الفصل الثامن عشر
كان البابُ على مصراعَيه فدخلا.
– «جون!»
وصدر من داخل الحمام صوت لا يسرُّ السامع، ولكنه يدلُّ على صاحبه، وصاح هلمهلتز قائلًا: هل هناك أمر هام؟
فلم يظفر بجواب، وتكرر الصوت القبيحُ مرتين، ثم أعقَبه سكون. وانفتح باب الحمام عندئذٍ مُحدِثًا صوتًا، وخرج منه الهمجي شاحب اللون جدًّا.
وصاح هلمهلتز جزعًا مبلبل الخاطر، قال: «كأنَّ بك علةً يا جون!»
وسأله برنارد: «هل أكلتَ شيئًا لم تُسِغْه؟»
فهز الهمجي رأسه قائلًا: «لقد أكلتَ الحضارة.»
– «ماذا؟»
«سمَّمتني ودنَّستني.» ثم قال بصوتٍ خافت: «أكلتُ شقاوتي الخاصة.»
– «نعم ولكن ماذا بالضبط؟ أقصد أنك كنتَ منذ قليل …» قال الهمجي: «الآن تطهرت، فقد شربت قليلًا من الخردلِ والماء الساخن.»
فحملق فيه صاحباه في دهشةٍ عظيمة.
وسأله برنارد: «هل تقصد أن تقول إنك فعلت ذلك عامدًا؟»
– «هكذا يطَّهَّرُ الهنود دائمًا.» ثم جلس وتنهد ووضع يده على جبهته، وقال: «سوف أستريح بضع دقائق فأنا جدُّ منهوك.»
فقال هلمهلتز: «ليس في ذلك ما يُدهِشني.» ثم صمتَ برهة وقال: «لقد أتينا للوداع.» ثم بدَّلَ من نغمةِ صوتِه وقال: «سنرحَلُ غدًا صباحًا.»
فقال برنارد: «نعم سوف نرحلُ غدًا.» ولحظ الهمجي على وجهِه دليلًا على الاستسلامِ المطلق، ثم استمر في الكلام وقد مال على كرسيه إلى الأمام، ووضع إحدى يديه على ركبة الهمجي، قال: «وبهذه المناسبة يا جون أحب أن أذكر لك أني أسفتُ أشد الأسف لما حدثَ بالأمس.» ثم احمرَّ وجهه خجلًا واستمر في الحديث، برغم تذَبذُبِ صوته، قال: «ما أشدَّ خجَلي! في الحقيقة …»
فقاطعه الهمجي وتناولَ يدَه، وضغط عليها بعطفٍ شديد.
وعاد برنارد إلى الكلام بعدما سكت برهة قصيرة من الزمن، وقال: «لقد كان هلمهلتز عجيبًا لي، لولاه …»
فاحتجَّ عليه هلمهلتز وقال: «كفى، كفى.»
فساد الصمتُ، وبالرغم مما كان يخيِّم على الشبان الثلاثة من حُزن — بل لسببِ هذا الحزنِ نفسه؛ لأن حزنهم كان دليلًا على الحب المتبادل بينهم — كانوا سُعداء.
وقال لهم الهمجي في نهاية الأمر: «لقد ذهبت لمقابلة المراقبِ هذا الصباحِ.»
– «لماذا؟»
– «لكي أسألُه إن كان يجوزُ لي أن أرافِقَكما إلى الجزر.»
ثم سأل هلمهلتز بشغفٍ قائلًا: «وماذا قالَ؟»
فهزَّ الهمجي رأسَه وقال: «إنه لم يسمح لي.»
– «لماذا.»
قال الهمجي: «قال إنه يريد أن يستمر في التجربة.» ثم تهيَّجَ بغتةً وقال: «ولكن لعنة الله عليَّ إذا قبلت أن أبقى موضوعًا للتجارب، لو أرادَ ذلك مراقبو العالم أجمعون، وَلَأُرافِقَنَّكم غدًا.»
فسألَه صاحباه معًا: «ولكن إلى أين؟»
فهزَّ الهمجي كتفَيهِ وقال: «إلى أي مكان، لا يهمُّني ذلك ما دمتُ أستطيع أن أكونَ وحيدًا.»
كان الطريق من جلدفورد ينحدر في اتجاه وادي واي حتى جودلمنج، ومن هناك يسير فوق ملفورد ووتلي إلى هازلمير، ثم يتجه نحو بورتسموث مارًّا ببيترزفيلد، وبحذائه تقريبًا طريق آخر يصعد إلى وربلسدن وتنجهام وبتنهام وألستر وجريشت، وكان بين هجزباك وهندهد نقط لا يفصل الطريقين عندهما أكثرُ من ستة أو سبعة كيلومترات، وكانت المسافةُ صغيرةً لا تصلحُ للطائرين المهمَلين — وخاصة في المساء وعندما يتَناولون نصف جرام أكثر من المقرر، فكانت تقع الحوادث، وبعضها خطير — فقرر أن ينحرفَ عن الطريق الصاعدِ بضعة كيلومترات نحو الغرب، وكان يعيِّنُ اتجاه الطريق القديم بين بورتسموث ولندن أربعة فنارات هوائية مهجورةٍ تقعُ بين جريشت وتنجهام، وقد بدت فوقها السموات ساكنةً لا حياة فيها، وأخذتِ الطائرات الآن تطنُّ وتزأر زئيرًا لا ينقطع فوق ملبورن وبوردن وفارنهام.
واختار الهمجي الفنارَ القديم الذي يقع فوقَ قمَّةِ التل بين بتنهام وألستد صومعةً له، وكان البناء مسلَّحًا بالحديد وفي حالةٍ جيدة جدًّا، ولما طافَ الهمجيُّ بالمكان حسبه — لأول نظرة — مُريحًا جدًّا، تتوفَّر فيه أسباب الترف والحضارة، ولكن خاطره هدَأ لما وعد نفسه برياضة نفسية شاقة، يعوض بها هذا الترف، وبتطهيرٍ كامل شامل، وتعمد أن ينفق أولى لياليه بالصومعة ساهرًا يقِظًا، فقضى ساعاتٍ طوالًا جاثيًا على ركبتيه، يصلي مرة للسماء التي طلب منها كلوديوس الآثم العفو، ومرة بالزوني لاوناولونا، ومرة أخرى للمسيح وبوكونج، ومرة للنَّسر — وهو الحيوان الذي كان يتولى أمره — وكان يمد ذراعيه الفينة بعد الفينة كأنه مصلوبٌ، ويبقيهما هكذا عدة دقائق، يتزايد فيها الألم تدريجًا، حتى يصبح عذابًا ممضًّا ترتعدُ له فرائصه، وهكذا صلبَ نفسه عامدًا متطوعًا، وأخذ يكرِّر خلالَ أسنانه المحكمة (والعرق يتصبَّبُ فوق وجهه) قوله: «اعفُ عني! طهِّرني! أعِنِّي على الخير!» مرة بعد أخرى، حتى أوشك أن يخرَّ صريعًا من الألم.
ولما أشرق الصباح أحس بأنه اكتسب الحقَّ في سكنى الفَنار — برغم وجود الزجاجِ في أكثر النوافذ، وبالرغم من أن المنظر من الرصيف كان رائعًا؛ لأن السببَ عينَه الذي من أجله اختار الفنار، كادَ أن يصبحَ في الحال سببًا في الذهابِ إلى مكانٍ آخر، فقد قرر من قبل أن يقطُنه لأن المنظر جد جميل؛ ولأنه — من ناحية منفعته الشخصية — كان كأنه يشاهد كائنًا سماويًّا مجسَّدًا، ولكن من يكون هو حتى يُدلَّل بمنظر الجمالِ كل يوم وكل ساعة؟ ومن يكونُ هو حتى يسكنَ في حضرة الله المرئية؟ إن كلَّ ما كان يستحق أن يقطنه حظيرة حيوانات قذرة، أو جحرًا في الأرض مُظلمًا، كانت أعضاؤه متصلبة متألمة بعد ليله الطويل الأليم، ولكنه كان لنفس هذا السبب مطمئنًّا في دخيلة نفسه، وبرغم ذلك تسلق حتى بلغ رصيف برجه، ثم أطل على الدنيا تُشرقُ فيها الشمس اللامعة — الدنيا التي استردَّ حق سكناها — وكان يحدُّ المنظر من الشمال حافَةُ هجزباك الطباشيرية الطويلة، التي ترتفعُ خلف آخر طرَفها الشرقي بروج ناطحات السحابِ السبع التي تتألف منها جلدفورد، فلما رآها الهمجي تجهَّمَ لها، ولكنه ألِفها بمرور الزمن؛ لأنها كانت في المساء تتلألأ بصورةٍ بهيجة في مجموعاتٍ هندسية من النجوم، أو ينعكس عليها الضوء فتشيرُ جادة بأصابعها الوضَّاءة (بحركةٍ لم يَفهم مدلولها في إنجلترا حينذاك أحدٌ غير الهمجي) نحو السماءِ المستوية الغامضة.
وفي الوادي الذي كان يفصل هجزباك عن التل الرملي الذي يقوم فوقه الفنار، كانت تقع بتنهام؛ وهي قرية صغيرة متواضعة يبلغُ ارتفاعها تسعةَ طوابق، وبها أبراج لتجفيفِ الحشائش، ومزرعة للدواجن، ومصنع صغير لفيتامين ء، وفي الجانب الآخر من الفنار، نحو الجنوب، كانت الأرض تهبط في منحدراتٍ فسيحة من نبات الخلنج حتى تبلغ سلسلة من البرك.
وخلف تلك المنحدرات، وفوق الغابات المتوسطة، يرتفع برجُ ألستد ذو الطوابق الأربعةَ عشر، وهندهد وملبورن بقتامها في الجو الإنجليزي المكفهر، تجذبانِ العين إلى النظر بعيدًا في الزرقة التي تبعث الخيال، ولم يكن ذلك البعد وحدَه الذي جذبَ الهمجي إلى فناره، فلقد كان القريب مغريًا كالبَعيد، كانت الغابات والأراضي الفسيحة الطَّلْقة التي ينمو فيها الخلنج والأشجار الشائكة الصفراء، وسيقانُ شجر الشربين الاسكتلندي المبتورة، والبرك اللامعة وما يعلوها من أشجار البتولا والنيلوفر، وحقول الحلفاء؛ كان كل ذلك جميلًا، وكان مذهلًا لعين تعودت جدب الصحراء الأمريكية، وكانت هناك فوق ذلك العُزلة! وانقضت أيامٌ كاملة لم يَر خلالها إنسانًا قط، وكان الفنار على بعد ربعِ ساعة فقط بالطائرة من برج تشيرنج ت، لكنَّ تلولَ مالبي لم تكن أشدَّ وحشةً من مروج سري هذه، وكانت الجموع التي تترك لندن كل يوم إنما تتركها لتلعب الجولف الكهربي الممغطس، أو لتلعب التنس، ولم تكن ببتنهام ملاعب للجُولف، وأقرب ملاعب تنس ريمان لها في جلفورد، فلم يكن هناك ما يجذِب العين غيرُ الزهور والمناظر الطبيعية، ولما لم يكن هناك سببٌ قويٌّ للمجيء، فقد كان المكان غيرَ مطروق، وفي الأيام الأولى كان الهمجي يعيش وحده لا يُزعِجُه أحد.
أنفق جون على معدَّاته أكثرَ المال الذي كان قد تسلمه عند أول قدومه لنَفَقاته الشخصية، فاشترى قبل أن يغادر لندن أربعة غطاءات من الصوف اللزج، وحبالًا غليظة ودقيقة، ومسامير، وغراء، وبضع آلات، وكبريتًا (وإن يكن قد صمَّم أن يصنعَ مثاقب نارية في الوقت الملائم) وبضعة أوعية وأوان، وأربعًا وعشرين ربطة من الحبوب، وعشرة كيلوجرامات من دقيق القمح (وقد أصرَّ ألا يحمل معه النشاء الصناعي، والدقيق المصنوع من فَضَلات القطن، حتى إن كان أكثرَ تغذية)، ولما جاء دور البسكويت المصنوع من مجموعةِ إفرازاتِ الغُدد واللحم البقري الجديد المُشبَع بالفيتامينات، لم يستطع أن يقاوم اغراء البائع، ونظر الآن إلى العلب فصبَّ على نفسه لومًا كبيرًا لضعفه، إنها من مواد المدنية الممقوتة! وصمم ألا يأكلَها حتى إن أشرف على الموتِ من شدة الجوع، وفكر في نفسه وهو ناقم: «إن ذلك سوف يكون درسًا لهم.» وسوف يكون درسًا له كذلك.
وعدَّ ما له، وكان يرجو أن القليلَ الذي تبقَّى يكفيه حتى ينقضي فصلُ الشتاء، ففي الربيع القادم تنتج حديقته ما يكفي استقلالَه عن العالم الخارجي، وحتى آنئذٍ سيتوفر له الصيد دائمًا، فقد رأى كثيرًا من الأرانبِ وكانت فوق البرك طيورٌ مائية، وشرع يعمل في الحال؛ كي يصنع قوسًا وسهامًا.
وكان إلى جوار الفنار بعضُ أشجارِ لسان العصفور، وغابة بأسرها مليئة بشجيرات البندق المستقيمة الجميلة التي تصلحُ قنواتٍ للسهام، وبدأ يقطع شجرة صغيرة من أشجار لسان العصفور، وفصل ستة أقدام من السوق التي لا تتَّصلُ بها فروع، ونزع عنها قشورَها، واحدة بعد الأخرى حتى ظهر الخشبُ الأبيض، كما علمه متسيما العجوز، حتى استقامَ له عود يبلغ قامته طولًا، قوي في وسطه الغليظ، لين سهل الالتواء عند طرفيه الدَّقِيقين، وأعطاه هذا العملُ متعةً كبيرة، فقد كان يسره كثيرًا أن يؤدِّيَ عمَلًا يقتضي الصبرَ والمهارة، بعد تلك الأسابيع التي قضاها في لندن خاملًا بغير عمل، كلما أرادَ شيئًا ضغطَ على زر أو أدار مقبضًا.
ولما أوشك أن يتم تشذيب العود وتسويته، أدرك في شيءٍ من الدهشة أنه كان يغني — نعم يغني! وكأنه دخل على نفسه فجأةً من الخارج، فكشفت ما كانت تعمل وأدركها وهي في حرارةِ الجريمة، فأحس بخطيئته واحمرَّ خجلًا، إنه لم يأتِ إلى هذا المكان للمتعة والغناء، وإنما أتى فرارًا من التمادي في الفساد، تصيبه به حياة الحضارةِ القذرة، أتى هنا ليتطهَّر ويصبح إنسانًا طيبًا، أتى هنا ليكفر عن أخطائِه فورًا، ولشدَّ ما كانت روعتُه حينما أدرك أنه — وهو منهمكٌ في تسويةِ القوس — نسِي ما أقسم لنفسه أن يذكُر دائمًا؛ لندا المسكينة، وقسوته القاتلة عليها، وتلك التوائم الكريهة، وقد تجمعت كالقمل ولندا تفارق الحياة بصورةٍ غامضة، تسيءُ بمحضرها الآلهة أنفسهم كما تسيءُ إليه وهو في محنِته وتوبته، أقسمَ أن يذكر ذلك، وأقسم ألا يكفَّ عن التكفير، وها هو ذا منكبٌّ على تسويةِ قناتِه وهو منشرحُ الصدر، ويغني.
فتوارى في الداخل، وفتح صندوقَ الخردلِ، ووضع على النار قليلًا من الماء يغليه.
وبعد نصف ساعةٍ كان ثلاثة من عمَّالِ الأرض من طراز «−ء» من إحدى مجموعات بوتنهام البوكانوفسكية يسُوقون سيارةً نحو ألستد، وراعهم أن رأوا على قمَّة التل شابًّا واقفًا خارج الفنار المهجور عاريًا حتى خصرِه، يضربُ نفسه بسوط من الحبال المعقدة، وعلى ظهره خطوطٌ أفقية حمراء، وبين الخط والخط تسيل خيوط خفيفةٌ من الدِّمِ، واتجهَ سائقُ السيارة نحو جانب الطريق ثم حدق هو وزميلاه في ذلك المنظر العجيب وهو فاغرٌ فاه، وأخذوا يعدون الضربات واحدةً بعد الأخرى، وبعد الضربة الثامنة قاطع الشاب كفارته وهرع إلى حافة الغابة، واستلقى هناك يعاني ألمًا ممضًّا، ولما انتهى ذلك التقطَ السوطَ وبدأ يضربُ نفسَه من جديد، حتى نيَّفتِ الضربات على الاثنتي عشرة.
وهمس السائق قائلًا: «يا لفورد!» وشاركه الرأي توءماه.
وقالا: «يا لفورد!»
وبعد ثلاثة أيام جاء المراسلون، وكأنهم طيورُ الباز، وهي تهبط على جثةٍ ميتة.
وانتهى الهمجي من إعداد القوس بعد ما جفَّفَه، وشده فوق نار بطيئة من الخشب الأخضر، ثم أخذ يشتغلُ بإعداد السهام.
وكان قد سوى ثلاثين عودًا من شجر البندق، وجففها وركَّبَ في أطرافها مسامير حادة، وأعدها إعدادًا حسنًا لربط حبل القوس فيها، وذات مساء أغار على حقل بنتهام للدواجن، وحصل على ريشٍ يكفي لملء مخزن للأسلحة بأسره، وكان يَريش سهامَه عندما أتاه أول المراسلين، فوقف المراسل خلفه وهو يرتدي حذاءه الهوائي، فلم يحدث صوتًا.
قال المراسل: «عِم صباحًا أيها الهمجي، أنا مندوب «راديو الساعة».»
فوثب الهمجي على قدميه مذعورًا، كأنما لَدَغتْه حيةٌ، وبدَّد السهامَ والريش وآنية الغراء والفرجون أيدي سبا.
فقال المراسل، وقد وخَزَه ضميرُه وَخْزًا شديدًا: «عفوًا، إني لم أقصد …» ومس قبعته — وهي من الأليومنيم وتشبه أنبوبة الموقد، وكان يحمل فيها جهازه اللاسلكي المستقبل وأداة التحويل، ثم قال: «لا تؤاخذني لأني لم أخلع قبعتي فهي ثقيلةٌ نوعًا، كنت أقول لك: إني مندوب «راديو الساعة» …»
فسأله الهمجي وهو عابس، قال: «ماذا تريد؟» ورد عليه المراسل بابتسامة تنمُّ عن العطف.
ومال برأسه جانبًا وداعبه بابتسامته قائلًا: «إن قراءنا بالطبع يشوِّقُهم كثيرًا أن … يسمعوا بضع كلمات عنك أيها الهمجي.» وفك سلكين مرتبطين ببطارية خفيفة مشدودة إلى خصره على عجلٍ، مؤديًا بحركاته سلسلة من الطقوس، ثم وضع السلكين في آنٍ واحد في جانبي قبعته الأليومنيمية، ومس زنبركًا في قمتها فانتشر في الهواء كقرني الاستشعار في الحَشَرة، ثم مسَّ زنبركًا آخر في مؤخرة حافة القبعة، فقفز إلى الخارج كالصاروخ ميكروفون وبقي معلقًا في الفضاء، يهتزُّ على بعد ست بوصاتٍ من أنفِه، ثم أرخى على أُذُنَيه سماعتين، وضغط على زرٍّ على الجانب الأيسر من القبعة، فصدر من الداخل صوت خافت يشبه طنينَ الدبور، وأدار عقدة على اليمين، فقاطع الطنينَ أزيزُ السماعة وطقطقتها، وصوت فواق وصرير مباغت، فقال في الميكرفون: «هلو، هلو …» ورن داخل قبعته أحد الأجراس بغتة: «هل هذا هو أنت يا أدزل؟ أنا بريمو ملن أتكلم، نعم لقد قبضت عليه، وسيتناول الهمجي الميكرفون الآن ويقول بضع كلمات، أليس كذلك أيها الهمَجي؟» ورفع بصره نحو الهمجي وعلى شفتَيهِ إحدى تلك الابتساماتِ الظافرة، وقال: «أخبر قراءَنا لماذا أتيت هنا، ما الذي حدا بك إلى الهجرة من لندن بغتةً كما فعلت (استمع يا مستر أدزل)، وحدَّثهم بالطبع عن ذلك السوط.» فذعر الهمجي، وتعجب كيف جاءهم نبأُ السوط، ثم قال: نحن جميعًا شديدو الشغف بأن نعرف شيئًا عن السَّوط، ثم قل لنا شيئًا عن الحضارة، وأنت تعلم ما يقال في مثل هذه الموضوعات: رأيي في الفتاة المتمدنة، قل لنا كلماتٍ قلائلَ جدًّا …»
فأطاعه الهمجي حرفيًّا وهو في حيرة شديدة، وتفوه بخمس كلمات فقط، خمس كلمات كتلك التي ذكرها لبرنارد عن كبير منشدي كانتربري حينما قال: «هاني! سونز أسو تسينا.» ثم أمسك المراسل من كتِفه ودار به عدة دورات (وظهر أنَّ الشاب مدثَّرٌ دثارًا مغريًا)، وركله ركلة قوية محكمة، كأنه بطل من أبطال المصارعة في قوته ودقته.
وبعد ثماني دقائق صدرت طبعة جديدة من «راديو الساعة»، وعُرضت للجميع في شوارع لندن، وجاء في عناوين الصفحة الأولى «الهمجي العجيب يركل مراسل «راديو الساعة» في العصعص، الهياج في سَريِ».
ولما عاد المراسل إلى لندن وقرأ هذه الكلمات قال لنفسه: «الهياج في لندن ذاتها» وكان هياجًا مؤلمًا، ثم ماذا؟ لقد جلسَ يتناولُ غداءه بحرصٍ شديد.
ولم يرتدع أربعة آخرون من المراسلين يمثلون نيويورك تيمز، وحوادث فرانكفورت للأبعاد الأربعة، ومستشار علم فورد، ومرآة «ء»، لم يرتدعوا بما أصابَ زميلهم في العصعص من جرحٍ بليغ، فتوجهوا عصرَ ذلك اليوم إلى الفناء، واستُقبلوا استقبالًا بالغًا في العنف.
وصاح ممثل «مستشار علم فورد» وهو آمن على بعد ولا يزال يمسَحُ عجزَه قائلًا: «يا لك من أحمقٍ جاهل، لماذا لا تتناول السوما؟»
وهز الهمجي مِعصمَه وقال: «اغرُب عني.»
فتراجع الآخر بضع خطوات، ثم التفت ثانية وقال: «إن الشرَّ يتلاشى لو تناولت جرامين.»
فقال الهمجي: «كوهاكوا أيا ثتكيا» بنغمة التهديدِ والازدراء.
– «الألم وهم.»
قال الهمجي: «نعم إنه.» والتقط عصا رفيعةً من شجر البندق، وخطا خطوات واسعة إلى الأمام.
وانطلق مندوب «مستشار علم فورد» نحو الطائرة.
وبعدئذٍ بقي الهمجي آمنًا لفترة من الزمن، ثم جاءت بضع طائرات وحلقت حول البرج متطلعة مستكشفة، وأطلق الهمجيُّ سهمًا صوبه نحو أقربِ الطائرات وأشدها تطلعًا، فاخترق قاعَ الغرفة المصنوع من الأليومنيم، وسمع صياحًا أجشَّ، وانطلقت الطائرة مسرعة إلى أعلى في الفضاء، بأقصى سرعة يستطيع أن يمدها بها محركها الكبير؛ ولذا فقد حرص الآخرون فيما بعد على أن يحلقوا على بعدٍ كاف، وتجاهل الهمجي طنينَ الطائرات المزعج، ولبث يفلح الأرضَ التي أراد أن تكون له حديقة (وقد شبه نفسه في خياله بأحدِ خطاب ماتسكا العذراء، الذين يثبُتونَ للحشراتِ ذات الأجنحة ولا يتزعزعون) ولا شكَّ أن الحشرات تحلُّ بعد فترة ثم تطير، وبقيتِ السماء فوق رأسه فارغةً ساعات متواصلات، وساكنة لا تسمعُ فيها غير صوتِ القنابر.
وكان الجو حارًّا لا يكاد يتنفس المرء فيه، وأرعد الهواء، وقد فلح الحديقة طيلة الصباح، وكان الآن يستريح، متمطيًا فوق الأرض، ثم مثلت ذكرى ليننا حيةً أمام ناظريه فجأة، وتصورها عارية تلمس وهي تقول: «حبيبي!» وتقول: «طوِّقْني بذراعيك!» — وهي معطرة ترتدي الحذاء والجوارب، يا لها من عاهرة وقِحة! ولكنه ذكَر ذراعيها تطوق بهما عنقه، وذكر ارتفاعَ ثدييها، وذكر فمَها! إن الخلود في شفاهنا وعيوننا، ليننا … كلا، كلا، كلا! ثم نهَض على قدميه وخرج من البيت يعدو وهو نصف عارٍ، وكانت عند حافة حقول الخلنج مجموعة من شجيرات العرعر البيضاء، فارتمى عندها، وعانق ملءَ ذراعيه من الأشواك الخضراء، بدلًا من أن يعانقَ الجسمَ الناعم الذي يشتهيه، ووخزته الأشواك المدبَّبةُ في ألف موضع، وحاولَ أن يتذكر ليننا المسكينة، وهي منقطعة الأنفاس بكماء، ويداها مقبوضتانِ، وفي عينيها فزعٌ شديد، لندا المسكينة التي أقسم أن يتذكرها، وما برحت صورة لندا تلازمه، ليننا التي وعدَ أن ينساها، وقد أحسَّ بوجودها، وكانت حقيقة لا مفرَّ منها حتى من خلال طعناتِ أشواك العرعر ووخَزاته التي جعلتْ لحمه يجفل ويفزَع، «ما أحلى هذا، ما أحلاه … وإن أردتني أيضًا فلماذا؟ …»
وكان السوط معلَّقًا على مسمارٍ بجانبِ الباب، قريب المنال إذا جاءه المراسلون، وفي نوبةِ جنون كرَّ الهمجي عائدًا إلى البيت، وأمسكَ به، وأداره في يده، وآلمت الحبالُ المعقدة لحمه ألمًا شديدًا.
وعند كل ضربة كان يصيحُ: «عاهرة! عاهرة!» كأنها ليننا، (وكم كان يتمنى أن تكونَ، دون أن يعلم بذلك!)، كأنها ليننا البيضاء الحارة المعطرة المفضوحة التي كان يُلهبها، «يا لها من عاهرة!» ثم قال بصوت البائس: «أي لندا، سامحيني، اعف عني يا إلهي، أنا سيِّئٌ، أنا شرير، أنا … كلا، كلا، أيتها العاهرة!»
وكان داروين بونابرت أعظمَ المصورين الخبراء في شركة الصور المحسة، يرقب كل ما كان يجري من مخبئِه في الغابة، الذي أحكم تشييده على بعد ثلاثمائة متر، وقد لقي جزاء صبره ومهارته، أنفق ثلاثة أيام جالسًا داخل جذع إحدى أشجار البلوط الصناعية، وثلاث ليال يزحفُ على بطنه فوق الخلنج، يخفي الميكروفونات في الشجيرات الشائكة، ويدفنُ الأسلاك في الرمال الناعمة الرمادية، فقضى اثنين وسبعين ساعةً في تعبٍ شديد، والآن واتَتْه اللحظة الكبرى — كان يحسبها أعظم لحظة في حياته، وقد طرأتْ له هذه الفكرةُ على مهلٍ، وهو يتحركُ بين آلاتِه، أعظم لحظة منذ تصويره المجسم لعرس الغورلا — تلك الصورة المجسمة الشهيرة الصارخة، فقال لنفسه عندما بدأ الهمجي عمله العجيب: «عظيم، عظيم.» وصوب آلات التصوير المقربة نحوَه بعناية، وجعلها تلازمُ هدفها المتحرك، وتعلَّق بقوةٍ كبرى كي يصور وجه الهمجي المعتوه الشائه «يا للعجب!» وتحرك ببطء نحو نصف دقيقة (وقد تعشم أن يحصل على صورة مثيرةٍ للضحك)، ثم أصغى في أثناء ذلك للضربات والأنَّاتِ وللهذيان الوحشي، وهي تُسجل في الشريط الصوتي عند طرف قلمه، وجرب أثر المبالغة القليلة (وكان ذلك من غير شك تحسينًا ملموسًا)، وسرَّه أن يسمعَ — في فترةٍ من الهدوء — غناء القنبرةِ المرتفع، وتمنى أن يلتفت الهمجيُّ حتى يستطيع أن يصورَ الدماء التي كانت على ظهرِه — وفي الحال (لحسن حظه العجيب) جاد الهمجي بالتفاتة واستطاع أن يصوره صورةً دقيقة.
ولما انتهى كل شيء قال لنفسه: «كان ذلك أمرًا عظيمًا حقًّا!» ومسح وجهَه، وكان يأمل أن تظهر الصورُ عند عرضِها في دار الصور بمظهرٍ رائع، إنها سوفُ تبلغ من الجودة — في رأي داروين بونابرت — «مبلغ حياة الحب عند القيطس»، وتالله إنَّ هذا لنجاحٌ باهر!
وبعد اثنى عشر يومًا أخرجت قصة «الهمجي في سَريِ»، وأمكن للناس رؤيتها وسماعها والإحساس بها في كل دار ممتازة للصورِ المحسة في غرب أوروبا.
وكان تأثير فلم داروين بونابرت مباشرًا وعظيمًا، ففي عصر اليوم التالي لإخراجه، حلقت مجموعة من الطائرات فوق رأسِ جون فقطعتْ عليه عزلته الخلوية فجأة.
وأصبح طنين الطائراتِ المحلقةِ فوق رأسِه زئيرًا، وألفَى نفسه في الظل بغتةً، فقد كان هناك شيء يحول بينه وبين الشمس، ورفع بصره إلى أعلى مذعورًا، وتنبه من فلاحته ومن أفكاره، رفع بصره متحيرًا مذهولًا، وما برح ذهنه يسبح في ذلك العالم الآخر الأصدق من الصِّدقِ، وما فتئ مركزًا في محيط الموت والآلهة الفسيح، رفع بصره فرأى قريبًا منه مجموعة الطائرات المحلقة، وقد أقبلت كالجراد، ثم بقيت معلقة متزنة، ثم هبطتْ حوله فوق الخلنج من جميع الجهات، وخرج من بطون هذه الجنادب الضخمة رجال يرتدون الفانلة اللزجة، ونساء يرتدين البيجامات الحمضية الخفيفة (لأن الجو كان حارًّا) أو سراويل المخمل القصيرة، والقمصان التي بغير أكمام، نصف مفتوحة، وخرج من كلِّ طائرة زوج، وبعد بضع دقائق تجمع منهم عشرات، ووقفوا في حلقةٍ واسعة حول الفنار، يحملقون ويضحكون، مطقطقين بآلاتِ التصوير، يرمون له — كأنه قرد — الفولَ وحزمًا من لبان الهرمونات الجنسية وزبد إفرازات الغددِ جميعًا، وأخذ عددهم يتزايد كل لحظة، وتدفق منهم تيار لا ينقطع عبر هجزباك، وأصبحت آحادهم عشرات، وعشراتهم مئات — وكأنه في حلمٍ مفزع مريع.
وتراجع الهمجي متخفيًا، ووقف وقفة الحيوان الآمن المطمئن، ظهرُه مستند إلى الفنار، ينقل بصره من وجهٍ إلى وجه وهو في فزع، لا ينطق بكلمة كأنه رجل فاقد الرشد.
وأيقظه من هذه الغفوة زيادةُ إحساسِه المباشرِ بالحقيقة، عندما التصقتْ بخدِّه ربطة من اللبان أحكم تصويبها، وقد أذهله الألم فاهتزت له أعصابه، فتيقظ يقظة شديدة وثار غاضبًا.
وصاح قائلًا: «ابعدوا!»
لقد نطقَ القردُ، فانفجروا ضاحكين مصفِّقين، وقالوا: «مرحبًا بك أيها الهمجي العزيز.» وسمع صياحهم: «السوط، السوط!» من خلال الجلَبة واللغَطِ.
وعمل الهمجي بما أوحتْ به هذه الإشارة، فأمسكَ بطاقة الحبال المعقدة من المسمار الذي كان خلف الباب، وهزَّها أمام معذبيه.
وكانت هناك صيحة تدلُّ على الاستحسان التهكمي.
وتقدم نحوهم مهدِّدًا إياهم، فصاحت إحدى النسوة في جزعٍ شديد، وتخلخل الصفُّ في الموضع الذي تعرض للتهديد المباشر، ثم استقام ثانيةً، وثبَتَ الواقفون، وقد اكتسبَ هؤلاء المتفرجون من إحساسهم بالقوة الساحقة شجاعةً لم يتوقَّعْها منهم الهمجي، فذعر ووقف ساكنًا ثم تلفت حواليه.
وقال: «لماذا لا تتركوني وحدي؟» وكانت في غضبِه نغمةٌ تنمُّ عن الشكاة.
وقال له الرجل الذي لو تقدم الهمجي لكان أول من يهاجم: «خذ قليلًا من اللوز المملح بالمغنزيوم» وقدم له ربطة قائلًا: «إنها فعلًا حسنة جدًّا.» وابتسم ابتسامة استعطافٍ عصبية، ثم قال: «وأملاح المغنزيوم تعينُك على الاحتفاظ بالشباب.»
وتجاهل الهمجي ما عُرض عليه وسأل قائلًا: «ماذا تريدونَ بي؟» متلفتًا من وجهٍ عابس إلى آخر: «ماذا تريدونَ بي؟»
فأجابه مائة صوتٍ مختلطة: «السوط، اعرض علينا كيف تضربُ نفسَك بالسوط، ودعنا نشاهدك.»
وصاحت شرذمة عند طرفِ القصف، وقالوا بصَوتٍ واحد وبنغمةٍ بطيئةٍ ثقيلة: «نحن، نريد، السوط.»
وأخذ عنهم آخرون هذه الصيحة في الحال، وكرروا هذه العبارة كالببغاوات مرةً بعد أخرى، وأخذ صوتهم يضخم تدريجًا حتى كان الترديد السابع أو الثامن، لم ينطق أحد بكلمةٍ أخرى غير: «نحن — نريد — السوط».
وكانوا جميعًا يصيحون بصوتٍ واحد، وربما ظلُّوا كذلك ساعاتٍ لا نهاية لها، وقد أسكرهم الضجيج والإجماح والإحساس بالتفكير الموسيقي النغَم، وعندما كرروا العبارة للمرة الخامسة والعشرين تقريبًا كَفُّوا عن الصياح مذعورين، ذلك أن طائرة أخرى وصلتْ من هجزباك، وحلقت متزنة فوق الجمهور الحاشد، ثم أسقطتْ في الفضاء بين صفِّ المتفرجين والفنار، على بعد أذرُع قليلة من موقف الهمجي، وتلاشى الصياح لحظة وسط زئير اللوالبِ الهوائية، ولما لمستِ الطائرة الأرض وأوقفت المحركات، انفجر الجميع مرة أخرى بصوتٍ واحد مرتفع مصرِّينَ كما كانوا من قبل، قالوا: «نحن، نريد، السوط».
وفُتح بابُ الطائرة وخرج منها أولًا شابٌّ أبيضُ اللون متورد الوجه، وعقَبَتْه شابةٌ في سروالٍ قصير من المخمل، وقميص أبيض وقبعة راكب خيل السباق.
وذعر الهمجي لمرأى الشابةِ، وانكمشَ وشحُب لونه.
ووقفت الشابة مبتسمة له ابتسامةَ تردُّدٍ والتماس بل وذلة، وانقضت بضع ثوانٍ تحركت بعدها شفتاها ونطقت ببضعة ألفاظ، ولكن صوتَها تلاشى وسط صياح المتفرجين المتكرر المرتفع.
– «نحن، نريد، السوط! نحن، نريد، السوط!»
وضغطت الشابة بكلتا يديها على جانبها الأيسر، وظهرت على وجهها الخوخي اللون، الذي يشبه في جماله جمالَ الدمى، ملامحُ غريبة متناقضة تدل على الغمِّ والاهتمام، وكأن عينيها الزرقاوينِ قد زادتا اتساعًا وبريقًا، وانحدرت على خدَّيها فجأةً دمعتان، وتحدثت مرة أخرى حديثًا غير مسموع، ثم مدَّتْ ذراعيها نحو الهمجي بحركةٍ سريعة عاطفية، وتقدمت إلى الأمام.
– «نحن، نريد، السوط! نحن، نريد …»
وأجيبوا فجأة إلى ما طلبوا.
«عاهرة!» واندفع الهمجي نحوها كالمجنون، «يا لك من هرَّةٍ وحشية!» وشرع كالمجنون يضربها بسَوطِه المصنوع من الحبال الصغيرة.
فجزعت وأرادت الفرار، ولكنها تعثرت وسقطتْ فوق الخلنج، وصاحت «هنري، هنري!» لكن زميلها المتوردَ كان قد فرَّ من وجه الأذَى خلف الطائرة.
وانفرط عقد الصف هاتفين بصيحاتٍ تنمُّ عن السرور والاضطراب، وخطوا جميعًا متجمعين في نقطةٍ واحدة، كأن مركزًا مغناطيسيًّا يجذبهم، لقد كان الألم فزعًا يأخذ الألباب.
وجن الهمجي وضرب بسوطه ثانية وهو يقول: «يا لكِ من عاهرةٍ فاجرة!»
وتجمعوا مشغوفين، وهم يتدافعون ويزحَفون، كأنهم الخنازيرُ حول حوض العلف.
وضغط الهمجي على أسنانه وقال: «تبًّا للحم! اقتله، اقتله!» ونزل السوط على منكبيه هذه المرة.
وجذب المشاهدين الجزعُ من الألم الذي يأخذ بالألباب، ودفعتهم من الباطن عادة التعاون والشغف بالإجماع، والتكفيرُ الذي ثبتته في نفوسهم ثبوتًا ملازمًا طريقة تكييفهم، فبدءُوا يقلدون حركاته الجنونية، يضربُ أحدهم الآخر كلما ضربَ الهمجي بدنَه العاصي، أو ذلك الجسم البدين الذي يتجسد فيه الدنَس، والذي كان يتلوى فوق الخلنج عند قدميه.
واستمر الهمجي يصيح: «أقتله، أقتله …»
ثم بدأ أحد الأشخاص فجأة يغني: «شولم، شولم.» وبعد لحظةٍ ردد الجميع هذه العبارة، وبدءُوا يرقصون وهم يغنون، ولبثوا يدورون دورة بعد أخرى مرددين: «شولم، شولم.» يضرب أحدهم الآخر ضربات موزونة «شولم، شولم».
ولم ترحل آخر طائرة إلا بعد منتصف الليل، واستلقى الهمجي فوق الخلنج ونام بعد ما أذهلته السوما، وأنهَكَه الانهماك الطويل في جنون المتع الحسية، ولم يستيقظ إلا بعد ما ارتفعت الشمس في السماء، فاستلقى لحظة يطرف بصره في الضوء، وكأنه بومةٌ لا يفقَهُ شيئًا، ثم تذكر فجأة كل شيء.
فستر عينيه بيده وقال: «إلهي، إلهي!»
كان سرب الطائرات التي جاءت تئزُّ عبر هجزباك ذلك المساء كالسحابة المظلمة، يمتد على طول عشرة كيلومترات، وذكرت الصحف جميعًا وصف صلاة التكفير التي تمَّت في المساء السابق.
ونادى الأشخاص الذين وصلوا أولًا، وهم ينزلون من الطائرة قائلينَ: «أيها الهمجي! أيها الهمجي!»
ولم يظفروا بجواب.
وكان باب الفنار على مصراعيه، فاقتحموه ودخلوا في ضوء كالشفق تحجبه النوافذ، واستطاعوا من خلال قَبْوٍ في الجانب الآخر من الغرفة، أن يروا قاعَ سُلَّمٍ يؤدي إلى الطوابق العليا، وتحت قمة القبو تمامًا تدلت قدمان.
– «أيها الهمجي.»
واتجهت القدمان ببطءٍ شديد جدًّا — كأنهما إبرتا بوصلة تسيران على مهَلٍ — يمينًا، فشمالًا، فناحية الشمال الشرقي، فشرقًا فناحية الجنوب الشرقي، فجنوبًا، فناحية الجنوب الغربي، ثم توقفتا، وبعد بضع ثوان اتجهتا عائدتَينِ على مهل كذلك يسارًا، ثم إلى ناحية الجنوب الغربي، فالجنوب، فالجنوب الشرقي، فالشرق …