الرسالة الخامسة عشرة

١٧ فبراير سنة ١٩٢٤م
إن كل ما سطرتُ في هذه الرسائل قد انعقد همُّه وسواده، فكان عجاجةً ثائرة من حرب الهوى، ليس تحتها في حَوْمة القلب إلا ألم كضربة سيف، أو طعنة رمح، أو كيَّة برصاصة ملتهبة حمراء. احْتَلْتُ نفسي١ عما كانت فيه من الغيظ والمَوْجدة ودافعتها وغالبتها حتى وقفتُ بها على صراط النسيان، ولكني في ذلك إنما كنت كناقش الشوكة بالشوكة٢ يعالج وخزة واحدة بوخزات كثيرة، ويكشف عن حُمَة العقرب النباتية بحُمَة مثلها، وما زلتُ أنكت بسنِّ هذا القلم في صميم هذا القلب، حتى فاض في صفحات هذا الكتاب.

قبضة من هذه الأوراق جعلت بيني وبين تلك الحبيبة ما تجعل قبضة من التراب بين الحي والميت؛ إذ تنثر يدُ الموت من ذرَّاتها عوالمَ أبديةً بينك وبين مَن تحبُّ أو من كنت تحب …

حسوتُ كأس الحب فدارت في دمي، وانحدرت إلى قلبي، وصعدَت إلى رأسي، وهذه الرسائل هي الحقيقة التي كانت في خمرها قطرَتْ من القلم كلامًا ومعاني، ومنذ اليوم سأضع العقل بيني وبين تلك الكأس فلا أراها إلا جنونًا ملونًا، ومرضًا مزخرفًا، ثم لا أراها إلا حلمًا خمريًّا زاهيًا إن حسُنَ بالنائم أن يستغرق فيه، لا يحسن بالمتيقِّظ أن يُلمَّ به؛ ثم لا أعرفها إلا شيئًا يجب اطِّراحه إن لم تدعه؛ لأنه إثم فلتدعه؛ لأنه ذم.

اضطرمت النار فأكل بعضها بعضًا، وهذه الرسائل هي صوت الماء الذي صُبَّ عليها ليُطفئها، فزفرت به الزفرة الأخيرة؛ ومات الهوى لما أُصيبت مقاتله.

•••

تلك مسألة امتحنتني الحياة بها فما كان أجهلني؛ إذ ركبت فيها الشُّبهة أصرِّفها بعنان الحيرة فمضت تتخبَّط بي، إن إعجابي المجنون أخرج لي من الحقيقة الصغيرة على الأرض خيالًا في قدر السماء يتلألأ في عين الشمس على أجنحة الملائكة، وكذلك الجهل في الإنسان يُخرج له من كل مسألة سهلة الحل مسألةً لا تُحل أبدًا، فلا يبرح الفكر يضرب فيها مقبلًا ومدبرًا، ولا ينفُذ إليها إلا من الجهات المستحيلة التي لا يخرج الصواب لا من واحدة منها ولا منها كلِّها.

والخطأ ها هنا من لا شيء وليكن اسمُه بعد ذلك ما يُسمَّى، سمِّه مسألةً فارغة أو مشكلةً دقيقة أو رذيلةً جميلة أو حبًّا أو امرأةً … أو ما شئت؛ هو على كل ذلك خطأ من لا شيء.

•••

إن مسَّ استقلالِ دولة من الدول العظمى قد يكون أحيانًا أيسر وأهون من مسِّ استقلالِ نفسٍ من النفوس الكبيرة.

وفي الدم الكريم قانون أزلي يرثه المرء من سلسلة طويلة من أجداد كرام؛ فإذا انتُهك هذا القانون الإلهي وخاضت في ذلك الدم مهانةٌ أو مَخْزاة، انتفض أولئك الأموات العظماء فيه واضطربوا كأمواج البحر في البحر، وتحولت قطراتُ الدم العريق إلى لمح باصر٣ كأن كل قطرةٍ منه تفور على حدِّ سيفٍ مجرَّدٍ من غمده؛ وامتلأت عروق الحي أصواتًا داويةً كصلصلة السلاح في المعركة؛ وترى ذلك الدم الكريم يترقرق ثم يتعقَّد ثم يلتفُّ على الجرثومة التي دَنَّسته فينفجر بها انفجارةَ البركان، لا يدع الصخر صخرًا ولا الحديد حديدًا ولا التراب ترابًا، بل يذيبها كلَّها في حميم٤ واحد يجمع صُورها النافعة المختلفة في صورةٍ بغيضةٍ مهلكةٍ تدمِّر كل شيء.

كذلك حكم قانون الدم؛ وكذلك حكم هذا القانون فقضى في دمي ودمها.

أيها الجميل الذي يحسب كل شيء موطئ قدميه، إن ذَلَّ لك الحي بدموعه لم يذلَّ لك الأموات العظماء الذين استودعوا لآلئ كبريائهم الكريمة في الأصداف من عظامه، تحت الأمواج الجياشة من دمه الحر، ومن لم تُعزَّه نفسُه فلا يصلح إلا أن يكون رجلًا لا يصلُح …

•••

والآن سأدع صمتي يتمِّم كلامي، وإنه لصمت قاتم الأعماق أسود النواحي؛ لأنه مملوء بفكرة التوبيخ، مظلمٌ شديد الحلك؛ لأن شمس الحب لا تسطع فيه، مبهم مستغلق؛ لأنه صورة الظن السيئ، موحشٌ مقفر؛ لأنه رسمُ قلب حزين.

١  أي: حولتها.
٢  يقولها العامة: ناكش الشوكة.
٣  النظر بتحديق كما يفعل العدو المبغض.
٤  أصله الماء الحار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤