الرسالة الأولى
سأكتب هذه الكلمات المرتعشة، وسأبسط رِعْدة قلبي في ألفاظها ومعانيها؛ أكتبُ عن (…)
ذلك الاسم
الذي كان سنةً كاملةً من عُمر هذا القلب، على حين أن السعادة قد تكون لحظات من هذا العمر
الذي لا
يعدُّ بالسنين ولكن بالعواطف؛ فلا يسعُني إلا أن أردَّ خواطري إلى القلب لتَنْصبِغَ في
الدم قبل
أن تنصبغ في الحبر، ثم تخرج إلى الدنيا من هناك بين ما يخفق وما يزفر وما يئنُّ، «من
هناك»! آه،
من تُرى في الناس يعرف معنى هذه الكلمة، ويتسع فكره لهذا الظرف المكاني
١ الذي أشير إليه؟ إن العقل لَيمدُّ أكنافَه
٢ على السموات فيسعها خيالًا، كما ترى بعينَيك في ماء الغدير شبكة السماء كلها محبوكةً
من خيوط الضوء، مفصلةً بعقد النجوم، ولكن هناك، في القلب، عند ملتقى سرِّ الحياة وسرِّ
مُحييها،
وهناك، في القلب، عند النقطة التي يتقطَّع فيها الطَّرف
٣ بينك وبين من تحب، حين تريد الجميلة أن تقول لك أول مرة أحبك، ولا تقولها. هناك، في
القلب، وعند موضع الهوى الذي ينشعب فيه خيطٌ من نظرك وخيط من نظرها فيَلْتَبِسان
٤ فتكون منهما عقدة من أصعب وأشد عُقَد الحياة، هناك؟ هذا معنى «هناك».
•••
سأكتب أشياء وأضمرُ على أخرى لا أبوح بها، وما دام لكلِّ امرئٍ باطن لا يُشْركه فيه
إلا الغيب
وحده، ففي كل إنسان تعرفه إنسان لا تعرفه، وليست على المعاني والخواطر سِماتٌ
٥ تميز بعضها من بعضٍ كبياض الأبيض وسواد الأسود؛ فأنا وحدي أعرف سبب الزلزلة التي
أصفُها، والناس بعدُ كأولئك الخياليين القدماء الذين كانوا يقولون متى اهتزَّت أثقال
الأرض:
٦ إن إله المصارعة يَنْبض قلبُه الآن … وأعرف سبب البركان المنفجر، وكانت خرافة
الأقدمين عندما تتمزَّع الأرض من الغيظ، وتلعنهم بألفاظ من النار: أن إله الحِدَادة ينفخ
في الكير
… أنا وحدي أعرف ما أندمج عليه،
٧ وما يكنُّه قلبي المتألِّم الذي أصبح يضطرب اضطراب الورقة اليابسة في شجرتها نافرةً
تتمَلْمَل إن عفَت عنها نسمة، لا تعفو النسمات كلها، فسآتيك في رسائلي بالكلام الصحيح
والكلام
المريض، ويتشعَّب عليك من خبري أمور وأمور فلا تحاول أن تهتِكَ سر هذا القلب، وإذا صحَّ
أن
الإنسان انطوى فيه العالَم الأكبر، فقد صحَّ أن السماءَ انطوت في قلب الإنسان. ما أبعدك
عن
السماء! انظر انظر فإن السماء تقول لك أيضًا إنها معنًى «هناك».
•••
لم تُحيِّرني المتناقضاتُ ولا المتشابهاتُ ولا ضِقْت بأسباب الفكر فيها فإن ذلك الحب
جعل فيَّ
عقلَين لا عقلًا واحدًا؛ أحدهما يُقِرُّني في هذه الدنيا والآخر ينقلني إلى ثانية؛ دنيا
الناس
جميعًا ودنيا امرأة واحدة؛ دنيا السموات والأرض ودنيا قلبي.
في العقل الأول تنحلُّ كل المشكلات، وفي الثاني تتعقد كل «البسائط» … أحدهما قوي
فلو اجتمعت
عقول أعدائه في عاصفةٍ واحدة، لكان وحده عاصفةً تلفُّ بها لفًّا، والآخر ضعيف، ضعيف تُمرضه
الابتسامة الواحدة مرضًا طويلًا. ذلك يكسر النفس كسرًا ويَرُضُّها رضَّ الهشيم
٨ ويزعها من جَمَحَاتها؛ وهذا؟ كان الله له لا يُشبه إلا الفضاء ما نُسب إلى شيء ولا
حُسب في شيء … الأول جبار يلد المِحْنة ويُميتها؛ فهو عقل ما ينقطع له من الحيلة مَدَد؛
والثاني خَوَّار
٩ يُمتَحَن بالنظرة الفاترة المتهالكة دلالًا، فتحمل هذه المحنة وتلد في طريقها إليه
فلا تصل حتى تكون محنتَين … وأنا بين هذَين العقلَين كأني عالَم عجيب حقائقه هي خرافاته،
وما
مَثَلي إلا مثل النهر الطامي يتدفَّق إلى البحر وقد فار فائرُه؛ فلو سألتَ أحفى مسألة،
١٠ واستعنتَ بالفنون والأدوات جميعًا، لتعرف ما هو ذلك الموضع المعيَّن الذي يصل بين
منبعه ومصبِّه، لكان الجهل والعلم في ذلك سواءً؛ إذ الموضع في النهر هو كل موضعٍ فيه
على طول ما
يجري ويمتد.
كذلك حيرة الحياة والحب يُجاب عنهما بجواب واحد هو نفسه حيرة أخرى؛ ولكني أكتب الآن
وقد تركتُ
الحب وتركني. خرجت من المعركة فنشبَت نفسي في معركة أخرى، لا أدري أهي قائمة بين الحب
والبغض أم
بين الحب والحب؟
أرأيت قطُّ ذئبًا قد افترس شاةً وجعل يُفَرْفِرُها
١١ بأظافره وأنيابه، وهي تنتفض يائسةً هالكة؟ إن تكن رأيته فذلك ذئب رحيم، لو أنت كنت
عاشقًا فرجعت لك من تهواها مما تحب إلى ما تكره، فرأيتَ البغض وما يصنع بقلبك، إنما الذئب
نابٌ
وظُفْر وسَوْرة وحشٍ
١٢ يَعْتري أكيلته فيسطو بها فيذهلها عن نفسها، ثم لا يزيد بعد ذلك على طبيب جاهل في
«عملية جراحية» … أما البغض فذئب الدم؛ يُساورك سَوْرة الحُمَّى فإذا هو شُعْلة طائرة
في عروقك لا
تدع منك موضعًا إلا مسَّته، ولا تمسُّ منك موضعًا إلا نقعَت فيه
١٣ مثل ناب الأفعى من وهج الحب وسُمِّه وغيظه وألمه، فما تدري في أي ناحية عذابك من هذا
البغض، ولا من أيِّ الآلام هو؟
ولن تظهر قدرة الجمال وما فيه من القوة الأزلية إلا إذا حملك على بغضه، بعد أن يحملك
على حبه
فيقتلك مرتَين، كل مرة بسلاح، وكل مرة على أسلوب، وكل مرة بنوع من الألم، وذلك ضَرْب
من العذاب لا
تملكه قوة في الأرض، لا في الملوك ولا في الجبابرة، ولكن تملكه بعض النساء الضعيفات،
ويعذِّبْنَ
به حتى الملوك والجبابرة.
مهما يبلغ الألم في عذاب إنسان، فلن يجاوز حالة معينة، ثم يُغْمَى على المتألم ويستريح،
ولو
دقَّت في عظامه المسامير، كالماء مهما تُوقد عليه فلن يعدوَ درجة معروفة في غليانه ثم
يثبت عندها،
ولو أضرمت عليه من النار التي وقودها الناس والحجارة. غير أن ألم الحب الشديد حين يُكرهك
على بغضه
نوعٌ منفرد في كل آلام بني آدم، كانفراد «ذئب الدم» في جميع ما خلق الله من المعاني
الوحشية.
•••
لم أرَ وصفًا كهذا أفظعَ ولا أبعثَ على الرعب؛ لأنه إنما هو موصوفه … فسأخفِّف عليك
فيما يلي
هذه الرسالة، ولا أذكر لك ثمَّتَ إلا ما يكون كوصف الجنة تَزْخرَفَت له ما بين خَوَافق
السموات والأرض،
١٤ ولكن دَعْني أقُل لك إني أبغض من أحبها، على أنك لو رأيتها لرأيت نفسها تلوح في
وجهها، جميلة كجماله رقيقة كرقته محبوبة كحبه، ولكني مع ذلك أبغضها واللهِ بُغضَ المحرورِ
لما يَتَلَذَّع
١٥ من أشعَّة الشمس، وبغض العين الرمداء لما يتلألأ من إشراق الضحى؛ فلا يداخلك في ذلك
ريب ولا شك، وسيبقى سبب هذا البغض من سر الحب الذي لا يُعرف. إن بعض الأسرار فيه ضربة
العنق
١٦ فلا يُباح به وبعضها يكون فيه ألم النفس الكبيرة فلا يباح به كذلك، ولكن اعلم أنها هي
هي وأنه أنا هو، هي الكبرياء كلها لا تستعذرها من شيءٍ فتُعذِر، ولا تسمح بشيء إلا الْتَوَت
به،
١٧ وأنا كبرياء الكبرياء ما خُلقت إلا مُحْكَم المَعاقِد لا أتثلَّم ولا أتحطَّم،
وتقلِّبني في يدك ما تقلِّب عَضَلة الحديد، فلا تراها من كل جهة إلا حديدًا، هي يمين
حلف الدهر
بها لَيكذبنَّ كذبةً بيضاء مغشَّاة يغرُّ بريقها ويلتمع ماؤها لمع السراب؛ فتبصر فيها
الروح معنى
الريِّ، لتلتهب منها بالظمأ القاتل يُفيضها على رمل ذهبي صبغته الشمس … وأنا؟ أنا كلمة
قد استوى
ظاهرها وباطنها فإما أن تصدق كلُّها، وإما أن تكذب كلها. كلمةٌ ليس فيها جزء محبوب وجزء
مكروه فلا
تحتمل أبدًا معنيَين. هي كالسيل تنحلُّ به السحب؛ وأنا قمَّة من الصخر الصَّلد تغسلها
السيول ولا
تُشَقِّقها.
ثم هي من وراء ذلك كلِّه فيها روح بلبل يفرُّ بأغانيه من ظلٍّ إلى ظلٍّ في رياض الجمال؛
وأما
أنا ففيَّ روحُ نسرٍ يترامى بصفيره من جبل إلى جبل في قفار الحب، حاول العصفور الصغير
الظريف أن
يطوي النسر في جناحَيه، وهو لا يبلغ قصبةً في ريشة في جناح هذا النسر، ولكنه … آهٍ ولكنه
طواه في
غير جناحَيه.
•••
أين العقل في الحب والبغض وبخاصَّة إذا أفرطت عليك أسبابهما؟ أَمَا إن كل طريق لينفد
فيه
الإنسان على بصيرة إلا هذَين؛ فإن أحدهما إذا احتواك لم يُفلتك، وأصبحت فيه كالذي يُطاف
به الدنيا
ويداه في قيد، فمهما سوِّغ
١٨ من الحركة والاضطراب، ومهما انفسحت له الآفاق، فإن قدر ذراع من وثاق حريته الذي يشدُّ
يديه هو قياس دنياه في طولها وعرضها ما بلغَت، فأنا على ما كنت أشعر من أن لي عقلَين،
كنت أراني
في ذلك الحب كأني بلا عقل، بل كأني مجنونٌ من ناحيتَين … ويُسرف عليَّ بغضها أحيانًا،
فأتلهَّب
عليها في زفراتٍ كمعمعة الحريق
١٩ حين ينطبق مثلُ الفكِّ من جهنم على مدينة قائمة فيمضغ جدرانها مضغَ الخبز اليابس، ثم
يسرف عليَّ حبها أحيانًا فينحط قلبي في مثل غَمَرات الموت وسَكَراته، يتطوَّح من غمرة
إلى غمرة،
فأنا بين نقمة تفجأ وبين عافية تتحول، وكأنه لا عمل لي إلا أن أصعد مائة درجة لأهبط مائة
درجة …
أما ماذا يردُّ عليَّ الصعود والنزول فسل قصبة الزئبق
٢٠ ولا تسلني، إنه سيَّال يترجرج في القلب بين شيء مني وشيء منها؛ وكانت عروقي كأنما
ينصبُّ فيها أحيانًا دمُ قتيل فيهجم بالموت «الأحمر» على حياتي يريد أن يَغُولها.
إن تلك الفتاة لتُغضب الملائكة الذين لا يغضبون؛ وقد خُلق النساء لامتحان جنون الرجال،
وخُلق
الرجال لامتحان عقول النساء؛ وخلقت هي وحدها لجلب الجنون لا لامتحانه …
•••
أراني سأبتدئ أيامي من آخرها، فإني لا أقصُّها عليك وهي تولد، بل وهي تموت بعد أن
تركتني
كالقنبلة فرغ الحب من حشوها، وتريد أن تنفجر، لم أكتب لك؛ إذ كان هواها ناشئًا يَرْتَع
ويلعب، وإذ
كان ينكسر انكسار فَرْخ الطائر حين يهدل جناحَيه
٢١ لتمسحه أمه بجناحيها، ولا كتبتُ إذ كان هواها الجد أشد الجد، وإذ كان كالريح
المُرسَلة لا تقف ولا تنكسر إلا إذا تدلَّى من السماء جدارٌ يبلغ الأرض أو رُفع من الأرض
حائط
يبلغ السماء، ولا حين كان الهوى يركض بي ركض المجنون الذي يجري وكأنه يجري وراء عقله
الذاهب على
غير طريق ولا جادة ولا علم،
٢٢ فلا عقله يقف له ولا هو يدرك عقله، ولكني سأكتب وقد ركد الهوى، وقد ماسحتُ قلبي حتى
الآن من غضبه، وقد اجتمع إليَّ رأيي الذاهب، ولا تحسبنَّ أني سأخطُّ لك قصة فيها اليوم
والشهر
والسنة، وفيها الزمان والمكان، وذلك السخف الذي يطوِّلون ويعرِّضون به؛ إذ يستنهجون سبيل
الحادثة
من حيث تبتدئ إلى حيث تنحدر، فإن هذا مما يحسن في تاريخ صخرة تتدحرج، أما أنا فسأقدِّم
إليك تاريخ
لؤلؤة فريدة، هم يغطُّونك بقُبة الليل يلمع في بعض جوانبها نور كوكب يظهر ويغيب، أما
أنا فأضعك في
ساعة من السحر بين نسيمها وجمالها ورقتها ذبول الليل فيها، ثم ينشق لك الأبيض ذو الحواشي.
٢٣
•••
ودعني أذكر البغض مرة أخرى قبل أن أنساه إن اللين في القوة الرائعة أقوى من القوة
نفسها؛ لأنه
يُظهر لك موضع الرحمة فيها، والتواضع في الجمال أحسن من الجمال؛ لأنه ينفي الغرور عنه؛
وكل شيء من
القوة لا مكان فيه لشيء من الرحمة؛ فهو مما وضع الله على الناس من قوانين الهلاك.
اجمع يا عزيزي إن استطعت سِرْبًا من الوحوش الضارية وصفِّفها لونًا إلى لون، وصنِّفْها
شيئًا
إلى شيء، فإنك سترى في «جلودها» مكتبةً ضخمةً من هذه القوانين … والوباء الذي يحلق الناس
حلق
الشعر فيتساقطون ألوفًا ألوفًا بجرَّةٍ من يد الموت، والزلزال الذي يرجُّهم في غربال
الأرض رجَّ
الحصى ينفيه من هنا وهنا، والمصائب التي تبسط العقوبة على النعم في سطوة كهدير الموجة
العاتية حين
تصارع العاصفة، والجميلة المغرورة التي تراها في أخلاقها من طراز كدماغ السكِّير الفارغ
مزينًا
بخيالات الخمر وسَورتها، كل تلك من «قوانين العقوبات» في العالم الذي خُلق مُتهمين وقُضاة
ولا من
يُحامي …
هذه التي سأقص عليك منها فلسفة الجمال والحب، قوة من القوى لم يجعل الله القسوة فيها
إلا
لعلمه بها؛ وما ابتساماتها الفاتنة إلا كسجن من البلور الصافي يختنق من يحبس فيه وهو
يتلألأ …
وكنت أراها أحيانًا في جمالها وتأثير جمالها، كأنها طاووس من طواويس الجنة على كل ريشةٍ
فيه لون
من ألوان النار.
نصيحتي لكل من أبغض مِن حب أن لا يحتفل بأن صاحبته غاظته، وأن يكبر نفسه عن أن يغيظ
امرأة،
إنه متى أرخى هذَين الطرفَين سقطت هي بعيدًا عن قلبه، فإنها معلَّقة إلى قلبه في هذَين
الخيطَين
من نفسه.
ما من قُفْل بلا مفتاح وإلا فما هو بقفل؛ والإهمال والازدراء وسموُّ النفس ثلاثة مفاتيح
لقُفل
واحد هو قفل الغيظ.