الفصل الرابع
١
كان المصعد يغصُّ بالرجال من حجراتٍ «أ» للتغيير، وقد قوبلت ليننا عند دخولها بالإيماء الودي والابتسام تحيةً لها، فلقد كانت فتاة محببة إلى الجميع، قضَتْ مع كلٍّ منهم تقريبًا ليلة في وقتٍ من الأوقات.
وقالت لنفسها وهي تردُّ التحية: «إنهم أولاد أعزَّاء، لهم سِحرٌ وفتنة!» وبرغم هذا فكم كانت تود لو لم تكن أُذنا جورج أدزل بهذا الحجم الكبير (ربما أعطى نقطة أكثر مما ينبغي من باراثيرويد عند المتر ٣٢٨)، ونظرت إلى بنتو هوفر فلم يسعها إلا أن تذكر أنه حقًّا يبدو كثيف الشعر عندما يخلع ملابسه.
والتفتت إلى إحدى الزوايا بعينٍ حزينة، لذكرى شعر بنتو الأسود المجعد، فرأتْ برنارد ماركس بجسمه الصغير النحيل، ووجه المكتئب الحزين.
فتوجهت نحوه، وقالت: «برنارد! لقد كنت أبحث عنك.» ورن صوتها في وضوحٍ، وعلا على دويِّ المصعد وهو يرتفع، والتفتَ الآخرون مستطلعين الخبر، قالت: «كنت أود أن أتحدث معك عن خطة المكسيك الجديدة التي وضعناها.» واستطاعت أن ترمُق بطرف عينها بنتو هوفر وهو فاغر فاه من الدهشة، فساءها انفراج فمه، وقالت لنفسها: «يدهشني أني لم أتوسل إليه أن أرافقه مرة أخرى!» ثم رفعت عقيرتها بالكلام مرة أخرى، وقالت بحرارةٍ لم تألفها: «إني أحب أن أرافقك أسبوعًا في شهر يوليه.» (وكانت على أية حال تبرهن علانية على خيانتها لهنري، وينبغي أن تسر فاني لذلك، حتى إن كانت الخيانة مع برنارد)، وابتسمت له ليننا ابتسامة حُلوةً لها مَعناها، وقالت: «هذا إن كنت لا تزال تحبُّ رفقتي.»
فتدفَّقَ الدم في وجه برنارد الشاحب، وساءلت ليننا نفسَها متعجبة مندهشة: «ما الذي يدعو إلى ذلك؟» ولكنها في الوقت نفسه تأثرت لهذه الاستجابة العجيبة لنفوذها.
وقال برنارد وهو يتلجلج: «ألا يجدر بنا أن نتحدث في ذلك في مكانٍ آخر؟» وبدا عليه عدم الارتياح بصُورةٍ مزعجة.
وقالت ليننا لنفسها: «كأنني أتحدث عن شيءٍ منفِّر، لا أحسبُ أنه يشمئزُّ أ كثرَ من ذلك، لو أني تفكهت بنكتةٍ قذرة — كأَنْ أسألَه مَن تكون أمه، أو ما شابه ذلك.»
وارتبك واضطرب، ثم قال: «أقصد أنه مع وجود كل هؤلاء حولنا …»
وضحكت ليننا ضحكةً صريحة، لا تنم عن شيء من الحقد، وقالت: «يا لكَ من رجل مضحك.» وكانت بالفعل تحسبه رجلًا مضحكًا، وقالت بنغمةٍ أخرى: «إنك سوف تنذرني قبل الموعد بأسبوع على الأقل، أليس كذلك؟ أظن أننا سوف نستقلُّ الصاروخ الهادئ الأزرق، هل يبدأ من برج شارنج-ت أو من هامستد؟»
وقبل أن يستطيع برنارد الإجابة وقفَ المصعد.
ونادى صوتٌ له صريرٌ: «السطح!»
وكان عامل المصعد مخلوقًا صغيرًا كالقِرد، يرتدي قميصًا أسود من قمصان أنصاف المعتوهين من نوع «−ﻫ».
– «السطح!»
وفتح الأبوابَ على مصاريعها، وقد ارتعدَ قليلًا واهتزَّتْ جفونه، عندما التقت عيناه بضياء الشمس الدافئ الرائع، بعد ظهر ذلك اليوم، فكرر لفظة «السطح!» في صوت المبتهج، وكأنه تنبَّهَ فجأة من سباتٍ مُهلك مظلمٍ، فسر لذلك كثيرًا، وصاح: «السطح!»
وابتسم في وجه الراكبين ابتسامةَ المترقب المعجب، فبرزوا إلى الضياء وهم يتكلمون ويتضاحكون، وكان عامل المصعد يرعاهم وهُم يخرُجون.
وقال مرةً أخرى متسائلًا: «هذا هو السطح؟»
ثم دقَّ أحد الأجراء، وكان بسقف المصعد مكبرٌ للصوت، أخذ يصدر أوامره بصوتٍ ناعم ثابت.
قال الصوت: «اهبطوا، اهبطوا، الطابق الثامن عشر. اهبطوا، اهبطوا الطابق الثامن عشر. اهبطوا …»
وأغلق عامل المصعد الأبواب محدِثًا صوتًا عاليًا، ثم مسَّ بيده أحد الأزرار، وهبط المصعد في الحال في فجوةٍ تدوي بالطنين، وعاد العامل إلى ضوء كالشفَقِ، هو ضوء السُّبات الذي ألف.
وقال في صوتٍ مرتعش: «أليسَ هذا جميلًا!»
فتبسَّمتْ له معبرة عن إدراكها لما يعنيه مع عَطفها الشديد عليه، وأجابت وهي في نشوة من السُّرور: «الجو أصلح ما يكون للعبة جولف الموانع، والآن لا بدَّ لي من أن أطير يا برنارد، إن هنري يغضب إذا خليته منتظرًا. أخبرني في الوقت المناسب عن التاريخ.» ثم لوَّحت بيدها، وجرَتْ إلى الجانب الآخر من السطح الفسيح المستوي صوبَ حظائرِ الطائرات، ووقف برنارد يرقُب بريقَ الجوارب البيضاء وهي تعود القَهقري، والركبتين المحترقتين من حرارة الشمس، وهما تنثنيان ثم تستقيمان بنشاطٍ بالغ مرة بعد أخرى، والسراويل القصيرة المخملية المخططة الملتصقة بجسمها، وهي تدور برفقٍ تحت سُترتها التي هي في خضرة القوارير، وارتسمَتْ على وجهِه ملامحُ الألم.
وسمع خلفَه صوتًا مرتفعًا مبتهِجًا يقول: «لا بدَّ لي أن أعترف بجمالها.»
فتنبَّهَ برنارد وتلفَّتَ حوله، فإذا بوجه بنتو هوفر الأحمر المنتفخ، يشرق عليه بشيءٍ من الإخلاص البادي، وكان بنتو معروفًا بطَبعِه الطيب، مؤاخذًا عليه، ويقول عنه الناس: إنه يستطيع أن يشق طريقه في الحياة دون أن يمسَّ السوما، ولم يصب قط بالحقد وحدة المزاج، التي تصيب غيره من الناس فيستأجزونها، وكانت الحقيقة تسطع دائمًا لبنتو مشرقة كالشمس.
قال بنتو: «هو هوائي أيضًا، ولكن كيف كان ذلك!» وبنغمةٍ أخرى قال: «ولكني أراك مكتئبًا، إنك في حاجةٍ إلى جرام من السوما.» ودفع يدَه في الجيبِ الأيمن من سرواله، وأخرج منه قنينة، ثم قال: «إن سنتيمترًا واحدًا مكعبًا يشفي عشرة مكتئبين … ولكن اسمع يا …»
والتفت برنارد فجأة، ثم انطلق.
وتابعه بنتو بالنظر مُحدِقًا فيه، وقال متعجِّبًا: «ماذا عسى أن يكون بهذا الرجل؟» ثم هز رأسه، وقرر أن قصة صب الكحول في دم هذا المسكين، لا بد أن تكون صادقة، ثم قال: «أظن أنه مس ذهنه.»
ثم أعاد قنينة السوما إلى جيبه، وأخرج صندوقًا صغيرًا من لبان الهرمونات الجنسية، وملأ أحد شدقيه بقطعةٍ منه، وسار متباطئًا نحو حظيرة الطائرات، وهو يمضغ اللبان.
وكانت طائرة هنري فستر قد أخرجت على عَجَلاتها من مَخبئِها، وكان وقتما وصلتْ ليننا معتليًا مكانَ السائق منتظرًا.
ولما اتَّخذتْ مكانها إلى جانبه لم يزد على قوله: «لقد تأخرت أربع دقائق …» ثم سير الآلات وأعدَّ طائرته للتحليق، فاندفعت الآلة رأسًا في الفضاء، وزاد هنري من سرعتها، وتحول طنين المحرك من صوت الدبُّور الكبير إلى صوت الدبور الصغير ثم إلى صوت الناموسة، وأظهر مقياس السرعة أنهما كانا يرتفعان ما ينيف عن الكيلومترين في الدقيقة، وتضاءلت لندن تحت بصريهما، وأصبحت المباني ذات السطوح المستوية — بعد بضع ثوان — كحوضٍ من نبات الفطر هندسي الشكل، ينبت وسطَ خضرة البساتين والحدائق. ووسط تلك المباني كان برج شارنج — ت، وهو كساق نبات الفطر الدقيق، غير أنه أطولُ منها وأرق — يرفع صوب السماء قرصًا من الخرسانة اللامعة.
وانطلقت في السماء الزرقاء، فوقَ رءُوسهم كِسفٌ من السحاب كاللحم المترهل، وهي أشبه ما تكون بجذوع الرياضيين الخياليين، ذات الأشكالِ الغامضة.
قال هنري: «ذلك هو الصاروخ الأحمر، قدم الآن من نيويورك.» ونظر إلى ساعته، وهز رأسه قائلًا: «لقد تأخَّرَ سبعَ دقائق، هذه الطائرات التي تعبر الاطلانطيق تخلف مواعيدها بدرجةٍ مشينة.»
ورفع قدمه عن محرك السرعة، فهبط دويُّ اللوالب فوق رأسه ثماني درجات صوتية ونصف، فسمع مرة أخرى صوتًا كصوت الدبور الصغير، فالدبور الكبير، فالنملة، فالخنفساء. وهبطت سرعة الاندفاع إلى أعلى، وبعد لحظة كانا معلقين في الفضاء بلا حراك، ودفع هنري أحد الروافع، فسمعت طقطقة، وبدأ المحرك يدور أمام أعينهما، في حركةٍ بطيئة أول الأمر، ثم أخذ يسرع شيئًا فشيئًا، حتى أصبح كالضباب المستدير، وأخذت الريح تهب من سرعة الانطلاق الأفقي، وتصفر في الحواجز ويعلو صفيرها شيئًا فشيئًا، وثبَّتَ هنري نظرَه في عداد الدورات، فلما مسَّتِ الإبرة العلامة التي تدل على ١٢٠٠ أوقف لوالبَ الطائرة، ولكن الآلةَ تحتفظ بقوة اندفاعٍ تكفي طيرانها بغير محرِّك.
ونظرت ليننا إلى أسفل خلال النافذة السفلية بين قدَمَيها، فعرفت أنهما كانا يطيران فوق منطقة الستة كيلومترات من الحدائق، التي تفصل وسطَ لندن عن الحلقة الأولى من ضواحيها التابعة لها، وقد بدَتِ الأحياء فوق الخضرة كالديدان لبعدِها عن النظر، وكانت العمدان المتكاثفة للعبة التنس الجديدة تتألق بين الأشجار، وعند شجيرة الراعي كان ألفا شخص من طراز «−ب»، يختلطون أزواجًا أزواجًا، ويلعبون تنس ريمان، واصطف في الطريق الرئيسي من نتنج هل إلى ولزدن، صف مزدوج من نوع خاص من الدرج المتحرك، وفي ملعب إيلنج عرض لألعابِ جماعة من طراز «د» وغناء جمعي.
وقالت ليننا: «ما أقبحَ اللونَ الكاكي.» مردِّدة ما أوحي إلى أبناء طبقتها بطريقة التعلم أثناء النومِ.
وعند برنتفورد بدا مصنع شركة التلفزيون كالمدينة الصغيرة.
قالت: «لا شك أنهم يُغيرون الدور.»
وتجمع البنات من طراز «ﺟ» اللائي كن في خضرة أوراق الشجر، وأنصاف المعتوهين السود، حول المداخل كما تتجمع الندوات العسلية أو النمال، ووقف بعضهن في صفوف؛ كي تأخذ كل منهن مكانها بدورها في عربات الترام، التي تسير على قضيبٍ واحد، أما الأشخاص من طراز «−ب» الذين كانوا في لون التوت، فكانوا يسيرون جيئة وذهابًا بين الجمهور المحتشد، وكان سقف البناء الرئيسي يموج بحركة الصعود في طائرات الهلكبتر والرحيل على مَتْنِها.
قالت ليننا: «كم أنا مسرورة لأني لست من الطراز «ﺟ».»
وبعد عشر دقائق بلغوا ستوك بوجز، وبدءُوا الشوط الأول من لعبة جولف الموانع.
٢
أسرع برنارد إلى الجانب الآخر من السطح، وعيناه في أكثر الوقت منكستان، وإذا وقعتا على زميلٍ ما تحولا عنه بغتةً وخلسة، وكأنه رجل مطارد، يقتفي أثرَه أعداءٌ لا يحب أن يراهم؛ خشيةَ أن يظهروا له أشد عداوة مما كان يحسب، وخشية أن يزيد إحساسه بالإثم وبالعزلة التي ليس له فيها معين.
هناك مثلًا بنتو هوفر، ذلك الرجل البشع، كان رجلًا حسن النية، ولكن ذلك كان يزيد الأمر سوءًا من ناحيةٍ ما، فإن أولئك الذين حسُنت نيَّاتهم كانوا لا يختلفون في سُلوكهم عن أولئك الذين ساءت نياتهم، ولقد كان يقاسي حتى من ليننا، وتذكر تلك الأسابيع التي لازمه فيها الجبن والتردد، حينما كان يتطلع ويتشوق، ولكنه يائس من التشجع على سؤالها، هل كان يجرؤ على مواجهة الخطر الذي ينشأ عن إذلاله برفض مشوب بالازدراء؟ ولكنها إن قالت نعم شاع في قلبه السرور، والآن ها هي ذي تقول نعم، ولكنه لا يزال بائسًا حزينًا؛ لأنها رأت مساء ذلك اليوم خير الأمسية للعبة جولف الموانع، فهرولت للقاء هنري، ولأنها حسبته رجلًا غريب الأطوار؛ لأنه لم يرد أن يتحدث علنًا في أخص شئونهما. إنه — بعبارةٍ أخرى — بائس؛ لأنها سلكت كما تسلك أية فتاة إنجليزية صحيحة البدن، ولم تسلك سلوكًا آخر شاذًّا غير عادي.
وفتح باب محبسه ونادى خادمين مسترخيين من طراز «−د»، وطلب إليهما أن يدفعا طائرته إلى الخارج فوق السطح، وكان يقوم بالعمل في حظائر الطائرات جماعة بوكانوفسكية واحدة، والرجال هناك توائم متشابهون، صغار الحجوم، سود يبعثون التقزز والاشمئزاز. وألقى برنارد أوامره في نغمةٍ حادة، تشف عن الاستعلاء بل والاعتداء، وهي النغمة التي يتحدث بها الرجل، إذا لم يكن مطمئنًا إلى سموه على غيره، وكان برنارد دائمًا يشعر بالضيق الشديد عند التعامل مع أفراد الطبقات الدنيا؛ لأن تركيبه الجثماني — لسببٍ ما — لم يكد يتفوق على التركيب الجثماني للفرد المتوسط من طراز «ﺟ» (ويحتمل جدًّا أن تكون الإشاعة السائدة عن وجود الكحول في دمه صحيحة؛ لأن أمثالَ هذه الحوادث قد تقع). كان طوله ينقص ثماني سنتيمترات عن رجلٍ أصيل من الطراز «أ»، وكان نحيفًا نسبيًّا، وكان اتصاله بالأفراد من الطبقات الدنيا دائمًا يذكره بهذا النقص الجثماني ويؤلمه، وكان يردد في نفسه هذا القول: «وددت لو لم أكن كما أنا.» وكان إحساسه بنفسه شديدًا وباعثًا على الضِّيق، وكلما التقى برجلٍ من طراز «د»، ورأى أنهما في مستوى واحد، وأنه لا ينظر إليه من عل، أحسَّ بالذلَّة والخنوع، وتساءل هل يعاملني هذا المخلوق بالاحترام الواجب لأبناء طبقتي؟ وكان هذا السؤال يؤرقه في كل حين، وله في ذلك المعذرة؛ لأن «ﺟ، د، ﻫ» قد تكيَّفوا إلى حدٍّ ما على ربط ضخامة الجسم بعلو المكانة الاجتماعية، وفي الحق: إن شيئًا من الإعجاب بالضخامة كان شائعًا من أثر الإيحاء أثناء النوم، ومن ثم كان النساء اللائي يتقرب إليهن يَسخرن منه، وأضرابه من الرجال يهزءُون به، فكان من أثر السخرية يحس بأنه رجل غريب، ويدفعه هذا الإحساس إلى أن يسلك سلوكَ الغريب، فكان ذلك يزيدُ من التحيُّز ضدَّه، ويقوي الاحتقار والازدراء والعداوة، التي تثيرها عيوبُه الجثمانية، وهذا بدوره يزيد من إحساسه بالغرابة والعزلة، وتولَّد لديه خوف دائم من استخفاف الناس به، فكان يتحاشى أضرابه، ويقف ممن دونه موقف الرجل، لا يفارقه الإحساس بكرامته، وكان شديد الحسد للرجال من أمثال هنري فستر وبنتو هوفر — أولئك الذين لا يشعرون بضرورة الصياح للناس من طراز «ﻫ»، كي يطاع لهم أمر، أولئك الذين لا يفكرون في مراكزهم، أولئك الذين يتحركون وسط هذا النظام الطبقي، كما تتحرك السمكة في الماء، فهم مطمئنون أشد الاطمئنان حتى إنهم لا يدركون وجود أنفسهم، ولا يدركون العناصر النافعة المريحة التي نشَئُوا في أحضانها.
وظن برنارد أن الخادمين التوءمين أخرجا طائرتَه إلى السطح على عجلاتها متباطئين متمنعين.
فقال ثائرًا: «أسرعوا!» فرمقه أحدهم بنظرة، وهل كان ما يراه في أعينهم الرمادية، التي لا يرتسم عليها شيء، ضربًا من ضروب الاحتقارِ الدنيء؟ فعلا صوته بالصياح قائلًا: «أسرعوا!» وكان بصوته خشونة قبيحة.
واعتلى الطائرة، وحلَّقَ بها بعد دقيقة واحدة جنوبًا صوبَ النهر.
كان مقر مكاتب الدعاية المختلفة وكلية هندسةِ العواطف، في بناءٍ واحد من ستين طابقًا في شارع فليت، وكنت ترى بالدور السفلي وفي الطوابق الدنيا مطابع ومكاتب صحف لندن الثلاثة الكبرى، وهي: «راديو الساعة»، وهي صحيفة للطبقة العليا، و«الغازيت «ﺟ»» ذات اللون الأخضر الشاحب، و«المرآة «د»» وهي صحيفة لونها كاكي وكلُّ كلِمَاتها من مقطع واحد، وتأتي بعد ذلك على التتابع مكاتب الدعاية بالتليفزيون، وبالصور المحسة، وبالصوت الصناعي والموسيقى، وهي تشغل اثنين وعشرين طابقًا، وتعلوها معامل البحث والحجرات المبَطَّنَة، التي يؤدِّي فيها كتاب الشارات الصوتية والمؤلفون الصناعيون عملهم الدقيق، أما الطوابق الثمانية عشر العليا فكانت تشغلها كلية هندسة العواطف.
وهبط برنارد بطائرته على سطح بيت الدعاية، ثم نزَلَ منها.
وأمر حمَّالًا من طراز «+ﻫ» أن يدق الجرس لمستر هلمهلتز واطسن، ويخبره أن برنارد ماركس بانتظاره فوق السطح.
ثم جلس وأشعل لفافة تبغ.
وكان هلمهلتز واطسن يكتب حينها بلغته الرسالة.
فرد قائلًا: «قل له إني آتٍ في الحال.» ثم علق السماعة، والتفتَ إلى سكرتيرته وقال لها محتفظًا بنغمة الكلام الرسمية غير الشخصية: «سأتركك لتحفظي أشيائي هذه.» وتجاهل ابتسامتها المشرقة، ونهض وسار بهمَّةٍ نحوَ الباب.
كان رجلًا قويَّ البنية، واسع الصدر، عريض المنكبين، ضخمًا غير أنه سريع الحركة، خفيف لدن العود، ويرتكز فوقَ عمود رقبتِه القويِّ المستدير رأسٌ جميل التكوين، شعره أسود مجعد، وملامحه واضحة القسمات، شديد الأناقة، قوي التأثير في الناظر إليه، وكل سنتيمتر منه يدل على أنه «+أ»، كما تقول سكرتيرته وتكرر القول بغير كلال، مهنته محاضر بكلية هندسة العواطف (قسم الكتابة)، وفي فترات تتخلل أعماله التعليمية يشتغل كمهندس للعواطف، وكان يكتب بانتظامٍ في «راديو الساعة»، ويؤلِّف صورًا للسينما المحسة، بارعًا أشدَّ البراعة في صياغة كلمات الشعار، ونظم عبارات الإيحاء الهبنوبيدي.
يحكم عليه رؤساؤه أنه «قدير، وربما كانت قدرته أشد مما ينبغي»، ويقولون عنه ذلك وهم يهزون رءوسهم، ويخفضون أصواتهم تخفيضًا له مَغزاه.
أجل لقد كانت قدرتُه أشد مما ينبغي، ولقد أصابوا فيه الحُكم، وقد أحدثَ التفوق العقلي في هلمهلتز واطسن آثارًا شديدةَ الشبَهِ، بما أحدَثه النقصُ الجثماني في برنارد ماركس، كان برنارد قليل العظام كثير العضلات، فانعزل عن قُرنائه. ولما كان هذا الإحساس بالعزلة بكل المعايير السائدة تفوُّقًا عقليًّا، فقد أصبحَ بدوره سببًا في زيادة الاعتزال، وكذلك شدة اقتدار هلمهلتز جعلته شديد الإحساس بنفسه وبعُزلته بدرجةٍ مقلقة، فكان الرجلان يشتركان في العلم بأنهما فريدان بين أَضرابهما — كان برنارد ذو العيب الجثماني يعاني طوال حياته من إحساسه بالعزلة، ولكن هلمهلتز واطسن لم يدرك تفوقه العقلي إلا منذ عهدٍ قريب جدًّا، فأصبح كذلك يدرك الخلاف بينه وبين الناس المحيطين به، كان هذا الرجل بطلًا في لعبة السكواش على الدرج المتحرك، كان عاشقًا لا يفتر (يقال إنه اتصل بستمائة وأربعين فتاة مختلفة في أقل من أربع سنوات)، ولكنه أدرك فجأة أنَّ الألعاب والنساء والنشاط الاجتماعي بالنسبة إليه مزايا ثانوية، أما في الواقع وفي حقيقة الأمر فقد كان يهتمُّ بشيءٍ آخر، ولكن بماذا؟ تلك هي المشكلة التي أتى برنارد ليناقشه فيها — أو قل إنه أتى ليستمع إلى صديقه مرة أخرى وهو يناقشها؛ لأن هلمهلتز كان دائمًا يقوم وحده بالحديث.
والتقى به وهو يخرج من المصعد ثلاث فتيات فاتنات، من مكتب الدعاية بالصوت الصناعي.
فتعلقن به وتوسلن إليه قائلات: «عزيزنا هلمهلتز، رجاؤنا أن ترافقنا إلى إكسمور، وتتناول معنا طعام العشاء.»
فهز رأسه وشقَّ طريقَه وسطهن قائلًا: «كلا، كلا.»
– «إننا لن ندعو رجلًا آخر.»
ولكن هلمهلتز لم يهتز حتى بعد هذا الوعد الجميل، فأجاب قائلًا: «كلا، إنني مشغول.» وواصل سيره في عزمٍ شديد، فتعلق البنات بأذياله، ولم يَيئسن من متابعته إلا بعدما اعتلى فعلًا طائرة برنارد وأغلق بابها، ولم يخل من تأنيبهن.
وارتفعت الطائرة في الفضاء وهو يقول: «عجبًا لهؤلاء النسوة!» وهز رأسه وقطب جبينه، ثم قال: «ما أشدَّ إزعاجَهن!» ووافقه برنارد نفاقًا ودهانًا، متمنيًا — وهو يتفوه بالكلام — أن يكون له من البنات ما لهلمهلتز وبقليلٍ من المشقَّة مثله، ثم استولتْ عليه فجأة رغبة ملحة في الزَّهوِ بنفسه فقال: «إنني سوف أصطحب ليننا كراون إلى المكسيك الجديدة.» وقد تكلَّف أن يكون الحديث عَرضيًّا غيرَ مقصود.
ولم يهتمَّ هلمهلتز البتة لذلك فقال: «أفهذا صحيح؟» وصمَت بُرهةً ثم قال: «لقد انقطعت خلال الأسبوع أو الأسبوعين السابقين عن جمعياتي وفتياتي جميعًا، ولا تستطيع أن تتصور الضجةَ التي أحدثوها في الكلية من أجل ذلك، ولكن الأمر كان يستدعي ذلك فيما أظن، والنتائج …» وهنا تردَّد في الكلامِ ثم قال: «ماذا أقولُ؟ إنها عجيبةٌ جدًّا.»
إن النقصَ الجثماني قد يسبِّبُ فيض النشاط العقلي، والظاهر أن العكس صحيح، فالنشاطُ العقلي المتوفر يجوز — لأغراضه الخاصة — أن يؤدِّي بصاحبه إلى عزلةٍ مقصودة، يتكلف فيها العمى والصَّمَم، كما يؤدي إلى الزهد، الذي يتصنَّع فيه العجز المطلق.
ولبثا بقيةَ الرِّحلة الهوائية القصيرة صامتين، ولما بلغا غرفةَ برنارد واستلقيا مسترخيين فوق الأرائكِ الهوائية عاد هلمهلتز إلى الحديث.
فقال في بُطءٍ شديد: «هل أحسستَ مرةً كأن شيئًا بداخلك ينتظرُ منك أن تتيحَ له الفرصة كي ينطلق؟ ضربًا من ضروب القوة الفائضة التي لا تستخدمها — كالماء الذي يتدفق من المساقط بدلًا من أن يتخلل الآلات البخارية.» وألقى على برنارد نظرة المستفهم.
– «تقصد العواطفَ التي يحسُّ بها المرء، حينما تسير الأمورُ على غير ما يَهوى؟»
فهز هلمهلتز رأسَه، وقال: «ليس هذا بالضبط ما قصدتُ إليه، إنما أقصدُ ذلك الشعورَ العجيب الذي ينتابني أحيانًا، وهو الشعور بأن لديَّ أمرًا هامًّا أريد أن أعبرَ عنه، كما أن لديَّ القدرة على التعبير، غير أني لا أدري ما هو، فلا أستطيعُ أن أستفيدَ من قدرتي على التعبير، لو كانت هناك طريقة أخرى للكتابة … أو لو كان هناك شيء آخر أكتب عنه …» وسكت عن الكلام لحظةً، ثم عادَ يقول: «إنني بارعٌ في اختراع التعابير — إنك تعرف ذلك الضَّربَ من الكلمات، التي تجعلك تثب بغتةً كأنك جالسٌ على دبوس، لقد بلغت هذه الكلمات درجةً كبيرة من الجدَّة والقدرة على الإثارة والتنبيه، حتى إن كانت تعبِّرُ عن شيءٍ واضحٍ من وجهة الإيحاءِ النومي، ولكن هذا لا يكفي، لا يكفي أن تكون العبارات جيدة، وإنما ينبغي كذلك أن تؤدِّي بها عمَلًا طيبًا.»
– «ولكنَّ أعمالَك طيبة يا هلمهلتز؟»
فهز هلمهلتز كتفيه وقال: «هي كذلك إلى حدٍّ ضئيل، فهي ليست من الأهمية بمكان، وإني أحسُّ أنني أستطيع أن أؤدي عملًا أكثر من ذلك أهمية، وأكثر غزارة وأشد عنفًا، ولكن ماذا عسى أن يكون ذلك؟ وماذا عسايَ قائل مما هو أكثر أهمية؟ وكيف يستطيعُ المرءُ أن يكونَ عنيفًا في الأشياء التي ينتظر منه أن يكتب عنها؟ إن الكلماتِ يمكنُ أن تكون كأشعَّة إكس إذا أحسنت استعمالها — إنها تخترق أي شيء، تقرؤُها فتطعنك. هذه إحدى الأشياءِ التي أحاولُ أن أعلِّمَها تلاميذي: كيف يكتبون كتابة تطعن القارئ، ولكن ما الجدوى من إحساس القارئ بالطعَنات من مقالٍ عن الغناء الجمعي، أو عن أحدث التحسينات في أعضاء الشَّمِّ؟ ثم هل تستطيع أن تجعل الكلمات طاعنةً حقًّا — كأقوى أشعة إكس — حينما تكتب عن مثل هذه الأشياء؟ هل تستطيع أن تقول شيئًا عن لا شيء؟ هذا ما يئُول إليه الأمر في النهاية، إني أحاول وأحاول …»
وقال برنارد بغتةً: «أنصت!» ورفع إصبعه منذرًا صاحبَه، وأصغَيا، ثم همَس قائلًا: «أعتقد أن أحدًا ما عند الباب.»
فنهض هلمهلتز، وسار على أطراف أصابعه إلى الجانب الآخر من الغُرفة، وفتح الباب على مصراعيه بحركةٍ حادة سريعة، ولكنه بالطبع لم يجد أحدًا.
فقال برنارد وقد أحسَّ بسُخفِه، وبدا عليه هذا الإحساس، آسف، وما أحسب إلا أن أعصابي مضطربة بعضَ الاضطراب، إذا ارتابَ الناسُ في أمرك داخلتْك الرِّيبة في أمورِهم.
وحرك يده فوق عينيه، ثم تنهد، وقال يبرر نفسه في صوت الشاكي: «لو عرفت ما كان ينبغي لي أن أقاسي في العَهدِ الأخير، لو علمت ذلك …» وامتلأت عيناه بالدموع، وأشفَق على نفسه إشفاقًا، انبثق منه كما تنبثق مياه النافورة، إذا أطلقتها بغتة.
واستمع إليه هلمهلتز واطسن وقد أحس بشيءٍ من القلق، وقال محدِّثًا نفسه: «مسكين برنارد!» ولكنه أحس في نفسه الوقت بالخجل من أجل صاحبِه، وودَّ لو أن برنارد أظهر شيئًا من الكبرياء أكثر من ذلك.