الفصل الثالث
حانت ساعة اللعِبِ خارج البناء في الحديقةِ، فكنت ترى ستمائة أو سبعمائة ولدًا وبنتًا عرايا في شمس يونيو الدفيئة، يجرون فوق الحقول مجلجلين بالصياح، أو يلعبون بالكور، أو يجلسون القرفصاء صامتين اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة بين الشجيرات المزهرة، وكانت الورود متفتحة، وبالغابة عندليبان يناجيان أنفسهما، وبين أشجار الزيزفون وقواق يصدح أنغامًا غير منسجمة، والهواء يبعث على النوم، مما فيه من طنين النحل ودوي الطائرات.
ووقف المدير وتلاميذه برهةً قصيرة، يرقبون شوطًا من لعبة تشبه التنس، وقد تجمع عشرون طفلًا في دائرة حول برج من معدن الكروم، يقذف أحدهم الكرة إلى أعلى كي تستقر على إفريز بأعلى البرج، ثم تتدحرج إلى الداخل، وتسقط على قرصٍ سريع الدوران، ثم يُلقَى بها خلال إحدى الفتحات العديدة، التي تخترق الغلاف الأسطواني، وتمسك بعد ذلك.
وبينما كان الطلبة ينصرفون، قال لهم المدير سائلًا: «ألا يدهشكم أن أكثر الألعاب — حتى يوم عيد فورد — لا تحتاج من الأجهزة أكثر من كرة أو اثنين وعددًا قليلًا من العِصيِّ؛ وربما قطعة من الشبك. تصوروا أن الناس يسمح لهم أن يلعبوا ألعابًا معقدة، لا تعمل البتة على زيادة الاستهلاك، أليس ذلك حمقًا؟ إنه جنون، إن المراقبين اليوم لا يسمحون بأي لعبةٍ جديدة، إلا إن ظهر أنها تحتاج من الأجهزة، على الأقلِّ، مثل ما تحتاج أشد الألعاب الموجودة تعقيدًا.»
وقاطع نفسه قائلًا: «هذه مجموعة صغيرة فاتنة.» وأشار إليها.
وكان هناك في منحنى معشوشب بين مجموعة من أشجار الخلنج الطويلة، التي تنمو في منطقة البحر الأبيض المتوسط طفلان، ولد صغير في نحو السابعة من عمره، وفتاة صغيرة قد تكبُره بعامٍ واحد، يلعبان لعبةً جنسية أولية، وهما جادَّان، وعليهما سِيما العلماء الذين يركزون كل اهتمامهم في عمل كَشفيٍّ.
وكرر المدير قوله: «يا للفتنة، يا للفتنة!» وقد هزَّتْه العاطفة.
وأيده الطلبة في أدبٍ قائلِين مثله: «يا للفتنة!» ولكن بسَماتُهم كانت تنمُّ عن رعاية الكبير للصغير؛ لأنهم تخلوا عن مثل هذه الملاهي الصبيانية من عهد قريبٍ جدًّا، حتى لقد شق عليهم أن يرقبوها دون شيءٍ من الاحتقار، ما الذي يفتنُهم؟ لقد كانا طفلين يلهوان، وهذا كل ما في الأمر، طفلين فقط.
وواصل المدير حديثَه في نغْمة النَّشْوان التي بدأ بها، وقال: «إنني أظن دائمًا …» ثم قاطعه صوت مرتفع يجهَش بالبكاء.
وبرزت من الغابة المجاورة مربية، تقود بيدها ولدًا صغيرًا يصيح أثناء السير، وفي إثرِها فتاةٌ صغيرة عليها سِيما الاهتمام والقلَق.
سألها المدير: «ما الأَمر؟»
فهزَّتِ المربية كتِفيها وأجابت: «الأمر يسير، إن هذا الولد الصغير، كان يحجم قليلًا عن الاشتراك في المغازلة العادية، وقد لحَظتُ ذلك من قبل مرة أو مرتين، ولحَظتُ ذلك اليوم مرة أخرى، وقد بدأَ الآن يصيح …»
وعقبت على ذلك الفتاة الصغيرة القلِقةُ قائلةً: «إنني — وأيم الحق — لم أقصد أن أُوذيَه، أو أن أصيبه بأي شيء.»
وقالت الممرضة وهي تُطَمئنها: «إنك لم تقصدي ذلك بالطبع يا عزيزتي.» ثم واصلتْ حديثَها، وقد التفتت نحو المدير ثانية، وقالت: «ولذا فأنا سوف آخذه إلى مراقب علم النفس المساعد؛ لكي يرى إن كان به شذوذٌ.»
قال المدير: «لقد أصبت، خُذيه، وابقَي أنت هنا أيُّتها الفتاة الصغيرة.» وانصرفت المربية في صحبة الولد الباكي، الذي عهد به إليها، وسأل المدير الفتاة: «ما اسمك؟»
قالت: «بولي تروتسكي.»
قال المدير: «إنه اسم جميل جدًّا، انطلقي الآن، وحاولي أن تجدي ولدًا صغيرًا آخر تلعبين معه.»
فهرولت الفتاة بين الأشجار واختفَتْ عن الأنظار.
وتابعها المدير بالنظر قائلًا: «يا لها من مخلوقٍ صغير نفيس!» ثم التفت إلى تلاميذه وقال: «إن ما سأحدثكم عنه الآن، قد يبدو لكم أمرًا لا يحتمل التصديق، ولكن المرء إذا لم يتعود العلم بالتاريخ، حسِبَ أن أكثر حقائق الماضي مما لا يَحتملُ التصديق.»
ثم نطق بحقيقةٍ تدعو إلى الدهشة حقًّا، قال: «قبل عصر فورد بزمنٍ طويل جدًّا (فقهْقَهَ الطلبة ضاحكين) لم يحسبوه شاذًّا فحسب، بل كذلك أمرًا لا يتفق وقواعد الأخلاق (قال الطلبة: لا نظن ذلك!) ولذا فقد حرَّموه تحريمًا باتًّا.»
وبدَت على وجوه المستمعين له نظرةُ الدهشة وعدم التصديق.
لقد أدهشهم أن يسمعوا أن الأطفال المساكين لم يُسمَح لهم بإمتاع أنفسهم، ولم يسعهم إلا عدم التصديق.
قال المدير: «حتى المراهقون من أمثالكم …»
– «مستحيل!»
– «كانوا يُحرِّمون قليلًا استمتاعَ الفرد بنفسه — خفيةً — استمتاعًا جنسيًّا، أو تبادل المتعة الجنسية بين أفراد الجنس الواحد. المتعة الجنسية محرمة كل التحريم.»
– «كل التحريم! عجبًا!»
– «أجل، هو كذلك في أكثر الأحوال، حتى يُربى الفرد على العشرين من عمره.»
فردَّد الطلبة هذه الكلمات: «العشرين من العمر!» في صوتٍ واحد ينم عن عدم التصديق.
وكرر المدير كلمة «العشرين»، ثم قال: «لقد قلت لكم إنكم سوف تجدون الأمر بعيد التصديق!»
فسأل الطلبة: «وما الذي حدث؟ وماذا كانت النتيجة؟»
«كانت النتيجة مزعجة.» ثم رن وسط حديثهم صوتٌ عميق، أثار فيهم الذُّعرَ الشديد.
والتفتوا خلفهم، فإذا برجلٍ غريب رَبعة، أسود الشعر، ذي أنف مدبَّب، وشفَتين حمراوين ممتلئتين، وعينين سوداوين نافذتين، يقفُ عند طرَف تلك المجموعة الصغيرة.
وكان المدير في تلك اللحظة، قد جلس على أحدِ المقاعد المصنوعة من الصلب والمطاط، التي كانت تنتشر بصورة مريحة خلال الحدائق، ولكنه عند مرأى هذا الرجل الغريب، نهَض واقفًا واندفع إلى الأمام ويداه مبسوطتان، يبتسم بملء فيه، مُبديًا كلَّ أسنانه.
فصاح به المدير: «أهلًا بالمراقب! يا له من سرورٍ غير منظور! فيم تفكرونَ أيُّها الأولاد؟ هذا هو المراقب، هذا صاحب السيادة مصطفى مند.»
حينئذٍ دقَّت الرابعة في وقتٍ واحد، أربعة آلاف ساعة كهربية، من الأربعة آلاف حجرة التي يتألَّف منها المركز، وخرجت من أفواه الأبواق أصوات كأنها صادرة من أجسامٍ حية، وكانت تردد هذا القول: «الآن ينتهي عمل الدور الأول من النهار، ويبدأ عمل الدور الثاني، انتهى دور النهار الأول …»
وكان هنري فستر ومدير المصائر المساعد بالمصعد، في طريقهما إلى الغُرَف العُليا للتبادل، وقد ولَّيَا برنارد ماركس من رجال مكتب علم النفس ظهرَيْهما فجأة، فابتعدا عن رجلٍ له سمعة سيِّئة.
وما برح طنينُ الآلات الخافتُ ودويُّها يتردَّدُ في الجو القرمزي داخل مخزن الأجنة، والرجال الذين يتناوبون العمل يروحون جيئةً وذهابًا. هذا وجه يعاني السل الجلدي يخلي السبيل لوجهٍ آخر، والحمَّالون يَزْحَفون قدمًا بأنوفٍ شامخة وبغير انقطاع، يحملون رجال المستقبل ونساءه.
وسارت ليننا كراون مسرعةً نحو الباب.
كان ذلك الرجل صاحب السيادة مصطفى مند! وكادت أعين الطلبة أن تخرج من رءوسهم تحيةً له، ذلك هو مصطفى مند المراقب المقيم بغرب أوروبا، وهو أحد مراقبي العالم العشرة، وقد جلس مع المدير على المقعد، وسوف يمكث معهم ويتحدث إليهم فعلًا، فيدونون مذكراتهم رأسًا مِن فِيه، أي رأسًا من فَم فورد نفسه.
وبرز من الغابة المجاورة طفلانِ في لون برغوثِ البحر البُنِّي، فحدَّقا فيهم لحظةً بأعينٍ واسعة دهشة، ثم عادا إلى لَهوهما بين أوراق الأشجار.
وقال المراقب بصوته القوي العميق: «أحسب أنكم تذكرون جميعًا قول فورد الجميل، الذي أوحى له به، وذلك أن التاريخ أكذوبة لذيذة.» وكرر هذه العبارة في بُطءٍ شديد.
وسأل مساعد مدير المصائر هنري قائلًا: «هل أنت ذاهب هذا المساء إلى دار الصور المحسة؟ لقد سمعت أن الصورة الجديدة في الهمبرا ممتازة، وأن بها منظرَ حبٍّ فوق سجادة من جلد الدب، يقولون: «إنه جد عجيب، وإن كل شعرة من شعر الدب أمكن إخراجها، وهذه أعجب الصور المحسة».»
قال المراقب: «وذلك هو السبب في أنكم لا تتعلمون التاريخ، أما الآن فقد حان الوقت …»
ونظر إليه المدير وهو في حالةٍ عصبية؛ فقد نمتْ إليه تلك الإشاعات العجيبة، عن الكتب القديمة المحرمة المخبَّأة في إحدى الخزانات في مكتب المراقب، كالإنجيل ودواوين الشعر، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا فورد.
واعترض مصطفى مند نظرته الحائرة، والْتَوَتْ زوايا شفَتيهِ الورديتين تهكُّمًا وسخرية، وقال في نغمةٍ تنم عن الازدراء الخفيف: «حقًّا أيها المدير إنني لن أفسدهم.»
وغلب على المدير الارتباك.
إن أولئك الذين يشعرون باحتقار الآخرين لهُمْ محقُّون حين ينظرون إلى غيرهم بعين الاحتقار، ولقد ارتسمت على ثغر برنارد ماركس ابتسامة الازدراء، هل أمكن حقًّا إخراج كل شعرة من شعرات الدب!
وقال هنري فستر: «سوف أهتم بالذهاب.»
وانحنى مصطفى مند إلى الأمام، وهز لهم إصبعه، وقال وقد بعث صوته في حجبهم الحاجزة هزةً غريبة مثيرة: «حاولوا أن تدركوا كيف كانت الحال حينما كانت الأمهات تتناسل.»
تلك الكلمة الفاحشة مرة أخرى! ولكن أحدًا منهم لم يدُرْ بخلَده هذه المرةَ أن يبتسم.
«حاولوا أن تتصوَّروا معنى «عيش الفرد مع أسرته».»
ولقد حاولوا، وكان من الواضح أنهم لم يصيبوا أدنى نجاح.
«وهل تعرفون ما «البيت»؟»
فهزوا رءوسهم.
وصعدت ليننا كراون سبعةَ عشرَ طابقًا من غرفتها السفلى المظلمة القرمزية، وخرجت من المصعد، ثم التفتت يمينًا، وسارت بحذاء ممر طويل، وفتحت الباب الذي كُتِب عليه «حجرة اللبس للبنات»، وغاصت في خضمٍّ مضطرب من الأذرعة والصدور والأردية الداخلية، وكان هناك مائة حمام، تندفع فيها أو تنبجس منها سيولُ الماء الساخن، وكنت تسمع الدوي والأزيز يصدر عن ثمانين آلة من آلات التدليك المفرغة المذبذبة، وهي تدلك وتجفف في وقتٍ واحد الأجسامَ الصلبة، التي لفَحتْها الشمس بحرارتها لثمانين نموذج رفيع من نماذج الإناث، وكانت كل منهن تتكلم بأعلى صوتها، وكانت هناك كذلك آلة للموسيقى المركبة، تنشد نغمة فردية كأنها من بوقٍ عظيم.
وقالت ليننا إلى الشابة التي كان إلى جوارها المشاجب والصندوق المقفل: «أهلا فاني.»
وكانت فاني تعمل بغرفة القوارير، وكان اسم أسرتها كذلك كراون، ولكن حيث إن الألفي مليون من السكان الذين يقطنون هذا الكوكب، لم يكن لهم سوى عشرة آلاف اسم لهم جميعًا، فإن تشابه الأسماء لم يكن أمرًا عجيبًا.
وجذبت ليننا مشبكَ سُترتها إلى أسفل، وقد أشارت بيديها إلى الفتاتين، اللتين أمسكتا بالسراويل أن يخلعاها، وأشارت إلى غيرهن أن يَحلُلن رداءها السفلي، ثم انطلقت نحو الحمامات، وما برحت تلبس حذاءها وجواربها.
البيت وما أدراك ما البيت: «هو بضع حجرات صغيرة، يزدحم إلى حدِّ الاختناق بساكنيه، وهم رجل، وامرأة تلد بين الحين والحين، وثلة من البنين والبنات من مختلف الأعمار، الهواء فيه منعدم، والفضاء منعدم، كأنه سجن قذر، ينتشر فيه الظلام والمرض والروائح الكريهة.»
(وكان تعبير المراقب شديدَ الوضوح جدًّا، حتى إن ولدًا من الأولاد، أشدُّ حساسية من الآخرين، شحب لونه عند مجرد الوصف، وأوشك أن يخرَّ عليلًا.)
وخرجت ليننا من الحمام، وجففت نفسها بالمِنشفة، وأمسكت بأنبوبة طويلة مرنة مثبتة في الحائط، ووضعت طرفها فوق ثديها كأنها تزمع الانتحار، ثم ضغطت على المفتاح الضابط إلى أسفل، فإذا بزوبعة من الهواء الدافئ تنثر فوقها مسحوق تالكم الدقيق، وكان فوق حوض الغسيل ثمانية أنواع مختلفة من العطور والكولونيا تتدفق من الصنابير، وقد فتحت الصنبور الثالث من جهة الشمال، وبللت نفسها «بالشبر»، وحملت حذاءها وجواربها في يدِها، ثم خرجت لعلها تجد إحدى الآلات المفرغة المذبذبة خاليةً من العمل.
والبيت قذر من الوجهة النفسية، كما هو قذر من الوجهة المادية، فهو من الوجهة النفسية أشبه ما يكون بجحر الأرنب أو كومة القاذورات، الحياة فيه مكدسة أشد التكديس؛ ولذا يكثر فيه الاحتكاك وتضطرم العواطف. وما أكثر ما ينشب بين أعضاء الأسرة من تقارب خانق وعلاقات خطرة جنونية فاسدة! والأم تحنو على أطفالها (وأقول أطفالها هي) كالمجنونة، إنها تحنو عليهم كما تحنو الهرة على الهريرات، ولكنها هرة تستطيع الكلام، وتسطيع أن تقول وتكرِّر قولها: «ولدي، ولدي، هيه يا ولدي، إنه فوق صدري، ما أصغر يديه، إنه جائع، ما أشد سروري به رغم إيلامي! وأخيرًا ينام ولدي على جانب فمِه فقاعة من اللبن الأبيض، إنه ينام …»
قال مصطفى مند وقد أومأ برأسه: «نعم، لكم أن ترتعدوا.»
وعادت ليننا من عملية الآلة المفرغة المذبذبة، كأنها لؤلؤة تضيءُ من داخلها، وتومض ببريق قرنفلي، ثم سألت: «مع مَن سوف تخرجين هذا المساء؟»
– «لا أحد.»
فرفعت ليننا حاجبيها من الدَّهَش.
قالت فاني: «لقد شعرت أخيرًا بشيءٍ من التَّوَعُّك، فنصحني الدكتور ولز أن آخذ «عوضًا عن الحمل».»
– «ولكنك بلغت التسعَ عشرة من العمر فقط يا عزيزتي، وعوض الحمل الأول لا يتحتَّمُ إلا في الحادية والعشرين.»
– «أعرف ذلك يا عزيزتي، ولكن من الناس من يتحسن لو بكر به. لقد خبرني الدكتور ولز أن السمراوات ذوات الحوض الواسع من أمثالي، يجب أن يأخذن عوض الحمل الأول في السابعة عشرة؛ ولذا فإني في الواقع تأخرت عامين، ولم أبكر بهما.» وفتحت باب خزانتها وأشارت إلى صفٍّ من الصناديق، وإلى القوارير ذوات البطاقات فوق الرفِّ العلوي.
وقرأت ليننا العبارات بصوتٍ مرتفع: «هذه عصارة بعض خلايا المبيض، أوفارين، طازج مضمون، لا يستعمل بعد أول أغسطس من عام ٦٣٢ف، خلاصة الغدة الثديية، تؤخذ ثلاث مرات كل يوم، قبل الوجبات، مع قليل من الماء، المشيمة: ﻫ ﺟ ﺟ، يستعمل للحقن مرة كل ثلاثة أيام.» فارتعدت ليننا وقالت: «أوه إنني أكره حقن الوريد، ألست مثلي؟»
قالت فاني وهي فتاة حساسة جدًّا: «أجل، ولكنها حين تنفع المرء …»
كان فورد — أو فرويد، كما كان يحب أن يسمي نفسه (لسببٍ لا نفهمه)، كلما تحدث عن الشئون النفسية — أول من كشف عن الأخطار المروعة في الحياة العائلية. كان العالم مليئًا بالآباء — ولذا كان مليئًا بأسباب الشقاء، وكان مليئًا بالأمهات — ولذا كان مليئًا بكل نوع من أنواع الشذوذ من السادزم (أو الولع بتعذيب الآخرين) إلى العفة، وكان مليئًا بالإخوة والأخوات والأعمام والعمات — ولذا فهو مليء بالجنونِ والانتحار.
– «ومع ذلك فمتوحِّشو ساموا، في بعض الجزر البعيدة عن ساحل غنيا الجديدة …»
وسطعت الشمس الاستوائية كالشهد الدافئ، فوق أجساد الأطفال العارية، الذين يتقلبون بغير نظامٍ بين زهرات الباسية، وكان البيت في أي منزل من المنازل العشرين ذات السقوف المصنوعة من النخيل، وكان الحمل عند أهل طروبرانده عمل الأسلاف البائدين، ولم يسمع أحد بالأبِ.
قال المراقب: «إن المتناقضات تتلاقى، لا لشيءٍ إلا لأنها خُلقتْ لكي تتلاقى.»
– «يقول الدكتور ولز: إن الاستعاضة عن الحمل ثلاثة شهور، يكون لها أثر كبير في صحتي خلال السنوات الثلاث أو الأربع المُقبلة.»
قالت ليننا: «أرجو أن يكون مصيبًا، ولكن هل تقصدين حقًّا أن تقولي، يا فاني، إنك خلال الأشهر الثلاثة المقبِلة لا يصح أن …»
– «كلا يا عزيزتي، إنما يكون ذلك لمدة أسبوع أو أسبوعين فقط، سأقضي هذا المساء في النادي، ألعب البريدج الموسيقي، وأظن أنك ستخرجين، أليس كذلك؟»
فأومأت ليننا برأسها.
– «مع مَن؟»
– «مع هنري فستر.»
– «مرة أخرى؟» وبدا على وجه فاني الشفيق الشاحب كالقمر، تعبير غير ملائم، ينم عن دهشة الألم وعدم الموافقة، ثم قالتْ: «هل تقصدين أن تقولي إنك لا زلت تخرجين مع هنري فستر؟»
الأمهات والآباء، الإخوة والأخوات، وكان هناك كذلك الأزواج والزوجات والعاشقون، وكان هناك كذلك الزواج من واحدة والهيام.
قال مصطفى مند: «وإن كنتم ربما لا تعرفون ما هذه الأشياء.» فهزُّوا رءوسهم.
«الأسرة والزواج من واحدة، والهيام، في كل هذا تلمس التحديد والاهتمام المركز، وتوجيه الدوافع النفسية والنشاط في قناة ضيقة.»
ثم اختتم حديثه مرددًا المثل الهينوبيدي: «كل فرد يتعلق بكلِّ فردٍ آخر.»
فأومأ الطلبة برءوسهم بالموافقة مؤيِّدين عبارةً سمعوها أكثر من ٦٢ ألف مرة في الظلام، مما جعلهم لا يقبلون صدقَها فحسب، بل يعتبرونها بدهية توضح نفسها، لا جدال البتة فيها.
واحتجت ليننا قائلة: «ولكني لم ينقض عليَّ أكثر من أربعة أشهر تقريبًا منذ رفقتي لهنري.»
قالت فاني: «أربعة أشهر فقط! إني أحب ذلك.» ثم واصلت حديثَها مشيرة بأصبعها، كأنها تتهم غيرها، وقالت: «وأكثر من ذلك، لم يكن هناك غير هنري طوال هذه المدة، أليس كذلك؟»
فاحمرَّت ليننا خجلًا، وتورَّدتْ وَجْنَتاها، ولكنها تحدت زميلتها بنظرة عينيها ونغمة صوتها، وأجابت في شراسة شديدة، قالت: «كلا، لم يكن هناك رجل آخر، ولست أرى البتة لماذا يكون هناك ثانٍ.»
ورددت فاني عبارتها: «لست أرى البتة لماذا يكون هناك ثانٍ.» وكأنها توجه الخطاب إلى منصتٍ غير مرئي خلف كتف ليننا اليسرى، ثم غيرت نغمة صوتها فجأة، وقالت: «ولكني أظن حقًّا — وأنا جادة — أنك ينبغي أن تحرصي. إن دوام صحبتك لرجل واحد سيِّئ جدًّا، إذا كنت في الأربعين أو الخامسة والثلاثين، فإن الأمر لا يكون سيِّئًا إلى هذا الحد، ولكنه لا يليق بك البتة في سنك يا ليننا، وأنت تعلمين كيف يعترض المدير بشدة على كل تركيز أو مواصلة في أي شأن من الشئون، أربعة شهور مع هنري فستر، دون أن يكون لك رجل آخر، أحسب أنه يغضب لو عرف …»
قال المراقبُ: «تخيلوا الماء تحت الضغط في إحدى الأنابيب.» فتخيَّل الطلبة ذلك، ثم قال: «سأطعنه مرة، وسوف ترون مقدار انبثاقه.»
وطعنه عشرين مرة، فتفجَّرت عشرون نافورة صغيرة، يتحدر منها قطرات صغيرة من الماء.
– «ولدي، ولدي! …»
– «أماه!» إن الجنون مُعْدٍ.
– «حبيبي، وحيدي، عزيزي، عزيزي …»
الأم والزواج من واحدة والهيام. وانبثقت مياه النافورات إلى أعلى، وكان انبجاسها مزبدًا شديدًا، ولم يكن للدافع سوى مخرج واحد، حبيبي، ولدي. لا عجب إن كان هؤلاء القوم المساكين السابقون لأبناء العصر الحديث مجانين خبيثين تُعساء؛ فإن دنياهم لم تسمح لهم أن يكونوا أصحاء العقول فاضلين سعداء، ذلك أنهم كانوا يعانون وجود الأمهات والمحبين، والمحرمات التي لم يألفوا اقترافها، ووسائل الإغراء ووخزات الضمير عند الوحدة، والأمراض وآلام العزلة التي لا تنتهي، والشكوك والفقر، وإذا كان إحساسهم بذلك شديدًا، يزداد في حالات العزلة الفردية التي لا رجاء فيها، فكيف يستقرون؟
– «ليس ثمة بك حاجة إلى التخلِّي عنه، ولكن ليكُنْ لك غيره من حينٍ إلى آخر، هذا كل ما في الأمر، فإن لديه بناتٍ أخريات، أليس كذلك؟»
فاعترفت بذلك ليننا.
– «بالطبع، وثِقِي أن هنري فستر هو الرجلُ المهذب الكامل، وهو دائمًا على صواب، ثم هناك المدير تعتبرين به، أنت تعرفين أنه يصرُّ على أن …»
وأومأت ليننا برأسها وقالت: «لقد ضرَبني من الخلف ضربةً خفيفة اليوم بعد الظهر.»
فانتصرت فاني وقالت: «ها أنت ذا، إن هذا يبيِّن لك عقيدته، التقيُّد بالقديم إلى أبعد الحدود.»
وقال المراقب: «الاستقرار، الاستقرار، لا حضارة بغير استقرار اجتماعي، ولا يكون الاستقرار الاجتماعي بغير استقرار الفرد.» وكان صوته كالبوق، استمع إليه الطلبة فأحسُّوا بالعظمة وبالدفء.
إن الآلة تدور ثم تدور، إنها تدور إلى الأبد بغير انقطاع، والموت إن وقفت، إن ألف مليون نقشوا قشرة الأرض، ثم بدأت العجلات تسير، وفي خلال مائة وخمسين عامًا كان هناك ألفا مليون، ولو وقفت العجلات جميعًا هبط العددُ مرة أخرى إلى ألف مليون فقط في مائة وخمسين أسبوعًا، فإن ألف ألف ألف رجل وامرأة يهلكون ويفنون.
يجب أن تدورَ العجلات بغير انقطاع، ولكنها لا تدور بغير رقابة، لا بد من وجود الرجال الذين يرقبونها، رجال في ثبات العجلات فوق محاورها، رجال عقلاء، مطيعون، ثابتون في قناعتهم.
ولكنهم يصيحون: «ولدي، أمي، وحيدي، حبيبي الأوحد.» ويثنون قائلين: «خطيبتي، إلهي الجبار.» ويصيحون متألمين، ويدندنون من الحُمَّى، ويولولون من الشيخوخة والفقر؛ فكيف يعنونَ بالعجَلات؟ وإذا لم يعنوا بها … إن جثث ألف ألف ألف رجل وامرأة يشق دفنها أو إحراقها.
قالت فاني متلطفة: «وفي النهاية ليس هناك ما يؤلم أو ينفر، إن كان لك إلى جانب هنري رجل آخر أو رجلان، فإن أدركت هذا، فإنه ينبغي لك أن تكوني على شيءٍ من الفَوضَى …»
وأصر المدير على أن «الاستقرار هو حاجتُنا الأولى والأخيرة، الاستقرار هو سبب كل هذا».
ولوَّحَ بيده مشيرًا إلى الحدائق، وإلى البناء الضخم، مركز التكييف، وإلى الأطفال العارين، وقد توارَوا بين الأشجار أو انطلَقوا خلالَ الحقول.
وهزت ليننا رأسها وقالت: «إنني لم أحسَّ أخيرًا بالرغبة الشديدة في الفَوضى، إن الإنسان لا يحسُّ ذلك في بعضِ الأحايين، ألم تصلي إلى هذا أنت كذلك يا فاني؟»
فأومأت فاني برأسها دليلًا على العطف والإدراك، ثم قالت في إيجازٍ: «ولكن لا بدَّ للمرء من بذل الجهد، لا بدَّ له من تمثيل الدور، فكل فرد يتعلق بكل فردٍ آخر.»
وكررت ليننا هذه العبارة: «أجل، إن كل فرد يتعلق بكل فرد آخر.» في بطءٍ شديد، ثم تنهدت وصمتَتْ لحظة، وتناولت يد فاني وضغطت عليها بخفةٍ، وقالت: «لقد أصبت يا فاني، وسأبذل الجهد كالمعتاد.»
وبعدما تتدفق القطرات المحبوسة، التي تسبب الانفعال، ينبثق فيضٌ من الشعور، أو فيض من العواطف، أو حتى من الجنون؛ فإن ذلك يتوقف على قوة التيار، وعلى ارتفاع الحاجز وقوته، فالتيار الذي لا يقف في سبيله شيء يتدفق بيسرٍ خلال مجاريه المعينة، فيكون الهناءة والهدوء والجنين جائع، والأيام تتوالى ومضخة الدم تدور بغير انقطاع دوراتها الثمانمائة كل دقيقة، ويصيح الطفل في القارورة، فتظهر في الحال مربية ومعها زجاجة من الإفراز الخارجي، ويكمن الشعور في تلك الفترة من الزمن التي تقعُ بين الرَّغبةُ وإنجازها، وإذا قصُرتْ تلك الفترة حطمت كل تلك الحواجز القديمة غير الضرورية.
وقال المراقب: «ما أسعد حظكم يا أبنائي! إننا لم ندخر وسعًا في أن نجعل حياتكم سهلة من الناحية العاطفية، لكي نحفظكم — كلما أمكَنَ ذلك — من أن يكون لكم أي نوع من أنواع العواطفِ.»
وردَّد هنري فستر سؤال مساعد مدير المصائر وهو يزمُّ سراويله: «ليننا كراون؟» ثم قال: «إنها فتاة عظيمة، هوائية بدرجةٍ تدعو إلى العجب، ويدهشني أنك لم تظفر بها.»
قال مساعد مدير المصائر: «لا أستطيع أن أتصوَّر كيف كان ذلك، سوف أظفر بها في أول فرصة تسنح.»
وكان برنارد ماركس في الجانب الآخر من الممر في حجرة التغيير، وقد استمع إلى ما كانا يتحدثان به، وشحُب لونُه.
قالت ليننا: «وأصدقك القول، لقد بدأت أن أمل بعضَ الشيء ألا يكون غير هنري كل يوم.» وجذبت جوربها الأيسر وسألت بنغمةٍ عرضية جدًّا، كان من الجلي أنها اضطرت إليها اضطرارًا، قالت: «هل تعرفين برنارد ماركس؟»
فبدا الذعر على فاني، وقالت: «لعلك لا تقصدين …؟»
– «ولماذا لا أقصد؟ فإن برنارد من النوع (+أ)، ثم إنه فوق ذلك طلب إليَّ أن أذهب معه إلى أحد الأماكن المخصصة للمتوحشين، وكنت دائمًا أتوق إلى أن أرود أحد تلك الأماكن.»
– «ولكن سُمْعته؟»
– «فيمَ تهمني سمعته؟»
– «يقولون إنه لا يحب لعبة جُولف الموانع.»
وقالت ليننا ساخرة: «إنهم يقولون ويقولون.»
وقالت فاني في صوتٍ ينمُّ عن الرعب: «ثم هو يقضي أكثر وقته وحيدًا منعزلًا.»
– «لكنه لن يكون وحيدًا وهو معي، ثم إني لا أدري لماذا تغلظ قلوب الناس معه إلى هذا الحد؟ أظن أنه على كثيرٍ من الظرف.» ثم ابتسمت لنفسها، لقد كان يخجل بدرجةٍ غير معقولة — بل قل كان يخشاها — كأنها مراقبة عالمية وهو عامل من نوع «−ﺟ» من عمَّال الآلات.
قال مصطفى مند: «فكروا في حياتكم، هل اصطدم أحدكم مرة ما بعقَبةٍ لا يمكن التغلب عليها؟»
فكانت الإجابة بالصمت الذي يدلُّ على النفي.
«وهل اضطر أحدكم إلى أن يعيش فترةً طويلة من الزمن بين الإحساس بالرغبة وتحقيقِها؟»
وهمَّ أحد الأولاد بالإجابة، ثم تردد.
فقال له المدير: «انطقْ، ولا تجعل صاحب السيادة في انتظارك.»
– «اضطررت مرةً أن أنتظر نحو أربعة أسابيع قبل أن تسمح لي فتاة اشتهيتها بحيازتِها.»
– «وهل أحسست بعاطفةٍ قوية نتيجة لذلك؟»
– «بل مُزعجة.»
قال المدير: «هي حقًّا مزعجة، ولقد بلغ بأسلافنا الغباء وقصر النظر أنهم قاطعوا المصلحين الأوائل، الذين تطوعوا لإنقاذهم من هذه العواطفِ المزعجة.»
واصطكت أسنان برنارد وهو يقول: «إنهم يتحدثون عنها كأنها قطعةٌ من اللحم، يظفر بها هذا أو يظفر بها ذاك كأنها لحم الضأن، إنهم ينحطون بها فيعاملونها كأنها ضأن، لقد قالت إنها سوف تفكر في الأمر، وقالت إنها سوف تجيبني هذا الأسبوع، أي فورد، يا فورد.» وكان يحب أن يتوجه إليهما ويضربهما على وجهيهما ضربًا شديدًا مرةً بعد أخرى.
وكان هنري فستر يقول: «نعم، إني حقًّا أنصح لك أن تجربها.
خذوا مثالًا ميلاد الأطفال بغير حمل، لقد رسم بفتسنر وكواجوشي الطريقة الفنية لذلك كاملة، ولكن هل أعارتها الحكومة اهتمامًا؟ كلا، فلقد كان هناك شيء اسمه المسيحية، وكان النساء يُرغَمن على أن يبقين من الكائنات التي تتناسل بالحمل.»
قالت فاني: «ما أقبحه!»
– «ولكني أحب ملامحه.»
– «وهو صغير الحجم جدًّا!» وقطبت فاني وجهها؛ لأن صِغَر الحجم كان دليلًا على انحطاط النوع وبشاعته.
قالت ليننا: «أظن ذلك محبَّبًا نوعًا ما، فالمرء يحس بالميل إلى تدليله، كأنه قط.»
وكانت تلك صدمة لفاني، قالت: «يقولون إن أحد العمال أخطأ معه — وهو ما يزال في القارورة — حسبه من «ﺟ» ووضع الكحول في دمه، وهذا هو السبب في نقص نموه.»
فقالت ليننا حانقة: «ما هذا الهراء!»
– «كان التعلم أثناء النوم محرمًا بالفعل في إنجلترا، وكان هناك شيء اسمه الحرية، وأصدر البرلمان — إن كنتم تعرفون ما هو — قانونًا ضدَّها، وما زالت السجلات باقية، لدينا خطب عن حرية الموضوع، والحرية في أن تكون عاجزًا بائسًا، والحرية في أن يضع المرء نفسه موضعًا شاذًّا.»
وربَتَ هنري فستر على كتِف مساعد مدير المصائر، وقال: «ولكن أؤكد لك يا عزيزي أنك سوف تلقى ترحيبًا، وعلى كل حال؛ فإن كل فرد يتعلق بكل فرد آخر.»
وفكر برنارد ماركس وهو متخصص في التعليم أثناء النوم (هبنوبيديا)، في التكرار مائة مرة ثلاث مرات في الأسبوع لمدة أربع سنوات، إن التكرار ٦٢٤٠٠٠ مرة يكوِّن حقيقة واحدة، يا لهم من بُلَهاء!
– «أو نظام الطبقات، كانوا يقترحونَه دائمًا، وينبذونه دائمًا، وكان هناك شيء اسمه الديمقراطية، كأن الناس كانوا متساويين في ناحيةٍ أخرى غير مساواتهم الجثمانية الكيميائية.»
– «كل ما أستطيع أن أقوله أني سوف أقبل دعوته.»
وكان برنارد يمقتهما كلَّ المقت، ولكنهما اثنان، عظيمان، قويان.
– «بدأت حرب السنوات التسع عام ١٤١ف.»
– «إن ذلك لن يكون حتى لو صدَق ما قيل عن الكحول في دمه.»
– «فُسجين وكلوروبكربن واثيليود واكيتيت وديفينيلكيانارسين وتركلور مثيل كلورفورميت وكلوروثيل سلفايد، ولا داعي لذكر حامض هيدروكيانك.»
واختتمت ليننا الحديث قائلة: «وهو ما لا أصدقه.»
– «الضجة التي تحدثها أربعة عشر ألف طائرة تتقدم بنظامٍ صريح، ولكن في كورفرستندام وارندسمنت الثامن، لا يكاد صوت انفجار قنابل الحجرة يعلو على فرقعةِ كيس من الورق منفوخ.»
– «ذلك لأني أحب أن أرى أحد الأماكن المخصصة للمتوحشين.
– «لا رجاء منك يا ليننا، لقد يئست منك.»
– «وكانت الطريقة الروسية الفنية لإفساد موارد المياه طريقةً فريدة تدل على النبوغ.»
واستمرت فاني وليننا في التغيير صامتتين، وقد ولت كل منهما الأخرى ظهرها.
– «حرب السنوات التسع، والانهيار الاقتصادي الكبير، كان الناس أمام أمرين: إما السيطرة على العالم أو دماره، إما الاستقرار أو …»
وقال مساعد مدير المصائر: «إن فاني كراون فتاة جميلة كذلك.»
انتهى الدرس الأول في شعور الطبقات في حجرات الأطفال، وكانت الأصوات توائم بين الطلبة والإمداد الصناعي في المستقبل، وتهمس قائلة: «أحب الطيران، أحب الطيران، أحب الحصول على الملابس الجديدة، أحب …»
– «ماتت الحرية بالطبع من أثر قنبلة الحجرة، ولكنَّك مع هذا لا تستطيع أن تفعل شيئًا بالقوة.»
– «ليست هوائية كليننا.»
واستمر الهمس الذي لا يفتر يقول: «ولكن الملابس العتيقة رديئة جدًّا، إننا دائمًا نطرحها جانبًا. الاستغناء عنها خير من إصلاحها، الاستغناء عنها خير من إصلاحها، الاستغناء عنها خير …»
– «الحكم يتم بالجلوس لا بالضَّرب، فأنت تحكم بالعقل والأرداف، ولا تحكم بقبضة اليد، فكان هناك مثلًا تجنيد الاستهلاك.»
قالت ليننا: «أنا مستعدة، دعنا نقيم الصلح يا عزيزتي فاني.» ولكن فاني بقيت صامتة متحولة عنها.
– «كل رجل وكل امرأة وكل طفل يُرغَم على استهلاك قدرٍ معين كل عام، وذلك لمصلحة الصناعة، والنتيجة الوحيدة …»
– «الاستغناء خير من الإصلاح، كلما زاد الرتق قلتِ الثروة، كلما زاد الرتق …»
قالت فاني مؤكدة في نغمةٍ محزنة: «سوف يشكل عليك الأمر في يومٍ من الأيام.»
– «اعتراض الضمير الحي بدرجةٍ هائلة، أي شيء لا يستهلك، عود إلى الطبيعة.»
– «إني أحب الطيران، إني أحب الطيران.»
– «عود إلى الثقافة، نعم إلى الثقافة فعلًا، إنك لا تستهلك كثيرًا، إذا جلست صامتًا وأخذت تقرأ الكتب.»
وسألت ليننا: «هل أنا حسنة المظهر؟» وكانت سترتها مصنوعة من قماشٍ حامض الزجاج الأخضر، وعلى سوارها وبنيقتها فراء لزج.
– «إن ثمانمائة رجل ممن يعيشون عيشًا بسيطًا، حصدتهم المدافع الآلية عند جولدرز جرين.»
– «الاستغناء خير من الإصلاح، الاستغناء خير من الإصلاح.»
سراويل قصيرة من المخمل المخطط الأخضر، وجوارب بيضاء من الصوف اللزج مطوية إلى أسفل تحت الركب.
– «ثم جاءت مجزرة المتحف البريطاني الشهيرة، ألفا مروحة ثقافية مزودة بغاز دكلورثل سلفايد.»
وكانت تظلل عيني ليننا قبعة خيَّال ملونة بالأخضر والأبيض، وحذاؤُها أخضر لامع، شديد الصقل.
قال مصطفى مند: «أدرك المراقبون في النهاية أن القوة لا تفيد، إن طريقة التناسل بغير حمل والتكييف على طريقة بافلوف الجديدة، والتعلم أثناء النوم أبطأ ولكنها آكد جدًّا …»
وأدارت حول خصرها حزامًا موشًّى بالفضة أخضر اللون، مصنوعًا من جلدٍ كجلد مراكش، يبرز منه المدد المقرر من المواد التي تمنع الحمل (لأن ليننا لم تكن خنثى).
– «إن مكتشفات بفتسنر وكاواجوشي انتُفع بها أخيرًا، والدعاية الكبيرة ضد التناسل بالحمل …»
وصاحت فاني متحمسة: «ما أكملك!» إنها لم تستطع مرة من المرات أن تقاوم سحر ليننا طويلًا، ثم قالت: «وما أحلى هذا الحزام المالتسي!»
– «مصحوبة بحملةٍ ضد الماضي، وبإغلاق المتاحف، وتحطيم الآثار التاريخية (ولحسن الحظ تحطم أكثرها في حرب السنوات التسع)، وبإعدام كل الكتب التي نُشرت قبل عام ١٥٠ف.»
قالت فاني: «لا بد لي من الحصول على واحدٍ مثله.»
– «كانت هناك — مثلًا — أشياء تسمى الأهرام.»
– «إن حزامي القديم الأسود اللامع …»
– «ورجل يسمى شيكسبير، إنكم بالطبع لم تسمعوا بهم.»
– «إن حزامي هذا شائن لي جدًّا.»
– «هذه هي مزايا التربية العلمية الحقيقية.»
– «كلما زادَ الرتق قلت الثروة، كلما زادَ الرتقُ قلت …»
– «إن إدخال نموذج فورد الأوَّل رقم «ت» …»
– «إنه عندي منذ ثلاثة أشهر تقريبًا.»
– «اختير بداية لتأريخ العهد الحديث.»
– «الاستغناء خير من الإصلاح، الاستغناء خير …»
– «وكان هناك — كما قلت من قبل — شيء اسمه المسيحية.»
– «الاستغناء خير من الإصلاح.»
– «إن قواعد الأخلاق والفلسفة التي تتعلق بنقصِ الاستهلاك …»
– «أحب الملابس الجديدة، أحب الملابس الجديدة، أحب …»
– «كانت ضرورية جدًّا عندما كان الإنتاجُ ناقصًا، أما في عصر الآلات وتثبيت النتروجين، فهي قطعًا جريمةٌ ضد المجتمع.»
– «لقد أعطاني إياه هنري فستر.»
– «إنه من جلد مراكش الجديد الأصلي.»
– «عندنا الآن حكومة عالمية، وعندنا الاحتفالات بيوم فورد، وأغاني الجماعة، وصلوات التماسك.»
وكان برنارد ماركس يفكِّرُ ويقول لنفسه: «وحق فورد إني لأمقتهما أشدَّ المقت!»
– «وكان هناك شيء اسمه السماء … ولكنهم كانوا برغم ذلك يشربون كميات كبيرة من الكحول.»
– «مثل اللحم، مثل كمية من اللحم.»
– «وكان هناك شيء اسمه الروح، وشيء اسمه الخلود.»
– «اسألي هنري من أين أتى به.»
– «ولكنهم كانوا يتعاطون المورفين والكوكايين.»
– «ومما يزيد الأمرَ سُوءًا أنها تحسب نفسها كاللحم.»
– «وفي عام ١٧٨ف أُعِينَ بالمال أَلْفا عالم من علماء العقاقير وعلماء الكيمياء الحيوية.»
قال مساعد مدير المصائر مشيرًا إلى برنارد ماركس: «إنه عابس.»
– «وبعد ستِّ سنواتٍ أصبحوا ينتجون هذه العقاقير كاملة التركيب، ويعرضونها في السوق.»
– «دعنا نغريه.»
– «مخدر سار يبعثُ على اختلاط العقل.»
– «كل مزايا المسيحية والكحول، ولا شيءَ من عُيوبهما.»
«وحق فورد إني أتمنى أن أقتله!» ولكنَّه اكتفى بقوله: «كلا، أشكرك.» ونبَذَ أنبوبة الأقراص التي قدمت له.
– «تأخذ من الواقع عطلة كلما أردت، وتعود بغير صداعٍ أو خرافة.»
وألح هنري فستر قائلًا: «خذها، خذها.»
– «لقد تأكدَ الاستقرار عمليًّا.»
قال مساعد مدير المصائر مردِّدًا عبارة من الحكم الهبنوبيدية المألوفة: «إن سنتيمترًا مكعبًا واحدًا يشفي عشرًا من العواطف الحزينة.
ولم يبقَ إلا أن نتغلب على الشيخوخة.»
وصاح برنارد ماركس قائلًا: «تبًّا لك.»
– «على رِسلِك.»
– «أذكر أن الجرام خير من التباب.» ثم انصرفوا ضاحِكين.
– «إن كل الوصمات الجثمانية للشيخوخة، قد أزيلت وزالتْ معها بالطَّبع …»
قالت فاني: «لا تنسَيْ أن تسأليه عن ذلك الحِزام المالتسي.»
– «وزالت معها كلُّ الخصائص العقلية عند الشيوخ، فالشخصية تبقى ثابتة طوال الحياة.»
– «… بقي شوطان من جولف الموانع نُتِمُّها قبل الظلام، لا بدَّ أن أطير.»
– «العمل واللعب. إن قوانا وذوقَنا تبقى في السِّتينَ على ما كانت عليه في السابعةَ عشرة، لقد اعتاد الشيوخ في الأيام السالفة السيئة أن يبتعدوا، ويعتزلوا، ويتديَّنوا، ويُنفقوا الوقت في القراءة والتفكير، التفكير!»
وكان برنارد ماركس يقول لنفسه وهو يسير في الممر صوبَ المِصعد: «يا لَهم من حمقى خنازير!»
– «نعم هذا هو التقدم، الشيوخ يعملون، والشيوخ ينكحون، إن الوقت لا يتسع للشيوخ، فهم لا يفرغون من المتعة، ولا يجدون لحظةً واحدة يجلسون فيها للتفكير، وإذا سنَحت لهم — لسوء حظهم — فرجة من الوقت تشقُّ لهوهم المتصل، فهناك السوما اللذيذة، يتناولون منها نصف جرام لعطلة نصف اليوم، وجرامًا لعطلة نهاية الأسبوع، وجرامين لرحلة إلى بلاد الشرق العظيمة، وثلاثة لرحلةٍ أزلية مظلمة في القمر، ثم يعودون من فراغهم آمنين مطمئنين إلى عملهم اليومي المستقر وإلى لهوهم، يفرُّون من دار من دور الصور المحسة إلى آخر، ومن فتاةٍ إلى أخرى هوائية، ومن شوطٍ من الجولف الممغطس الكهربائي إلى …»
وصاح المدير غاضبًا: «انصرفي أيتها الفتاة الصغيرة، انصرف أيها الغلام! ألستما تريان أن صاحب السيادة منهمكٌ في العمل؟ انصرفا وتلهَّيَا بالحب في مكانٍ آخر.»
وقال المراقب: «يا لهم من أطفال مساكين!»
وسار الحمالون مُبْطئين متعاظمين، مَصحوبين بِدَويِّ الآلات الخفيف، يقطعون ثلاثةً وثلاثين سنتيمترًا في الساعة، وتألَّق في الظلام الأحمر عددٌ من الياقوتِ لا يُحصَى.