الرسالة الرابعة عشرة

كم أسأل الدُّرَّ عن معناكِ باسمةً
والوردَ عن لفظةٍ قد أطبقَتْ فاكِ
لا الدُّرُّ يدري ولا في الورد لي خبرٌ
أرويه عن شفتَيكِ أو ثناياكِ
يا نجمةً أنا في أفلاكها قمرٌ
مِن جَذْبِها ليَ قد أضللتُ أفلاكي
النارُ بالنارِ لا تُطفَا إذا اتَّصلَت
فكيف أصنعُ في قلبي لينساكِ؟

آه أيها العزيز إن صدري لينشقُّ لهذه الأبيات، وإن لها لَغمزًا على فؤادي لا يسكن، وإني لأرْتَمِضُ بها كأن في كل بيت منها نوعًا من أنواع الحمَّى، هي ألحاظها أول اللقاء بيني وبينها ساعةَ كانت تنتزع ألفاظَها من قلبي فأَلتوي عليه لأنتزعه من ألفاظها؛ وكنت ساهيًا عن القدر، وعين القدر ذاكية عليَّ في تلك الساعة ولا أدري.

لقيتها وما أريد الهوى ولا تَعَمَّده قلبي ولا أحسب أن فيها أمورًا ستئول مآلَها؛١ وكنت أظن أن المستحيل قسمان: ما يستحيل وقوعه فلا تُفضِي إليه وما يمكن وقوعه فتُهمِله فلا يُفضِي إليك، ولكن حين توجد المعجزة تبطل الحيلة، ومتى استطردَك٢ القدر الذي لا مفرَّ منه أقبل بك على ما كنتَ منه تفرُّ.
إن لهذا العقل جَمَحاتٍ تردُّه أحيانًا إلى طبيعته الأولى من الطفولة التي غَشِيَتها الأيام والليالي والأفكارُ والحواسُّ، فيرجع الرجل طفلًا صغيرًا لا يدري كيف يُميِّز؛ ولقد يكون وما يُشبه رأيَه رأيٌ ولا يتعلَّق بصوابه صواب، وإن عقله لكالنجم من أيِّ أقطاره اقتحمَتْه عيناك رأيته نارًا وشعاعًا، غير أنه متى بلغ تلك السَّوْرة فجمح عقله أسرعَت منه الفَيْئة٣ إلى حالته الأولى فانتبهت الطفولة فيه فعاد كالطفل، فإذا فجأه الحبُّ في عين امرأة رأيته لا يبالي إلا ما عرف في عهده الأول من تَحَنِّي المرأة عليه وانعطافها له، ورجع إلى «عصره النسائي» فترى الدنيا بما وسعت لا تعدل في عينه الصدر الجميل الذي يترامى عليه؛ وتموت المطامع فيه وترجع كلها إلى محصولٍ واحدٍ من ذلك الفم الذي يحبُّه، وتعود لغة الحياة عنده كلغتها الأولى في إشارة أو كلمة أو ابتسامة أو قُبلة.

إن الطفولة تكبر فينا ولا ندري؛ ودع الناس يسمون حماقة الإنسان بما شاءوا، فهي هي انتباه الطفولة فيه، ومُحاجزتها في ساعة من الساعات التي يجمح فيها العقل بين ذات نفسه وبين صفات نفسه.

•••

لا يريد الهمُّ منك أكثر من أن تريده فيأتي؛ وحتى لو زَوَيتَ جلدةَ وجهك٤ حكايةً وتمثيلًا لطلع مما بين عينَيك، فهو مقيم في أعصاب كل إنسان؛ لا يبرح الإنسان يؤدِّي إليه شيئًا ويحمل منه شيئًا يُؤدِّيه، بل هو نصف مكروبات الدم الإنساني … ولذلك قالوا: إن القلب المبتهج يقتل من المكروبات أكثر مما يقتل أقوى المطهِّرات. وهمُّ الحب همٌّ على حِدَة؛ لأنه لا يكون فيك بل يتصل بك من أعصاب أخرى ودم آخر، وما أحسب أن ألحاظ المرأة الجميلة يكون فيها ذلك الفتور وذلك التكسُّر، إلا بما تحمل من الأشعة المسمومة؛ تلك الأشعَّة التي متى وقعت في الدم الذي يقبلها ويتأثَّر لها، طبعت في كل ذرة منه صورة من صور تلك المرأة.

هذا همُّ الحب ولكن مجيئه همٌّ آخر؛ لأنه يتهكَّم بالناس فلا يأتيهم بكُنهه وحقيقته إلا في أسلوب الحظ والسعادة، ثم لا يأتي إلا اتفاقًا ومصادفةً في ساعة ترتجف كأنها وقعت إلى هذا الزمن خطأ، أو كأنها تُحسُّ بما فيها من الجور والقتل، أو كأنها خُلقت مرتجفةً متزلزلةً ليتأتَّى لها أن تزحزح الطبيعة الإنسانية، وتطيشَ بها حتى في جبابرة العقول الذين رسخَت طباعُهم بجبال من الأخلاق الراسية تمنعها أن تَمِيدَ أو تتزحزح. السرور والحب كلاهما يأتي اتفاقًا؛ ولعلك لا تجد في كل ما عرَّفوا به السعادة أصح ولا أوفى من أن تقول: إن السعادة هي نفس هذا الاتفاق حين يتفق السرور أو الحب.

•••

والجناح الكبير إنما خُلق كبيرًا ليأكل الأجنحة الصغيرة، ولما لقيتُها كانت ألحاظها تقول لي بفصاحة أوضح من نور الصبح: أنت فريستي؛ وكانت ترفرف عليَّ فأتنسَّم منها هواءً يذهلني كما تذهل العصافير الصغيرة للجارح المنقضِّ عليها، وتحولت أسرع مما أرادت بي وكنت ذا عزيمة قوية مضيئة كالنهار الذي يتغذى من دم الشمس؛ فما أسرع ما فتح هذا القمر باب سمائه وطلع عليَّ من سحره بمثل ما يطلع قمر الأرض على الأرض، فيُبدلها من نهارها ذلك الصبحَ الرَّطبَ المريضَ الذي تَتخايَلُ فيه الظلال والنسمات، حتى يأذن الله فتُمحَى آية الليل الأسود وتُطوَى آية القمر الأبيض.

كنت كذلك البطل الذي أكْدَى مرةً في قتال خَصمه، ورجع كما يرجع الجبان فعيَّروه فقال: والله ما كنت جبانًا ولكني زاولت أمرًا مؤجَّلًا.٥ وتالله ما كنتُ ضعيفًا ولكني دافعت قدرًا معجلًا لا يُدفَع.

•••

وحاولت أيها العزيز أن أكتب إليك، وأنا في هذا الموت فصنَّفتُ كلماتٍ، ثم خشيتُ أن أرتادَ أحدًا لسري فحفظته فيها وتركتها بين أوراقي؛ وكان قلبي يحدِّثني أنه يَسْترْوِح من هذه الصحيفة رائحة صفحات كثيرة سأكتبها؛ وقلت: إنه حب أبيض لا ينبغي إلا أن يكون منسيًّا أو سرًّا مُضْمرًا أو على الأقل شيئًا غير ظاهر. أما الآن فإني مرسل إليك ما كتبت؛ ولَتَجِدنَّ هذه الأسطر وما فيها إلا قلب يتمزَّق ونفسٌ مُضَعْضعة وكأنما هي من بكاء أعصابي المتألمة. وإذا رأيت بلدًا سال بها السَّيْل أو مدينة جاش بها البحر، فاعلم أن لهما ثالثًا في معنى الخراب وهو العاشق الذي يغمره الدمع، وها هي الرسالة:

أكتب إليك وأنا في حال هي من شدة الوضوح قد صارت في شدة الغموض، وأية حال تظنها؟ سيذهب بك الظن إلى الموت فهو أخفى ما ظهر من أسرار الإنسانية، ولكن هناك موتًا لا ينقل من الدنيا إلى الآخرة، بل من نصف الدنيا إلى نصفها الآخر … وهو في أسرار الإنسانية عكس ذلك؛ لأنه أظهر ما خفي، وهو الحب.

علامة هذا الموت الصغير أن يقع كل شيء منك في غير موقعه، حتى لو جاءك اليقين لانقلب شكًّا، ولو لمست الحقيقة لاستحالَت شُبهة، ثم تجد في أسباب الحياة ما يجد المريض في أصناف الطعام؛ لأن العلة المستقرة فيه تجعل في كل شيء له علة منها، وترى كل ما أنت ناظره يوسوس في نفسك بلغةٍ ما ولمعنًى ما، حتى لا يترامى أمرك إلا إلى الوساوس والأباطيل، كأن جماعة من الشياطين ارتجَّتْ في صدرك فلا يهدأ أبدًا. وتحسب الأرض قد نَبَتْ بك وثقلتَ عليها كأنها لا تستطيع أن تحملك أنت واعتقادك الجديد … وما اعتقادك هذا إلا أنك ترى الناس جميعًا قد تغيروا، فلا تصيب بينهم موضعًا تكون نفسك فيه هي نفسك إلا ذلك الموضع الذي يضم من تهواها؛ أما سائر الأمكنة وأما سائر الناس، فأنت منهم في رأي نفسك كالمصحف في بيت الزنديق الملحد، يُظلم في كل شيء في الوضع وفي الاستعمال وفي الاعتقاد وحتى في النظر إليه … وتستحيل فيهم بشخصك الواحد إلى اثنين معهما خيال شخص ثالث … فلا ترى إلا أن نصفك يتحزَّن للنصف الآخر في كل ما تراه، وهذا النصف الآخر يكون في بلائه كالطائر الذي وقع من الجو بسهم، فلما أحس الأرضَ جعل يَهِمُّ ويُدارك الضرب بجناحيه، ويكدُّ ويعنف على نفسه، ولكنه لا يطير؛ وكلما أراد أن يثب إلى السماء وجد آلتَها فيه مختلَّة ترجف وتضطرب، ولكنها لا تعلو؛ وقصَّر جناحه فلصق بالأرض، وجاءه الموت من كل مكان وما هو بميت.

تُبغض العيش وتبغض الحياة وتبغض الناس؛ تبغض ثلاث مرات؛ لأنك أحببت مرة واحدة، وهذا كله إذا كانت من تحبها لا تدري بهواك، أو كانت تدري ولكنها لا تستطيع، أو كانت تستطيع ولكن … آه يا عزيزي لا بد في لغة الحب من «لكن» إذا كانت المرأة تعرف لغة الحب.

يا ويلتا لقد انتبهت إلى أني أخاطبك كأنك أنت المبتلى … فلعلك عاذري فإن هذه طبيعة النفس الحزينة تُريد أن تكون مصائبها في سواها ولو على ورقة … لم يبقَ مني إلا جزء قليل من شخصيتي القديمة أما أكثرها فضاع ضياعه أو أصبحت لا أملكه، ولكن هذا الجزء الباقي يفسح لي مذاهب النفس فأراني كأنما أستقبل السموات وأحويها في صدري، وأرى بعينيَّ مجموعي الإنسانيَّ كله واضحًا يتسامى، وأشعر أني عقل من هذه العقول التي تشرف على الدنيا وتعمل في نظامها.

ولا أثْقَل على نفسي من الناس، فإن ظلالهم تهبط على قلبي المتألم بأشباح ممسوخة، وأراهم على وتيرةٍ واحدةٍ في ثقل الروح وسواد الظل؛ ولا ذنب لهم غير أن وليًّا من أصفياء الله خرج يتوضَّأ يومًا، وقد أقبل الناس على وضوئهم، فكشف الله عنه حجاب الحيوانية فنظر؛ فإذا لكل رجل وجه ولكل وجه سحنة حيوان ولكل حيوان معنًى، وإذا شهوات أنفسهم قد مسختهم مسخًا، وفاءت ظلالها على وجوههم بجلود الحمير والبغال والقردة والخنازير وما دبَّ ودَرَج، فاللهم غواثك لأهل النفوس.٦
وهذا الحب حاسَّة في الروح؛ فهو ولا ريب يستثقل كل ما يُنافره من الطبائع، طبائع هؤلاء الذين يترفَّقون للعيش٧ بأيديهم وأرجلهم وأبدانهم وقلوبهم وأنفسهم، فيثيرون في كل سبيلٍ غُبارَ الحيوانية على كل قلب روحاني، فلا يكونون عليه إلا ألمًا ومضضًا وشدة من الشدة؛ وكثيرًا ما يُخيَّل إليَّ فيمن حولي ممن أخالطهم اضطرارًا أنهم ثعالب أطلع عليهم برائحة الأسد الضاري.

إن عواطفي تغلي وتستفزُّ في مثل المِرْجل من إرادتي العنيفة المصبوبة من فولاذ الكبرياء، ولست أخشى في هذا الحب إلا انفجار هذه الإرادة التي هي وعاء النفس، فإنها إن تتفجَّر ذهبَت قطعًا مبعثرةً على كل كَسْر منها كسرٌ مني، فهل تنفجر يومًا؟

ما أشد هذه الأيامَ الحادة، إنها كسلم نُصبت لي درجاتها من سيوف مسنونة؛ في كل يوم جرح ينفجر بالدم، ولكل يوم عذاب وتقطيع في الجرح نفسه؛ لا راحة في الصعود ولا في الوقوف ولا في النزول، وكل يوم يقول لي حبها: تَعَلَّقْ بيديك الممزَّعتين على حد هذا السيف، وضع قدمَيك الممزَّقتين على حد ذاك السيف؛ واصعد.

١  أي: تنتج نتائجها.
٢  ساقك أمامه.
٣  الفَيْئة: الرجوع.
٤  قبضتها كما يفعل العابس.
٥  أكْدَى؛ أي: أخفق، ويريد البطل أنه لا حيلة له في أن يفرغ من عمر لم تفرغ مدته.
٦  أي: أغث.
٧  يعملون للعيش والكسب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤