الفصل الخامس
١
لما بلغت الساعة الثامنة أخذ الضوءُ يتلاشى، وبدأ مضخِّمُ الصوتِ في برج نادي ستوك بوجس، يعلن انتهاء أشواط اللعب في صوتٍ أقوى من صوتِ الإنسان، فكفَّتْ ليننا وهنري عن اللعب وسارا عائدين نحو النادي، وسُمع خوارُ آلاف الماشية صادرًا من ميادينِ «اتحاد الإفراز الداخلي والخارجي»، وهي الماشية التي تمد بهرموناتها وألبانها الموادَّ الخامَ للمصنع العظيم في فارنهام الملكي.
وملأ الجوَّ ساعة الأصيل دويُّ طائرات الهلكبتر الذي لا ينقطع، وكان دق الجرس وصياح الصفافير يعلن كلَّ دقيقتين ونصف قيامَ إحدى القاطرات الخفيفة، التي تسير على قضيب واحد حاملةً لاعبي الجولف، من الطبقات الوضيعة من ميدانهم المنفصلِ إلى العاصمة.
واعتلت ليننا وهنري طائرتهما ثم انطَلقا، وعلى بعدِ ثمانمائة قدم مس هنري المفاتيح ليُبطئ سرعة الطائرة، ولبِثا معلَّقين دقيقة أو دقيقتين فوق المناظر الطبيعية المتلاشية، ووقعت أبصارُهما على غابةِ برنام من أشجار الزان، وكأنها بركة عظيمة من الظلام، تمتدُّ نحو الأفق الغربي المشرق بالضياء، واختفت الشمس الغاربة تحت الأفق القرمزي خلال اللون البرتقالي، الذي تعلوه الصفرة فاللون الأخضر الشاحب المائي، وفي الشمال خلف الأشجار وفوقها كان النور الكهربي القوي اللامع، يُشِعُّ من نوافذ الطوابق العشرين، التي يتألَّف منها مصنع الإفرازات الخارجية، وتحتها تقع مباني نادي الجولف — الثكنات الضخمة للطبقة الدنيا، وعلى الجانب الآخر من حائط فاصلٍ البيوتُ الصغيرة، المحجوزة للأعضاء من طراز «أ» و«ب»، واسودَّت مشارف محطة القطار الذي يسير على قضيبٍ واحد بأبناء الطبقة الدنيا، الذين كانوا يدبُّون كالنمال المتكاثرة، ومن تحت القبو الزجاجي اندفع في الفضاء قطار مضيء، وسار في طريقه الجنوبي الشرقي يخترق السهل المظلم، فانجذبت عيون الناس نحو المباني الفخمة التي كانت تستخدم كحَمْأةٍ لإحراق الجثث، وكان لها أربع مداخن طويلة ينعكس عليها الضوء، وعلى قِممها علاماتُ الخطر القرمزية لهداية الطائرات التي تحلِّق أثناء الليل، فكان المكان علَمًا من معالم الطريق.
وسألت ليننا قائلةً: «لماذا وضعت حولَ المداخن هذه الأشياء التي تشبه الشُّرُفات؟»
وكانت ليننا في تلك الأثناء قد حوَّلتْ عينَيها عن هذا المنظر، وصوبت نظرها عموديًّا إلى أسفل عند محطة القطار الذي يسير على قضيبٍ واحد، وقالت: «أجل هذا جميل، ولكن من العجب أن الأفراد من «أ» و«ب» لا ينبتون زرعًا أكثر من أفراد «ﺟ» و«د» و«ﻫ» الصغار القذرين الذين أراهم تحت بصري.»
فقال هنري موجزًا: «كل الناس متساوون في التركيب الطبيعي والكيمائي، ثم إن الأفراد جميعًا حتى من طراز «ﻫ» يؤدون خدمات لا غنى عنها.»
وذكَّرتْ هذه العبارةُ «حتى الناس من طراز «ﻫ» …» ليننا فجأة بحادثٍ وقع لها أيام أن كانت طفلة بالمدرسة، وذلك أنها تيقظتْ مرة في منتصف الليل، وأدركت لأول مرة الهمس الذي كان لا يُبارحها كلما نامت، عاد إلى ذاكرتها شعاع القمر، وصف الأسرة الصغيرة البيضاء، ورنَّ في أذنها ثانية ذلك الصوت الناعم الذي كان يردِّد هذه العبارة: «كل فرد يعمل للأفراد الآخرين، إننا لا نستغني عن أحدٍ، حتى أبناء «ﻫ» نافعون، لسنا بغنًى عنهم، كل فرد يعمل للأفراد الآخرين، إننا لا نستغني عن أحدٍ …» (وقد ذكرت الكلمات بنصِّها، ولم تغِبْ عن ذاكرتها — ولن تغيب — بعد تكرارها عدة ليال طوال)، وتذكرت ليننا أول صدمة من صدَمات الخوفِ والاندهاش، وتأملاتها خلال نصف ساعة من ساعاتِ اليقَظة، ثم تذكرت ما كان يحدث لها تحت تأثير ذلك التكرار، الذي لا ينتهي من هدوءٍ عَقلي تدريجي، هدوء يزحف عليها خُفيةً وخِلسة.
وقالت بصوتٍ مرتفع: «أظنُّ أن أفراد «ﻫ» لا يهمُّهم فعلًا أنهم من طراز «ﻫ».»
– «طبعًا لا يهمهم ذلك، وكيف يهتمُّون وهم لا يعرفون كيف يكون المرء غير ذلك، نحن طبعًا يهمُّنا الأمر، ولكن ذلك لأننا تكيَّفنا بطريقةٍ أخرى، ثم إنا فوق ذلك نبدأ بوراثة تختلف عن وراثتهم.»
قالت ليننا وهي واثقة: «أحمد الله أني لست من «ﻫ».»
قال هنري: «ولو كنت من «ﻫ» لتكيَّفتُ على صورة تجعلك تحمدين الله، على أنك لست من الألف أو الباء.» وأدار المحرك الأمامي ودفع بالطائرة نحو لندن، وكاد يتلاشى خلفَهم في الغرب لون السماء القرمزي والبرتقالي، وزحفت سحب الظلام إلى كبد السماء، وبينما كانا يطيران فوق محرقة الجُثَث، اندفعت الطائرة إلى أعلى في عمود الهواء الساخن المرتفع من المداخن، ثم هبطت بغتةً عندما مرت بالمنطقة الباردة خلفَ المداخن.
وضحكت ليننا مسرورة وقالتْ: «ما أعجبَ هذه الحركةَ الرجعية!»
ولكن هنري أخذ يتحدث في اكتئابٍ فترة وجيزة من الزمن، قال: «هل تعلمين ما هذه الحركة الرجعية؟ هي كائنٌ بشري اختفى نهائيًّا، لقد ارتفع في دفعة من الغاز الساخن، وإنك لتعجبين من يكون ذلك الشخص — رجلًا أو امرأة، من الألف أو الهاء …» ثم تنهد وختم حديثه بصوتٍ ينمُّ عن الابتهاج والعزيمة، قائلًا: «على أية حال، هنالك أمر واحد نستطيع أن نكون منه على ثقة، أيًّا كان ذلك الشخص فقد كان سعيدًا حينما كان على قيد الحياة، فإن كل إنسان اليوم سعيد.»
ورددت ليننا عبارته قائلة: «أجل إن كان إنسانٍ اليوم سعيدًا.» فقد سمعا هذه الكلمات تتكرر مائة وخمسين مرة كل مساء مدةَ اثني عشر عامًا.
وهبطتِ الطائرة فوق سطحِ بيت هنري ذي الطوابق الأربعين في وستمنستر، فتوجها توًّا إلى قاعة الطعام، حيث تناولا معًا وجبة فاخرة وهما يصيحان من فرط السرور، أخذت ليننا قرصين زنة الواحد منهما نصف جرام، وأخذ هنري ثلاثة. ولما بلغت الساعة التاسعة والثلث عبرا الشارع إلى مرقص (كاباريه) وستمنستر آبي الذي افتتح من عهدٍ قريب، وكانت ليلةً غير مقمرة صافية مرصعة بالنجوم، ولكن هنري وليننا لم يدركا — لحُسن الحظ — هذه الحقيقة المقبضة؛ لأن «علامات السماء» الكهربية أخفَتِ الظلام الخارجي كل الإخفاء، وطالعا هذه العبارة «كالفن ستو بز وفرقته المكونة من ستة عشر عازفًا على السكسوفون»، وقد كتبت خارج مرقص آبي الجديد بخطٍّ عريض براق يجذب المارين، وطالعا كذلك هذه العبارة: «أجمل أراغين لندن للعطور والألوان، أحدث موسيقى مركبة.»
ودخلا المرقص، وكان الهواء حارًّا ساكنًا تشمُّ فيه عبير العنبر وخشب الصندل، وعلى قبة سقف الردهة كان أرغن الألوان في تلك اللحظة، يشع ضياء كضياء الشمس الغاربة في المناطق الحارة، وكان العازفون على السكسوفون الست عشرة ينشدون الأغنية القديمة المحبوبة، التي تبدأ بهذه العبارة: «ليس في العالم كلِّه قارورة مثل قارورتي الصغيرة العزيزة.» وكان بالقاعة أربعمائة زوج يدورون حول أرضِ الرُّدهة الصَّقيل، وهم يرقصون الرقصة ذات الخمس خطوات، وسرعان ما انضمَّ هنري وليننا إلى هذه المجموعة الراقصة، وكانت آلات السكسوفون تنوح كأنها القطط ذات الصوت الرخيم تحت القمر، وتئن بصوتٍ مرتفع مرة ومنخفض مرة أخرى كأنَّ الموت يقترب منها، والجوقة ذات الصوت المرتجف — وهي غنية بما تعرف عن علمِ قواعد الألحان — علت نغماتها حتى بلغت القمة، لقد أخذت تعلو ثم تعلو حتى لوَّحَ في النهاية رئيس الفرقة بيدِه، فانطلقت النغمة الأخيرة للموسيقى الأثيرية وقضت على غيرها من النغَم، وبذا بدَّدَ الرئيسُ الستة عشر عازفًا من البشر العادي من الوجود، وقصف الرعد من أحد المفاتيح، ووسط الضجيج والأضواء ارتفعت بالتدريج نغمة عجيبة، وأخذت نغمة أخرى في الانخفاض شيئًا فشيئًا، وظلت خافتةً فترة ما، فكانت مجموعة عجيبة من الأنغام، وأخيرًا حدث انفجار فجائي، صحبه الستة عشر عازفًا منشدين:
وما عتم هنري وليننا يَرقُصان رقصة الخطوات الخمس مع الأربعمائة الآخرين حول وستمنستر آبي، وكأنهما يرقصان في عالمٍ آخر … عالم إجازة السوما الدفيء الغني بالألوان، العالم الودي إلى أقصى الحدود. كان كل امرئ شفيقًا، جميل المحيا، مسليًا يبعث على السرور! «قارورتي، كنت دائمًا بحاجةٍ إليك …» ولكن هنري وليننا ظفرا بما كانا يطلبان … فهما في الداخل، في تلك اللحظة وفي ذلك المكان — مطمئنون في الداخل مع الهواء العليل، والسماء ذات الزرقة الدائمة، ولما أُنهك الموسيقيون الستَّ عشرةَ طرحوا سكسفوناتهم جانبًا، وأخذ جهاز الموسيقى المركبة يترنم بأحدث الأنغام والأغاني، حينئذٍ شعر هنري وليننا كأنهما جنينان توءمان يترجحان معًا فوق محيط قنيني من الدم الجديد.
وألقت مضخمات الصوت أوامرَها مستترة في أدبٍ موسيقيٍّ بهيج، قالت: «عموا مساء يا أصدقائي الأعزاء، عموا مساء يا أصدقائي الأعزاء، عموا مساء …»
وخلَّفَ هنري وليننا المكان طائعين مع الآخرين جميعًا، وكانت النجوم التي تبعث في النفوس الضيق، قد تقدمت في مسيرها مسافة طويلة في السماء، ومع أن الستار الحاجز من «علامات السماء»، قد تبدد الآن إلى حدٍ كبير، غير أن الفتى والفتاة ما برِحا ينعَمان بجَهلهما حقيقة المساء.
وقبل موعد الإغلاق بنصف ساعة، كانا قد تناولا الجرعة الثانية من السوما، فأقامت بين عقليهما وبين العالم الواقعي سدًّا منيعًا، وعبرا الطريق وهما يحسان كأنهما في القوارير، وكذلك اعتليا المصعد إلى حجرة هنري في الطابق الثامن والعشرين، كانت ليننا تحس كأنها في القارورة، وكانت قد تناولت جرامًا ثانيًا من السوما، ولكنها برغم ذلك لم تنسَ أن تتخذ كل احتياط ضد الحمل وفقًا للقواعد المتبعة، وكانت تتَّخذُ هذا الاحتياط بطريقةٍ آلية كلمح البصر من أثر الإيحاء، أثناء النوم الذي تعرضت له سنوات عدة، ومن أثر التدريب المالتسي الذي خضعت له بين الثانية عشرة والسابعة عشرة ثلاثَ مرات كل أسبوع.
وقالت وهي عائدة من الحمام: «إن هذا يذكِّرُني بأن فاني كراون تريد أن تعرف أَنَّى لَكَ هذا الحزام الأخضر الجميل، المصنوع من جلد كالجِلد المرَّاكشي الذي أعطيتنيه.»
٢
ولما وقعتْ عينا برنارد على «ساعة هنري الكبيرة» في بيتِ الغناء، قال محدِّثًا نفسَه: «أَلَا لعنة الله عليَّ! لقد تأخرت.» ودقت الساعة فعلًا وهو يدفع للسائق أَجرَهُ، ورددت الأبواق الذهبية في صوتٍ منخفض غليظ هذه الكلمة: «فورد، فورد، فورد …» وترنَّمت بها تسع مرات، وركض برنارد صوب المصعد.
وكانت قاعة الاجتماعات الكبرى التي يُقام فيها الاحتفال بعيد فورد، كما تلقى فيها الأناشيد الدينية الجمعية في أسفل البناء، وفوق هذه القاعة سبعة آلاف حجرة، مائة في كل طابق، تستخدمها «فرق الجماعة» في صلَواتهم التي يؤدونها مرةً كل أسبوعين، وهبط هنري إلى الطابق الثالث والثلاثين، وانطلق في دهليزه مسرعًا، ثم وقف خارج الغرفة رقم ٣٢١٠ برهةً من الزمن مترددًا، ثم التَوَى بجسمه وفتح الباب ثم ولج الغرفة.
وحمد برنارد فورد أن لم يكن آخرَ الداخلين، فقد بقيت ثلاثة مقاعد من الاثني عشر المنظمة حول المائدة المستديرة فارغة، فدلف إلى أقربها، وحاول ما استطاع ألا يلحظه أحد، وتأهب للغضب عند دخول القادمين بعده في أي وقتٍ يصلون.
والتفتت نحوه الفتاة التي كانت على يساره وسألته: «ماذا كنتَ تلعب بعد ظهر اليوم؛ الموانع أو المغناطيسية الكهربية؟»
ونظر إليها برنارد، ولشَدَّ ما كانت دهشتُه لما عرف أنها مرجانة رستشيلد، واعترف لها في خجلٍ شديد أنه لم يلعَبْ هذه أو تلك، فحدقت فيه مرجانة في دهشةٍ شديدة، ثم كانت فترة من الصمت يسودُها القلق.
والتفتت بغتةً إلى الرجل الرياضي الذي كان إلى يسارها ووجهت إليه الخطاب.
واكْتَأَبَ برنارد وظن أن تلك اللحظة كانت بداية صالحة لصلاة الجماعة، وارتقب لنفسه الفشل مرة أخرى في أن يظفر بالتكفير، وكان يود لو أنه أعطى لنفسه الفرصة، كي يتلفتَ حواليه بدلًا من الإسراع إلى أقربِ المقاعد، كان يستطيع أن يجلس بين فيفي برادلاف وجوانا ديرل، ولكنه استقر إلى جوار مرجانة بغير تفكير. لك الله يا مرجانة! يا لحاجبيها الأسودين — أو حاجبها على الأصح — لأنهما كانا يلتقيان فوق أنفِها. عجبًا! وعلى يمينه كلارا دترتدنج، حقًّا إن حاجبيها لم يلتقيا، ولكنها كانت هوائية جدًّا، في حين أن فيفي وجوانا كانتا كاملتين من جميع النواحي، كانتا ممتلئتين، شقراوين، متوسطتي الجسم … وقد ظفر بالمقعد المتوسط بينهما ذلك الفظ الغليظ توم كاواجوشي.
وكانت ساروجيني انجلز آخر من حضر.
فقال لها رئيس الجماعة في قسوةٍ شديدة: «لقد تأخرت، وأرجو ألا يحدث ذلك مرة أخرى.»
فاعتذرت ساروجيني واتَّخذَتْ لنفسها مقعدًا بين جم بوكانوفسكي وهربرت باكونن، واكتملت الفرقة الآن، وأمستْ جماعة الصلاة تامةً لايشوبها نقص. وقد جلسوا حول المائدة في دائرةٍ كاملة، كل رجل إلى جوار امرأة، وكل امرأة إلى جوار رجل، كانوا اثنَي عشرَ شخصًا مستعدين لأن يندمجوا في واحد، ويرتقبون التماسك والاندماج التام، فيفقد كل منهم مميزاته الشخصية، ويتلاشى في كائنٍ واحد كبير.
وأنشدوا اثنتي عشرةَ فقرة في شغَفٍ شديد، ثم دارت عليهم كأس الحب مرة أخرى، فتناولوها مرددين الآن هذه العبارة: «إني أشرب نخب الكائن العظيم.» وشربوا جميعًا، وأخذت الموسيقى تصدح بغير انقطاع، ودقَّت الطبول، وعلت النغمات وتضاربت واشتدَّ تأثيرها في العواطف حتى أشبعتها، وأخذوا يترنمون بنشيد الجماعة الثاني قائلين:
وأنشدوا اثنتي عشرة فقرةً أخرى، وبعدئذٍ أخذت السوما تفعل فعلَها، فأبرقتِ العيون، وتوردت الخدود، وأشرقتِ الوجوه ببسمات السعادةِ والود، وقد بعثها ضياء الخير العام، حتى إن برنارد نفسه أحسَّ بشيءٍ من النشوة، فلما التفتتْ إليه مرجانة رستشيلد وأشرقت عليه، سعى جهده أن يُبادلها الإشراق — ولكن حاجبها — ذلك الحاجب المزدوج — كان للأسف ما يزال ملحوظًا لا يستطيع تجاهله مهما حاول ذلك، ولم تبلغ النشوة به حدًّا كبيرًا، وربما لو كان جالسًا بين فيفي وجوانا … وللمرة الثالثة دارت كأسُ الحب، وقالت مرجانة رستشيلد: «إني أشرب نخبَ قربِ مجيئه.» وقد جاء دورها أن تكون هي من بين أعضاء الدائرة جميعًا هي البادئة بالشعائر، وكان صوتها مرتفعًا متهللًا، وشربت وسلمت الكأس لبرنارد فكرر بعدها هذه العبارة: «إني أشرب نخب قرب مجيئه.» وقد حاول مخلصًا أن يحس بقرب المجيء، غير أن الحاجب ما عتَمَ متسلطًا على ذهنه، و«المجيء» بالنسبة إليه جد بعيد، وشرب وناول الكأس كلارا دتردنج، وقال محدثًا نفسه: «إني واثقٌ من فشلي مرة أخرى.» ولكنه ما برِح يبذلُ جهدَه كي يبدو مشرق الجبين.
ودارت كأس الحب دورةً كاملة، فأشار الرئيس للجَمع رافعًا يده، فصاحتِ الجوقة فجأة مترنمة بنشيد الجماعة الثالث:
وتلاحقت الفقرات المنظومة، وأخذَتْ أصواتهم تشفُّ عن التأثر العميق، وكان إحساسهم بقرب المجيء شبيهًا بالتوتر الكهربي في الهواء، وأسكت الرئيس الموسيقى، وعند النغمة الأخيرة من الفقرة الأخيرة ساد الصمت الشامل؛ صمت الارتقاب الطويل الذي يسري في النفس، ويهزها كأنه الكهرباء، ومد الرئيس يده، وإذا بصوتٍ مفاجئ يسمعونه فوق رءوسهم، صوت قوي عميق، فيه نغم موسيقى لا يتوفر للصوت الإنساني المجرد! صوت غير بشري، غني، حار، يدل على الحب والشوق والرأفة، صوت عجيب غريب غير مألوف. قال الصوت: «أي فورد، فورد، فورد» في بطءٍ شديد، وبنغمةٍ تنخفض شيئًا فشيئًا، وشعَّ من الشباك العصبية المعويَّة إحساس بالدفء، أثار كل الأطراف من أجسام المستمعين، وتحدرَ الدمعُ في أعينهم، وأحسُّوا كأنَّ قلوبهم وأمعاءهم تتحرك في داخلهم كأن بها حياة مستقلة وذابوا وتحلَّلُوا عند سماعهم هذه الكلمة «فورد، فورد»، ثم صدر الصوت مرة أخرى وكأنه من بوق، وقال بغتة، وبنغمةٍ أخرى تثير الذُّعرَ: «أنصتوا، أنصتوا!» فأنصتوا، وبعد فترة سكون وجيزة تحول الصوت إلى همس، ولكنه همس أشد نفاذًا من أعلى صياح، وأخذ يكرِّر هذه العبارة: «هذا وقعُ أقدام الكائن الأكبر.» ثم كاد الهمس يتلاشى ثم قال: «إن أقدام الكائن الأكبر فوق الدرج.» ثم ساد الصمت مرة أخرى، وكانت الأعصابُ قد توترت من الانتظار، ثم استرخت برهة، فتوترت الآن مرة أخرى، وكادت أن تتمزَّقَ من شدة التوتر ارتقابًا للقادم، فلقد سمعوا أصوات الكائن الأكبر، وهي تدب دبًّا خفيفًا فوق الدرج، وتقترب شيئًا فشيئًا فوق السُّلَّم غير المرئي، وظلوا ينصتون إلى وقع أقدام الكائن الأكبر، وأخيرًا بلغ بهم التوتر أقصاه، ووثبت مرجانة رستشيلد على قدميها، وحمْلَقتْ بعينيها، وانفرجت شفَتاها، ثم صاحتْ قائلة: «إني أسمعه!»
وصاحت ساروجيني انجلز، وقالت: «إنه آتٍ.»
وهب توم كاواجوشي وفيفي برادلاف على الأقدام في وقتٍ واحد معًا، وقالا: «أجل إنه آتٍ، وإني لأسمعه.»
وأكدت جوانا صدق قولهما في لفظٍ غير واضح.
وصرخ جم بوكانوفسكي قائلًا: «إنه آتٍ.»
وانحنى الرئيس إلى الأمام، وبلمسةٍ خفيفة أطلق الأصناج تهذي والآلات النحاسية ترن، ودقت الطبول كأنها مَحمومة.
وصاحت كلارا دتردنج قائلة: «آه إنه آت.» وكأنَّ أحدًا يحزُّ رقبتَها.
وأحس برنارد أنه قد حانَ له أن يَفعل شيئًا ما، فقفز إلى أعلى وصرخَ قائلًا: «إني أسمعه، إنه آتٍ.» ولم يكن صادقًا، فإنه لم يسمع شيئًا، ولم يكن هناك بالنسبة إليه أحدٌ مُقبل، برغم الموسيقى وبرغم الاضطراب المتزايد، ولكنه هزَّ ذراعيه، وصاح مع خيارهم، ولما بدأ الآخرون يرقصون ويدبُّون ويتنقلون، رقصَ وتنقَّلَ معهم.
وساروا في موكبٍ مستدير وهم يرقصون، وقد وضع كلٌّ منهم يديه على مؤخرة الراقص السابق، وأخذوا يدورون في المكان صائحين معًا، وهم يدبون على أنغام الموسيقى، ويرقصون على توقيعها وأيديهم فوق أدبار السابقين، وكانت أيديهم جميعًا تضرب معًا كأنها يدٌ واحدةٌ، والأدبار ترد صدى الضربات معًا كأنها ألواح، فكان الاثنا عشر شخصًا كأنهم شخص واحد، ثم قالوا معًا: «إني أسمعه، إني أسمع قدومه.» وأسرعت الموسيقى، ودبَّتِ الأقدام مسرعة، وأسرعت الأيدي الموزونة في وَقْعها على الأدبار، وانفجرتْ بغتةً نغمة مركبة عظيمة، معلنة اقتراب التكفير وبلوغ الاتحاد حده الأقصى، وقدوم الاثني عشر موحدين في فردٍ واحد، والكائن الأكبر المجسد، وردد النغم هذه الكلمات: «شولم، شولم»، بينما واصلت الطبول دقها كأنها محمومة:
وردد الراقصون هذه العبارات الدينية وكرروها، وبدأت الأضواء تتلاشى مبطئةً وهم يغنون — وتلاشتِ الأضواء وازدادت في الوقت نفسه دفئًا وغنى وحمرة، حتى باتوا في النهاية يرقصون في الشفق القرمزي، الذي يشاهد في مخزن الأجنة، وفي هذا الظلام الدَّمَوي الذي يشبه الضوء في بيوت الأجنة، واصل الراقصون دورانهم، وظلوا يرقصون على هذا النغَمِ الذي لا يفتر، مرددين تلك العبارات الدينية «شولم، شولم …» ثم ترنَّحت دائرتهم وانحلَّتْ، وانفرط عقدها فوق حلقة الأرائك، التي كانت تحيط بالمائدة ومقاعدها الاثني عشر — دائرة حول أخرى، وتغنى «الصوت» العميق برفق، وترنم بالنشيد الديني مرددًا: «شولم، شولم …» وكأن حمامة ضخمة سوداء كانت في ذلك الشفق الأحمر، تنشر جناحي الخير، وهي تحلق فوق الراقصين وقد انبطحوا الآن أرضًا، واستلقوا على ظهورهم.
كانوا واقفين فوق السطح، وقد دقَّتْ ساعة هنري الكبرى الحادية عشرة منذ لحظة، وكان المساء هادئًا دفيئًا.
وقالت فيفي برادلاف: «ألم يكن الأمر جدَّ عجيب؟» ونظرت إلى برنارد وفي عينيها نشوة السرور، ولكنه السرور الذي لا تلمس فيه بارقة من الاضطراب أو التأثر؛ لأن الاضطراب معناه أن الشخص لا يزال يتطلب المزيد، وأحست بالنشوة الهادئة التي يشعر بها كل من يبلغ مأربًا، كما أحست بنوعٍ من الطمأنينة التي لا يبعثها مجردُ الإشباع أو الفراغ، وإنما تلك الطمأنينة التي تبعثها الحياة المتزنة، والنشاط المستقر المعتدل، وهي طمأنينة قوية حية؛ لأن صلاة الجماعة قد أعطتهم بمقدار ما أخذت، وسحبت من نفوسهم لتعيد امتلاءها، فكانت ممتلئة النفس، كاملة، وما برِحَت تحسُّ كأنها أكبر من نفسها، وأصرتْ على سؤالها السابق لبرنارد وهو: «ألست تظن أن الأمر كان عجيبًا؟» وحدَّقت في وجهه بعينين لامعتين خارقتين للطبيعة.
وقال كاذبًا: «أجل، لقد ظننت الأمر عجيبًا.» ثم أشاحَ بوجهه، وكان منظرُ وجهها الذي تغيرت ملامحه تهمةً له بانفصاله ومذكرًا ساخرًا بذلك، وأحس حينئذٍ بعزلة البائس كما أحس بها عندما بدأت الصلاة، بل لقد أحس بزيادة العزلة من جراء فراغ نفسه الذي لم يمتلئ وشبعه القاتل. كان منفصلًا بذاته لم يشعر بغُفران ذنوبه، في حين أن الآخرين قد اندمجوا في الكائن الأكبر. أحس بالعزلة حتى وهو بين أحضان مرجانة — بل أشد عزلة من أي عهدٍ سبق له في حياته، وشعر بأنه لم يتغير بتاتًا، فشاع اليأس في نفسه، ولقد خرج من ذلك الشفق القرمزي إلى الضوء الكهربيِّ العام، وقد تعزز شعوره بنفسه إلى حدِّ الإيلام، كان بائسًا كلَّ البؤس، وربما كانت تلك غلطته الشخصية (وقد اتهمته بذلك عيناها البراقتان)، وكرَّرَ قوله: «كان الأمر عجيبًا جدًّا.» ولكنه لم يفكِّر إلا في حاجبِ مرجانة.