الفصل السادس
١
لقد حكمت ليننا على برنارد ماركس بالشذوذ الخارق، وقد بلغ به الشذوذُ أنها ساءلت نفسها خلال الأسابيع التالية أكثرَ من مرةٍ: «هل لا تستطيع أن تغير رأيها في عطلة المكسيك الجديدة، وتستبدل بها رحلة إلى القطب الشمالي مع بنتو هوفر، ولم يقلقها إلا أنها كانت تعرف القطب الشمالي، وأنها زارته مع جورج إدزل في الصيف الماضي، وأنها — فوق ذلك — وجدته مكانًا شديد العبوس، لم تجد هناك ما يشغَلُها، والفندق قديمُ الطراز جدُّ عتيق، ولم يكن بحجرات القوم تلفزيون، ولم يكن هناك أرغن العطور، ولم تسمع غير الموسيقى المركبة الفاسدة، ولم يكن هناك أكثر من خمسة وعشرين ملعبًا للعبة «سكواش السلم المتحرك» لأكثر من مائتي زائر. كلا، لقد قر رأيها على أنها لا تستطيع أن تجابه القطب الشمالي مرة أخرى، ثم إنها — فوق ذلك — لم تزر أمريكا غيرَ مرة واحدة، وحتى تلك الزيارة لم تكن كافية، لقد زارت نيويورك في عطلة من عطلات نهاية الأسبوع الرخيصة، ولم تذكر إن كانت تلك الزيارة برفقة جين جاك حبيب الله أم بوكانوفسكي جونز، غير أنها كانت — على أية حال — عديمة الأهمية، فكان الأمل في الطيران غربًا مرة أخرى مدة أسبوع كامل شديد الإغراء لها، ثم إنهما — فوق ذلك — سوف يقضيان ما لا يقل عن ثلاثة أيام من هذا الأسبوع في الأماكن المخصصة للمتوحشين، ولم يَزُرْ هذه الأمكنة أكثر من ستة أشخاص في المركز كله، وكان برنارد بوصفه عالمَ نفس من درجة «+أ»، أحد الرجال القلائل الذين يستطيعون — فيما تعلم — الحصول على التصريح بالزيارة، وكانت تلك فرصة نادرة لليننا، ولكن شذوذ برنارد كذلك نادر جدًّا، حتى لقد تردَّدت في انتهاز الفرصة، وفكرت فعلًا في المخاطرة بزيارة القطب الشمالي مرة أخرى مع بنتو الصديق المضحك القديم، فلقد كان بنتو على الأقل رجلًا طبيعيًّا في حين أن برنارد …»
وكانت فاني تعلل شذوذه بوجود الكحول في دَمِه، ولكن هنري شبَّهَ برنارد المسكين بوحيد القرن ذات مساء، وهو في الفراش مع ليننا، عندما تباحثا معًا بشأنه في شغَفٍ شديد؛ لأنه كان عشيق ليننا الجديد.
قال هنري بأسلوبه الموجز القوي: «إنك لا تستطيعين أن تعلِّمي وحيد القرن حيلة جديدة، ومن الرجال من يشبه هذا الحيوان، فهم لا يستجيبون استجابةً صحيحة لعملية التكييف. مساكين أمثال هؤلاء، وبرنارد واحد منهم، ولكنه — لحسن حظه — ممتاز في عمله، وإلا لما احتفظ به المدير.» ثم قال معزيًا: «ولكني أظن — على أية حال — أنه عديم الأذى.»
ربما كان عديمَ الأذى، ولكنه كان كذلك شديدَ الإزعاج، فعنده أولًا ذلك الجنون الذي يحبب إليه العمل وهو منعزل، ومعنى ذلك عمليًّا أنه لا يعمل البتة شيئًا؛ لأن المرء لا يستطيع أن يؤدي عملًا وهو وحيد (إذا استثنينا طبعًا ساعات النوم، ولا يستطيع أن يقضي فيها المرء عمره). أجل لم يكن هناك ما يستطيع المرء أن يؤدِّيَه وحيدًا إلا القليل النادر، وكان أول يوم خَرجَتْ فيه ليننا مع برنارد ساعة الأصيل معتدلًا جميلًا، فاقترحت ليننا أن يسبحا في نادي توركي الريفي، ثم يتناولا العشاء في اتحاد إكسفورد، ولكن برنارد خَشِي كثرة الزحام، فاقترحت ليننا شوطًا من لعبة الجولف المغناطيسي المكهرب في سنت أندروز، ولكن برنارد رفض مرة أخرى؛ لأنه كان يعتبر هذه اللعبة مضيعة للوقت.
فسألته ليننا في شيءٍ من الاندهاش: «وما فائدةُ الوقت إذن؟»
الوقت عنده — على ما يبدو — ينبغي أن يُنفقَ في النزاهة، سيرًا على الأقدام في منطقة البُحيرات، وقد اقترحَ ذلك الآن، وأراد أن يهبطا فوق قمة مكدو، ثم يسيران ساعتين فوق العشب في العراء: «معك وحدك يا ليننا.»
– «ولكننا سنقضي الليلَ كلَّه وحدنا يا برنارد.»
فاحمرَّ برنارد خجَلًا وأشاح بوجهه، وتمتم قائلًا: «إنما قصدتُ أننا سنكون وحدَنا نتحدث.»
«نتحدث؟ فيمَ؟» المشي والحديث؛ تلك طريقة شاذة جدًّا في قضاء اليوم بعد الظهر.
وأغرته في النهاية — برغم إرادته — على أن يطيرا إلى أمستردام؛ ليشهدا المباراة الشبيهة بالنهائية بين النساء لبطولة المصارعة بين ربات الوزن الثقيل.
وتذمر قائلًا: «هذا زحام كالمعتاد.» وبقي طيلة عصر ذلك اليوم مكتئبًا معاندًا، لم يتحدث إلى أصدقاء ليننا (وقد قابلا منهم عشرات في مقصف السوما الممزوجة بالقشدة المثلجة بين أشواط المصارعة). وبرغم بؤسِه رفض رفضًا باتًّا، أن يتناول نصف الجرام من كاساتا التوت، الذي قدمته له، قائلًا: «إني أوثر أن أكون أنا نفسي، في اكتئابي، على أن أكون شخصًا آخر مهما يكن مرحًا.»
فأجابت ليننا قائلة: «إن الجرام الواحدَ في حينه يُغنيك عن تسعة إذا فات الأوان.» وهي في هذا التعبير إنما تستعيد ثروتها القيمة من الحكمة التي لقنتها أثناء النوم.
ولكن برنارد أبعد الكوبَ الذي قُدِّم إليه وقد عِيل صبرًا.
فقالت له: «لا تحتدَّ، واذكر أن سنتيمترًا واحدًا مكعبًا يشفي عشرًا من العواطف الحزينة.»
فصاح بها: «وحق فورد لتَسكُتنَّ.»
فهزَّتْ ليننا كتفيها وقالت: «إن الجرام خير دائمًا من ضيق النفس.»
وختمت حديثها محتفظةً بكرامتها، وشربت الكساتا بنفسها.
وأصر برنارد، وهما في طريقهما عائدين فوق القنال الإنجليزي، أن يوقف محرك طائرته، وأن يحلق باللوالب على ارتفاع مائة قدم من الموج؛ لأن الجو قد ساء، وعصفت ريح جنوبية غربية، وتكاثفت السحب في السماء.
وقال آمرًا: «انظُري!»
قالت ليننا: «الجو مريع.» ثم انكمَشتْ وراء النافذة، فلقد راعَها فراغُ الليل المقبل، والمياه التي رقشَ سطحَها الزَّبَدُ المكفهر، وهي تجيش تحت بصرَيهما، ووجه القمر الشاحب وقد بدا تحت السحب المسرعة نحيلًا مشتتًا، ثم قالت: «هيا بنا نفتح الراديو بسرعة!» ومدت يدها نحو المفتاح فوق اللوحة الأمامية وأدارَتْه حيثما اتفق.
فإذا بستة عشر صوتًا أجشَّ مذبذبًا تذيعُ: «السموات زرقاوات بداخلكم، أما الجوُّ فدائمًا …»
ثم أعقب ذلك فُواق (زغطة) وصمت، وأوقف برنارد تيار الإذاعة، وقال: «إني أحب أن أنظر إلى البحر وأنا هادئ مطمئن، إن المرء لا يستطيع أن ينظر إليه وسطَ هذا الضجيج المزعج.»
– «ولكنه ممتعٌ، وأنا لا أحبُّ أن أنظرَ إلى البحر.»
– «ولكني أحب، ويجعلني ذلك كأني …» وتردد قليلًا باحثًا عن الكلمات التي يعبر بها عن نفسه، ثم قال: «كأني أكثر مما أنا — إذا كنت تفهمين ما أعني، أكثر من نفسي على ألا تتغير طبيعة نفسي، ولا أقصد أن أكون جُزءًا من شيءٍ آخر مختلف عني كل الاختلاف، لا أحب أن أكون خلية في جسم المجتمع فحَسب، ألَا يبعثُ فيك هذا المنظر شعورًا كهذا يا ليننا؟»
ولكن ليننا ما برِحتْ تصيح مردِّدة: «إنه مزعج، إنه مزعج.» ثم قالت: «وكيف تستطيع أن تبوح بحديثٍ كهذا، وتقول إنك لا تحب أن تكون جزءًا في جسم المجتمع؟ ألا ترى أن كل فرد يعمل لكل فرد آخر؟ إننا لا نستغني عن أحد، حتى «الهاء» …»
قال برنارد بازدراء: «أجَلْ إني أعلم ذلك، وأعرف «أن «الهاء» نفسها نافعة!» بل حتى أنا، وكم وددت لو لم أكن.»
وصُعِقت ليننا لهذا الكُفران، واحتجَّتْ عليه بصوتٍ ينمُّ عن الدهشة والضيق، قالت: «برنارد، كيف تستطيع ذلك؟»
وقال متفكِّرًا، وفي صوتٍ مختلف مردِّدًا عبارتَها: «كيف أستطيع؟ كلا، إنَّ المشكلة الحقيقية هي هذه، كيف لا أستطيع، أو بعبارةٍ أخرى (لأني أعرف تمامَ المعرفة لماذا أستطيع)، كيف تكونُ حالي لو استطعت، ولو كنت حرًّا غير مستعبد لما كيفت عليه.»
– «برنارد، إنك تصرحُ تصريحاتٍ خطيرة.»
– «ألست تتمنين أن تكوني حرة يا ليننا؟»
– «لست أدرك ما تعني، إنني حرة، وأستطيع لو شئت أن أقضي وقتًا سعيدًا، كل فرد سعيد في هذه الأيام.»
فضحِكَ وقال: «أجل «إن كل فرد سعيد في هذه الأيام.» ونحن نعلم الأطفال هذه الحقيقة وهم في الخامسة، ولكن ألا تحبين يا ليننا أن تكون لك الحرية، في أن تسعدي بطريقة أخرى؟ ولتكن تلك مثلًا طريقتَك الخاصة، لا طريقةَ كلِّ فردٍ آخر.»
وكررت قولها: «لست أدرك ما تعني.» ثم التفتَتْ إليه، وقالت متوسلة إليه: «هيا بنا نعود يا برنارد، إني أمقتُ هذا المكانَ مَقْتًا شديدًا.»
– «ألا تحبِّينَ رفقتي؟»
– «إني طبعًا أحب ذلك يا برنارد، ولكني أمقت هذا المكان المريع.»
– «ظننت أننا نكون ألصقَ رفقة هنا — وليس حولنا إلا البحر والقمر، هنا نكون ألصق صحبة منا وسط الزحام، أو حتى في حجراتي، ألست تَفهمينَ ذلك؟»
فأجابت مصمِّمة: «لست أفهم شيئًا!» وقد اعتزمتْ أن تحتفظ بعدم إدراكها بغير مساس، وواصلت حديثَها بنغمةٍ أخرى، قالت: «لست أفهم شيئًا.» وبخاصةٍ لماذا لا تتناول السوما عندما تساورك هذه الأفكار المزعجة، إنك لو فعلت لنسيتها بتاتًا، ويحل المرح الشديد في نفسك محلَّ الشقاء، ثم انفرجت شفتاها عن ابتسامةٍ، قصدت من ورائِها أن تُداهنَه وترغبه وتثير شهوته، برغم ما كان يجول في عينيها من القلق والحيرة.
ونظر إليها صامتًا بوجهٍ لم يتأثَّرْ بها، عليه سيما الجد، وحدق فيها، وبعد بضع ثوانٍ حولت ليننا عنه عينيها، وصدَرت منها ضحكة يسيرة عصبية، وحاولت أن تفكر في موضوعٍ تتحدث فيه فلم تستطع، وامتد بهما الصمتُ زمنًا.
وأخيرًا تكلم برنارد بصوتٍ منخفضٍ متعب، قال: «سوف نعود كما أردت.» وداس مفتاح السرعة بشدة فانطلقتِ الطائرة في الهواء، وعند رقم أربعة آلاف أدار المحرِّك، وطارا صامتين دقيقة أو اثنتين، ثم بدأ برنارد يضحك بغتةً، وكان الضحك في رأي ليننا شاذًّا، ولكنه ضحك على كل حال.
ثم تجرَّأت ووجهتْ إليه هذا السؤال: «هل أنت الآن أحسن شعورًا؟» وبدلًا من أن يجيبها على ذلك رفعِ إحدى يديه من الآلات التي تسير الطائرة، ووضع ذراعَه حول خصرِها وبدأ يداعب ثدييها.
فقالت لنفسها: «أحمد الله، لقد اطمأنَّ ثانية.»
وبعد نصفِ ساعة كانا في حجراته، وابتلع برنارد أربعة أقراص من السوما دفعةً واحدة، وأدار الراديو والتلفزيون، وبدأ يخلع ملابسه.
ولما تقابلا في عصر اليوم التالي فوق السطح، سألته ليننا في مكرٍ شديد قالت: «هل تظن أننا تمتعنا بالأمس؟»
فأومأ لها برنارد برأسه، ثم اعتليا الطائرة، وبعد هزةٍ خفيفةٍ انطلقتْ بهما.
وقالت ليننا مفكرة، وهي تربت على ساقَيها: «يقول الناس جميعًا إني هوائية جدًّا.»
قال هنري: «جدًّا.» وفي عينيه تعبيرٌ عن الألم، ودار بخلده أنها «كاللحم»، ورفعتْ بصرها في قلقٍ شديد، وقالت: «ولكن لعلك لا تراني سَمينة جدًّا!» فهزَّ رأسه، وكانت في نظَره كاللَّحم المكتنز.
قالت: «هل تراني صالحة؟» فأومأ بالإيجاب … قالت: «من جميعِ النواحي؟»
فقال بصوتٍ مرتفع: «أنت كاملة.» ثم فكَّر في نفسه: «إنها تحبُّ نفسَها كذلك، وإنها لا يهمها أن تكون كاللحم.»
وابتسمت ليننا ابتسامة الظافر، غير أن رضاها كان سابقًا لأوانِه، وبعد فترة سكون واصل الحديث قائلًا: «ولكني — برغمِ ذلك — كنت أحبُّ أن ينتهي الأمر على خلاف ما حدث.»
«على خلافِ ما حدث؟» هل هناك نهاياتٌ أخرى؟
ففسر ما قصد إليه قائلًا: «لم أر أن ينتهي الأمر بذهابنا إلى الفراش.»
فذهلت ليننا.
– «لا يكون ذلك بغتة، ولا يكون في اليوم الأول.»
– «وإذن فماذا …؟»
فشرع يتحدَّث حديثًا لا معنى له خطرًا غير مفهوم، وبذلتْ ليننا جهدَها محاولةً ألا تستمع إلى الحدث أو تتفهمه، ولكنه كان بين الفينة والفينة يصرُّ على أن يلقي عبارته بدرجةٍ مسموعة، سمعته يقول: «… كي أجرب أثر كبح دوافعي.» وكأنَّ هذه الكلماتِ مست زنبركا في عقلها.
فقالت جادَّةً: «لا تؤجل إلى الغد ما تستطيع اليوم من لهو.»
فلم يجب على ذلك بأكثرَ مِن قوله: «التكرار مائتي مرة، مرتين كل أسبوع، من الرابعة عشرة إلى السادسة عشرة والنصف.» وهكذا واصل كلامه الجنوني السيِّئَ بغير انقطاع، وسمعته يقول: «أحب أن أعرف ما الهوى، أحبُّ أن أحس بشيءٍ ما إحساسًا قويًّا.»
ونطقت ليننا هذه العبارة: «إذا أحسَّ الفرد، ترنَّحت الجماعة.»
– «ولماذا لا تترنح قليلًا؟»
– «برنارد!»
ولكن برنارد لم يشعر بالخزي.
واستمرَّ يقولُ: «الكبار من الناحية العقلية وأثناء ساعات العمل، والصغار فيما يمسُّ مشاعرهم ورغباتهم.»
– «إن إلهنا فورد قد أحبَّ الصغار.»
وتجاهل برنارد هذه المقاطعة وواصلَ حديثَه، قال: «لقد طرأَ لي فجأة ذات يوم أنه من الجائز أن يبقى الإنسان راشدًا كلَّ الوقت.»
وقالت ليننا بصوتٍ ثابت: «إني لا أفهم.»
– «أعرف أنَّك لا تفهمين، ومن أجل هذا ذهبنا أمس إلى الفراش معًا — كالأطفال — بدَلًا من أن نبقى راشدين فننتظر.»
قالت ليننا: «ولكننا تمتعنا، أليسَ كذلك؟»
فأجاب بقوله: «أجل، لقد كانت متعةً كبرى.» ولكن صوتَه كان حزينًا وقسمات وجهه جد بائسة، حتى إن ليننا أحست أن كل انتصارها قد تبخَّرَ فجأة، ربما وجدها سمينة جدًّا.
ولما عادت ليننا وأسرت لفاني بمكنون صدرها، قالت لها فاني: «لقد قلتُ لك ذلك، إنه الكحول الذي وضعوه في دمه.»
فأجابت ليننا: «ولكني برغم ذلك أحبه، ما أجمل يديه، وما أرقه حينما يحرك كتفيه — إنه حينئذٍ يجذبني جَذبًا شديدًا.» وتنهدت ثم قالت: «ولكني أودُّ لو لم يكن شاذًّا كما هو.»
٢
وقف برنارد لحظةً خارج غرفة المدير، ثم تنفَّس نفسًا عميقًا ورفع كتفيه، واستعد للقاء البغضاء والرفض داخل الغرفة، وقرع الباب ثم دخل.
وقال وهو مبتهج قدر استطاعته: «هذا تصريحٌ لتوقع عليه أيها المدير.» ثم وضعَ الورقة على المكتب.
ورمقه المدير بنظرةٍ مريرة، ولكنه لمح في أعلى الورقة ختمَ «مكتب المراقب المالي»، وفي أسفلها توقيع مصطفى مند بخطٍّ أسود كبير، وكان كل شيء على أتمِّ نظام، فلم يكن للمدير بعد هذا خيار، فوقع اسمه بالقلم الرصاص، وتوقيعُه عبارة عن حرفين صغيرين باهتين حقيرين تحت توقيع مصطفى مند، وأوشك أن يرد الورقة بغير تعليق وبغير السرعة الفوردية الطبيعية، لولا أن جذبت عينه كلمةٌ مسطورةٌ خلال عبارة التصريح.
قال: «إلى المنطقة المكسيكية الجديدة؟» وقد بدا في صوتِه وفي وجهه الذي رفعه إلى برنارد نوعٌ من الاضطراب والاندهاش.
ودهش برنارد لدهشته وأومأَ برأسه، ثم سادَ الصمت.
واستند المدير إلى كرسيه مقطِّبًا جبينَه، وقال وكأنه يحدِّث نفسه ولا يخاطب برنارد: «منذ متى كان ذلك؟ أظن أنه كان منذ عشرين عامًا، أو قرابة خمسة وعشرين عامًا، لا بدَّ أني كنت في مثل سنك …» ثم تنهَّد وهز رأسه.
وأحس برنارد بالقلقِ الشديد، وتعجَّبَ كيف أن رجلًا كهذا المدير محافظًا على التقاليد، مستقيمًا إلى درجة الوسوسة، يخلط هذا الخلط في الكلام! فكان برنارد يود لو أخفى وجهه أو يخرج من الغرفة مسرعًا، لا لأنه كان هو شخصيًّا يعترض على حديث الناس عن الماضي في حد ذاته، فإن ذلك كان من الأهواء الإيحائية التي خيل لنفسه أنه تخلَّصَ منها بتاتًا، وإنما الذي أخجله هو أنه أدرك أن المديرَ رفض الطلب، وبرغم هذا الرفض كان هو نفسه قد ارتكب هذا الأمر المحرم، ولكن تحت أي دافع باطني يا ترى؟ لقد أنصت له برنارد بشغَفٍ وهو في قلقٍ شديد.
كان المدير يقول: «لقد طرأتْ لي مثلك هذه الفكرةُ بعينها، وأردت أن أشاهد المتوحشين، وحصلت على تصريحٍ لزيارة المكسيك الجديدة، وقضيت هناك عطلةَ الصيف مع الفتاة التي كنت أرافق في ذلك الحين، وكانت «−ب» وأظن (وهنا أغمض عينيه) أنها كانت ذات شعر أصفر. وكانت على أية حال هوائية جدًّا، وإني لأذكر ذلك جيدًا، ذهبنا معًا إلى هناك وألقينا على المتوحِّشين نظرة، وركبنا الخيل وطُفْنا بالمكان وما إلى ذلك، وبعدئذٍ — وكان ذلك في آخر يوم من أيام عطلتي — ضلَّتْ سبيلها، لقد صعِدنا راكبين أحد تلك الجبال الثائرة، وكان الجو شديد الحرارة ثقيلًا، ثم استغرَقْنا في النوم بعد الغداء، أو على الأقل استغرقت وحدي، ولا بدَّ أن تكون قد خلَّفَتْني ومشَتْ وحدها، وعلى كل حال فإني لم أجدها إلى جواري عندما تيقظت، وقد بدأت تهب علينا أشد عاصفةً شهدت في حياتي، وأمطرت السماء وأرعَدتْ وأبرقَتْ، وانحلت الخيل وانطلقت وحدها، وحاولت أن ألحق بها ولكني تعثَّرت وآذيت ركبتي وتعسَّر عليَّ المسير، غير أني لم أكف عن البحث والصياح، ولكني لم أعثر لرفيقتي على أثر، فرجحت أنها عادت وحدَها إلى الاستراحة، فدَلفت إلى الوادي واتبعت الطريق الذي سلكناه عند مجيئنا، وكانت ركبتي تؤلمني أشدَّ الإيلام، وكنت قد فقدت ما عندي من السوما، فاستغرق الطريق مني ساعات، ولم أبلغ الاستراحة إلا بعد منتصف الليل، غيرَ أني لم أجدها، لم أجدها.» ثم ساد الصمت.
واستأنف الحديث أخيرًا قائلًا: «وفي اليوم التالي واصلنا البحث، ولكنا لم نجدها، ورجحنا أنها وقعتْ في أحد الخنادق في مكانٍ ما، أو ربما التهمها سبع جَبَلي، والعلم عند فورد، كان الأمر عجيبًا وقد أزعجني كثيرًا في ذلك الحين، أزعجَني أكثر مما ينبغي؛ لأنه حادثٌ قد يقع لأي إنسان، وجسم الجماعة بالطبع باقٍ كما هو مهما تغيرت الخلايا التي يتركب منها.» ولكن يظهر أن العزاء الذي تلقنه أثناء النوم لم يكن شديد الأثر، فهزَّ رأسه وواصل حديثه بصوتٍ منخفض، قال: «إني — في الواقع — أحلم بهذا الحادث أحيانًا، أحلم كأني أستيقظ على قصف ذلك الرعد فلا أجدها، وأحلم كأني أبحث عنها تحت الأشجار.» ثم استرسل في صمت الذكريات.
قال برنارد وهو يكاد يحسده: «أحسب أنها كانت صدمة شديدة لك.»
ولما قرع صوتُه مسمعَ المدير، تنبه إلى موقفه وأحسَّ كأنه آثمٌ، فرمق برنارد بنظرةٍ سريعة، ثم حول عنه عينيه وأظلم وجهه خجلًا، ثم عاود النظر إليه بشيءٍ من الريبة المباغتة، وغضب لكرامته، وقال: «لا تتصور أني كنت على صلةٍ خبيثة مع هذه الفتاة، لم نتبادل العواطف ولم نتعمق في العلاقات، إنما كانتِ الصلة بيننا طيبة طبيعية إلى كل حد.» ثم سلم برنارد الجواز قائلًا: «إني لست أعرف حقًّا لماذا ضايقتك بهذه القصة التافهة.» وثارَ على نفسه؛ لأنه أفشى سرًّا مشينًا، فانفجر في برنارد غاضبًا، واتقدت عيناه بالشر الصريح، ثم قال: «وإني لأحب أن أنتهز هذه الفرصة يا مستر ماركس؛ كي أذكر لك أني لست راضيًا البتة عن التقارير، التي وردت إليَّ عن سلوكك في غير ساعات العمل، قد تقول إن هذا ليس من شأني، ولكني أقول لك إنه … فإن سمعة المركز تهمني، ولا بد أن يترفع عمالي عما يثير الريب، وبخاصة إن كانوا من الطبقات الراقية، فنحن نكيف أبناء طبقة «أ» بحيث لا يضطرون إلى تكلف السلوك الصبياني في عواطفهم، ويقتضيهم ذلك أن يبذلوا جهدًا خاصًّا في العمل وفقًا لما نريد، إنَّ من واجبِهم أن يكونوا كالأطفال، حتى إن كان ذلك ضد ميولهم؛ ولذا فلست أظلمك إن أنا أنذرتك يا مستر ماركس.» واهتزَّ صوتُ المدير هزة الغضب، وكان في غضبِه عادلًا غير متحيِّز — فهو يعبر عن عدم رِضا المجتمع نفسه، ثم قال: «فلو نُمي إليَّ مرة أخرى أنك انحرفت عن المستوى الصحيح للسلوك الصبياني، فسوف أطلب نقلك إلى مركز فرعي — وإني عندئذٍ أختار لك أيسلنده، والآن اذهب مع سلامة الله.» ثم استدار في كرسيه، وأمسك بالقلم وشرع يكتب.
وقال محدِّثًا نفسه: «هذا درس له.» ولكنه أخطأ فيما زعم؛ لأنَّ برنارد خرجَ من الغرفة مترنحًا، ثم أغلقَ الباب محدثًا خلفه صوتًا عاليًا، هو مغتبطٌ لأنه يقف وحده في كفاحه ضد النظم القائمة، نشوان لأنه ثَمِلَ من إحساسِه بأهميةِ شخصيته المستقلة وخطرها، حتى إن فكرة الاضطهاد نفسها لم تزعجه، بل لقد أكسبته قوة أكثر مما أكسبته انقباضًا، وأحسَّ بالقدرة الكافية على ملاقاة المصائب والتغلب عليها، وعلى أن يواجه أي شيء حتى أيسلنده، وقد عزز هذه الثقة في نفسه؛ لأنه لم يعتقد لحظة أنه سيدعى فعلًا لملاقاة أي خطر. إن الناس لا ينقلون لمثل هذه الأسباب، وليست أيسلنده سوى وعيد وتهديد، وهو وعيد منبه للنفس وباعث على الحياة، وسار في الردهة وهو يصفر فعلًا.
وكان كالأبطال ذلك المساء وهو يروي ما دار بينه وبين المُدير، وختَمَ الروايةَ قائلًا: «ولذا فقد طلبت إليه أن يعود إلى الماضي السَّحيق، ثم تركت الغرفة، وهذا كل ما حدَث.» ونظر إلى هلمهلتز واطسن يترقب منه ما يستحق من عطفٍ وتشجيع وإعجاب جزاءً له على ما فعل، ولكن هلمهلتز لم ينبس ببنت شفة، ولبِثَ صامتًا مُحدقًا في أرضِ الغرفة.
كان يحب برنارد، وكان شاكرًا له؛ لأنه الصديق الوحيد الذي يستطيع أن يتحدث معه في الموضوعات التي يؤمن بأهميتها، ولكن برنارد — برغم ذلك — كانت له صفات لا يحبها، منها — مثلًا — هذا الزهو، وما يستتبعه من تحمُّسه في إشفاقه على نفسه إشفاقًا شديدًا، ومنها تعوده الجرأة عقب كل حادث، وحضور بديهته بدرجةٍ غير مألوفة، وهو بعيد عن ذلك الحادث، وهي عادة ممقوتة، كان يكره منه هذه الصفات؛ لأنه كان يحبُّه، ومرت الثواني وما فتئ هلمهلتز يصوب نظره نحو الأرض، واحمرَّ برنارد خجلًا ثم انصرف بغتة.
٣
لم يقع أثناء الرحلة حادثٌ ما، وبلغت طائرة الباسفيك الأزرق الصاروخية نيو أورليانز مبكرة دقيقتين ونصف، وضيعت أربع دقائق في العاصفة التي هبطت على تكساس، ولكنها طارت في تيارٍ هوائي ملائم عند خط الطول ٩٥ غربًا، واستطاعت أن ترسو عند سانتا فيه، وقد تأخرت أقل من أربعين ثانية عن الموعد المقرر.
قال: «أربعون ثانية في رحلةٍ جوية دامتْ ست ساعات ونصف، لا بأس.» وأذعنت له ليننا.
وناما تلك الليلة في سانتا فيه في فندقٍ فاخر، لا يقاس إليه البتة — مثلًا — فندق أورورا بورا بالاس المريع، الذي عانتْ فيه ليننا كثيرًا في الصَّيفِ السابق، كل غرفة هنا مزودة بالهواء السائل، والتلفزيون وبآلة التدليك المفرغة المذبذبة، والراديو، ومحلول الكافيين المغلي، وأدوية حارة ضد الحمل، وثمانية أنواع مختلفة من العطور، وكانت آلة الموسيقى المركبة تعزف عندما دخلا القاعة الكبرى، ولم يبقَ لهما ما يشتهيان، وقرآ في المصعد إعلانًا بأن الفندق به ستون ملعبًا لسكواش السلم، وأن جولف الموانع والجولف المغناطيسي المكهرب يمكن كلاهما أن يلعبا في الحَديقةِ.
فصاحت ليننا قائلة: «ما أجمل هذا! وودت لو أقمنا هنا ستون ملعبًا لسكواش السلم …»
فأنذرها برنارد قائلًا: «ولكنك لن تجدي في منطقة المتوحشين ملعبًا واحدًا، ولن تجدي هناك عطورًا أو تلفزيونًا، بل ولا ماء ساخنًا، فإن كنت تعتقدين أنك لا تحتملين ذلك، فالبَثي هنا حتى أعُود.»
فامتعضتْ ليننا وقالتْ: «أستطيع بالطبعِ أن أحتملَ ذلك، وإنما قلت: إن المكان جميل هنا؛ لأن … لأن التقدم جميل، أليس كذلك؟»
فأجاب برنارد وكأنه يحدث نفسه من شدَّة الانهيار: «التكرار خمسمائة مرة كل أسبوع، من الثالثة عشرة حتى السابعة عشرة.»
– «ماذا تقول؟»
– «قلت: إن التقدم جميل؛ ومن ثمَّ فلا ينبَغي لكَ أن تأتي إلى منطقة المتوحِّشين إلا إن كنت حقًّا تحبِّين ذلك.»
– «إني لأحب ذلك.»
فقال لها برنارد، وكأنه يهدِّدها: «حسنًا، وليكن ذلك.»
وكان جوازهما يقتضِي توقيعَ حارس المنطقة، فقدما له نفسهما في مكتبه في الوقت المناسب في اليوم التالي، وتسلم بطاقة برنارد بوابٌ زنجي من طراز «+ﻫ»، وسمحَ لهما بالدخول فورًا.
وكان الحارسُ رجلًا أشقر اللون، صغير الرأس، من نوع «−أ»، قصيرًا متوردًا، وجهه كالقمر، عريض المنكبين، ذا صوت قوي مرتفع، يلائم أشدَّ الملاءمة النطق بحكم الإيحاء أثناء النوم، وكانت لديه ثروة من المعارف التي لا تتصل بالموضوع، يسدي النصيحة الطيبة دون أن يطلب ذلك إليه أحد، وإن بدأ أخذ يتدفق بصوتٍ كقصفِ الرعد.
– «خمسمائة وستون ألف كيلومتر مربع، مقسمة إلى مناطق فرعية منفصلة، يحيط بكلٍّ منها سور من الأسلاك الشديدة التوتر.»
وفي هذه اللحظة ولغير ما سببٍ واضح، تذكر برنارد فجأة أنه ترَكَ صنبور الكولونيا في حمامه، مفتوحًا يتصبَّبُ منه العطر.
– «وتستمد التيار من محطَّةِ المجاري المائي الكهربي الكبير.»
ورأى برنارد بمخيلته الإبرة فوق مقياس العطر، تتقدم تدريجًا بسرعة النملة ولكنها لا تفتر، فقال: «إن ذلك يكلفني ثروة طائلة حتى أعود، فخابروا هلمهلتز تلفونيًّا على عجل.»
– «أكثر من خمسة آلاف كيلومتر من الأسوار بقوة ستين ألف فولت.»
فقالت ليننا: «لا تقل ذلك.» ولم تدرك البتة ما قاله الحارس، ولكنها فهمت ما يعني تلميحًا من سكوته، الذي كان يحاكي سكوت الممثلين، وكانت قد ابتلعت نصف جرام من السوما دون أن يراها أحد، قبلما يشرَعُ الحارس في الكلام بصوته المجلجل، فكانت النتيجة أنها استطاعت الآن أن تجلس هادئة غير مصغية، لا تفكر في شيء مطلقًا، وعيناها الزرقاوان الواسعتان محدِّقَتان في وجه الحارس كأنها متنبهة مشغوفة.
وقال الحارس جادًّا: «ومن يلمس السور يمُتْ في الحال، وليس من منطقة المتوحشين مفرٌّ.»
وقد أوحت هذه الكلمة الأخيرة «مفر» لبرنارد، أن ينهض قليلًا ويقول: «يجب أن نفكر في الانصراف الآن.» وقد تخيل الإبرة الصغيرة السوداء دائبة في مسيرها، كالحشرة تأكل ما له قضمًا مع كرِّ الساعات.
فرده الحارس إلى كرسيه، وكرر قوله: «لا مفر.» وحيث إنه لم يوقع بعد على الجواز فلم ير برنارد بدًّا من الطاعة، ثم قال الحارس: «إن أولئك الذين يولدون في المنطقة، لا بدَّ لهم أن يموتوا فيها.» ثم قال وقد نظر إلى ليننا شزرًا ورمقها بنظرةٍ فاحشة، وتحدث في همسٍ غير مألوف: «اذكري يا آنستي العزيزة أن الأطفالَ لا يزالون يولدون في المنطقة. أجل إنهم ليولدون، وقد يبدو لك ذلك أمرًا منفِّرًا …» (وكان يأمل أن تخجل ليننا هذه الإشارة إلى موضوع مخجل، ولكنها اكتفتْ بالابتسامِ وتكلَّفتِ الإدراك، وقالت: «لا تقل ذلك.» فشعر الحارس بالخذلان).
لا بد أن يموتوا … عُشر لتر من الكولونيا كل دقيقة، أي ست فترات في الساعة، فحاول برنارد الكلام مرة أخرى، قال: «يجب أن نفكر في …»
وانحنى المديرُ إلى الأمام، وقرع المائدة بسبابته وقال: «تسألونني كم من الناس يعيش في المنطقة، وأجيبكم أني لا أعرف، لكني أستطيع أن أحدس.» وأحس بإحساس الرجل الظافر.
– «لا تقل ذلك.»
– «آنستي العزيزة، إني أقول لذلك.»
٦ × ٢٤، بل ما يقرب من ٦ × ٣٦، فاستولى القلق على برنارد وشحُب وجهه وارتجَفَ، ولكن جلجلة الحارس استمرَّتْ بغير انقطاع.
– «لا تقل ذلك!»
وانصرفا أخيرًا! فأسرع برنارد إلى التليفون، ولكنه استغرق ما يقرُب من خمس دقائق حتى استطاع أن يتصل بهلمهلتز واطسن، وشكا قائلًا: «ربما كنا الآن بين المتوحشين بالفعل، ألا قاتل الله العَجز!»
واقترحت عليه ليننا أن يتناولَ جرامًا.
ولكنه رفض وآثر أن يبقى غاضبًا، وأخيرًا حمد فورد؛ لأنه استطاع أن يتصل بهلمهلتز فشرح له ما حدث، ووعده هلمهلتز أن يذهبَ رأسًا إلى الصنبور فيغلقه، ولكنه انتهزَ هذه الفرصة، وبلغه ما قاله المدير علنًا مساء الأمس.
فقال برنارد في صوتٍ ينم عن الألم: «ماذا؟ لعله يبحث عن أحدٍ يحلُّه محلي، وهل انتهى الأمر على ذلك؟ هل ذكر أيسلنده؟ تقول إله؟ يا لله! أيسلنده …» ثم علق السماعة والتفت إلى ليننا، وكان وجهه شاحبًا وعلى وجهه سيما الحزن الشديد.
فسألته: «ما الأمر؟»
وأجابها: «الأمر أنني سوف أبعث إلى أيسلنده.» ثم خرَّ على أحد المقاعد متثاقلًا.
ولطالما تعجَّب في الماضي ماذا يكون إحساس المرء، إذا أصابته محنة أو ألم أو تعرض لاضطهاد (وهو لا يتناول السوما، ولا يعتمد إلا على موارده الباطنية)، بل لقد كان يود لو أصابته إحدى الملمات، ومنذ أسبوع واحد فقط، وهو في مكتب المدير، تخيل أنه سوف يقاوم بشجاعة، وسوف يتقبل المصيبة هادئًا دون أن يتفوَّهَ بكلمةٍ واحدة، وقد جعله تهديد المدير يحسُّ بعلو النفس فعلًا، ويشعر كأنه أعظم من الحياة نفسها، ولكنه أدرك الآن أنه إنما أحس بذلك؛ لأنه لم يتلقَّ التهديد جادًّا، ولم يعتقد أن المدير سوف يبرم أمرًا عندما يتحرج الموقف، والآن حينما أدرك برنارد أن المدير سوف ينجز بالفعل ما هدَّد به من قبل أصابه ذعرٌ شديد، ولم تبق بنفسه بارقة من ذلك الهدوء الذي كان يتخيله أو تلك الشجاعة النظرية.
ثار في وجه نفسه — يا له من أحمق! — وثار ضد المدير — إنه لم يكن عادلًا؛ لأنه لم يعطه الفرصة الأخرى، التي لم يشك الآن في أنه كان دائمًا يعتزم انتهازها، ثم إن أيسلنده، أيسلنده …
وهزت ليننا رأسها وقالت: «لقد جعلتني وسوف تجعلني عليلة، سأتناول جرامًا وأعود كما كنت.»
نظرة عاجلة لعشر قرًى أو اثنتي عشرة قرية من قرى الزنوج الكبرى، ثم يهبطانِ للغداء في وادي مالبي في بيت مريج، وفي تلك القرية يُحتَمل أن يكون المتوحشون محتفلين بعيد الصيف، ويكون ذلك الاحتفال إذن خير مكانٍ يقضيان فيه المساء.
واتخذا مكانهما من الطائرة وانطلقا، وبعد عشر دقائق كانا يعبران الحدود، التي تفصل المدنية من الهمجية في الأودية وفوق التلال، وعبروا الصحراوات الملحية والرملية، وخلال الغابات، وفي أعماق الأخاديد البنفسجية اللون، وفوق القمم والصخور الناتئة والهضاب المستوية، وكأنه الخط المستقيم أو الرمز الهندسي، الذي يدل على قوة الإرادة الإنسانية التي لا تقاوم، وعند سفح السور، هنا وهناك، كانت العظام البيضاء الشبيهة بالفسيفساء، والجثث التي لم تتعفن بعد المُلقاة على الأرض التي لفحتها الشمس، تدل على أن الغزلان والعجول والسباع والقنافد والذئاب وذكور الباز الشرهة، قد جذبتها رائحة الجيف، وكأن العدالة الإلهية قد أثارت سخطها، فاقتربت جدًّا من الأسلاك المهلكة.
قال السائق ذو الزي الأخضر: «إنهم لا يتعلمون أبدًا.» وأشار إلى الهياكل الملقاة على الأرض تحت أبصارهم، ثم قال: «ولن يتعلموا!» وضحك كأنه انتصر شخصيًّا على الحيوانات التي قتلتها الكهرباء.
وضحك برنارد كذلك، وكان قد تناول جرامين من السوما، فتصور أن النكتة طيبة لسببٍ ما، ضحك ثم غلبه النعاس في الحال، وحلق وهو نائم فوق تاوز وتسك، وفوق ناسب ويكيورس بوجوك، وفوق سيا وكوشيتي، وفوق لاجونا وأكوما وميزا المسحورة، وفوق زولي وكيبولا وأوجو كالينتيه، ثم تيقظ أخيرًا فألفى الطائرة واقفة فوق الأرض، وليننا تحمل حقائب الملابس في بيتٍ صغير مربع، والحارس الذي يجري فيه الدم الزنجي، والذي يرتدي زي «ﺟ» الأخضر يتحدث حديثًا غير مفهوم مع رجلٍ هندي شاب.
وقال قائد الطائرة حينما كان برنارد خارجًا منها: «نحن في مالبي، وهذه هي الاستراحة، وفي عصر هذا اليوم رقص في قرية الزنوج.» وأشار إلى الرجل الهمَجي الشاب المكتئب قائلًا: «إنه سوف يصحبك إلى هناك.» ثم قال متجهِّمًا: «إنه مضحكٌ، وكل ما يفعله الناس من أمثاله يثير الضحك.» ثم نزل في الطائرة وأدار المحركات، وقال: «سأعود غدًا» — ثم قال لليننا مؤكِّدًا عليها: «واذكري أنهم في منتهى الألفة، إن هؤلاء الهمج لن يصيبوك بأذى، إن لديهم تجاربَ كافية عن القنابل الغازية، فهم يدركون أن العبثَ لا يجوز.» وحرك لوالب الطائرة وهو ما يزال يضحك، وزاد من سرعتها، ثم اختَفى.