الفصل الثاني عشر
واضطر برنارد إلى الصياح خلال الباب المغلق، ولكن الهمجي لم يفتحه.
– «إنهم جميعًا هناك بانتظارِك.»
فردَّ عليه صوتٌ خافت خلالَ الباب قائلًا: «فلينتظروا.»
– «ولكنك تعرف جيدًا يا جون أنني دعوتهم عمدًا للقائك (وكان من العسير أن يكون حديثه مغريًا، وهو يتكلَّمُ بأعلى صوته).»
– «كان ينبغي لك أن تسألني أولًا، إن كنت أريد أن أقابلَهم.»
– «إنك كنت دائمًا مقدَّمًا يا جون.»
– «ومن أجل هذا بالذات لا أحبُّ أن أعود.»
فتودد إليه برنارد وجأر قائلًا: «تعال كي تسرَّني، أَلَا تحب سروري؟»
– «كلا.»
– «هل أنت جادٌّ؟»
– «نعم.»
وولول برنارد يائسًا وقال: «ولكن ماذا عساي صانع؟»
وصرخ جون من الداخل محنقًا وقال: «اذهبْ إلى سقر.»
وكان الدمع ينهمر من عيني برنارد وهو يقول: «ولكن كبير منشدي كانتربري هناك الليلة.»
ولم يستطع الهمَجيُّ أن يعبر تعبيرًا دقيقًا عن إحساسه تجاه كبير المنشدين إلا بلغة زوني، فقال: «آي يا تاكوا!» وبعد فترة عنَّ له أن يقول: «هاني!» ثم قال بوحشيةٍ وازدراء: «ستزايد تسارنا.» وبصَقَ على الأرض، كما يفعل بوبي لو كان في موضعه.
واضطر برنارد في نهاية الأمر إلى أن يتسلل — وهو منكمش — إلى مسكنه، ويخبر الجماعة القَلِقة أن الهمجي لن يظهر ذلك المساء، وقُوبلَ الخبرُ بالغضب الشديد، وحنق الرجال لأن هذه الخدعة اضطرتهم إلى التأدب في السلوك مع هذا الشخص الزريِّ، صاحب السمعة المنفرة والآراء المتزندقة، وكلما علا الواحد منهم في سلم المراكز الاجتماعية زاد استياؤه.
ولبث كبيرُ المنشدين يكرر قوله: «كيف تسخرون مني أنا هكذا!»
أما النسوة فقد أحسَسْن وهن حانقات أن مخلوقًا من طراز «−ﺟ» الجثماني — رجلًا قميئًا تعسًا صُبَّ الكحول في قارورته خطأ — قد خدَعَهُن بالمظاهر الكاذبة؛ فهاج النسوة وعلا صوتهن بالاحتجاج، وكانت كبيرة المعلماتِ أشدهن شعورًا بالإيذاء.
وسكتت ليننا وحدها عن الكلام، وانتحت زاوية من المكان، وعزلتها عمن أحطن بها عاطفة لم يشاركْنها الإحساس بها، وشحب لونُها وخيَّمتْ على عينيها الزرقاوين سحابةٌ من الغم الذي لم تعهده من قبل، لقد أتتْ إلى هذا الاجتماع يملأ نفسَها شعورٌ غريب من الجذل والشوق، كانت تحدِّث نفسها وهي تدخل الغرفة وتقول: «سوف أراه بعد بضعِ دقائق، وأتحدث إليه، وأخبره أني أحبه أكثر من أي شخصٍ آخر عرفت (وقد جاءت بهذا العزم المصمم)، وربما يقول لي بعد هذا …»
– «ماذا يقول؟ لقد تدفق الدم في وجنتيها.»
– «لماذا كان غريبًا جدًّا تلك الليلة بعد الذي شَهِدنا في دار الصور المحسة؟ كان غريبًا جدًّا، ولكني برغم هذا على ثقةٍ تامة بأنه يحبُّني، إني واثقة …»
وفي تلك اللحظة ألقى برنارد تصريحه بأن الهمجي لن يحضر الجمعية.
فشعرتْ ليننا فجأةً بكل الإحساسات التي تمرُّ بالمرء عادةً عند بدء علاج عاطفة عنيفة من العواطف المستحدثة؛ أحسَّتْ بفراغٍ مريع، وبخوف تتقطَّعُ منه الأنفاس، وبالقرف الشديد، وكأن قلبها قد سكتت نبضاته.
وحدثت نفسها قائلة: «ربما كان ذلك لأنه يحبني.» وقد تحوَّل هذا الشكُّ بغتةً إلى يقين، إن جون قد أبى الحضور لأنه لم يحبَّها، إنه لم يحبها.
وكانت كبيرةُ معلماتِ أيتن تقول لمدير الإحراق واسترداد الفسفور: «عندما أفكر أني فعلًا …»
وسمع صوت فاني كراون وهي تقول: «نعم إن رواية الكحول صادقة جدًّا، إن إحدى صديقاتي كانت تعرف شخصًا ممن كانوا يشتغلون في مخزن الأجنَّة في ذلك الحين، وقد ذكرت ذلك لصاحبتي، وقالت لي صاحبتي …»
وقال هنري فستر، وهو يعطف على كبير المنشدين: «الأمر سيئٌ للغاية، وقد يشوقك أن تعرف أن مديرَنا السابق أوشكَ أن ينقله إلى أيسلنده.»
وكان برنارد في نشوةٍ من ثقة النفس، فوخَزَتْه كل كلمة قيلت بشأنه، وتزَعْزَعت تلك الثقة من نواحٍ عدة، وأخذ يتجوَّلُ بين ضيوفه شاحب اللون، ثائرًا مخبولًا شاعرًا بضعته، يتلجلجُ بعبارات الاعتذار المتفككة مؤكدًا لهم أن الهمجي سيحضر قطعًا في الاجتماعِ التالي، ومتوسِّلًا إليهم أن يتريَّثُوا حتى يتناولوا شطيرة من الشريان السباتي وشريحة من فيتامين «أ» باتي وزجاجة من الشمبانيا الجديدة، وانكبُّوا على الطعامِ في الحال وقد تجاهَلُوه، وشربوا، وجابهه بعضُهم بالوقاحة، وتحدَّثَ بعضهم إلى بعضٍ بشأنه مسيئين إليه وصائحين كأنه لم يكن معهم.
وقال كبير منشدي كانتربري بذلك الصوت الجميل الرنَّان، الذي كان يُلقي به الخطابَ يوم الاحتفال بعيد فورد: «والآن يا رفاقي، أظن أنَّ الوقت قد حان …» ثم نهَضَ وألقى كوبه، وأزال بالفرجون عن صِداره الأرجواني اللَّزج فُتاتَ الوجبة الكبيرة التي تناولها في غير أوانها، ثم سار نحوَ الباب.
وانطلق برنارد كالسَّهم إلى الأمامِ كي يقطعَ عليه الطريق.
– «هل لا بدَّ لك حقًّا يا كبير المنشدين …؟ ما زال الوقت باكرًا جدًّا، وكنت أتعشم أنك …»
وذكر برنارد في تذاكر الدعوة متفاخرًا: «مقابلة كبير منشدي كانتربري والهمجي.» لكن الهمجي اختار هذا المساءَ دون الأمسية الأخرى جميعًا، ليَحبس نفسَه في حجرته ويصيح: «هاني.» بل ويقول: «سنز ايسو تسانا!» (وكان من حسن حظ برنارد أنه لا يفهم لغة زونو)، وقد انقلبت اللحظة التي كان ينتظرُ برنارد أن يبلغ فيها القمةَ في تاريخِ حياته كلها إلى لحظةِ إذلال شديد.
وتلجلج وهو يكرِّرُ قوله: «لقد كنت كبير الأمل …» وقد رفع بصرَه إلى ذلك الرجل العظيم الكريم، وفي عينيه دلائل التوسل والذهول.
واقتفت ليننا أثره وهو يخرجُ من الغرفة، مطيعةً له غير باسمة ولا متغطرسة (لأنها لم تدرك ما نالها من شرف)، وتبعهم بقيةُ الضيوف بعد فترةٍ لا بأسَ بها، وأغلقَ آخرُهم البابَ محدثًا به ضجيجًا، وبقي برنارد وحده.
فاستلقَى على أحدِ المقاعد وقد فقد هيبَته، وضاعت كل ثقته في نفسه، وحجب وجهَه بيديه وبدأ يبكي، ولكنه بعد بضع دقائق تنبه إلى فكرةٍ طيبة، وتناولَ أربعة أقراص من السوما.
وكان الهمجي في غرفتِه بالطابق العلوي، يقرأ مسرحية «روميو وجوليت».
ونزلتْ ليننا وكبير المنشدين على سَطح معهد الغناء، ونادى كبيرُ المنشدين من أبواب المصاعد، وهو شديد القلق قائلًا: «أسرعي يا صديقتي الشابَّة، أقصد ليننا.» وكانت ليننا قد تلكأتْ لحظة تتطلع إلى القمر، فأغمضَتْ عينيها وأسرَعت تعبر السطحَ؛ كي تلحق به.
فرغ مصطفى مند لحظةً يسيرة من قراءة صحيفة عنوانها: «نظرية جديدة في علم الحياة»، وجلس فترةً ما، متأمِّلًا متجهمًا، ثم التقطَ قلمَه وكتب في الصفحة الافتتاحية: «إن طريقة المؤلف الرياضية في علاجِ فكرة «الغرض» حديثة تدل على نبوغٍ عظيم، لكنها زندقة، وهي — فيما يخص النظام الاجتماعي الراهن — خَطِرة وقد تكونُ هدَّامة.» ثم عقب على ذلك بهذه العبارة: «هذا الكلام لا يُنشَر.» ووضع خطًّا تحت هذه الكلمات، ثم أضاف إلى ذلك قولَه: «إن المؤلفَ سوف يبقى تحت الرقابة، وقد يصبح نقله إلى محطة الأحياء المائية بسنت هيلانة أمرًا لا مندوحة منه.» ووقَّعَ باسمه وهو آسف. لقد كان عملًا جليلًا، ولكن المرءَ إذا بدأ يقبلُ التفسيرَ «بالغرض»، فلا يعلم إلا الله ماذا تكون النتيجة، ذلك نوعٌ من الآراء قد يفسد تكييف أصحاب العقول المذبذبة من أبناء الطبقة العليا؛ فيفقدهم عقيدتَهم في أنَّ السعادة هي الخير الأسمى، وتحل محلَّ ذلك العقيدة بأن الهدف أبعد من ذلك مدى، وخارج عن الدائرة الإنسانية الحاضرة، وإن الغرض من الحياة ليس المحافظة على الرفاهية، وإنما هو تعزيز الوعي وتهذيبُه، أو توسيع المعارف، وذلك — كما رأى المراقب — أمر ممكن صحيح، ولكنه غير مقبول في الظروفِ الراهنة، والتقط قلمه مرة أخرى ورسم خطًّا ثانيًا تحت هذه العبارة «لا يُنشَر»، أغلظ وأشد من الخطِّ الأول سوادًا، ثم تنهد، وفكَّرَ في نفسه قائلًا: «ما أشدها مهزلة لو أن المرء لم يضطر إلى التفكيرِ في السعادة!»
وبعينين مُغمضتين ووجهٍ يتهلَّلُ بِشرًا، كان جون يخطب للفضاء قائلًا:
كان برنارد حينئذٍ مستغرقًا في النوم، يبسِم لفردوس أحلامه الخاصة، لا يفتُر ثغرُه عن الابتسام، وعقرب الدقائق في الساعة الكهربية المعلَّقةِ فوق رأسه، يقفز إلى الأمام مرة كل ثلاثين ثانية بغير توان، وهو يدقُّ دقًّا لا يكادُ يلحظه السامع، وتتابعت دقات الساعة حتى كان الصباح، فعاد برنارد إلى ضروبِ البؤس المختلفةِ في الزمان والمكان، واستأجر طائرةً أقلته إلى مركزِ التكييف وهو أشد ما يكون اكتئابًا، فلقد تبخرت نشوةُ النجاح، وعاد إليه رُشدِه السابق، وأحس كأن نفسه أثقلُ من الجو المحيط بها بدرجةٍ لم يسبق لها عنده مثيل، وبخاصة عند مقارنة هذه الحالة النفسية، بالحالة النفسية المؤقتة التي انتابتْه في الأسابيع الماضية، وكان خلالها فخورًا بنفسِه مزهوًّا.
وكان الهمجي شديدَ العطف على برنارد — بعد ما زال عنه زهوه — بصورةٍ لم تكن متوقعة.
فقال برنارد وهو يقص عليه شكاته: «إنك أشبه بما كنت عليه في مالبي، هل تذكر ساعة تحدثنا معًا لأول مرة؟ خارج البيت الصغير، أنت الآن شبيه بما كنت عليه حينَذَاك.»
– «لأن شقاوتي عادتْ إليَّ، هذا هو السبب.»
– «إني أوثرُ الشقاءَ على ذلك الضرب من السعادة الزائفة الكاذبة التي كنتَ تتمتع بها هنا.»
فقال برنارد بمرارةٍ شديدة: «إني أحبُّ ذلك، وقد كنت أنت السبب في كل ما حدث، أبيت أن تحضر إلى حفلتي فانقلبوا جميعًا ضدي!» وكان يعلم أنَّ قوله هذا تعسف باطل، وكان يعترف في دخيلة نفسه — بل وصراحة آخر الأمر — بصدقِ كلِّ ما كان الهمجي يقولُ حينئذٍ عن تفاهة الأصدقاء، الذين ينقلبون أعداء ألدَّاء لمثل هذا الباعثِ الطفيف، ولكن برغم علمه هذا وإقراره بذلك، وبرغم أن معونة صاحبِه له وعطفَه عليه هي الآن عزاؤه الوحيد، تمرَّد برنارد على نفسه وأخذ ينمي في قلبه — إلى جانب محبته الصادقة للهمجي — ضيقًا خفيًّا منه، ويدبر حملة من أنواعِ الانتقام الخفيفة يصبُّها فوقَ رأسِه، فإن ضيقه بكبير المنشدين لا يجدي، ولا يمكن له أن ينتقمَ من رئيس القوارير أو مساعد مدير المصائر، فكانت للهمجي عند برنارد هذه الميزة الكبرى عليهم، وهي أنه سهل المنال، فهو أصلح للتَّضحيةِ، إن من وظائف الصديق الرئيسية أن يعاني (بصورةٍ خفيفة رمزية) العقوبات التي نحب — ولكنا لا نستطيع — أن نوقعها على الأعداءِ.
وكان هلمهلتز هو صديق التضحية الثاني لبرنارد، فلما انهزم أتاه مرةً أُخرى وتودد إلى صداقته، تلك الصداقة التي لم يكن يرى — وهو في أَوْجِه — أنها جديرة بالرعاية، فمنحه هلمهلتز وده، ومنحه إياه بغير تثريب أو تعليق، كأنه نَسِيَ ما قام بينهما من شِجار، وتأثر برنارد لذلك، وأحسَّ بذلة النفسِ من نخوة صاحبه — وهي نخوة غير عادية — ولذا فهي شديدة الإذلال؛ لأنها لا تدين للسوما بشيءٍ وتدينُ لشخصية هلمهلتز بكل شيء، إن هلمهلتز الذي نسِي وتسامح هو هلمهلتز في حياته اليومية، وليس هلمهلتز وهو في عطلة نصف جرام من السوما، وكان برنارد له شاكرًا (فلقد كان له في عوده إلى صديقه عزاء وسلوى) كما كان عليه ناقِمًا (لأنه مما يسُّره أن ينتقمَ من هلمهلتز لكَرم أخلاقه).
وعندما التقيا لأولِ مرة بعد الفراق، تدفَّق برنارد في حديثِه عن أسباب شقائه وتقبل من صاحبه العزاء، ولم يعلم إلا بعد بِضعة أيام أنه لم يكن وحدَه الرجل الذي عانى المشقَّاتِ (فدهش لذلك وأحسَّ بشيءٍ من الخجَل)، فلقد كان هلمهلتز في نزاعٍ مع أصحاب السلطة والنفوذ، وذلك — كما قال — بشأن القوافي، كنت ألقي دروسي المعتادة في الهندسة العُليا لطلبة السنة الثالثة، والمقرر يقع في اثنتي عشرة محاضرة، السابعة منها في القوافي — أو هي على وجه الدقة في «استخدام القوافي في الدعاية الخلقية وفي الإعلان»، ومن عادتي أن أوضح محاضرتي بكثير من الأمثلة الفنية، وقد فكرت هذه المرة أن أقدِّمَ إليه مثالًا مما كتبت بنفسي من عهدٍ قريب، وهذا بالطبع جنونٌ محض — ولكني لم أستطع المقاومة.» وضحك ثم قال: «وكنت مشغوفًا بأن أشهد تأثرهم به.» ثم قال في حزمٍ شديد: «وأردت — فوق ذلك — أن أقوم بشيءٍ من الدعاية، كنت أحاول أن أهندسهم حتى يحسُّوا بإحساسي عندما كتبت تلك القوافي، يا لله!» ثم ضحِكَ مرةً أخرى وقال: ما أشدَّ ما أثرتَ من احتجاج! لقد استدعاني المدير، وهدَّد بفَصلي في الحال، فأنا رجلٌ بارز.
فسأله برنارد: «وماذا نظمت من قوافٍ؟»
– «قصيدة في العزلة.»
فرفع برنارد حاجبيه إلى أعلى.
«سأنشدك إياها إن أردتَ.» وأنشد قائلًا:
– «قدمت لهم هذه القصيدة مثالًا، فرفعوا أمري إلى المدير.»
فقال برنارد: «ليس في هذا ما يدهشني، فهو يعارض بصراحة كل ما تعلموه بالإيحاءِ، أذكر أنهم أنذروا ربع مليون مرة على الأقل ضدَّ العزلة.»
– «أعرف ذلك، ولكني أردت أن أرى ماذا عسَى أن يكون الأثر.»
– «ولقد رأيت الآن.»
فلم يسع هلمهلتز إلا أن يضحكَ، وقال بعد فترة سكون: «أشعر كأني بدأت أظفر بموضوعٍ أكتب فيه، كأني بدأت أتمكَّنُ من استخدام تلك القوةِ التي بداخلي — تلك القوة الزائدة الدَّفينة، كأنَّ شيئًا يُقبل عليَّ.» وظهر لبرنارد أنه برغم كل متاعبه جد سعيد، وائتلف هلمهلتز مع الهمجي في الحال، وكان ائتلافهما قلبيًّا حقًّا، حتى إن برنارد أحس بوخز الغيرة الحاد، فإنه خلال تلك الأسابيع جميعًا لم يألف الهمجي تلك الألفةَ الشديدة، التي حقَّقها هلمهلتز في الحال، وكان أحيانًا وهو يرقبهما ويصغي إلى حديثهما، يشتد استياؤه ويود لو أنه لم يجمع بينهما البتة، وخجِل من غيرته وقابل ذلك بمجهودٍ إراديٍّ وتناول السوما؛ كي يقيَ نفسه من الإحساس به، ولكن جهدَه لم ينجح كل النجاحِ، وكان لا مناصَ من أن تقع بين عطلةٍ سومية وأخرى فترة من الغيرة، وعاودته هذه العاطفة الكريهة بين الفَينة والفينةِ.
ولما التقى هلمهلتز بالهمجي للمرة الثالثة أنشد قصيدته في العُزلة، وبعدما أتمَّها سأله: ما رأيك فيها؟
فهزَّ الهمجي رأسه وأجابَ قائلًا: «أصغِ لهذه.» وفض قفل القِمَطر الذي كان يحفظ فيه كتابَه الذي قرضته الفيران، وفتَحَه وقرأ ما يلي:
وثارت مشاعر هلمهلتز تدريجًا وهو يُصغي إليه، ولما بلغ الهمجي قوله: «الشجرة العربية المنعزلة» ذعر صاحبه، ولما بلغ قوله: «أنت أيها البشير الصارخ» سُرَّ سرورًا مباغتًا فابتسم، وعند قوله: «كل طائر ذي جناح مستبد» تدفق الدمُ في وجنتيه، ولكنه شحب وهزَّتْه عاطفة لا عهد له بها عند قوله: «الموسيقى البائدة.» وواصل الهمجي القراءةَ منشدًا:
فقاطع برنارد القراءةَ بضحكةٍ عالية مَمقوتة قائلًا: «شولم، شولم، ليس هذا الشعر إلا أنشودة من أناشيد صلاة الجماعة.» وكان ينتقم لنفسه من صديقيه؛ لأن كلًّا منهما أحبَّ الآخر أكثر مما أحبه.
وكثيرًا ما عاد إلى هذه الطريقة الانتقامية في الاجتماعين أو الثلاثة اللاحقة، وكانت طريقة ميسورة وبالغة الأثر؛ لأن هلمهلتز والهمجي كليهما كانا يتألَّمان أشد الألم، لتهشيم هذه الجوهرة الشعرية المستحبة وتَدنيسها، وهدَّدَه هلمهلتز في النهاية بطرده من الغرفة، إذا تجرأ على مقاطعتهما مرةً أخرى، وعلى ذلك فإنه مما يدعو إلى العجَب إن المقاطعة التالية — وهي أشد خِزْيًا من كل ما سبقها — صدرت من هلمهلتز نفسه.
كان الهمجي يقرأ مسرحية «روميو وجوليت» بصوتٍ مرتفع، وكان يقرأ بعاطفةٍ قوية ورعدة شديدة (لأنه كان طوال الوقت يرى نفسه كروميو وليننا كجوليت)، وأصغى هلمهلتز إلى الفصل الذي التقى فيه العاشقان لأول مرة باهتمام تشوبه الحيرة، وسرَّهُ الشعر الذي جاء في الفصل الذي حدثتْ وقائعُه في الحديقة، لكنه ابتسم للعواطف التي عبر عنها الشاعر، وأضحكه جدًّا أن يبلغ العاشق تلك الحال لأنه يشتهي فتاة، ولكن التفاصيل الحرفية كانت قطعة رائعة من فنِّ هندسة العواطف! فقال: «إن هذا الرجل القديم يُزري كل الزراية بخيرة الفنيين في الدعاية عندنا.» وابتسم الهمجي ابتسام الظافر المنتصر واستأنفَ القراءةَ، وسارتِ الأمور على ما يُرام، حتى كان المنظر الأخير من الفصل الثالثِ، حيث بدأ كابيولت والسيدة كابيولت يهددان جوليت كي تتزوج من بارس، وكان هلمهلتز قلقًا خلال المنظر كله، ولكنه انفجر في ضحكٍ لم يستطع كتمانه، عندما مثل الهمجي جوليت بصوتٍ يثير الحزن، وهي تقول:
عجبًا للأم والأب (ويا لهما من لفظتَين غايةً في الدنس) يرغمان ابنتَهما على الزواج من رجل لا تريده! وعجبًا لهذه الفتاة البلهاءِ لا تقول إنَّ لديها رجلًا آخرَ تؤثره! (في ذلك الحين على الأقل) إن الموقف بسُخفه وفُحشِه يثيرُ الضحك بدرجةٍ لا تقاوَمُ، وقد استطاع — بجهد الأبطال — أن يخفِّفَ من حدة نشوته، ولكن «الأم العزيزة» (بنغمة الهمجي المرتجفة التي تنمُّ عن الألَم) والإشارة إلى تايبولت وهو جثةٌ هامدة وهي — من الجلي — لم تُحرق ففقدت فسفورها في قبر مظلم، ذلك كان أكثر مما يحتمل. فاسترسل في الضَّحكِ حتى تحدَّرَ الدمعُ على وجهه — ولم يكف عن الضحك، وكان الهمجي في أثناء ذلك — وقد شحُب لونُه من إحساسِه بثورة النفس — ينظر إليه من فوق كتابه، ولما لم يمتنع صاحبه عن الضحك، أغلق الكتاب حانقًا، ونهضَ من مكانه وأعاده إلى القمطر وأحكم عليه القفل، وكأنه — بحركاته — يُخفي جوهرة من وجه خنزير.
ولما استرد هلمهلتز أنفاسَه واستطاع أن يعتذر، ومهد الهمجي للإصغاء إلى حديثه قال: «مع ذلك فإني أعلم جيدًا أن المرء بحاجةٍ إلى مثل هذه المواقف المضحكةِ الجنونية، وأعلم أن المرء لا يجيد الكتابة حقًّا في غير ذلك، لماذا كان ذلك الكاتب القديم فنيًّا في الدعاية بدرجةٍ تدعو إلى العجَب؟ لأنه كانت لديه أشياء عدة جنونية أليمة تثور لها أعصابه، ولا بد للمرء أن يؤذى وأن يضطرب؛ لكي يستطيع أن يصوغَ العبارات الجيدة التي تنفذ نفاذ أشعَّةِ إكس، ولكن عجبي من الآباء والأمهات!» وهز رأسه ثم قال: «لا تنتظر مني إلا أن أضحكَ من ذِكرهما، ومن ذا الذي يهتمُّ لأن ولدًا ظفِر بفتاة أو لم يظفر بها؟» (وجفل الهمجي، ولكن هلمهلتز الذي كان يحدِّق في الأرض مفكرًا، لم يبدُ عليه أي أثر)، واختتَم حديثَه متنهِّدًا وقال: «كلا، إن هذا لا يُغني، إننا بحاجةٍ إلى نوعٍ آخرَ من الجنونِ والعنف، ولكن ماذا عسى أن يكونَ ذلك؟ وأين يوجد؟» وصمتَ برهةً ثم هزَّ رأسَه، وقال أخيرًا: «لستُ أدري، لست أدري.»