خاتمة الكتاب

اجتمعت في هذه الرسائل عواطفُ الحب تَتساوَق معانيها دون حوادثها، على نسق الشعر والفكرة لا على سرد التاريخ والرواية؛ إذ لم يكن الغرض منها حكايةَ نفسَين، بل صفة نفس صريحة لنفس مُعَقَّدة … فلما ضممتُ أُلفتها وهيَّأتها للطبع أدرتُ الرأيَ فيما أرضاه منها وما لا أرضاه، وما زلت بها على ما يختلط فيها من الحب والبغض، حتى خرجَت كما يخرج الماء الصافي من الماء الكدر، وجاءت كما ترى نقيةً بيضاء ليلُها كنهارها.

•••

إن ساعة من ساعات هذا الضعف الإنساني الذي نسمِّيه «الحب»، تُنشئ للقلب تاريخًا طويلًا من العذاب، إن لم تكن آلامه هي لذاته بعينها فهي أسباب لذاته؛ ومن ثم يشتبه الأمر على المحبين إذا استفزَّتهم فورة الغضب ممن أحبوا، فلا تجد في البغضاء عندهم أبغض من طريقة إظهارها، حتى إن نيران قلوبهم لَتَخْلَقُ منها الشياطين؛ ولقد كان في هذه الرسائل كلامٌ يَدْوي كهَزِيز١ السحابة الحمراء تنطلق من الرصاص في معركة حامية؛ لتمطر مطر الموت والألم والوجع، فلم أُثبت منه إلا كما ترى من ضبابة البخار فوق المِرْجَل الذي يغلي، ومن ألوان البرق تلمح من صواعقها لمحًا.
ألا كم في هذا الحب من العجائب المتناقضة، حتى إن فضيلة الصبر في العاشق هي نفسها رذيلة الغضب فيه، كلما طال صبره طال غضبه؛ وتراه يبغض بأقوى ما في نفسه، فلا يكون ذلك إلا إخفاءً لأضعف ما في قلبه، وإذا تَرَامَى في أطراف الأرض لينأى عن حبيبه، رأيته من أي عِطفَيه التفت٢ لا يجد إلا خيالَ حبيبه؛ ومهما تَطَرَّحَ قلبه في مطارح السُّلوان فلن يكون إلا كعقرب الساعة تعمل كل قُواها في إبعاده عن «الثانية عشرة»، ليرجع دائمًا بنفس هذه القُوى إلى الثانية عشرة نفسها.

والعاشق هو وحده المخلوق الغريب الذي ترى الأحلام في عينَيه وهو يقظان يعقل ويعي، فليست الحبيبة في عينه امرأة كغيرها من الناس، وإنما تُخرجها له جملة من الصفات الغريبة التي فيها، لتقابل جملةً أخرى من الصفات الغريبة التي فيه؛ ومتى كان الأمر غريبًا نادرًا من طرفَيه في النظر والاعتقاد، لم يبقَ فيه موضع يمكن الحكم عليه بأنه من الأشياء المألوفة التي جرت بها العادة، وتلك هي مُعضلة الحب التي جعلت من بعض النساء الضعيفات هَزْلًا أروع من الجد، ومن بعض الرجال الأقوياء جدًّا أسخف من الهزل؛ معضلة لا تحل أبدًا ما دامت بين الحبيب ومحبه؛ إذ لا تجيء ولا تكون ولا تستمر إلا كما تجيء وتكون وتستمر؛ وإنما مثلها كذلك الانعكاس الذي لا يستوي له بحال من الأحوال أن يُظهر الكتابة على المرآة إلا مقلوبة أبدًا.

•••

كل معنًى إنسانيٍّ في الحبيب يكون دائمًا وراءه معنًى غير إنساني في وَهْم المحب؛ فالمعشوق مجتمع من إنسانيتَين متباينتَين، وهذا هو كل السر في انفراده عند مَن يهواه ما دام يهواه.

وأظهرني صديقي على رسم صاحبته التي يصفها في هذه الرسائل أوصافًا كثغور الحسان، لا تفترُّ إلا عن لؤلؤ؛ فما رأيتها في الجمال خارجةً من الجنة ولا سابحة مع الملائكة، إن هي إلا واحدة من خمسين من كل مائة في النساء،٣ ولكني أشهد أن عينيها كأنهما غير إنسانيتَين، لو كانتا في أسدٍ ضارٍ لارتمى عليه العاشق من تلقاء نفسه ليفترسه، فيهما بَيِّنَةٌ صريحة على أن هذه المرأة الشاذَّة إن أحبَّت لم يعرف أحد غيرها كيف تظهر حبها؛ فربما آنسْتَ منها النفرة أو الإعراض أو البغض ملالةً فما فوقها، ومع ذلك يكون هذا هو حبها الذي ابتُليَت بكتمانه أكثر مما ابتُليَت به.

وإذا كانت القدرة الأزلية تصطفي من نوابغ العقل والشعور من تُكاشفهم ببعض أسرار التعبير في ملكوت السموات والأرض؛ جاعلةً وسيلتها إلى ذلك مَلَكًا أو شيطانًا أو امرأةً كأحدهما … فتلك التي رأيتها امرأة كأحدهما، ولكن لا تدعك أسرار عينَيها تعرف أيهما هي؟ …

•••

ليس ببعيدٍ أن تكون هذه القلوب الإنسانية ينظر بعضها في بعض أحيانًا على شعاع الروح، كما يتراءى الوجه للوجه في سراج العين؛ ومن ثَم يكون اختلافُ كل عاشقٍ مع الناس أجمعين في تقدير الجمال الذي يعشقه واعتباره؛ إذ لا يُقَدِّر بعينه ولا بعقله ولكن بقلبه. ولقد حاورت الصديق يومًا في جمال صاحبته تلك، فقال: إني أرى ما لا ترى، فإن قلبي ينظر في قلبها كما تنظر أنت في وجهها؛ ومتى جادلت محبًّا في هواه صارت الحبيبة في جدالكما كالفلسفة، تراها عند أهلها إيضاحًا لشيء معقد، فإذا تناولها غير أهلها انقلبت تعقيدًا لشيء واضح … وإن المرأة الجميلة في رأيي هي تلك التي أرفع روحي إليها؛ إذ لست أفهم من معنى الحب إلا أن الروح اهتدت إلى شيء من سرِّ الإنسانية في إنسان جميل، قد استطاع بجماله أن يهديها إلى هذا السر.

ولما يبس ما بينه وبينها ولجَّ في غضبه منها، سألته رأيه في «إيضاح المعقد …»٤ فقال: أيها الرجل، إذا مدحت امرأة جميلة فلا تقُل: ما أجملها، بل قل: ما أجملَ الشرَّ!

•••

آهٍ مِن الدنيا ومِن
قدرٍ على الدنيا حَكَمْ
البغض شيءٌ مؤلمٌ
والحبُّ شيءٌ كالأَلَمْ
١  الهزيز صوت الريح تصفر به.
٢  من أي جانبيه التفت.
٣  الخمسون نصف المائة … وأعتذر إلى صديقي.
٤  أي: حبيبته التي شبهها بالفلسفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤