الرسالة العاشرة
لقد وصفتها لك أيها العزيز وملأتُ رسائلي منها؛ غير أني والله ما أدري أوصفتُها أم
وصفتُ بها،
وكتبتُ منها أم كتبتُ عنها، فإنما ذلك مَطْلَب دونه أن تجعل وَصْف الجمرِ يلذع لَذْع
الجمر؛ ومهما
أكتب فإنها باقية في نفسي لا تنقص على قدر ما تزيد … إن فيها شيئَين هما الفكر والجمال،
وفيَّ
شيئان هما الخيال والحب، وهذه الأربعة تُنشئها في نفسي خلقًا بديعًا لم أره لامرأة قط،
ففيها
وحدها زيادة عن النساء؛ لأن فيها وحدها نفسي.
أما سمعت بذلك الأعرابي الذي قيل له ما بلغ من حبك لفلانة؟ فقال: والله إني لأرى الشمس
على
حائطها أحسن منها على حيطان جيرانها … قد والله صدق وبرَّتْ يمينه فإن في كلماته الشعرية
لأثرًا
من عينَيه؛ إذ يرى الشمس على حائطها كالشمس على البِلَّوْر الصافي لا على الحجر والمَدَر؛
فهناك
أشعة أخرى من تلك التي وراء الحائط تنفذ إلى قلب هذا المسكين، فإذا هي سَطَعَت لخياله
في نور
الشمس، أضافت إلى النور ألوانًا مختلفة من ذلك المعنى الجميل الحيِّ، فلا تكون الشمس
في عينَيه
أحسنَ مما هي وقتئذٍ ولو أنها طلعت على حائط من اللؤلؤ.
ليس الجمال ما يعلم الكاتب أو يدرسه الفيلسوف، ولا هو مذهب من مذاهب التلفيق في الجمل
والألفاظ، ولا هو كما صنع علماء الرياضيات الذين جعلوا الفلك كله بألوانه وجماله وما
فيه من غموض
الأبد مسألةً حسابية … والأرضَ بما انبسط عليها من جمال الطبيعة مسألةً هندسية … كأن
الأزل كلَّه
خطوط وزوايا وأرقام؛ وتركوا جانبًا حركةَ الفكر الأعظم القائم بالإرادة الأزلية؛ وهي
التي تُطالع
العقلَ من كل شيء بمعنًى والخيال بمعنًى آخر، ثم تكون هي في حقيقتها المجهولة معنًى ثالثًا،
ولكنك
مع ذلك واجدٌ في الأرض من يتسكَّع ويحمل الشمعة ليفتِّش في ضوئها عن النجم العظيم …
•••
لو أني سُئِلتُ تسميةً لعلم الجمال لسمَّيتُه «علم تجديد النفس»؛ فإن الجميل الذي
لا يجدِّد
بمعانيه حواسَّك وعواطفك ويُعيدها غضَّةً طريةً كما فُطرت من قبل؛ لا يُسمَّى جميلًا
إلا على هذا
المجاز الذي سمَّى به أحد القواد كتابه في الصناع الفقراء: «غزو الخبز» … لا تسل عن الجمال
من
يُحسن الفكر والإبانة عن فكره، ولكن سل عاشقًا يحسن الشعور والتعبير عن شعوره؛ فذلك هو
الشاعر من
جهاته الأربع: جهة قلبه وفكره وحوادثه وحبيبته، وذلك هو تاريخ الجمال الذي يتكرَّر على
الأرض
أبدًا، وإلى منقطع الحياة في صورة واحدة كالحياة نفسها.
ألا ما أتعبَ الإنسانَ بحياته وموته! إن هذه الحياة مصيبةٌ كُتبت على الأرواح لإيجاد
عيوبها
في عالَم العيوب؛ والموت مصيبة كُتبت عليها لنقل هذه العيوب معها إلى العالم الآخر؛ فما
عسى أن
يكون الجمال والحب إلا تخفيفًا من مصيبتَين أو … أو زيادة فيهما؟
سأحدِّثك عن هذا الجمال كما أوحته إليَّ عواطفي، التي ما تزال تدأب لا تأتلي كالنحل
على
الأزهار والألوان، وكما رأيته في تلك الحقائق الساحرة التي كانت تفيض بمعانيها على الجميلة،
فتكسبها غرابة الجمال وتُمثِّلها لعينيَّ في ثلاثة ألوان: لون من وجهها ولون من دمها
ولون من
قلبي. سأنثر لك الجميلة وأسرارَ جمالها وتأثير جمالها نثرًا ألَّفني والله قبل أن أؤلِّفَه،
وما
صعد إلى فكري وانحدر من قلمي إلا بعد أن وفدت عليه الجمرات الحمر، فغلى في القلب وتبخَّر
واندفع
وطار إليك في كلامٍ كالندى على الورق الأخضر.
•••
إن في نفس هذا الإنسان أعماقًا بعيدة تنحدر أغوارُها من مهوًى إلى مهوًى إلى ما لا
نعلم؛ لأن
النفس ما برحت جزءًا من الأزل كبعض النور من النور، ينفصل عنه وهو مستقِرٌّ فيه.
وقد نثر الله في أعماق الفضاء هذه المصابيح المتقدة التي اهتدى في ضوئها الفكر الإنساني
إلى
شيء من الإدراك الأسمى؛ من ذلك النور الذي يشتعل ويتوهج في أقطار السموات كلها، وكما
ترى في أعماق
الفضاء ترى في أغوار النفس؛ فلا بد لهذه مما لا بد منه لتلك من معاني النور الإلهي؛ فالكوكب
يضيء
في أعماق الفضاء، والوجه الجميل يضيء في أعماق النفس.
ألم ترَ إلى المحب الذي أدنفه الحب كيف يشعر أنه متصل بالنور الأزلي من الحسن الذي
يعشقه،
وكيف يرى في أطواء نفسه أخفى الوساوسِ وأدقَّها كأنها مكشوفةٌ لعينه على الضوء؛ وكيف
يظلُّ أبدًا
في حبه كأنما يبحث في الأرض عما ليس في الأرض، ويحاول أن يجد في قلبه ما لا يُخلق في
القلب، وكأنه
وحده الذي يعلم من نفسه أن فوق كل طبقةٍ طبقةً أعلى، وتحت كل عمقٍ عمقًا أسفل، فلا يقنع
بشيءٍ لا
من عاليها ولا من سافلها؟ وانظر كيف يجعله حبه العظيم يرى العالم كلَّه صغيرًا حقيرًا؛
وإذا اتفقت
له ساعةٌ من حبيبته رآها عجيبةً كأنها ليست من الحياة أو ليست إلا الحياة؛ فهل وَسِعَت
نفسه من
الحب شيئًا لا سبيل لأن يُقاس معنى العالم به؛ أم صارت أعماقها تطاول أعماق الفضاء؛ فهو
بالحب
كائن فيما حوله وما حوله كائن فيه؟
•••
لا أرى سرَّ الجمال إلا أنه شيء حقيقي من تلك القوة السماوية التي نسمِّيها الجاذبية؛
فكأن
الله حين يُبدع الجميل يُرسل في دمه مع الذرَّة الإنسانية ذرةً من مادة الكواكب هي سر
عشقه
وجاذبيته، وهي بعينها معنى تلك القوة التي لا يزال الجميل يُخضِع بها كما يُخضِع الفَلَكُ
المدار،
ويتسلَّط على عاشقه كما تتسلَّط الأقدار، ويبثُّ في الدم الإنساني مع مادة الدم مادَّةً
من
النار.
وما أساليب الدلال أو ما نراه دلالًا في الجميل المعشوق إلا اضطرابُ تلك الذرة من
سكونها؛
فإنها متى تحرَّكت للجاذبية جعلت الجميل يتلألأ من كل جهاته، وانبعثت في كل ناحية منه
نورًا فوضعت
لكل شيء فيه معنًى من المعاني الخيالية؛ إذ هي معنى كلِّ شيء فيه.
ولو أنك سألت عاشقًا أن يُصادِم من يحبُّ ويتَّسعُ لهجرها ونَبْذها ويتجافى عن هواها،
لكانت
عاقبة ذلك في نفسه ويقينه ما يعلم من العاقبة في مصادمة الأرض لكوكب من الكواكب؛ إذ يتحطَّم
ولا
يُغنِي شيئًا في تعطيل قوة الجذب المُنصبَّة من قمره الجميل على كرة قلبه الضعيفة.
وكما نجد للكواكب في نظام السماء، نعرف نحوًا من ذلك لكواكب الجمال في نظام النفس،
فليس كل
ظريف جميل يجذب حسنه في كل دائرة على ما شاء وشاء الهوى، وإلا فسدت الأرض وأصبح الجنسان
فيها
كحجرَي الطاحون لا عملَ للأعلى إلا أن يطحنَ على الأسفل … بل إن لكل جميل فلكًا لا تَعْدوه
قوة
جذبه، فإذا هي تخطَّتْه إلى فلك غيره بطل عملُها، أو عملت على ضعف أو وقعَت ثَمَّ موقعَ
صوت
القنبلة، يخرج منها وليس فيه شيءٌ منها. ذلك بأن الله قد سلَّط على هذه الأرواح السماوية
مواد
مختلفةً من ثقل الأرض لا تبرح تدافع تلك المادة من جاذبية السماء، فإما أبطلتها وإما
كسرَت من
حدَّتها وإما أضعفتها وإما طمسَت عليها؛ ما لم تكن النفسان العاشقةُ والمعشوقةُ من فلك
واحد في
القَدَر الجاري عليهما.
فلو أن أرقَّ من غَمَز الحبُّ على قلبه من الشعراء الذين يجعلون الكلمة الواحدة كلامًا
طويلًا، يحدِّثك يومًا عن تلك الجميلة التي كلف بها واختبلَتْه بحبها
١ فأرسلَتْه على وجهه في كلِّ مذهبٍ من مذاهب الهوى؛ ثم يتفتَّح لك في صفتها بكل ما
تخيَّل حسُّه وأحسَّ خياله فيُفرغها في القالَب الذي لم يخلق الله فيه امرأةً قط، ويصبُّها
لعينيك
ممثَّلةً من النور السماوي المحض تضيء كل قطرة منه وجه مَلَك من الملائكة، ثم يجري كلامه
فيها
شعرًا خالدًا مُطَّردًا كنهر الكوثر في رياض الجنة حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت،
ثم
يتفق لك بعدُ أن تراها وتجلس إليها وتُطارحها ولست من فلكها الذي تعمل فيه جاذبيتها،
إذن لرأيته
قد غار من أوصافها في بئر من الكذب، وتعلَّق في الحديث عن جمالها بخيوط من الباطل، ونزل
من
الحقيقة التي كان يذكرها لك منزلةَ المُفلس يظلُّ متسكعًا فارغًا يُتبع نفسَه هواها،
ويتمنى
الأمانيَّ ولا حقيقة، ولرأيته كالعنكبوت تقضي الأيام الطويلة في نصب أشراكها وحبائلها
لأجمل ظبية
في عينها … ثم لا تكون ظبيتها إلا ذبابة، وتردُّ عليه سواد أمره وبياضه كذبًا وزُورًا
وتتهم ذوقه
وتهجِّن طبعه وتتقي عليه أن يكون قد تخبَّطه مسٌّ من الشيطان؛ وأنت على ذلك مستيقن أنك
تكلمه فيها
بأصحِّ لفظ، وأوضح معنًى وأصدق نصيحة، وأنك تُلقي في أذنه براهين المنطق وحُجج الفلاسفة،
وتصحِّح
له خطأه في رائحة الزهرة بالزهرة نفسها، تقول له: ها هي ذِه في ريَّاها ونسيمها فأين
ما زعمت لها؟
على أنه هو في كل ذلك لا يراك إلا كالأقطع الذي يُقدِّر قياسَ الباع الطويل ببقايا ذراعَيه،
والمقعَد الذي يضبط قياسَ الخطوة الفسيحة بمد رجلَيه؛ والأعمى الذي يُفاضِل بين لونَين؛
ويكذِّب
في رأيه ذا العينَين، ويراك مجنونًا فاسدَ العقل أو سخيفًا فاسد الذوق، أو أحمق فاسد
الرأي: وما
بك ولا به بأسٌ غير أنك تنظر مدبرًا وينظر مقبلًا، وتهزأ بتيار البحر؛ لأن قدميك في الشاطئ
ويرهبه
هو؛ لأنه مندفع فيه منخلع القلب من فورانه وهديره، وأنت تروي فيما وصفت له بلسانك عن
عينك عن هذه
المرأة؛ وهو يروي فيما صور لك بالسند الطويل: بلسانه عن عينه عن خياله عن آماله عن قلبه
عن روحه
عن القدر المحتوم عن هذه الحبيبة. وأنت في نفسك كأنما تنظر من الأرض إلى النجم فلا تراه
بعلم ولا
يقين؛ وهو في نفسه إنما ينظر من فلك النجم إلى النجم ذاته فإذا الكوكب ما هو، وإذا فضاء
واسع من
النار وجو عميق من المغناطيس، ومظهرٌ من القدرة العظمى جمالُه في هيبته وهيبته في قوته
وقوته في
جماله، فهو شيء واحد بعضه من بعض.
•••
وإذا رحم الله إنسانًا من هذا الحب ومن التعلق بالجمال، كدَّر طينته وأغلظ على نفسه
بمواد
ثقيلة من هموم الحياة وأكدار العيش؛ أو أفرط عليه بآمال النفس وأطماع الحاسة فيشغله بكل
ذلك أو
بعضه، ويحوطه منه بمثل أكياس الرمل التي يتحصن وراءها المقاتلة فلا تنفذها الطائرات الحُمر،
٢ بل تنطفئ فيها، ويجعل له من دون العيون الذابلة وألحاظها صدرًا مصفَّحًا بما يتساقط
في داخله من جوانب نفسه، وما يتصدَّع من أركان قلبه بين الكمد والهمِّ أو الأمل والطمع،
أو الجهد
والتعب، أو الثِّقل والغلظة أو غيرها من هزاهز العيش ودواهيه، فتذهب سطوة الجمال في سطوة
المادة؛
وتُخضع الإنسانَ قوةٌ بإفلاته من قوة أخرى، ويُهدم من أعلاه ليُشد بناؤه من أسفله.
وما من أحد في الأرض يستقيم طبعه على الجمع بين همِّ الحب وهم الحياة، فإن قام بواحد
زاغ من
الآخر، لا يُبالي به؛ إذ هما حقيقتان متدافعتان كتيَّارَي الكهرباء، لو أمكن شيء من المستحيل
لما
أمكن أن يطَّردا في سلك واحد اطِّرادَهما في السلكَين. فإن لم تكن مَحامِلُ هذا الجسد
٣ خفيفةً على النفس من جهات الفكر والهم، وإلا انصبغ الذوقُ فالتبسَت ألوانُه وخالط
بعضُها بعضًا، وضعفَت موهبة التمييز بين المعاني المضيئة، وصار الإنسان همًّا كافيًا
لنفسه، وعادت
النفس همًّا كافيًا لصاحبها، فليس بينهما على ذلك موضع لما ليس منهما، وتحول مادة ذلك
الهم
بغلظتها وجفائها بين السرِّ المعشوق في الجمال، والسر العاشق في الروح، فلا يُدرك منهما
شيءٌ
شيئًا.
فهذا الجمال إن شئت قدرةٌ لا قوة فيها، وإن شئت قوةٌ لا قدرة لها؛ ولو أن الله جعله
مجموعًا
من القوة والقدرة معًا، لأبطل سنن الطبيعة الإنسانية، ولصار لكل إنسانٍ كونٌ وحدَه في
القلب الذي
يرفُّ ليخفق على قلبه؛ ووطنٌ على حِيَاله في الجسم الذي يحنُّ لينضمَّ إلى جسمه؛ ودين
على حِدَة
يهبط الوحي فيه نظراتٍ من عينَين إلى عينَين، وقانون مستقلٌّ لا تكون موادُّه إلا قبلاتٍ
من
شفتَين على شفتَين. واعلم أن أشقى المخلوقات هم أولئك التعساء الذين يشذُّون في تاريخ
الناس
أحيانًا، وينفردون دونهم بجنون الحب كما حدَّثوا عن «مجنون ليلى»
٤ إذ يتسلَّط عليهم الجمالُ بضرب ممتزج من القوة والقدرة يَغْمُر الطاقةَ الإنسانية، ثم
تجيء أقدارٌ غريبةٌ بين الرحمة والقسوة، فتجذب الحبَّ إلى الحب، ولكنها تدفع المحبَّ
عن الحبيب،
فلا يزال الجمال يسوقهم سوقًا عنيفًا من ناره إلى باب جنَّته، ثم يَردُهم عن باب الجنة
إلى النار،
حتى يصبح الواحد منهم بين العناصر والنواميس المنتظمة في هذا الكون الإنساني، كأنه عنصرٌ
مجنون أو
ناموسٌ مختلٌّ.
•••
إن هذا الإنسان وعاءٌ من الأوعية لا يملؤه إلا الأفكار والنزعات، ومتى احتلَّ الفكرُ
وتمدَّد،
ثم ضرب فتمكَّن، ثم غار بجذوره وانْشَعَب بفروعه صبغ الأشياء كلَّها في عينَي صاحبه بألوان
منه،
حتى كأنه لا ينبعث في أشعة النظر إلا ليلبس كلَّ ما تنظره العين، فلا يرى المرء فيما
يرى إلا
صُورًا من فكره كما تنبعث أخْيِلَة السيما
٥ في أنوارها على حائطها؛ فإذا هو تاريخ وحكاية وعمل وحياة، وإذا هو هي على أنه حائط.
ولم يخلق الله فيما أعرف غيرَ الحب فكرًا يتمكَّن من الإنسان، ويضرب الضربات الثقيلة
فيستطير في
قلبه استطارةَ الصَّدْع الشادخ في لوح الزجاج، يشقُّه على مد ما تتصل إليه حركته، ويثلمه
على غير
قاعدة من هنا وها هنا، ويدعه فلولًا تَتَشَظَّى
٦ وما هذا الحب إلا فكر الجمال وأثر عمله في النفس؛ إذ كان الجمال الفاتن لا يُخلق على
ذلك الأسلوب الذي هو عليه إلا ليَسْتَحوز على التخيُّل والحس معًا؛ فهو نوع من جَوْر
الطبيعة على
الإنسان، يجيء من اتصال أحسن ما ظهر في شخص بأحسن ما كمنَ في شخص آخر؛ وهو كذلك نوع من
استثارة
هذه الطبيعة لكل ما في أعماق النفس الإنسانية ببعض ما في أعماقها هي؛ فالعاشق مُقْتَتَل
٧ بأسلحة طبيعية منها كلُّ نظرة من حبيبه وكل كلمة وكل حركة وكل ما مسَّه أو اتصل به
منه؛ وذلك لأن قوة طبيعية عجيبة تَنفِثها رهبةُ الكون وتحصرها بين نفسه ونفس حبيبته؛
لتجعل منهما
طريقَي سَلْبها وإيجابها؛ هذه القوة هي الفكر؛ هي ذلك الحب، هي الكهرباء المتألفة من
نفسَين.
ومثلُ ذلك بعينه في الضرب على قلب الإنسان ما يتملَّك هذا القلب من هموم الدنيا، وشدَّات
مصائبها،
كِلَا الفكرَين قتلٌ من الطبيعة غير أنها في أحدهما باسمة وفي الآخر عابسة. تقتل الإنسانَ
بما
يُحب كما تقتله بما يكره، وهما طريقتان لا تسلك غيرهما إذا أرادت أن تنفذ بقدَرٍ من الأقدار
الماحقة إلى باطن النفس؛ لتترك هذا الإنسان المعذَّب يُحسُّ بغَمْز القُوى الخفيَّة على
فؤاده.