الفصل الحادي عشر
وبعد الحادث الذي وقع في حجرة التلقيحِ، كانت الطبقة العليا كلُّها في لندن تتأجج شوقًا؛ لرؤيةِ ذلك المخلوقِ العجيب، الذي جَثا على ركبتيه أمام مدير التفريخِ والتكييف (أو قل أمام المدير السابق؛ لأن المسكينَ استقال فورًا بعد ذلك الحادثِ، ولم يطأْ بقدمه المركز منذ ذلك التاريخ)، وركع تجاهه وناداه ﺑ «أبي» (وكانت النكتة أبرعَ من أن يؤمن بها السامع) أما لندا — فعلى نقيضِ ذلك — لم تثر اهتمامًا، ولم يشعُرْ أحد بالرغبة في رؤيتها؛ لأن وصفَ المرأة «بالأم» لم يعد من الفُكاهة في شيء، إنما كان فُحشًا من القول، وفوق ذلك فإنها لم تكن همَجية حقًّا، إنما خرجت من قارورة وتكيفت كأي فرد آخر؛ ولذا فلم تكن لديها آراء غريبة حقًّا، ثم إن مظهر المسكينة — فوق هذا وذاك — كان أقوى الأسباب التي نفَّرتِ الناس من الرغبةِ في رؤيتها. كانت بدينة، وقد فقدتْ شبابها، وفسدت أسنانُها، وتلطختْ بشرتها، يا لله! إنك لا تستطيعُ أن تنظرَ إلى قوامِها دون أن تشمئزَّ نفسُك؛ ولذا فإنَّ خيارَ الناس قد صمَّمُوا ألا يشاهدوا لندا، ولندا من ناحيتها لم ترغبْ في مشاهدتِهم، إن العودةَ إلى المدنيةِ كانتْ في رأيها عودةً إلى السوما، وإلى إمكان ملازمة الفراش في عطلةٍ متصلة، لا يعاني فيها النائم صِراعًا أو نوبةَ قيءٍ، ودون أن يحس بذلك الإحساسِ الذي يشعر به المرءُ بعد أن يتناول «البيوتل»، كأنك قمت بعملٍ مشين ضد الجماعة فلا تستطيع أن ترفع رأسَك مرةً أخرى، أما السُّوما فلا تفعل شيئًا من هذا، والعطلة التي تعطيها لمن يتناولها كاملةً، فإذا كان الصباحُ التالي غيرَ مقبول، فهو ليس كذلك بطبيعتِه، وإنما بالمقارنة مع مُتع العطلة، والعلاج هو أن تكون العطلة متصلةً، فكانت دائمًا تضج في شراهةٍ تطلب المزيد وبكميات وافرة، وعارضها الدكتور شو أولَ الأمر، ثم سمح لها أن تتعاطى ما تريد، فكانت تتناول مقدارَ عشرين جرامًا في اليوم الواحِد.
وأسر الطبيب إلى برنارد قائلًا: «وسيقضي عليها ذلك في خلال شهرٍ أو شهرين، إن مركز التنفس عندها سوف يُشلُّ يومًا ما، وتكف عن التنفس، وتنتهي من الحياة، وهو شيءٌ جميلٌ، إننا لو استطعنا تجديد الشباب لاختلف الأمر، ولكنا لا نستطيع تجديد الشباب.»
ولشد ما كانت دهشة الناس أجمعين، عندما تقدَّمَ جون مُعترضًا؛ (لأن لندا كانت خلال عطلة السوما في حالةٍ شاذة جدًّا).
قال: «ألستم تقصرون حياتَها بإعطائِها هذا المقدارَ كله؟»
فوافقه الدكتور شو قائلًا: «هذا صحيحٌ من ناحية، ولكنا من ناحيةٍ أخرى نُطيل حياتها.» فحملق الشاب لأنه لم يدرك ما أراد الطبيبُ، واستمرَّ الطبيبُ يقول: «إن السوما قد تُفقدك بضع سنوات من الزمن، ولكن هل فكرتَ في الآماد الطويلة، التي لا تُحدُّ والتي تعطيكها السوما خارج الزمن؟ إن كل عطلة سومية جزء مما كان يسميه أسلافنا الخلود.»
فبدأ جون يدرك ما يعني الطبيب وقال مدمدمًا: «إن الخلودَ كان على شفاهنا وفي أعيننا.»
– «ماذا؟»
– «لا شيء.»
واستمر الدكتور شو يقول: «وأنت بالطبع لا تستطيع أن تسمحَ للنَّاس، أن تتسلل إلى الخلود إن كانت لديهم عمل جِدي لا بد لهم من أدائه، ولكن لما لم يكن لديها عمل جدي …»
وأصر جون قائلًا: «وبرغم ذلك؛ فإني لا أعتقد في صوابِ ذلك.»
فهز الطبيب كتفيه وقال: «بالطبع إذا كنت تؤثر أن تراها تصيحُ كالمجنونة كل الوقت …»
واضطر جون في النهاية إلى التسليم، وتناولتْ لندا نصيبها من السوما، ومن ذلك الحين بقيت في غرفتها الصغيرة في الطابق السابع والثلاثين من عمارة برنارد، ولزمت الفراش، والراديو والتلفزيون دائران بغير انقطاع، وعطر البتشولي يتصبب قطرات من الصنبور، وأقراص السوما في متناول يدها. هناك لبثت لندا، ومع ذلك فإنها لم تكن هناك البتة، بل كانت متغيبة كل الوقت، بعيدة جدًّا في عطلة تامة، في إجازة في عالمٍ آخر، حيث موسيقى الراديو عبارة عن تيه من الألوان الرنَّانة، تيه زلق نابض، يؤدي (بطريقٍ ملتو جميل لا مناص منه) إلى مركز مضيءٍ من الثقة المطلقة، حيث الصور الراقصة في صندوق التلفزيون، صور لممثلين في دار الصور المحسة الغنائية الممتعة بدرجةٍ تفوقُ الوصف، حيث عطر بتشولي المتقطِّر أكثر من عطرٍ عادي — هو الشمس، أو هو ألوف من السكسوفونات، أو هو بوبي في عشقه، بل هو أكثر من ذلك بدرجةٍ لا تقارن ولا تُحدُّ.
وختَمَ الدكتورُ شو حديثَه قائلًا: «كلا، إننا لا نستطيع أن نجدد الشباب، ولكنني مسرور إذ أتيحتْ ليَ هذه الفرصة؛ لكي أرى مثلًا من الشيخوخة في الإنسان، وإني أشكرك كثيرًا لاستدعائي.» وصافح برنارد بحرارةٍ شديدة.
وإذن فلقد كان جون هو هدفهم الذي كانوا جميعًا يقصِدون، ولما كان لا يمكن أن يُرى إلا عن طريق برنارد ولي أمره المفوض، فقد وجد برنارد أنه لأول مرة في حياته، لا يعامل معاملةً عاديةً فحسب، ولكنه يعامل كشخص ذي أهمية بارزة، فلم يعد أحد يذكر الكحول في دمه، ولم يعدْ أحد يسخر من مظهرِه الشخصي، وأصبح هنري فستر — على غير عادته — يتودَّدُ إليه، وقدم له بنتو هوفر هدية من ست لفافات من لبان الهرمونات الجنسية، وأتاه مساعد مدير المصائر وتطفل عليه بشكلٍ زَريٍّ، يطلب عودته إلى إحدى حفلاتِ برنارد المسائية، أما عند النساء فلم يكن على جون إلا أن يشير إشارةً طفيفة إلى إمكان دعوتهن، فيظفر بمن يحب.
وصرحت فاني وهي تشعر بشعور الظافر: «إن برنارد قد دعاني إلى لقاءِ الهمجي يوم الأربعاء المقبل.»
فقالت ليننا: «إني جد مسرورة، ولعلك تعترفين الآن أنك كنتِ مخطئة في تقدير برنارد، ألا ترينه عَذبًا حقًّا؟»
فأومأت فاني برأسِها، وقالت: «ولا بد أن أقر أني دهشت جدًّا وسررت.»
وتودد إلى برنارد عددٌ لا يحصى من الوجهاء — منهم رئيس القوارير ومدير المصائر، وثلاثة من وكلاء مساعدي الملقحين العامين، وأستاذ الصور المحسة في كلية هندسة العواطف، وعميد معهد الغناء الجمعي بوستمنستر، ومراقب عمليات بوكانوفسكي.
وأسر إلى هلمهلتز واطسن قائلًا: «وكان عندي ستُّ بناتٍ في الأسبوع الماضي: واحدة يوم الاثنين، واثنتان يوم الثلاثاء، واثنتان أخريان يوم الجمعة، وواحدة يوم السبت، ولو توفر لي الوقت أو لو كان لديَّ الميل، لظفرتُ على الأقلِّ باثنتي عشرة بنتًا غير هؤلاء كن يتحرَّقْن شوقًا …»
وأصغى هلمهلتز إلى مفاخرته في صمتٍ يدل على عدم الرضا والاكتئاب؛ مما جعل برنارد يستشعر منه الإساءة.
فقال: «أنت حسود.»
فهزَّ هلمهلتز رأسه وأجابَ بقوله: «إني حزين، وهذا كلُّ ما في الأمر.»
وانصرف برنارد حانقًا، وصمَّمَ في نفسه ألا يكلم هلمهلتز مرةً أخرى.
ومرَّتِ الأيام، وانتشى برنارد من اطِّرادِ النجاح، وشعر خلال ذلك بالتوافق التام بينه وبين العالم (كما يفعل أي مخدر جيد)، وكان حتى آنئذٍ ساخطًا عليه، ورضي عن النظام القائم ما دام يعترف له بالأهمية، غير أنه برغم ما كان بينه وبين النظام القائم من وفاقٍ من أثر النجاح، أبى أن يتخلى عن حقِّه الممتاز في نقدِ هذا النظام؛ لأن النقد كان يقوي إحساسه بأهميته ويجعله يحس بالعظمة، ثم إنه كان فوق ذلك يعتقد بإخلاصٍ أن هناك من الأمور ما يستحق النقد (وهو في نفس الوقت يحبُّ أن ينجَح، وأن يظفَر بكل من يريد من البنات)، فكان برنارد يتظاهر بالخروج على التقاليد، وبالنقد أمام أولئك الذين يتودَّدُون الآن من أجل الهمجي، وكان الناس يصغون إليه مؤدبين، ولكنهم يهزون رءُوسَهم من خلفه، ويقولون: «إن مصير ذلك الشاب سوف يكون سيئًا.» متنبئين وهم واثقون أنهم هم أنفسُهم سوف يعمَلون بأشخاصِهم في الوقتِ المناسب على سُوء المصير، ثم يقولون: «إنه لن يجد همجيًّا آخر يعينه على النجاة مرة أخرى.» ولكن الهمجيَّ الأول كان على أية حال لا يزال ماثلًا أمامهم، فكانوا متأدبين، وما دامُوا كذلك فقد كان برنارد يحسُّ بعظمته الشامخة، كان يحس بالعظمة كما يحس بنشوة الغرور، وكأنه أخفُّ من الهواء.
وقال برنارد مشيرًا إلى أعلى: «أخفُّ من الهواء.»
وتلألأ منطاد مصلحة الجوِّ الأسير وردي اللون في ضياء الشمس، كأنه لؤلؤةٌ في السماء، تعلو عليهم علوًّا كبيرًا.
وجاء في أوامر برنارد أن: «هذا الهمجي يجب أن يطلع على الحياة المتحضرة من جميع وجوهها …»
وكان الهمجي آنئذٍ يُشرفُ من أعلى على هذه الحياة، ويُلقي عليها نظرةً عامة من رصيف برج تشيرنج-ت، وقام بإرشاده ناظر المحطة وعالم الطبيعياتِ المقيم، ولكن برنارد هو الذي تكفل بالقسط الأوفر من الحديث، وكان سلوكُه — في نشوتِه — كأنه على الأقل مراقب عالمي زائر — أخف من الهواء.
وسقَطَ من السماء صاروخُ بومباي الأخضر، ونزل منه الركاب، وأطلَّ من النوافذ الجانبية لإحدى غُرفِ الصاروخ ثمانية توائم درافيديين (أي غير آريين) على صورةٍ واحدة، يلبسون الكاكي — وأولئك هم خُدَّام السفينة الطائرة.
وقال ناظر المحطة مؤكدًا: «ألف ومائتان وخمسون كيلومترًا في الساعة، ما رأيُك في هذا أيها الهمجي؟»
وكانت تلك السرعة مدهشة حقًّا في رأي جون، غير أنه قال: «لكن أربيل يستطيع أن يطوق الأرض في أربعين دقيقة.»
وكتب برنارد في تقريره لمصطفى مند: «من العجيبِ أن الهمجي يُبدي دهشة قليلة جدًّا — أو رهبةً — من مخترعات المدنية، ولا شكَّ أن هذا من ناحية يَرجع إلى أنه سمِعَ لندا … تتحدث عنها».
(وقطَّبَ مصطفى مند جبينَه، وقال: «هل يحسب هذا الغبيُّ أن التقزُّزَ يبلغ بي حدَّ الاشمئزاز من رؤية الكلمة مكتوبةً بتمامها؟».)
«ويرجع من ناحيةٍ أخرى إلى تركيزه اهتمامَه فيما يسمِّيه «الروح» التي يصرُّ على اعتبارها كائنًا مستقلًا عن البيئة الطبيعية، في حينِ أني حاولتُ أن أفهمه …»
وغض المراقب طرفه عن العبارات التالية، وأوشك أن يقلِب الصفحة باحثًا عن شيءٍ مادي أكثر تشويقًا، عندما وقعتْ عيناه على سلسلةٍ من العبارات البالغة في الغرابةِ، فقرأ ما يلي: «… ولكني أقر أني أوافق الهمَجي على أن الطفولةَ في حياةِ المدنية يسيرةٌ جدًّا، أو أنها — على حد تعبيره — تكلفنا أقل مما ينبغي، وأحبُّ أن أنتهز هذه الفرصة؛ لأنبِّهَ سيادتكم إلى أن …»
وتحول غضب مصطفى مند في الحالِ إلى مرحٍ شديد، فإن تعرض هذا المخلوق لمحاضرته — هو بالذات — بشأن النظامِ الاجتماعي كان حقًّا مما يدعو إلى السُّخرية، لا بدَّ أن يكون الرجل قد أصيب بمسٍّ من جنون، وتحدثَ إلى نفسِه قائلًا: «ينبغي لي أن ألقي عليه دَرسًا.» ثم طرح رأسه إلى الوراء وقهقهَ ضاحكًا، ولم يستطعْ — في تلك الآونة على الأقلِّ — أن يلقي ذلك الدرس.
كان مصنعًا صغيرًا لأجهزة الضوء في الطائرات، وهو فرعٌ من شركة الإعداد الكهربائي، وقابلهم على السطحِ نفسِه كبير الفنيين ومدير العنصر الإنساني؛ (لأنَّ خطاب التوصية الدوري الذي حرَّره المراقب كان له تأثير سحري)، وهبطوا إلى المصنعِ في الطابقِ السفلي.
وأخذ مديرُ العنصر الإنساني يَشرحُ لهم، قال: «إنَّ كلَّ عمليةٍ تتمُّ على قدر المستطاع بمجهود جماعة واحدة بوكانوفسكية.»
وكان ثلاثة وثمانون شخصًا سودًا فُطس الأنوفِ دقاق الرءُوس من طراز «ء»، يقومون فعلًا بعملية ضغط البرودة، وكان يدير الآلات الستَّ والخمسينَ ذوات المغازل الأربعة التي تنقنق وهي تسيرُ، ستة وخمسون شخصًا من طراز «ﺟ» الأشقر ذي الأنف الأقنى، وكان يشتغل في المسبك مائة شخص وسبعة من السنغاليين من طراز «ﻫ»، الذي تكيَّفَ بالحرارة، وكان يقطع اللوالب ثلاثة وثلاثون أنثى من طراز «ء»، من ذوات الرءوس الطويلة واللون الرملي والأحواض الضيقة، طول كل منهن متر وتسعة وستون سنتيمترًا، لا يزيدُ على ذلك ولا ينقصُ أكثرَ من عشرين مليمترًا، وفي حجرة الاجتماع كان يضمُّ المحرِّكات الكهربائية، بعضها إلى بعض، مجموعتان من الأقزام من طراز «+ﺟ»، ومنضدتا العمل المنخفضتان متقابلتان، يزحف بينهما حاملٌ عليه أشلاء متناثرة، وهنا يجابه سبعة وأربعون رأسًا أشقر اللون سبعة وأربعين رأسًا أخرى سمراء، وسبعة وأربعون أنفًا أفطس سبعة وأربعين أنفًا مدببًا، وسبعة وأربعون ذقنًا متراجعة سبعة وأربعين ناتئة. وكان يفحص الآلات الكاملة ثماني عشرة بنتًا في صورة واحدة، ذوات شعر مجعَّدٍ، سمراوات، يلبس زي «ﺟ» الأخضر، ويجمعها في الأقفاص أربعة وثلاثون شخصًا، قصار السوق، أيسرين، ذكورًا، من طراز «−ء»، ويحملهما في عربات تنتظرها وفي سيارات للنقل ثلاثة وستون شخصًا، زرق العيون، يلبسون الكتان، ذوي بشرات منقوطة، ومن طراز «ﻫ»، أنصاف معتوهين.
ووجد الهمجي أن ذاكرته اللعينة قد ذكرته بكلماتِ ميراندا: «ما أعجب هذا العالمَ الجديد الذي يحتوي على أمثال هؤلاءِ الناس».
وختم مدير العنصر الإنساني كلامَه، وهم يخرجون من المصنع قائلًا: «وإنني أؤكد أننا لا نكاد نجد مشقة مع العمال من أي نوعٍ كان، إننا نجد دائمًا …»
ولكن الهمجي اعتزل رفاقه بغتةً، وكان يتهوَّعُ بعنفٍ خلف مجموعة من الأكاليل، كأن الأرض كلها طائرة هبطت في جَيبٍ من الهواء.
وجاء في تقرير برنارد أن الهمجي يأبى أن يتناولَ السوما، وهو في نكدٍ شديدٍ؛ لأن المرأة لندا، أمه … في عطلة دائمة. ومما يجدر ذكره أن الهمجي، برغم شيخوخة أمه … وبشاعة مظهرها القصوى، كثيرًا ما يذهب لزيارتها، والظاهر أنه شديد الولَع بها، وهو مثال شائق للطريقة التي يمكن أن يتمَّ بها التكييف في سنٍّ باكرة لتعديل الدوافع الطبيعية، بل لنقضها نقضًا تامًّا (والدافع في هذه الحالة هو النفورُ من الأشياء الكريهة).
وهبطوا في أيتن فوق سطح المدرسة العليا، وفي الجانب الآخر من فناء المدرسة، كان برج لوبتن بطوابقه الاثنين والخمسين، يتألق ناصع البياض في ضياء الشمس، والكلية إلى يسارهم، ومعهد الغناء الجمعي على يمينهم، ترتفع فيها أكوامٌ هائلة من الأسمنت المسلَّح بالحديد والزجاج، الذي يمكن للأشعة فوق البنفسجية أن تتخلَّلَه، وفي وسط الفناء المستطيل يقوم تمثال فورد العجيب العتيق، مصنوعًا من الصُّلب المصبوغ بالكروم.
واستقبلهم الدكتور جافني مدير المدرسة، والمِس كيت كبيرة المعلمات، وهم يخرجون من الطائرة.
وألقى الهمجي هذا السؤال متخوِّفًا: «هل عندكم توائمُ كثيرةٌ هنا؟» وذلك عندما بدءُوا طوافهم للتفتيش.
فأجابه المدير: «كلا، إن أيتن محجوزة كلها للبنين والبنات من الطبقة العليا، أبناء البيضة الواحدة التي تنتج فردًا بالغًا واحدًا، وهذا يجعلُ التربيةَ عسيرة بطبيعة الحال، ولكن ذلك أمرًا لا مناصَ منه؛ لأن طلبةَ هذه المدرسة سوف يُدعَون لتحمل التبعات ولمعالجة مشاكل غير منظورة.» ثم تنهد.
وفي تلك الأثناء أحسَّ برنارد بميلٍ شديد نحو مس كيت، وكان يقول لها: «إذا فرغت في أحد أيام الاثنين أو الأربعاء أو الجمعة مساء …» وهزَّ إبهامه نحو الهمجي وقال: «اعلمي أنه عَجيب، وغريب.»
وتبسمت مس كيت (وكانت بسمتها فاتنةً في عينه)، وقالت: «شكرًا لك، يسرني أن أحضر إحدى حفلاتك.» وفتح المدير الباب.
إن خمس دقائق في غرفة الدرس تلك الخاصة بالطلبة من طراز «+ +أ» قد حيرت جون قليلًا ما.
وأسرَّ إلى برنارد سائلًا: «ما هي مبادئ النِّسبية؟» وحاول برنارد أن يشرحَ له ما هي، ثم عدل عن الشرح واقترح زيارة غرفةٍ دراسية أخرى.
وسمعوا من خلف باب في الدهليز، الذي يؤدي إلى حجرة الجغرافيا للطلبة «−ب» صوتًا عاليًا يرنُّ مناديًا: «واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة.» ثم ينادي بعد ذلك بصوتٍ يدلُّ على القلق والتعب: «عودوا كما كنتم».
فشرحت لهم كبيرة المعلماتِ ذلك قائلةً: «هذا تدريب مالتسي، إن أكثر بناتنا خناثٌ بطبيعة الحال، وأنا نفسي خُنثى.» وابتسمت لبرنارد ثم قالت: «ولكن لدينا زهاء ثمانمائة فردٍ غير معقمين بحاجةٍ إلى تدريب مستمرٍّ.»
وعرفَ جون في حجرة الجغرافيا للطلبة «−ب» أن «منطقة المتوحشين مكان لا يستحق تكاليف التمدين نظرًا للظروف المناخية أو الجيولوجيَّة غير الملائمة، أو لفقرِ الموارد الطبيعية»، وسمع طقَّةً خفيفة أظلمتِ الغرفة بعدها، وبغتةً ظهرت على الستار فوق رأس الأستاذ صور «التائبين» في أكوما سجَّدًا أمام العذراء مولولين — كما سمِعهم جون من قبل — ومعترفين بآثامهم أمام المسيح المصلوب، وأمام تمثال نسر بوكونج، وحق لشباب أيتن أن يقهقهوا عندئذٍ ضاحِكين، ونهض التائبون على أقدامهم وهم لا يزالون يولولون، ونضَوا ثيابهم الخارجية وبدءُوا يضربون أنفسهم بسياطٍ معقَّدة ضربات متواليات، وتعالى الضحكُ حتى لم تعُدْ أناتهم المسجلة بتمامها تبلغُ الأسماع.
وسأل الهمجي في حيرة المتألم: «ولكن لماذا يضحكون؟»
والتفتَ المدير نحوَه بوجهٍ ارتسمت عليه ابتسامةٌ عريضة قائلًا: «لماذا؟ لأن هذا أمر غاية في الغرابة.»
وفي ضوءٍ خافت كضوءِ السينماتوغراف، تجرأ برنارد على حركةٍ ما، كان في الماضي لا يجسر على أدائها حتى في الظلامِ الدامس، ذلك أنه — وقد شجَّعتْه أهميته الجديدة — طوَّق بذراعه خصرَ كبيرة المعلمات، وطاوعتْه وتثنى عودُها، وأوشك أن يختطفَ منها قبلةً أو اثنتين وقرصة خفيفة، حينما طقطقت النوافذ ثانية، وهي تتفتح.
فقالت مِس كيت: «يحسن أن ننصرف، وسارتْ نحو الباب.»
وقال المدير بعد لحظة: «وهذه هي غرفة مراقبة التعليم بالايحاء.»
وكانت مئات صناديق الموسيقى المركبة — وقد اختصَّتْ كل غرفة من غُرف النوم بواحدٍ منها — مصفوفة على الرفوف حول ثلاثةٍ من جدران الغرفة، وعلى الجِدار الرابع لفائفُ من الورق عليها خطوط صوتية، وقد وضعت في عيون وطبعت عليها الدروسُ الايحائية المختلفة.
وقاطع برنارد الدكتور جافني قائلًا: «إنكم تدسُّون لفافةَ الورق هنا، وتضغطون على هذا المفتاح إلى أسفل …»
فصححه المدير مُغضَبًا وقال: «كلا، لا تضغطْ على هذا المفتاح.»
– «إذن فهو هذا، ثم تحلُّ اللفافة، وتحول خلايا السلنيوم الهزات الضوئية إلى موجاتٍ صوتية، ثم …»
وختم الدكتور جافني حديثه قائلًا: «وهذا كل ما في الأمرِ.»
وسأل الهمجي وهم يسيرون في طريقِهم إلى معامل الكيمياء الحيوية بجوار مكتبة المدرسة، قال: «هل يقرءُون شيكسبير؟» فقالت كبيرة المعلمات، وقد اعتراها الخجل: «كلا بالتأكيد.»
وقال الدكتور جافني: «إن مكتبتنا لا تحتوي إلا على المراجع، فإذا أراد شبابنا الترفيه تلمسوه في دور الصور المحسة، إننا لا نشجعهم على الاعتكاف معتزلينَ أثناء اللهو.»
وعندئذٍ انزلق إلى جوارِهم على الطريق المزجَّجِ خمسُ سيارات كبيرة، تحمل عددًا من البنين والبنات يُلقون الأناشيد أو يتعانَقون صامِتين.
وكان برنارد يسرُّ همسًا إلى كبيرة المعلمات يحدِّدُ معها موعدًا للقاءٍ في ذلك المساء، عندما قال الدكتور جافني: «إنهم عائدون الآن من حمأة إحراق الأجساد، إن تكييفَ الموت يبدأ بعد ثمانية عشر شهرًا، فيقضي كل طفل صغير صباحين من كل أسبوع في مستشفى المَوتى، هناك توجد أحسن اللعب، وتقدم إلى الأطفال الشكولاتة بالقشدة في أيام الموت، ويتعلمون أن يتقبَّلُوا الموت كأنه أمر طبيعي.»
وعلقت كبيرةُ المعلمات على ذلك مُبديةً أستاذيتها وقالت: «كأية عملية فسيولوجية أخرى.»
في الساعة الثامنة عند سافوي، وتم الاتفاق على كل شيء.
وفي طريق عودتهم إلى لندن وقفوا عند مَصنعِ شركة التلفزيون في برنتفورد، وسألَهم برنارد: هل تسمحونَ بالانتظار هنا لحظةً، حتى أذهبَ وأتحدثَ بالتلفون ثم أعود؟
وانتظر الهمجي مراقبًا. وكان عمال النهار الأساسيون ينصرفون من العملِ آنئذٍ، وجمهور من عمال الطبقة السفلى يصطفُّ واحِدًا في إثر الآخر أمامَ محطة الترام، الذي يسير على قَضيبٍ واحد سبعمائة أو ثمانمائة رجل وامرأة من «ﺟ، ء، ﻫ»، يشتركون جميعًا فيما لا يزيدُ عن اثنتي عشرة صورة مختلفة من صور الوجوه والقامات، وقد أمد العامل المختص بحَجزِ المحِلات لكل منهم — وهم يحملون تذاكرهم — صندوقًا صغيرًا من الورق الغليظ، يحتوي على حُبوبٍ للدواء، وكان الصفُّ الطويل من الرجال والنساء يتحرَّكُ إلى الأمام ببطء كما تتحرك الدودة.
ولما عاد إليهم برنارد استفسر منه الهمجيُّ — وقد تذكر قصة «تاجر البندقية» — عما بتلك الصناديق.
فأجابه برنارد بشيءٍ من الغموض قائلًا: «ذلك مقرَّرُ السوما اليومي.» ويرجع ذلك الغموض إلى أنه كان يلوكُ في فمِه قطعةً من لبان بنتو هوفر، ثم قال: «إنهم يتناولونها عقب انتهائهم من العمل، أربعة أقراص زِنةُ الواحد منها نصفُ جرام، وست يوم السبت.»
وتأبط ذراع جون بعطفٍ شديد، وسارا معًا عائدين نحو الطائرة.
وأتت ليننا إلى غُرفة التغيير وهي تغني.
قالت فاني: «يبدو لي أنك في نشوةٍ من سرور.»
وأجابت قائلة: «نعم إني جدُّ مسرورةٍ.» وزرَّتْ ثيابها ثم قالت: «لقد تحدث إليَّ برنارد بالتلفون منذ نصف ساعة.» وزرت زرَّين وبرز ساقاها من سِروالها القصير، ثم قالت: «إن لديه موعدًا لم يكن يتوقعه.» وزرَّتْ زرًّا آخر «وسألني إن كنت أستطيع أن أصحَبَ الهمجي إلى دار الصور المحسة هذا المساء، فلا بد أن أطير.» وهرولت نحو الحمَّامِ.
وقالت فاني محدِّثةً نفسها، وهي تراقبُ ليننا في ذهابِها: «إنها فتاةٌ محظوظة!»
ولم يكنْ في تعقيبها شيء من الحسَدِ، وإنما كانت فاني — وهي تلك الفتاة الطيبة — تقرر حقيقة واقعة. أجل لقد كانت ليننا سعيدة الحظ، كانت سعيدة؛ لأنها ساهمت مع برنارد بنصيبٍ وافر في شهرة الهمجي الواسعة، وكانت سعيدة لأنها اشتركت بشخصها الضعيف، في إشادة المجد الرفيع الطريف، الذي ساد في ذلك الحين، ألم تطلب إليها سكرتيرة جمعية الشابات الفورديات أن تلقي محاضرةً في مغامراتِها؟ ألم تُدعَ إلى حفلة العشاء السنوية في نادي أفروديت؟ ألم تظهر في الجريدة الإخبارية في دار الصُّوَر الغنائية المحسة؟ لقد ظهرتْ لملايين لا تُحصى من البشر فوق هذا الكوكب، فرأوها وسمعوها وأحسوها.
ولم يكن ما أبداه الأفراد البارزون نحوها من اهتمامٍ بأقلَّ من ذلك دهانًا، فقد دعاها إلى العشاء وإلى الإفطار السكرتير الثاني لمراقب العالم المقيم، وقضت عطلةَ نهايةِ الأسبوع مرة مع كبير قضاة الدولة، وعطلة أخرى مثلها مع كبير منشدي كنتربري، ولم يفتُرْ عن التكلم معها بالتليفون مدير شركة الإفرازات الداخلية والخارجية، وقد زارت دوفيل مع نائب مدير بنك أوروبا.
واعترفت لفاني بقولها: «حقًّا إنها لحياةٌ عجيبة، غير أني لا أخلو من الشعور بأني أظفر بهذه الخطوة على دعوى باطلة؛ لأنَّ أول ما يريدون العلم به هو — بالطبع — نوع الشعور الذي يحس به المرء إذا بادَلَه العشق أحد المتوحشين، ولا بدَّ لي أن أقولَ لهم: إني لا أدري.» وهزت رأسها ثم قالت: «وأكثرهم لا يصدقني بطبيعة الحال، ولكني صادقة وكم وددت لو لم أكن.» ثم تنهدت آسفةً وقالت: «إنه جميلٌ للغاية، ألستِ تظنين ذلك؟»
وسألتها فاني قائلةً: «ولكن ألا يحبك؟»
– «أظن أحيانًا أنه يحبني، وأحيانًا أخرى أظن أنه لا يحبني، إنه دائمًا يبذلُ ما وسعه من جهدٍ ليتجنَّبَني، فيخرج من الغرفة إذا دخلتها ولا يمسني، بل ولا ينظر إليَّ، ولكني أحيانًا عندما ألتفت فجأة أراه محدقًا فيَّ، ثم … أنت بالطبع تعرفينَ كيف يكون مظهر الرجل إذا أحبَّ المرأة.»
نعم كانت فاني تعرف ذلك.
وقالت ليننا: «لستُ أدرك الحقيقة.»
إنها لم تدركِ الحقيقة، ولم تكن متحيزة فحسب، بل لقد كانت مضطربةً كذلك.
– «لأني أنا أحبُّه يا فاني.»
وازداد حبُّها له تدريجًا، والآن أتيحتْ لها فرصةٌ حقيقية — كما ظنتْ وهي تشم رائحتها بعد الحمام، تلك فرصة طيبةٌ ارتعدتْ لها فرائصها، وأخذت تنشد من فرط الطرب:
كان أرغن العطور يتضوَّعُ بأنغام الروائح المختلفة المنعشة الممتعة — من السَّعتر والخُزامي وحصا البان والريحان والآس وغيرها، وتعقُب ذلك ألحان جريئة من مفاتيح الطيب والعنبر، ثم يعود الأرغن إلى نشرِ عبيرِ الصندل والكافور والأرز والبرسيم المحصود من عهدٍ قريب (ويتخلَّلُ ذلك بين الفينة والفينة نشاز طفيف من رائحة حلو الكلى، ونفحة خفيفة من رَوث الخنزير)، ثم يعود إلى العطور الخفيفة التي بدأتْ بها القطعة العطرية، وتلاشتْ نغمة السَّعترِ الأخيرة، وأظهرَ الجميع استحسانَهم، وأُشعلتِ الأضواء، وفي أثناء عزف آلة الموسيقى المركبة بدأت تنحل لُفافة الورق التي ارتسمت عليها الخطوط الصوتية، وامتلأ الجو الآن بالثالوثِ الصوتي الرخيم، الذي يتألف من الكمان القوي والكمان الأجوف العظيم والمزمار الطَّريف، وعزفت الموسيقى ثلاثين أو أربعين نغمة، وفي هذا الجو الموسيقي الآلي، أخذ صوتٌ أرقُّ من صوت الإنسان يتغنَّى، وكان الصوتُ يخرج من الحلق حينًا، ومن الرأس حينًا آخر، أجوف كالناي مرة، ومشبعًا بالنغمات المؤتلفة الشائعة مرة أخرى، وهو يتدرَّجُ بغير عناء من نغمة جاسبارد فرستر المنخفضة، التي تقع على حافة الأنغام الموسيقية إلى النغمة العالية، التي ترتفع كثيرًا عن أعلى «ﺟ»، التي لم يتفوَّهْ بها بدقَّةٍ ووضوح غير لوكربزيا آجوجاري وحدها مرة من بين المغنين جميعًا في خلال العصور التاريخية كلها (وذلك في عام ١٧٧٠ في أوبرا الدوق ببارسا، وقد دُهش لها موزار دهشة كبرى).
واستقرَّ الهمجي وليننا في مقعدين منتفخين بالهواء، يستنشقان ويسمعان، ثم جاء دور العيون والجلد.
وأطفئَتْ أنوار البيت وظهرت في الظلام أحرُفٌ نارية بارزة، كأنها معلَّقة في الفضاء لا ترتكز على شيء، وقد كتبت هذه الأحرف بخطٍّ عريض «ثلاثة أسابيع بالطائرة، دار للصور المحسة المجسمة ذات الغناء الممتاز، والنطق الصناعي، والألوان، مصحوبة بأرغن العطور في آنٍ واحد».
وهمست ليننا قائلة: «اقبض على هذه العقد المعدنية المتصلة بذراعَي مقعدك، وإلا ما أحسست بالآثار الملموسة.»
وفعل الهمجي كما أمرت.
وعندئذ اختفت تلك الأحرفُ النارية، وأظلمَ المكان ظلامًا تامًّا نحو عشرِ دقائق، ظهرتْ بعدها فجأة صورة مجسَّمة لزنجيٍّ ضخم مع امرأة ذهبية الشعر شابَّة صغيرة الرأس من طراز «+ب»، وهما متعانقان، والصورة تبهر النظر، وهي أشد تجسيمًا منها لو كانت حية فعلًا دمًا ولحمًا بدرجةٍ لا تقارن، واقعية أكثر من الواقع بدرجةٍ كبيرة.
وذعر الهمجي، وكان الإحساس على شفتيه! ورفع إحدى يديه إلى فمِه، وسكتت الدغدغةُ حينًا فأرخى يده على العُقدة المعدنية، فبدأتْ من جديد، وأرغن العطور في تلك الأثناء يتنفس عن المسك النقي، وفي النهاية ترنمت حمامةٌ من صندوقٍ صوتي مرددة هذا الصوت «أوه، أوه.» وجاوبتها نغمة محزنة أعمق من النغمة الإفريقية تتذبذب اثنتين وثلاثين مرة في الثانية فقط مرددة هذا الصوت: «آه، آه». وعادت الشفاهُ المجسمة تردد الصوت الأول، ورددت مرةً أخرى المناطق الحسية في وجوه ستة آلاف متفرج في الهمبرا سرورًا كهربيًّا لا يحتمل، عندما سمعوا هذا الصوت: «أوه …»
وكان موضوع القصة المصورة غاية في البساطة، فقد حدثتْ للزنجي حادثةٌ في إحدَى الطائرات وسقط على رأسه، وأحست الجباه بوقع الصدمة، وعلت أصوات المتفرجين مردِّدينَ هذه الأصوات: «أوه، آه» — وذلك كله بعد بضع دقائق من «الأوهات والآهات» الأولى. (وبعدما تغنت فرقتان معًا بنشيدٍ من الأناشيد، وبعدما تمثل دور قصير من أدوار الحب فوق جلد الدب المشهور، وكل شعرة فيه تُحس وحدها واضحة — ولقد أصاب مساعد مدير المصائر كل الإصابة).
وحوَّرت الصدمة تكييف الزنجي كل التحوير، فاشتدَّ ميله إلى الفتاة الشقراء من طراز «ب» وجن بها، واحتجَّتْ، وأصر على ميله، وظهر له منافس، تشاجر معه وطارده وتهجَّمَ عليه، وأخيرًا اختُطفت الفتاة الشقراء وأثارت بذلك هزةً كبرى، واغتُصبت الشقراء «ب»، وطارت نحو السماء وبقيت هناك محلقة، ولبثت ثلاثة أسابيع في جدلٍ وحشي غير اجتماعي مع الرجل الأسود المجنون، وأخيرًا بعد سلسلة كاملة من المغامرات وألعابٍ بهلوانية كثيرة، نجح ثلاثة شبان من طراز «أ» في إنقاذها، ونُقل الزنجي سريعًا إلى مركز لإعادة تكييف البالغين، وانتهت القصة المصورة انتهاء سعيدًا لائقًا، بعدما أصبحت الشقراء «ب» سيدة على منقذيها الثلاثة، وقد قاطعوا أنفسهم لحظة كي ينشدوا رباعية مركبة مصحوبة بأركسترا رفيعة كاملة ورائحة الجاردينا على أرغَن العطور، ثم ظهر جلد الدب للمرة الأخيرة، ووسط دوي السكسوفونات تلاشت في الظلام آخر قبلة مجسمة، وبادت الدغدغة الكهربية الأخيرة على الشفاه، كما تَبيدُ السوسة وهي ترتجف، وأخذت تضعف وتفتر حتى سكنت في النهاية سُكونًا تامًّا.
ولكن هذا الإحساس لم يفنَ عند ليننا كل الفناء؛ فإن أثره ما برح يهتزُّ على شفتيها، وما فتئ يسري في جلدها مُحدِثًا رعدة لطيفة من الشوق والسرور، حتى بعد أن أشعلت الأضواء، وهم يخطرون مبطئين مع الجُمهور صوبَ المصاعد، واحمرَّت وجنتاها، ولمعت عيناها كقطرات الندى، وتنفست الصُّعَداء، ثم أمسكت بذراع الهمجي وضمتها — وهي مرتخية — إلى جنبها، وأطلَّ عليها لحظة، وهو شاحب اللون، متألم، متشوق، وخجل من تشوقه، إنه ليس جديرًا … والتقت عيونهما برهة من الزمن، ورأى في عينيها كنوزًا موعودة؛ أنَّهما ينمان عن مزاجٍ يصح أن تفدى به الملكات، وأشاح ببصره مسرعًا، وأطلق ذراعه الحبيسة، وانتابه خوف غامض؛ خشية أن تكف عن ظهورها بمظهر يشعره بأنه غير جدير بها.
قال: «ولست أظن أنه ينبغي لك أن تنظري إلى الأشياءِ بهذه العين».
وقد حاول في الحال أن ينسب القصور عن الكمال في الماضي، أو احتمال ذلك في المستقبل إلى الظروف المحيطة دون ليننا نفسها.
– «أي أشياء؟»
– «أمثال هذه القصة المصورة المريعة.»
ودهشت ليننا حقًّا وقالت: «مريعة؟ إني كنت أحسبها جميلة؟»
فقال محنقًا: «لقد كانت وضيعة غير شريفة.»
وهزَّتْ رأسها وقالت: «لست أعرف ما تعني.» وتعجبت من شدَّة غرابته، وتساءلت لماذا يشذ ويفسد الأشياء.
وفي الطائرة التي استأجراها لم يكد ينظر إليها، بل لقد جلس منصرفًا عنها في صمتٍ، متقيِّدًا بمواثيقَ قوية لم ينطق بها أحد، ومطيعًا لقوانين لم تسْرِ من زمانٍ بعيد، وأحيانًا يهتزُّ جسمُه كله بغتةً جافلًا جفولًا عصبيًّا، كأن أصبعًا يضرب على وترٍ مشدود يكاد ينقطع من التوتر.
وهبطت الطائرة على سطح بيت ليننا، وابتهجت وهي تخرج من الطائرة؛ لأن الرحلة قد بلغت نهايتها، وكأن رفيقها كان غريب الأطوار حتى اللحظة الأخيرة، ووقفت تحت مصباح وتطلعت إلى مرآةٍ يدوية، وأخيرًا عادت من رحلتها! وكان أنفها يلمع قليلًا فنثرت فوقه مسحوقًا دقيقًا من قرص ناعم كانت تحمِلُه من أجل ذلك، وانتهزت فرصة الفترة التي كان يدفع فيها أجر الطائرة، ونثرت المسحوق فوق أنفها، وأطفأت بريقه، وفكرت في نفسها: «إنه جميلٌ للغاية، وليست به حاجة إلى الخجل مثل برنارد، ومع ذلك … فلو كان أي رجل آخر غيره لفعل الفعلة من زمانٍ طويل، والآن لقد انتهت الرحلة.» وطالعتها بغتة ابتسامة من ذلك الجانب من صورة وجهها الذي انعكس في المرآة الصغيرة المستديرة.
وسمعت صوتًا مختنقًا خلفها يقول: «مساء الخير.» والتفتت ليننا خلفها، فإذا به واقف لدى باب الطائرة وعيناه مثبتتان محملقتان، وكان محدقًا فيها طوال المدة التي كانت تمسح فيها أنفها بالمسحوق، منتظرًا ولكن لماذا؟ أو متردِّدًا ومحاولًا أن يصل إلى قرار، وسابحًا كل الوقت في الفكر، ولم تستطع أن تتصور ماذا عسى أن تكون تلك الأفكار الشاذَّة، وكرر قوله: «مساء الخير يا ليننا.» وتقلص وجهه تقلصًا غريبًا وهو يحاول الابتسام.
– «ولكن، جون … لقد كنت أحسب أنك … أعني … ألست …؟»
وأغلق الباب وانحنى إلى الأمام كي يُسرَّ إلى السائق بكلمة، ثم انطلقت الطائرة في الفضاء، وأطل الهمجي من النافذة التي في أسفلها، فأمكنه أن يرى وجه ليننا وقد التفتت إلى أعلى، شاحبًا في ضوء المصابيح الضارب إلى الزرقة، وثغرها منفرج وهي تنادي، وقد تضاءل حجمها وهو ينظر إليه من علٍ، وأخذ يغيب عنه شيئًا فشيئًا، وبدا له السطح المربع وهو يتناقص حجمًا كأنه يهوي في الظلام.
وبعد خمس دقائق كان في غرفته، وأخرج مجلَّدَه من مخبأه وقد قرضته الفئران، وقلب صفحاته الملوثة المتغضنة كأنه يتصفح كتابًا مقدسًا، وشرع يقرأ مسرحية «عطيل»، وتذكر أن عطيلًا يشبه بطل «ثلاثة أسابيع في الطائرة» — كلاهما أسود.
وعبرت ليننا السطح تقصد المصعد وهي تجفِّفُ عينيها، وفي طريقها إلى أسفل نحو الطابق السابع والعشرين أخرجت زجاجة السوما، وقررت أن جرامًا واحدًا لا يكفي؛ فإن الكارثة التي ألمت بها أفدح من أن يزيلها جرام واحد، ولكنها إن تناولت جرامين تعرضت لتأخير يقظتِها في صبيحة اليوم التالي، فاتخذت حلًّا وسطًا، وهزت صندوق السوما وأفرغت منه في راحةِ يُسراها، بعدما جعلتها شبيهة بالكأس ثلاثة أقراص زنةُ الواحد منها نصفُ جرامٍ.