الرسالة السادسة
تقول أيها العزيز: «فصِفْها لي على حقِّها
١ وصفها على هواك بما يُزَخرِف الهوى من كذبه، وانقلها إليَّ من مرآتها نقلًا، ووافِني
عنها برسالةٍ كلَيْلةٍ من ليالي القمر في الصيف تتنفَّس كل ساعة منها برائحة الفجر.»
آه ما كان لي
ولهذا البلاء الجميل … فإن عهدي بهذه النفس أنها مصمِّمةٌ حكيمةٌ إذا فزعت تفزع إلى ضِرس
حديد،
وإذا همت أمضت عزيمتها فما يندُّ منها شيء إلا ضَبَطَتْه
٢ وأحكمَتْه؛ وإن عهدي بهذا العقل أنه نافذٌ دهيٌّ ذو حرب وسِلْم في أساليب الحكمة
والسياسة، ولكن الإنسان يُبْتَلى ثم يُبتلى ليعرف أن كل ما فيه إن هو إلا وديعة الغيب
فيه؛ فما
شاء الله نفع وإن كان سببًا من الضر، وما شاء الله ضرَّ وإن لم يكن إلا نفعًا؛ والأسباب
كالعمر لا
يملك الإنسانُ استمرارَه لحظةً واحدة، وقد يستمر على ذلك ما يستمر.
إن وَصْفها لهمٌّ جديد وإنها الآن في نفسي غير من كانت؛ فالكتابة عنها ضَرْب من العَنَت
كالترجمة من لغةٍ إلى لغةٍ فلولا كان ذلك والهوى مُتَّفق؟ ولكن يا شمس السماء مُجِّي
من ريقك على
هذا القلم حتى ينسج وَشْيه وزُخْرفه، واجمعي في هذه الصحيفة نورَ الابتسام وماء الدمع،
وأخرجي
منهما ما يخرج النباتُ من الضوء والماء زهرًا وثمرًا وورقًا أخضر … وحطبًا يابسًا بعدُ
…
•••
أَمَا إنها فتنةٌ خُلقَت امرأةً، فإذا نظرت إليك نظرتها الفاترة فإنما تقول لقلبك
إذا لم تأتِ
إليَّ فأنا آتيةٌ إليك؛ خُلقت مقدَّرةً تقديرًا كأنَّ كل شيءٍ فيها وُضع قبل خلقه في
ميزان
الجمال، ووُزن هناك بأهواء القلوب ومحابِّها، وكأنها بعد أن تم تكوينُها أرسلت الملائكةُ
في دمها
نقطةَ عطرٍ؛ فهي تنفح على القلوب برائحة الجنة. وهي أبدًا تشعر أن في دمها شيئًا لا يُوصَف
ولا
يُسمَّى، ولكنه يجذب ويفتن فلا نراها إلا على حالة من هذَين، حتى ليظنها كلُّ مَن حادثها
أنها
تحبه وما بها إلا أنها تفتنه.
رشيقة جذَّابة تأخذك أخذ السحر؛ لأن عطر قلبها ينفذ إلى قلبك من الهواء؛ فإذا تنفَّستَ
أمامها
فقد عشقتها.
وتراها ساكنةً وادعةً أمام عينَيك، ولكن قلبك يشعر أنها تهتزُّ فيه وتضطرب فلا يزال
قَلِقًا
نافرًا يتمَلْمَل.
أما أنوثَتُها فأسلوبٌ في الجمال على حِدَة؛ فإذا لقيتَها لا تلبث أن ترى عينَيك تبحثان
في
عينَيها عن سرِّ هذا الأسلوب البديع، فلا تعثر فيهما بالسر ولكن بالحب، وإذا كنت ذكيًّا
فأضافت
إلى ما فيها من بواعث الهوى إعجابها بك؛ فقد أحكمت لك العقدةَ التي لا حلَّ لها.
ومهما تكن من رجلٍ باذخٍ، فإنك بإزائها ترى كيف ينقاد جزءٌ من الطبيعة لجزءٍ من الطبيعة؛
فلا
براءة لك ولا مخرج من حبِّها؛ ومهما تكن من جبل شامخ فإنك تتهافَتُ تحت أشعَّة عينَيها،
كما
تتدحرج جبالُ الثلج في القُطْب إذا زاحها عما حولها شعاعٌ رقيقٌ من أشعَّة الشمس، تتنهَّد
فيه
نسمة ضعيفة.
وهي في لونها ذاتُ بياضٍ أسمرَ مُحْمرٍّ وضيءٍ يَغْترقُ العينَ حسنًا، وكأن ائتلاف
الألوان
الثلاثة فيها جملةٌ مركَّبةٌ من لغة النور والهواء والحرارة، معناها الجمال القوي الصحيح،
هيفاء
ملتفَّةٌ لم يهبط جسمها ولم يَرْبُ
٣ تملأ قلبك كما تملأ ثوبَها، وتتمايل أعطافُها فلو خُلق غصنُ البان امرأةً لمشى
يَتهادَى في مثل مِشْيتها، وتنظر نظرةَ الغزال المذعور أُلْهمَ أنه جميل ظريف فلا يزال
مُسْتَوفزًا يتوجَّس
٤ في كل حركة صائدًا يطلبه … وتنفجر لعينَيك في حركاتها وكلماتها كما يتفجَّر أمام
الظمآن ينبوعُ الماء العذب. وما رأيتها مرةً إلا أحسستُ نفسي تُصوِّرها تصويرًا كأن الشمس
والقمر
قد صنعاها في الحسن صنعةً جديدة. وتَنْتحل هذه الظبية أحيانًا كبرياء الأسد، فيكون ذلك
منها في
باب الدلال مخاشنةً بين طبعي وطبعها تبثُّ بها في الحب قوةً تبلغ قوة الافتراسِ في أسدٍ
جريح.
تريد الهوى وتعرفه وتنفخ في ناره وتُذْكي ضِرامها بما لا يخمد ولا ينطفئ، ولكن … ولكن
لترى من
كل ذلك كيف أحترق.
تلك هي أيها العزيز؛ من أيِّ الجهات اعتبرتَها لا ترى أوصافَها تنتهي إلا كما تنتهي
أطرافُ
الواحة الخضراء في رمال كالأُقيانوس الجافِّ تُقحِمُك المَتَالِفَ،
٥ وتبثُّ لك مصايدَ الموت في كل جهة، ولا يخرجك منها إلا أن يكون عمرك أوسع منها؛ ومع
ذلك فلا تخرج إلا حيًّا نصفُه موت أو ميتًا نصفُه حياة، إن عاشقها المسكين في كل ما يناله
من حبها
لَيمشي إلى الجَدْب بخطواتٍ خضرٍ تُعدُّ عليه واحدة واحدة؛ فها هنا نبع يَروي وهناك روضة
تتنفَّس،
وثَمَّ سرحةٌ تفيء بظلها؛ وما شئت من متاع أحسن ما تنظر، ومن روح أجمل ما تبتغي، ومن
نعمة أبدع ما
تتحفَّى بك النعمة؛ ثم تنتهي من الواحة؛ لأنك كنت تندفع ولا تحسُّ ويُسارُ بك ولا تدري؛
وتنتهي
بعد الفضاء الجميل الأخضر إلى ذلك الفضاء المخيف الأبيض بياضَ عظام الموتى … فضاء الصحراء
المهلكة
التي تقول لك أول ما تتلقَّاك: ليس من يُحسُّ بك ها هنا فحيث شئت فمت …
كانت والله قدرًا مقدورًا لو علمتُ كيف تنتهي لاتَّقيت كيف بدأَت، ولكني جئتها وأنا
أقدِّر أن
أراها كما هي وأدعها كما هي، فإذا القَدَر مخبوءٌ فيها، وإذا هو قد طلع عليَّ في ألحاظها،
وإذا
أنا أراها فلا أدعها، وكان طريقي إليها بين رؤيتها وتَرْكها، أبدأ وأعود؛ فلما تخطَّيت
أولها لم
أرَ لها آخرًا، ولما بدأتُ عدلَت بي إلى الناحية التي كنت أجهلها، فلم أدرِ كيف أعود.
•••
وهي شاعرة تَغمُر أفقًا واسعًا بأشعَّة خيالها، ولو أن نجمةً سألت الله أن يخلقها
امرأة فتنزل
على الشعراء بوحي السماء، وخيال السماء، وأسرار السماء، لكانَتْها، غير أنها لا تحسن
عربية
الكتابة الفصحى فإذا كتبت وقليلًا ما تكتب
٦ اختبطَتْ في مثل البحر اللُّجِّي ففرَّت إلى الساحل، ورقصت هناك على رشاش الموج، وهي
تألم لذلك النقص فيها وما أظرفَ ما تراه في سببه؛ إذ تقول: إن المصري والسوري ومن يشبههما
قد
بلغوا من ضعف القومية التاريخية؛ بحيث يريد أكثرهم الكمال لشخصه لا لتاريخه، ولنفسه لا
لأمته؛
فينسلُّ أحدهم من تاريخه ويغامر في آداب أمة حية كالفرنسية والإنجليزية، ويستفرغ فيها
كل همِّه،
فيدرك في خمس سنوات ما لا يأتيه به التاريخ المصري أو السوري في خمسين سنة، لو بقيَ في
أمته
وادعًا يترقَّب نضج تاريخها. والشرقي إذا خرج من الشرق أحسَّ أنه ترك وراءه بلاد القبور
والمدافن
والجثث المحنَّطة، واستقبل بلادًا أصبحت الطبيعة فيها أسرعَ من أهلها في العمل للحياة
والأحياء؛
فهم يخدمون نواميس الكون لتخدمهم على الأرض لا في السماء. وكانت إذا انتهت إلى مثل هذا
قلت لها:
إنكِ لتتكلَّفين أن تجعلي للَّانهاية حدودًا أربعة … بل أربعة ذات قياس ومساحة، وإلا
فابتلي
أوروبا بمثل ما بُليَ الشرقُ منها أربعين سنةً في جدِّ السياسة وهَزْلها، فإنك والله
لا ترين منهم
يومئذٍ إلا الزنوج البيض … وكانت تقول ما أعجزني في أجناس الكتب إلا كتب اللغة العربية؛
لقد
أحضرتُ شيخًا يُدارسني كتابًا منها فكانا كتابَين … الذي أراه هو الذي أسمعه والذي أسمعه
هو الذي
أراه. ثم تُغرق في الضحك وتقول في كلام ظريف كأنه يضحك ضحكًا آخر: فأنا والله في حاجة
لإتقان هذه
اللغة إلى عمامة وعشرين سنة في الأزهر …
•••
قلت لك: إنها شاعرة تملأ سماءً من السموات، فتكاد لا ترى فيها من جهات الأرض شيئًا
٧ كأنما تركت المادة الإنسانية في أبويها وخرجت من ذلك الحطب والورق … مخرجَ الزهرة
الناعمة، بنيةً من اللون وجسمًا من العطر ونسيجًا متماسكًا من الشعاع، خرجت عاطفةً مولودة
تكبر
وتنمو لتبلغ في العواطف سنَّ شباب القلب؛ لا يتصل بروحها شيء إلا نبت واخضرَّ ثم نوَّر
وأزهر
٨ كأن طبيعة الجمال خبأت في قلبها سر الربيع، وهي الصافية كرقَّة النسيم والناعمةُ
كملمس الماء والضاحيةُ كطلعة الشمس؛ فإن غضبت بدَّلت النسيمَ قيظًا والماء ظمأً والشمس
الطالعة
غيمًا يلفُّ نهار الحب في مُلاءة ليل أسود.
ولا يستخرج عجبها شيء كما يعجبها الكلام المُفَنَّنُ المشرق المضيء بروح الشعر؛ فهو
حِلَاها
وجواهرها، وما لسوق حبها من دنانير غير المعاني الذهبية، فإنها لا تبايعك صفقة يد بيد،
ولكن خفقةَ
قلب على قلب.
وما عسى أن أقول في فلسفتها واهتدائها إلى موضع السر من الأشياء، ونزولها وراء الحُجَّة
إلى
الأعماق البعيدة التي تغوص الحجةُ فيها، واستبانة المُشْكِل باللمح، وتقليب المعاني في
أصابعها
كأنها ملقَّنةٌ ما تحاوله؛ وأخذها في سبيل البرهان حين تجادل مأخذًا لا يقام له، وإظهار
خيالها
البديع في معانٍ لامعة كأنما تتدلَّى عليها الشمس، فلو كنا نقول بالرجعة
٩ لقلت: إن «أرسطو» قد رجع بفكره الجبَّار إلى هذه الدنيا ليمارسَ حياة الأنوثة ويتمَّ
امرأة، كما تم من قبل رجلًا فينتظم كمال الجنسَين في نفسه.
على أن فلسفتها هذه قد جعلت من بعض قُواها ذلك الجمود الذي تستعين به على الحب «جمودَ
إحساس
الكُتب …» حتى ملأت نفسي بمثل البحر مِلحًا ومرارة.
الجمال هبة الله فليس لامرأةٍ فيه عمل، ولكن العجيب أن أكثر ما يكون من عمل المرأة
إنما يكون
في إفساد هذه الموهبة، كأن الجمال غريب حتى عن صاحبته، تفسدها بالجهل إذا كانت جاهلة،
وتفسدها
بالعلم إذا كانت عالمة، وتفسدها بلا شيء إن كانت هي لا شيء …
•••
على أنها كانت تزعم أنها تبغض الفلسفة وأهلها، وتقول: ينبغي أن تتحوَّل الفلسفة إلى
شعر
كالتراب نُعالجه ليستوي مخضرًّا، فإذا هو لم يُنبِت فاردم به المستنقعات واملأ منه الحُفَر
وافتح
فيه القبور، والفلسفة وإن كانت من ضرورات الحياة والأحياء، ولكنها عند بعض الناس أعجب
شيء، وعند
آخرين شيء عجيب، وعند الشعراء لا شيء عجيب … أعرف العلم والمنطق ولكن الطباع غير العقول،
فمن كان
في سنِّ العقل استطاع أن يحمل في فلك رأسه السموات السبع والأرض ومن فيهنَّ، وذلك هو
الفيلسوف في
سمته وهيبته ووقاره كأن فيه مكتبةً كبيرةً أو كأن فيه ثقلًا خاصًّا …؛ ومَن كان في سنِّ
الطبع فلا
يعرف إلا ما يميل إليه طبعه، فإن يكن هناك منطقٌ وعلم فهما في كيفية إيجاد الميل في نفسه،
ثم في
استخراج اللذاذة الروحية لنفسه من هذا الميل، ثم في تهيئة الاستمتاع من هذه الروحانية
بكل ما فيها
لكل ما فيه.
هذا هو رأيها ولكن لا تنسَ أنه رأيها الفلسفي … وأنه لن يكون لها رأيًا إلا إذا كان
لها بَدِيًّا
١٠ فلسفةٌ قد جعلت من طباعها «جمودَ إحساس الكتب»؛ وها هنا المصيبة فإنها إن عمدَت إلى
غيظك اختبأت نفسها في كتبها وأوراقها، ورأت هذه الكتبَ والأوراقَ دنيا غير الدنيا لها
أشخاصٌ غير
الأشخاص، أما بين الكتب والأوراق فهي تحمل في رأسها السمواتِ السبعَ والأرضَ، فكيف تشعر
بك إذا
أنت وحدك وقعتَ من السموات السبع والأرض …؟
ولكن هل أنت إلا أنت وحدك؟