الرسالة الثانية عشرة
وهنا مَغَاصُ الدُّرَّة في لجج الحب، فألقِ على نفسك قبل أن تقرأ هذه الرسالة معنًى
من رقة
قلبي، حتى تُواثقني على أنها لا تخرج من نفسي إلا كما أريد أن تتلقاها، فلا أتبسَّط ولا
أتسرَّح
بكلامي هذا إلا في مكان من نفسك.
في موضع من شاطئ النيل نَدِيُّ
١ فلان اليوناني، وهو رجل في رقة المرأة ينهض في خدمة المحبين بفن من الذوق امتزج فيه،
ما تقتحمه جرأة العاشق بما يختلج إليه حياء المعشوق، فترى من رقعة نَدِيِّه طرازًا أخضر
مُفَوَّفًا
٢ على ثوب الماء، وفيه حَبْك بديع من أغصان الشجر يلوح طرائقَ طرائقَ وحُبَكًا حُبَكًا
٣ كهذا الانكماش الذي تراه طرازًا لأثواب الغانيات، وتجد في أطراف النديِّ أشجارًا
متعانقة كل لفيف منها يبني بيتًا أخضر ستائره من الأغصان المتدلية، وجدرانه من الفروع
المعروشة،
وكأنما زُخرفَ وطُلِي وفُضِّض وذُهِّب بألوان الظل والماء والسماء وما يتسحَّب فيها.
وترى الناس يَستكِفُّون
٤ حول هذه البيوت الخُضر، ولكنك إذا احتجرت في عريش منها، وكنت منفردًا أشعرك بكل
المعاني أنك وحدك فلا تصلح للجلوس فيه؛ وتساقطت عليك ظلاله أرواحًا عنيفة تطردك طردًا،
ونالتك من
كل ظلٍّ ثَقْلة
٥ لا تُحتَمل كأنما تُناجيك أن هذه الأشجار التي تشبه الضلوع ما غُرست إلا لقلب وكبد …
وأن هذا البيت هو بيت الحب لا يَتكنَّنُ
٦ إلا عاشقين. وهدتني قدماي يومًا إلى ذلك النديِّ بعد أن ضربت ساعة في بياض تلك الأرض
وسوادها
٧ فملت إليه أُريح فيه من الإعياء والحر؛ فإذا هو يهبط على نفسي بمعانيه، وإذا أنا من
الطرب كبعض شجرِهِ أميل وأصفر وأتغنَّى. وأدرت عينَيَّ فأبصرت في سرارة المكان
٨ شجرات يدعونني فقمت إليهنَّ وما هناك أحد غيري وغير الطير؛ فإذا غرس قد تسطَّح وآخر
قد تَفَنن،
٩ وثالثٌ على ساقه كما تُقيم الخيمة وتسدل عليها حجابًا من هنا وحجابًا من هناك، وإذا
رائحةٌ من نفح الحب وبقايا التنهُّد والتشاكي ما يكذبني الحسُّ فيها أبدًا، فاستخفَّتني
الأشواق،
وجعلت قلبي المتلهفَ ينتفض في علائقه، كما يَنْزو الفارس في السرج والجواد يُخِبُّ به
ويعدو.
•••
ثم تكوَّر النهارُ على الليل والليلُ على النهار
١٠ حتى أتَتْ ساعة موعدٍ لها بعد أن تقدمتها حاشيةٌ عريضة من المواعيد المكذوبة
والمعاذير الملفَّقة، والكلام الذي لا تحلُّ معانيه في ألفاظه أبدًا … لأنه لغة شفتَيها.
وكنا نمشي وقد انتفخ النهار
١١ وبدأت الهاجرة ترتجل «معانيَها الذهبية» في مدح الظل والماء والنسيم، وقلق بنا ظَهْر
الطريق لأمر ما، فقالَت وأبصرَت الندي: نجوز إلى تلك الواحة. وتحفَّى بها المكان حين
جاءته كأن
أرواح الأشجار تعرفها، فهبَّ النسيم الراكد يجري، وجعلت الأشجار يصفِّق بعضها لبعض حتى
خيِّل
إليَّ أن هذه ملكة الطبيعة دخلت إلى قصرها.
ومشيتُ إلى تلك العريشة بعينها فلما احتوتنا قلت: هذا مجلس السلام
١٢ في هذا البيت، قالت: وما باعثُ هذه الكلمة؟ قلت: إن كل شيء فيك ليتكلَّم من غير أن
يضطرب به صوت، ولقد يكون من بعض خواطري وخواطرك ما أسمع منه في قلبي صوتًا كصلصلة الدِّرع
حين يقع
عليها السيف، وإنك لا تدرين كيف أفهمك؟ قالت: فكيف؟ قلت: إني أفهمك سعادة أخشى منها وأخافها،
فإن
السعادة إن لم تتحقق لا تضر إلا في الحب؛ فشرُّ أنواع السعادة فيه تلك التي لا تتحقَّق،
قالت:
فإذن أنت تخافني؟ قلت: ولكن ذلك ليس معناه أني أخافك بل معناه أني أرجوك.
قالت: وعلى هذا يكون لقولك إني أرجوك معنًى آخر؟ قلت: بل معانٍ عدة منها أني … قالت:
وماذا
أفهم من أني؟ قلت: أليس فيها ياء المتكلم؟ فقالت: وأي شيء في ياء المتكلم؟ قلت: بربِّكِ
لا
تتعنَّتي أليس فيها المتكلم نفسه …؟ فضحكت وقالت: ولكن ما معنى أنك ترجوني؟ قلت: إن النبات
لا
ينبت إلا حيث يجد عناصر غذائه، وروحي قد وجدت في جمالكِ كل عناصر الحب فنبتت فيها نبتة
جديدة أخاف
أن لا تتعهَّديها فتذوي؛ ومن هذا الخوف أرجوك.
وقلبي يخشى منكِ على ما فيه منكِ فإن لكل شخص ظلًّا، ولكن هواك نقل ظلك إلى قلبي،
كما تنقله
آلة التصوير؛ فإن غضبت وتحولت مزق ظلك هذا القلب ليغضب ويتحول، ومن خوفي هذا أرجوك.
وكل شيء في عالَم الموت يموت ويُنسى، فإذا أنتِ نسيتِني فهذا موتي عندك، وكل من يحب
الحياة
يخاف الموت، فمن هذا الخوف أرجوك.
وكلماتي هذه تخاف أن تحمليها مَحْمل الجرأة عليك، فهي كذلك من الخوف ترجوك.
قالت: أفليس في الحب إلا الخوف؟ قلت: فيه الرجاء ولكنه هو الخوف بعينه، وللعرب خرافة
جميلة في
سُلَحْفَاة يسمونها «بنت طَبَق» فيزعمون أنها تبيض تسعًا وتسعين بيضة كلها سلاحف، وكلها
بناتها،
وكلها من جنسها؛ ثم تبيض بيضةً واحدةً تَنْقُف عن حية تأكل التسعة والتسعين كلها … قالت:
آه، قلت:
وآه فلو كان لي في حبِّك تسعةٌ وتسعون رجاءً مائة إلا واحدًا، ثم خوفٌ واحدٌ لمحاها كلها،
فاسترسلَت في إطراقةٍ جميلة، ثم قالت: لقد جئتُ معي بالنسخة الإنجليزية، من ديوان «عمر
الخيام»؛
إن هذا الشاعر — ونظرت إليَّ باسمة — حبيبٌ إلى قلبي وهو مني كالسعادة إن لم أطمع في
نيلها لم
أَيْئسُ من قربها، ولا من الفكر فيها، كل قصيدة من قصائده تُنشئ فيَّ حبًّا جديدًا، ففي
قلبي له
أنواع كثيرة من الحب لا أدري ما هي، ولا ما الفرق بين نوع منها ونوع منها، ولكن كلها
حب كلُّها
حب، وهو نجم بعيد عني غير أني أراه ساطعًا، وأعلم أن في قلبي دمًا يحنُّ إليه، وفي هذا
الدم ينغمس
شعاعه الآتي من السماء؛ هو حيث يكون وحيث يكن فهو في قلبي.
قلت: وإذن فلا ينبغي ﻟ«الخيَّام» أن يسلِّط الخوف على رجائه …؟ فتلألأ ثغرها ضحكًا
وقالت:
«الخيام» إنما هو هذا الكتاب في هذا الجلد المذهب، قلت: فأنا أستنزل روحه إلينا فإن فيَّ
هذه
القوة فلا بد له من أن يجيء.
ثم أطرقتُ وجعلت ألمح ابتسامَها حين أُدَوِّم عينيَّ
١٣ يَمْنةً ويَسْرةً، ثم انتبهت ورميتها بنظرة ارتاعت لها روعًا ظاهرًا، وقلت: إن روح
الخيام تجيش فيَّ منذ الساعة وهو يسألكِ هل تحبينه؟ قالت: بلى؛ ولكن على سائلنا أن نسأله،
فماذا
يرى هو فيَّ؟ قلت: إن كل ما احتساه من الخمر فكان لذَّتَه في الدنيا يراه الآن قد خُلق
جسمًا
جميلًا رائع الجمال، فهو يسكر منه، ولكن سكر أهل الجنة في الجنة، قالت: أفلم ينسَ الخمر
بعد؟ قال
«الخيام» … وهل الكتاب الذي في يدكِ إلا أسطر من شعاع الكئوس، قالت: والحبيبة التي يذكرها
فيه؟
فقال الخيام: لو كانت مثلكِ لما ساغ لي أن أذكر معها الكأس، ولكني كنت أستجمع بها مناظر
الجمال،
فإن الطبيعة تتزيَّن لعين الشاعر إذا رأت معه امرأة جميلة كأنها تغار، قالت: إذن كان
يريد الطبيعة
لا الحبيبة، قال الخيام: بل أردت أن يكون موضع تأملي جميلًا بالجمال وحبيبًا بالحب، وتوخَّيت
أن
تكون فيه كل عناصر الهوى. إن المسجد لا يُبنى في أي الأمكنة، بل يُختار له المكان الذي
فيه عنصر
الصلاح والمنفعة، والمسجد نبات مغروس في تربة خاصة تجمع عناصر الصلاة والتسبيح والتهليل،
والخيام
نبات مغروس كذلك ولكن في الورود والرياحين والألحاظ وشعاع الخمر.
قالت: وهل يتقبَّل الخيام مني إذا سألته أبياتًا جديدة؟ قال الخيام: لقد جئتِ بي إلى
الأرض
فإن لم تُسَوِّغيني طباع أهل الأرض في الحب والهوى والحنين، لا أستطيع شيئًا، وإن كان
في وسعي أن
أجعل كل شجرة في هذا المكان تنشد قصيدةً خضراء بلُغتها لا بلُغتك.
قالت: بل أريد لغتنا فإني لا أفهم منطق الشجر.
قال الخيام: فهاتي الديوان، ثم جعل يُزَمْزم زَمْزمةَ العجم
١٤ وقلب غلاف الديوان وكتب:
صُبَّ كأسًا على الثرى فتراه
عاد قلبًا يطيرُ فيه احتراقُ
يَتَلوَّى بها ويهتزُّ منها
إنه كان أكبُدًا تشتاقُ
وَيْحَ مَن أسكرَت إذا تُسكر الكأ
سُ ويا ويحهم إذا ما أفاقُوا
تَنْسجُ النورَ والشعاعَ خيوطًا
كلُّ خيطٍ للهمِّ منه وثاقُ
وتُرِيني السماءَ في سَعَةِ الصَّدْ
رِ وصَدْري بشمسها
١٥ آفاقُ
أحتسيها كالفجر يُعقِبُ ليلًا
أو كليلٍ للفجر فيه انبثاقُ
هاتِها فهي في فمي قبلاتٌ
واصطدامُ الكئوس منها عناقُ
وقرأت الأبيات وأنا أترجرج كأن في الكرسي زلزلة أو كأن فيَّ روحًا يضطرب ويتقلقل؛
فما انتهيت
إلى «القبلات والعناق» حتى انقلب الكرسي بي، فاصطدمت بها ولم أقع ولكن … آه ولكن وقع
فمي على
خدها.
وجعلَنَا «الخيام» كأسَين في يدَيه، فقرع كأسًا بكأس ليسمع منهما في صوت القبلة رنَّةً
مسكرة
…