الرسالة السابعة
نالَت مني رسالتك يا عزيزي، وما كنتَ ظالمًا ولقد ظلمتَ، جاءتني سطورك جملًا جملًا فانصبَّت على قلبي انصبابًا، فغشيَتْه من حروفها بموج أسود كالظُّلَم. لك اللهُ أن تحسبني هالكًا وتقول: إن روحي محمومة بتلك الفتاة، وإني في حاجة منك إلى علاج مر؛ إلى بضع نصائح من الكينا …
فأما إني محمومٌ بها فلا وما أبعدتَ؛ ولكن هي كانت أشبه بالهذيان في الحب، وإن الدهر لَيحمُّ مرارًا عدة متى ركبته الأقدار الملتهبة؛ فإذا هو حُمَّ جاء من هذيانه نابغة يهذي في رجل أو امرأة. وكان من علامة نبوغ تلك الفتاة أن فيها من برد الدنيا وسخونتها … فيها والله برد شديد ويكفي أنه برد الفلسفة …
ولكن ما أجمل الحقيقةَ ترسل أشعتها وألوانها في قلب الجميلة، فتَمْتَهد لها فيه أرضًا من الشعاع، ثم تهبط من السماء الكبرى إلى هذه السماء الصغرى جمالًا في جمال، وحقيقة على حقيقة، وشعرًا على شعر، ومعنًى يُوحَى به إلى من هي تفسير له. تلك حقيقة الجمال الذي لا يُفهَم إلا بمثال عليه من امرأة؛ وإن من النساء تفسيرًا بديعًا لهذه الحقيقة، ومنهن تفسير ناقص، وبعضهن مغالطة في التفسير، وبعضهن مسخ، وبعضهن كالتضريب والشطب لا يفسر شيئًا ولا يصحِّح شيئًا، ولكن يمحو ويطمس …
•••
ومشينا بين الجمال المنظور وبين الجمال المعقول، وهي تجمعهما في شخصها ومعانيها، على حين أن الطبيعة لا تكاد تُرضيك من هذه الجهة إلا إذا عرضت لك ألف شيء جميل، ثم فِئْنا إلى روضة على شاطئ النيل، يُسافر النظر في أرجائها وتتموَّج للعين، كأنها بحر أخضر تهتزُّ عليه هنا وهناك أمواجٌ ملوَّنةٌ من الزهر.
•••
في تلك الساعة ذكرَت هي الشعر وقالت: إنه يُخرجنا الآن من حدود العمر الأرضي؛ فإن في هذا العمر ساعاتٍ لا تُحسَب منه إما لأنها أبدع وأجمل فلا يلائمها، وإما لأنها أقبح وأسخف فلا تلائمه؛ أفتراها أقبح وأسخف …؟ قلت: يا شاعرتي العزيزة إن اللغة أيضًا تخرج من حدود الأرض أحيانًا؛ فهي في مثل هذه الساعة في مثل هذه الروضة، في مثل هذه الجميلة لا تُؤدِّي إلا معنى الجمال والحب، أما الأقبح والأسخف فلا يدخلان هنا إلا بعد أن نخرج نحن ويدخل غيرنا …
آه لو أن الكهرباء اجتذبت القلم من يدها، ما كانت أسرع مني في اختطافه، وجعلتُ أغمسه في شفتَيَّ مرة بعد مرة بعد مرة، ولا أكتب شيئًا، وهي تضحك وتقول: ما لك لا تكتب؟ فأقول: هكذا اعتدت في المدرسة وكنت بليدًا …
ثم كتبتُ ولكن بعد أن خالط فمي طعمُ الرصاص من كثرة ما غمستُ القلم … وكتبت وأنا أشعر بأنفاسها وعطرها ومعاني لحظها يتحولْنَ في نفسي إلى كلمات:
هذه الأسئلة الأربعة يختلف بعضها عن بعض، وينزع كلٌّ منها إلى منزع، ولا جواب عليها بالتعيين والتحديد في عالَم الحس؛ لأن مردَّها إلى النفس، والنفسُ تعرف ولا تنطق؛ وشعورها إدراك مخبوء فيها وهي نفسها مخبوءة عنا، ولكن العجيب أن كل سؤال من هذه الأربعة هو جواب للثلاثة الباقيات؛ فالعاطفة هي ذلك المعنى وهي ذلك الأثر وهي الشعر، والشعر هو العاطفة بعينها، وهو الأثر وهو المعنى؛ وهلمَّ جرًّا.
•••
سبحانك يا من لا يقال لغيره سبحانك، خلقتَ الإنسان سؤالًا عن نفسه، وخلقت نفسه سؤالًا عنه، وخلقت الاثنَين سؤالًا عنك، وما دام هذا الإنسان لا يحيط به إلا المجهول، فلا يحيط به من كل جهة إلا سؤالٌ من الأسئلة؛ ولا عجب إذن أن يكون له من بعض المسائل جوابٌ عن بعضها.
هذه هي الطريقة الإلهية في دقائق الأمور، تُجيب الإنسان الضعيف عن سؤال بسؤال آخر.
ولقد أكثروا في تعريف الشعر وجاءوا فيه بكل ألوان القول، ولكن كثرة الأجوبة جعلَتْه كأنه لا جواب عليه، بالغوا في تقريبه إلى الروح فأَجْرَوا في حدِّه كلَّ عناصر الجمال والفضيلة، ودلوا بالخيال على حقيقته؛ إذ رأوا أنه لا يدلُّ على حقيقته إلا الروح وحدها، وهي غامضةٌ فهو غامض وتفسيره في مائة تفسير.
الشعر وراء النفس، والنفس وراء الطبيعة، والطبيعة من ورائها الغيب؛ فلو جُمع ما قيل في الشعر لرأيته يصلح في أكثر معانيه أن يقال في النفس، ثم لرأيته مفهومًا من جهتنا وغير مفهوم من جهته، وما الشعر إلا أول المعاني المبهمة والدرجة الأولى من سُلَّم السماء الذاهبة إلى عرش الله؛ وهو كذلك أول ما في الإنسان من الإنسانية.
في هذا الكون مادة عامة يسبح الكون فيها، وتنبعث من قوة الله وإرادته، وهي دائمة التركيب والتحليل إيجادًا وفناءً، وما أرى الشعر إلا تأثير هذه المادة في بعض النفوس العالية الكبيرة التي تصلح أن يسبح خيال الكون فيها.
بهذه المادة تمتزج نفسُ الشاعر بكل ما تراه؛ ومن هذا الامتزاج يتكوَّن الشعر، فإذا أردتَ أن تتحقَّق ذلك فانظر إلى نفس الشاعر العظيم تمتزج بالجمال الرائع في نفس الجميلة، وبالحب في نفس الحبيبة، وبالطبيعة في المعنى الطبيعي؛ وانظر إليها حين تتصل بأسباب اللذات والآلام، حين تثيرها اللحظة والابتسامة، ويهيجها الصدُّ والإعراض، ويحزنها المحزن ويسرها السار؛ حين تخترق بالفكر حجاب هذه الإنسانية وتَثِب بالعاطفة فوق الطباق العليا، وتستمد من الشعلة الأزلية لونًا من ذلك الضِّرام الذي اشتعل به في أصل الخلقة كلُّ كوكبٍ يتلهَّب.
•••
ما أشقى نفسَ الشاعر؛ فإنها لسموِّها تجهل ما هي من هذا العالَم، فلا تزال تمتزج في أرضنا بكل ما يحزنها ويسرها لتعرف ما هي؛ ولن يكون الشعر العالي أبدًا إلا التقاءً بين نفس سامية وحقيقة سامية؛ ومن ثَم كان الشاعر العظيم يحب ويبغض ويضحك ويبكي ويرضى ويغضب؛ ولا يُحسُّ من كل ذلك وما إليه إلا أن السماء تحكم من داخله على الأرض.
وعلَّة شقائه هي نفسها علة سروره بشعره، وإن نثر هذا الشعر من عينَيه بكاءً ودموعًا، وإن انفجر به أحزانًا وآلامًا قاتلة.
كل النوابغ لا يُرضيهم إلا أن يرتفعوا، فإن من كان له جَناحان للطيران لا يُسر إلا إذا طار، وما جناحا الطائر إلا كتابان من الله يملِّكه في أحدهما على الشرق وفي الآخر على الغرب؛ بيد أن الشاعر لا يرضيه أن يرتفع عن الأرض وحدها، فإن خياله لا يقع إلا ساجدًا عند عرش الله، وذلك سبب آخر من أسباب شقائه في الدنيا، فأيُّما شر مس كبرياء روحه وأمسك من جناحَيها، رأيتَ أثره في نفسه الرقيقة وكأنما صدمه الصدمةَ ترمي به من فوق السماء إلى الأرض في سقطة واحدة.
يا للعجائب! إن سرور الشاعر الملهم سرور نفسه وحدها، ولكن حزنه حزن العالم كله.
•••
قيل في أحد القدِّيسين: إنه ما وجد السبيل إلى الكمال الإنساني الأعلى ولا استطاع أن يكمل، حتى كانت له نفسُ شاعرٍ عظيم في جسم فقير بائس محزون، فضرب الله بتلك النفس على هذا الجسم وبهذا الجسم على تلك النفس، واستضاء منهما القمرُ الإنساني في ليلٍ حالكٍ من سواد أحزانه وهمومه.
فواهًا لك يا شعر الشعراء؛ أنت النقصُ كلُّه مع لذات الدنيا، وأنت الكمال كلُّه مع آلامها. «انتهى»
•••
واستوعبَت هذه الكلمة يا عزيزي في دفترها الجميل عشر صفحات، فعدَّتها واحدةً واحدة ونظرت إليَّ أظرفَ ما رأيتها، ثم شكرتني وقالت: آه ماذا قالت؟ لقد كنتُ أكتب وهي تُدير فكرها في اختراع بديع لمكافأتي.
فكِّر أنت أيها الصديق، أحسبك تسمع الآن صوتَ النقد اللُّؤلُئي الثمين؛ صوت عشر قبلات.
كلَّا كلَّا لقد كذب عليك الحسن وكذب عليك القمر، قالت … لم يبقَ إلا عشر دقائق … وانفلتَت ضاحكةً ونهضت لا تلوي.
•••