمَيْهِ سُمِّرَتَا فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ أَعْضَاءَهُ مُتَخَاذِلَةٌ مُتَفَكِّكَةٌ.
– وَقَعَ الْمِسْكِينُ فِي أَسْرِ السَّاحِرِ اللَّعِينِ!
– وَهُنَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ «يَاقُوتٌ»، وَرَوَى لِسُمَّارِهِ مَا صَنَعَ «مُسَابِقٌ»، وَكَيْفَ احْتَالَ عَلَى خَادِمِهِ وَأَهْلَكَهُ — بَعْدَ أَنْ عَرَفَ مَا خَفِيَ مِنْ سِرِّهِ — وَكَيْفَ وَسْوَسَ لَهُ الْغُرُورُ أَنْ يَقْتُلَ السَّيِّدَ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ الْعَبْدَ.
ثُمَّ أَطْرَقَ «يَاقُوتٌ» هُنَيْهَةً، وَاسْتَأَنَفَ قَائِلًا:
«لَوْ قَتَلْتُكَ يَا «مُسَابِقُ» لَأَرَحْتُكَ، وَلَكِنِّي لَا أُحِبُّ لَكَ الرَّاحَةَ، وَلَا أَرْضَاهَا لِأَمْثَالِكَ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ رَأْيِي عَلَى أَنْ أَسْتَبْقِيَكَ حَيًّا، لِأُطِيلَ تَعْذِيبَكَ، وَأَفْتَنَّ فِي تَنْغِيصِكَ، وَسَأَتَّخِذُكَ لِي عَبْدًا تَخْدُمُنِي بَدَلًا مِمَّنْ قَتَلْتَهُ.
وَحَذَارِ أَنْ تُفَكِّرَ فِي الْغَدْرِ بِي، فَإِنِّي — إِنْ خَطَرَ لَكَ ذَلِكَ — سَأُعَذِّبُكَ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا.»
– لَا رَيْبَ أَنْ «مُسَابِقًا» فَرِحَ بِنَجَاتِهِ.
– وَلَكِنَّ «مُسَابِقًا» أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَتَحَيَّنَ الْفُرَصَ لِاغْتِيَالِهِ!
– فَمَاذَا صَنَعَ «مُسَابِقٌ»؟
– تَظَاهَرَ بِشُكْرِ «يَاقُوتٍ»، وَاعْتَزَمَ فِي نَفْسِهِ تَنْفِيذَ مَا جَاءَ مِنْ أَجْلِهِ.
– فَهَلْ أُتِيحَتْ لَهُ الْفُرْصَةُ؟
– رَأَى دُونَ تَحْقِيقِهَا أَهْوَالًا جِسَامًا.
– مَاذَا رَأَى؟
– كَانَ أَوَّلُ مَا بَهَرَ «مُسَابِقًا» مِنْ سِحْرِ «يَاقُوتٍ» أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا احْتَاجَ شَيْئًا نَادَاهُ فَلَبَّاهُ!
– هَذَا كَلَامٌ مُلْتَبِسٌ لَا يَبِينُ، فَزِدْنَا إِيضَاحًا يَا أَخِي.
– كَانَ «يَاقُوتٌ» يُنَادِي الْمَائِدَةَ — إِذَا جَاعَ — فَتَحْضُرُ، ثُمَّ يُنَادِي أَلْوَانَ الطَّعَامِ الَّتِي يُرِيدُهَا، فَإِذَا بِالصِّحَافِ وَالْأَطْبَاقِ مَاثِلَةٌ أَمَامَهُ فَوْقَ الْمَائِدَةِ، ثُمَّ يُنَادِي مَا تَحْوِيهِ الصِّحَافُ وَالْأَطْبَاقُ مِنْ لَذَائِذِ الْأَطْعِمَةِ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى فَمِهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْهَا — دُونَ أَنْ يُحَرِّكَ لِتَنَاوُلِهِ يَدًا — وَلَا تَزَالُ اللُّقَمُ مُتَتَابِعَةً إِلَى فَمِهِ — وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى — حَتَّى يَشْبَعَ.
فَإِذَا طَلَبَ الشَّرَابَ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ الْأَقْدَاحُ وَارْتَفَعَتْ إِلَى فَمِهِ، قَدَحًا بَعْدَ قَدَحٍ. فَإِذَا شَبِعَ «يَاقُوتٌ» وَارْتَوَى أَمَرَ الْمَائِدَةَ أَنْ تُرْفَعَ بِمَا عَلَيْهَا.
فَتَعُودُ الْمَائِدَةُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْ، وَتَسْتَخْفِي بِمِثْلِ السُّرْعَةِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا، وَتَغِيبُ عَنِ النَّظَرِ، وَشْكَ اللَّمْحِ بِالْبَصَرِ.
– يَا لَهُ مِنْ سَاحِرٍ عَجِيبٍ!
– وَلَمْ يَتَمَالَكْ «مُسَابِقٌ» أَنْ يَبْتَهِجَ حِينَ رَآهُ يَسْتَسْلِمُ لِلنَّومِ، بَعْدَ أَنْ أَتْخَمَهُ مَا أَفْرَطَ فِيهِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ. وَلَاحَتْ لَهُ الْفُرْصَةُ سَانِحَةً لِلِانْتِقَامِ، حِينَ رَآهُ يَرْتَمِي عَلَى الْأَرْضِ جُثَّةً هَامِدَةً، لَا نَأْمَةَ فِيهَا وَلَا حَرَكَةَ.
– يَا لَهَا فُرْصَةً نَادِرَةً!
– كَذَلِكَ خَيَّلَ إِلَيْهِ الْوَهْمُ، وَكَانَ اللَّيْلُ قَدْ مَضَى أَكْثَرُهُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا أَقَلُّهُ، فَلَمْ يَشَأْ «مُسَابِقٌ» أَنْ يُفْلِتَ مِنْهُ «يَاقُوتٌ».
فَاقْتَرَبَ مِنْهُ وَفِي يَدِهِ خِنْجَرٌ مُرْهَفٌ، فَنَحَرَهُ مِنَ الْوَرِيدِ إِلَى الْوَرِيدِ.
ثَمَ مَسَحَ مَا عَلِقَ بِخِنْجَرِهِ مِنْ دَمِ السَّاحِرِ، وَأَعَادَهُ إِلى قِرَابِهِ.
فَلَمَّا تَمَّ لَهُ مَا أَرَادَ، قَذَفَ بِرَأْسِ السَّاحِرِ إِلَى إِحْدَى زَوَايَا الْحُجْرَةِ، ثُمَّ تَأَهَّبَ لِلْهَرَبِ قَبْلَ أَنْ يَكْشِفَهُ ضَوْءُ النَّهَارِ.
فَلَمْ يَجِدْ لِلْبَابِ أَثَرًا، وَرَأَى الْجِدَارَ يُحِيطُ بِالْحُجْرَةِ، وَيَسُدُّ مَنَافِذَهَا كُلَّهَا، فَارْتَبَكَ، وَأَيْقَنَ أَنَّ الْحُجْرَةَ قَدْ أَصْبَحَتْ قَبْرًا لَهُ وَلِلسَّاحِرِ جَمِيعًا!
وَتَمَلَّكَتْهُ الْحَيْرَةُ، فَلَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَصْنَعُ؟!
وَلَا تَسَلْ عَمَّا اسْتَوَلَى عَلَيْهِ مِنَ الرُّعْبِ وَالْفَزَعِ، حِينَ رَأَى رَأْسَ «يَاقُوتٍ» يَتَدَحْرَجُ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى يَقْتَرِبَ مِنَ الْجُثَّةِ الَّتِي زَايَلَهَا مُنْذُ قَلِيلٍ.
ثُمَّ رَأَى شَفَتَيْهِ تَنْفَرِجَانِ، وَلِسَانَهُ يَتَحَرَّكُ، وَسَمِعَهُ يُتَمْتِمُ بِأَلْفَاظٍ غَرِيبَةٍ مِنَ السِّحْرِ، فَلَا يَنْتَهِي مِنْهَا حَتَّى يَعْتَدِلَ الْجِسْمُ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَيَنْبَثِقَ مِنْهُ دَمٌ غَزِيرٌ، ثُمَّ يَنْدَفِعُ كَأَنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ نَافُورَةٍ، مُتَنَاثِرًا فِي أَرْضِ الْحُجْرَةِ.
وَلَا يَزَالُ الدَّمُ يَتَدَفَّقُ حَتَّى تَمْتَلِئَ بِهِ الْحُجْرَةُ.
وَيَظَلُّ «مُسَابِقٌ» يَعُومُ لِيُخَلِّصَ حَيَاتَهُ مِنَ الْغَرَقِ، حَتَّى إِذَا قَارَبَ الدَّمُ سَقْفَ الْحُجْرَةِ يَئِسَ «مُسَابِقٌ» مِنَ الْحَيَاةِ. وَيَمُدُّ «مُسَابِقٌ» يَدَهُ إِلَى السَّقْفِ، فَلَا تَلْمُسُهُ كَفُّهُ حَتَّى تَلْتَصِقَ بِهِ، وَيُحَاوِلُ أَنْ يَجْذِبَهَا، فَلَا يَسْتَطِيعُ، وَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا قَدْ سُمِّرَتْ فِيهِ تَسْمِيرًا.
فَإِذَا فَقَدَ كُلَّ أَمَلٍ فِي الْحَيَاةِ، وَيَئِسَ مِنَ النَّجَاةِ، رَأَى الدَّمَ يَغِيضُ مُتَسَرِّبًا مِنْ أَرْضِ الْحُجْرَةِ كَأَنَّمَا فُتِحَتْ لَهُ بَالُوعَةٌ، فَيُعَاوِدُهُ الْأَمَلُ فِي النَّجَاةِ، وَيَنْتَزِعُ كَفَّهُ مِنَ السَّقْفِ بِكُلِّ مَا وَهَبَهُ اللهُ مِنْ قُوَّةٍ، فَيَهْوِي بِجِسْمِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَيُغْمَى عَلَيْهِ مِنْ هَوْلِ الصَّدْمَةِ، وَلَا يَكَادُ يُفِيقُ مِنْ إِغْمَاءَتِهِ حَتَّى يَرَى السَّاحِرَ جَالِسًا فِي مَكَانِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ سَاخِرًا! فَيَشْتَدُّ ارْتِبَاكُ «مُسَابِقٍ»، وَتَتَعَاظَمُهُ الْحَيْرَةُ، وَلَا يَدْرِي: أَكَانَ حُلْمًا مَا رَآهُ أَمْ حَقِيقَةً؟
وَهَلْ أَدْرَكَ «السَّاحِرُ» مَا يَجُولُ بِخَاطِرِهِ مِنْ رَغْبَةٍ فِي الِانْتِقَامِ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِ النَّوْمَ، لِيَكْشِفَ لَهُ — فِي عَالَمِ الْأَحْلَامِ — مَا يُبْطِنُهُ مِنْ أَسْرَارٍ؟ أَمْ كَانَ يَعْبَثُ بِهِ، فُخُيِّلَ لَهُ — فِي عَالَمِ الْيَقَظَةِ — كُلَّ مَا عَانَاهُ مِنْ وَسَاوِسَ وَأَوْهَامٍ؟
وَيَلْتَفِتُ «مُسَابِقٌ» فَيَرَى السَّاحِرَ أَمَامَهُ، يَكَادُ رَنِينُ ضِحْكَاتِهِ يُصِمُّ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ يَسْمَعُهُ يَقُولُ لَهُ فَي شَمَاتَةِ الْمُنْتَصِرِ الْمُتَهَكِّمِ:
«مَا الَّذِي أَغْرَاكَ بِالتَّفْكِيرِ فِي قَتْلِي، أَيُّهَا الْخَائِنُ؟
أَكَذِلِكَ تَنْقُضُ عَهْدَكَ، وَلَمْ يَمْضِ عَلَيْهِ إِلَّا سَاعَاتٌ قَلَائِلُ؟»
فَلَا يَجِدُ «مُسَابِقٌ» بُدًّا مِنَ الْمُدَاوَرَةِ وَالْمُصَانَعَةِ، فَيَقُولُ لَهُ مُسْتَعْطِفًا:
«عُذْرًا يَا مَوْلَاي فَقَدْ كُنْتُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ بَرَاعَتِكَ، وَلَمْ يُخَامِرْنِي الشَّكُّ فِي عَظَمَتِكَ، وَقَدْ رَأَيْتُ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِكَ — فِي عَالَمِ الْيَقَظَةِ وَالْأَحْلَامِ — مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ.»
فَضَحِكَ السَّاحِرُ، وَقَالَ لَهُ مَزْهُوًّا:
«الْآنَ ثَبَتَ لَدَيْكَ أَنَّنِي قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ!»
ثُمَّ أَتْبَعَ سُخْرِيَتَهُ قَوْلَهُ: «لَقَدْ صَفَحْتُ عَنْ زَلَّتِكَ، وَتَجَاوَزْتُ عَنْ إِسَاءَتِكَ، فَطَهِّرْ قَلْبَكَ مِنَ الْحِقْدِ عَلَيَّ — إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا — وَإِنْ كُنْتُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ خُبْثِ نِيَّتِكَ، وَلُؤْمِ طَوِيَّتِكَ.
وَهَيْهَاتَ أَنْ يَجُوزَ عَلَيَّ خِدَاعُكَ، أَوْ يَرُوجَ لَدَيَّ كِذَابُكَ. وَلَكِنَّنِي عَلَى ثِقَةٍ بِنَفْسِي، وَلَنْ يَضِيرَنِي أَنْ أَقْبَلَ عُذْرَكَ الْوَاهِيَ. فَاصْنَعْ بِنَفْسِكَ مَا أَنْتَ صَانِعٌ:
فَشَكَرَ لَهُ «مُسَابِقٌ»، وَمَضَى بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ دُونَ أَنْ يُلِمَّ حَادِثٌ، فَضَاقَ صَدْرُ «مُسَابِقٍ» بِمَا يُكَابِدُهُ مِنْ سِجْنٍ وَأَسْرٍ.
فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّامِنَةُ، انْتَهَزَ غَفْلَةً مِنْ «يَاقُوتٍ» السَّاحِرِ، فَوَضَعَ مُرْقِدًا فِي شَرَابِهِ.
وَمَا إِنْ شَرِبَهُ «يَاقُوتٌ» حَتَّى غَابَ عَنِ الْوُجُودِ، وَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ خَائِرَ الْقُوَى، كَأَنَّهُ مَيِّتٌ لَا حَرَاكَ بِهِ.
وَمَا هَمَّ «مُسَابِقٌ» بِذَبْحِ السَّاحِرِ الْخَبِيثِ، حَتَّى تَمَثَّلَ لِعَيْنَيهِ مَا حَدَثَ فِي الْمَرَّةِ السَّابِقَةِ، وَخَشِيَ أَنْ يَتَكَرَّرَ مَا رَآهُ فِيهَا، فَتَمَلَّكَهُ الْفَزَعُ.
وَأَيْقَنَ أَنَّ السَّاحِرَ لَا بُدَّ مُقْتَصٌّ مِنْهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، بَعْدَ أَنْ عَفَا عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَآثَرَ النَّجَاةَ وَالْهَرَبَ، وَأَسْرَعَ إِلَى بَابِ الْحُجْرَةِ، فَفَتَحَهُ.
وَمَا خَطَا بِضْعَ خُطُوَاتٍ حَتَّى لَقِيَهُ رَسُولٌ مِنْ كِبَارِ السَّحَرَةِ، أَوْفَدَهُ مَوْلَاهُ «سَيْفُ الْيَمَنِ» لِنَجْدَتِهِ، بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ حُكَمَاؤُهُ بِمَا يَلْقَاهُ فِي أَسْرِ «يَاقُوتٍ» مِنْ عَنَتٍ.
وَمَا إِنْ رَأَى «مُسَابِقٌ» رَسُولَ مَوْلَاهُ، حَتَّى عَاوَدَهُ الِاطْمِئْنَانُ.
فَابْتَدَرَهُ صَاحِبُهُ قَائِلًا:
«عُدْ يَا «مُسَابِقُ»، مِنْ حَيْثُ أَتَيْتَ، وَاذْبَحِ السَّاحِرَ بِسِكِّينِكَ، فَقَدْ حَانَ أَجَلُهُ، وَلَنْ يَنَالَكَ مِنْهُ سُوءٌ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ.
وَهَا أَنَا ذَا أَقِفُ فِي مَكَانِي لِأَحْرُسَكَ، وَأُنْجِيَكَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ.»
فَفَرِحَ «مُسَابِقٌ» بِمَا سَمِعَ، وَاسْتَرَدَّ مَا فَقَدَهُ مِنْ شَجَاعَةٍ، وَعَادَ إِلَى السَّاحِرِ، فَذَبَحَهُ مِنَ الْوَرِيدِ إِلَى الْوَرِيدِ، وَخَلَّصَ أَتْبَاعَهُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ الْمَرِيدِ (الْخَبِيثِ الْمُتَمَرِّدِ الشِّرِّيرِ).