الفصل السابع
كانت الهضبة شبيهة بسفينةٍ راسية في بوغازٍ من رمال لونها كلون الأسَد، والقنال يَلتوي بين السواحل الرأسية، وينحَرِفُ من حائطٍ إلى آخر عبرَ الوادي شريط أخضر — وذلكَ هو النهر وما حوله من حقول، وفي مقدِّمة تلك السفينة الصخرية وسط المَضيق، كانت تقعُ قرية مالبي للزنوج، وكأنها جزء من المقدمة، وهي نتوءٌ صخري عارٍ ذو شكل هندسي، وكنت ترى البيوت سامقة طابقًا فوق طابقٍ، وكل طابق أصغر مما تحتَه، كأنها أهرام مدرجة مبتورة تناطح السماءَ الزرقاء، وتقع عند سُفوحها مبانٍ منخفضة متناثرة، وهي عبارة عن مجموعة من الحوائط المتقاطعة، وجوانب الهضبة من ثلاث جهات تنحدر رأسًا في قلب الوادي، وكانت بعض أعمدة الدُّخان ترتفع رأسًا في الهواء الساكن، ثم تختفي.
فقالت ليننا: «يا للعجب، يا للعجب!» وقد اعتادتْ هذه الكلمات إذا سخطت على شيءٍ، ثم قالت: «إني لا أحب هذا النظر، ولا أحب ذلك الرَّجُل.» وأشارت إلى المرشد الهنديِّ الذي عين لمرافقتهما إلى القرية، وكان من الجليِّ أن الرجل يبادلها مقتًا بمقت، حتى إن ظهره وهو يتقدمهم كان ينم عن العداوة والازدراء والغم الشديد.
وأخفضت صوتها وقالت: «وفضلًا عن ذلك؛ فإنَّ له لرائحة كريهة.»
ولم يحاول برنارد أن ينكر ذلك، ثم تابعَا المسير.
وشعرا فجأةً كأن الهواء قد تحرَّك، ونبضتْ عروقهما بحركة الدم التي لا تفتُر، وكانت الطبولُ تدق في مالبي، فوقعا بأقدامِهما على ذلك النغَم العجيب، ثم أسرعا الخطى، وأدَّى بهما الطريق إلى سطح الجَرف، وكانت جوانبُ الهضبة تعلوهما وترتفعُ ثلاثمائة قدم.
قالت ليننا وقد نظرت باستياءٍ شديد إلى سطحِ الصخر المرتفع الأجرد: «ودِدت لو أنا أحضرنا معنا الطائرة، فإني أكرهُ المشيَ، كما أن المرء يَشعُر بصغره الشديد، وهو على الأرض عند سفح التل.»
وسارا معًا مسافةً ما في ظلِّ الهضبة، ودارا حول نتوءٍ صخري، فإذا بهما عند أُخدود شقته المياه، فأخذا يصعدان الدرج المرافق، وكان الطريقُ إلى أعلى شديد الانحدار يَلتوي من جانب إلى آخر فوق سطح الأخدود، وكان دق الطبول حينًا ضعيفًا غير مسموع، وحينًا قويًّا كأنه على مقربةٍ شديدة منهما.
ولما بلغا منتصف الطريق إلى أعلى طار إلى جانبهما نَسرٌ، وكان قريبًا منهما جدًّا حتى إن الريح التي حركتها جناحاها هبت باردة على وجهيهما، وفي فجوةٍ من فجَوات الصخر شاهدَا كومة من العظام، وكان كلُّ شيءٍ جدَّ عجيب، ورائحة الهندي الكريهة تشتد شيئًا فشيئًا، وخرجا أخيرًا من الأخدود إلى ضوء الشمس القوي، وكانت قمة الهضبة سَطحًا مستويًا من الصخور.
فقالت ليننا: «ما أشبهه ببرج شارنج-ت.» غيرَ أنَّ الفرصةَ لم تُتَح لها كي تستمتع بهذه المشابهة القوية طويلًا، فقد سمعا وقعَ أقدام لينة فالتَفتا إليه، فإذا باثنين من الهنود يركُضانِ فوق الطريق، وهما عاريان من العُنق إلى السرَّة، وجسماهما الأسمران القاتمان ملونان بخطوطٍ بيضاء (وقد شبهتهما ليننا فيما بعد بملاعب التِّنس الأسفلتية)، ووجهاهما أسودان كالحَديد ملطَّخان باللوثات القُرمزية، فهما لا يشبهانِ الوجوهَ البشرية، وشعرهما الأسود مضفور بفراء الثعلب والفانلة الحمراء، وتتطاير فوق أكتافهما عباءة من ريش الدِّيَكة الرومية، ويتوجان رأسيهما بأكاليل الريش الضخمة الزاهية، وأساورهما الفضية وعقودهما الثقيلة المصنوعة من العظم ومن حبات الفيروز تجلجل وتخشخش كلما خطوا إلى الأمام، وتقدما صامتين، وأسرعا هادئين في أخفافٍ من جِلدِ الغَزال، وأمسك أحدهما بفرجون من الريش، وحمل الآخر في كلتا يديه أشياء، بدت على بعد كأنها ثلاثة قطع أو أربع من الحبال، وأحد هذه الحبال يلتوي بعُسرٍ شديد، وأدركت ليننا بغتةً أن هذه الحبال إن هي إلا ثعابين.
واقترب الرجلان، وحدقا فيهما بعيونهما السُّود، ولكن دون أن تصدر منهما إشارة تدل على معرفتهما، أو أية علامة تشير إلى أنهما قد رأياها فعلًا أو أدركا وجودها، وارتخَى الثعبان الملتوي مرة أخرى، وتدلَّى على بقية الثعابين، ثم مرَّ الرَّجُلان.
قالت ليننا: «إنني لا أحب هذا المنظر بَتاتًا.»
وكانت أشد مقتًا لما لقيته عند مدخل القرية، حيث خلَّفَهما المرشد ودخل البلد كي يتلقى الأوامر. تقززت ليننا أولًا من القاذورات ومن أكوام النفايات والتراب والكلاب والذباب، فتجعَّدَ وجهها والتوَى اشمئزازًا، ورفعت منديلَها إلى أنفِها.
وانفجر صوتها حانقةً لا تكاد تصدق ما ترى، وقالت: «كيف يمكنهم العيش هنا؟ (ولقد كان العيش بالفعلِ مستحيلًا في ذلك المكان).»
وهزَّ برنارد كتفيه متفَلْسِفًا وقال: «على أية حال، إنهم عاشوا هنا حتى الآن خمسة آلاف عام أو ستة آلاف؛ ولذا فإني أظنُّ أنهم الآن متعودون.»
وأصرت ليننا قائلة: «ولكن النظافة من الإيمان.»
واستمر برنارد قائلًا: «نعم والمدنية تعقيم.» مردِّدًا في سخرية الدرس الإيحائي الثاني من مبادئ علمِ الصحة، ثم قال: «ولكن هؤلاء الناس لم يسمعوا بفورد وهم غير متمدنين؛ ولذا فلا يهم …»
وقضبت على ذراعه مذعورة، وقالت: «انظُر!»
وكان حينذاك رجل هندي عارٍ كله تقريبًا، يهبط على السلم المتنقل مبطئًا من رُدهة الطابق الأول في المنزل المجاور، وأمسك بالقضيب تلو القضيب، وهو يرتجفُ من الحرص كأنه شيخ عجوز، وكان وجهه أسودَ عميقَ التجاعيد، كأنه قناع من الصخر اللامع، وانفرج ثغرُه عن فمٍ بغير أسنان، وفي طرفي شفتَيه وعلى جانبي ذقنه أبرقت بضعُ شعرات خشنة طويلة بيضاء وسط البشرة السوداء، وتدلى شعره الطويل غير مضفور في خصل رمادية حول وجهه، وقد احدودب ظهرُه وهزل جسمه، حتى برزت عظامه وتغضن لحمه، وهبط في بطءٍ شديد، وكان يقف عند كل قضيب من قضبان السلم، قبل أن يجرؤَ على الهبوط درجة أخرى.
فهمست ليننا قائلة: «ما علَّتُه؟» وقد انفرجت عيناها فزَعًا ودهشةً.
فأجابها برنارد بقدر ما استطاع من إهمالٍ قائلًا: «كل ما في الأمر أنه عَجوز!» وقد أصابه هو كذلك الذعر، غير أنه بذل الجهدَ في إخفاء تأثره.
فرددت لفظَه قائلة: «عجوز؟ إن المدير عجوز، وكثير من الناس عجائز، ولكنهم ليسوا كهذا الرجُل.»
– «ذلك لأننا لا نسمح لهم أن يظهروا بهذا المظهر، فنحن نحميهم من الأمراض، ونحفظ لهم إفرازهم الداخلي بطريقةٍ صناعية، على حاله كما كان أيام الشباب، إننا لا نسمح لما عندهم من مغنزيوم الكلسيوم أن يهبط نسبته إلى أقل مما كانت عليه في الثلاثين، إننا ننقل إليهم دماء الشباب، وكذلك نقوي فيهم دائمًا القدرة على تجديدِ ما يستهلكون من أبدانِهم؛ ولذا فهم بالطبع لا يظهرون بهذا المظهر، ويرجع ذلك — إلى حدٍّ ما — إلى أن أكثرهم يموتون قبل أن يبلغوا سن هذا المخلوق العجوز، إنهم يحتفظون بفتوَّةِ الشباب كاملة حتى الستين، ثم تنتهي حياتهم فجأة.»
ولكن ليننا لم تصغ إليه، بل كانت ترقب العجوز وقد هبط في بطءٍ شديد، ومست قدماه الأرض ثم التفت، ولمعت عيناه ببريق غير معهود، وهما غائرتان في محجريهما، وصوبهما نحوها برهة طويلة. لا يدلان على شيء، ولا يعبران عن دهشة، كأنها لم تكن هناك، ثم أخذ يحجل متباطئًا إلى جوارهما ببطءٍ شديد وبظهر محدودب، ثم اختفى.
فهمست ليننا قائلة: «إنه مريع، إنه مخيف، وما كان ينبغي لنا أن نأتي إلى هذا المكان.» وفتشت في جيبها عن السوما — فوجدت أنها تركت الزجاجة في الاستراحة سهوًا، وهو ما لم يحدث لها من قبل، وكذلك كانت جيوب برنارد فارغة.
ولبثت ليننا في مالبي تواجه الفزع بغير معين، وقد تكاثرت أسباب الفزع حولها وتلاحقت، أخجلها مشهد سيدتين في سن الشباب، وقد قدَّما أثداءهما لصغارهما فأشاحَت عنهما بوجهها، إنها لم تر في حياتها منظرًا بشعًا كهذا. ومما زاد الطين بلة أن برنارد بدلًا من أن يتجاهلَه بلباقة، بدأ يعلق صراحةً على هذا المنظر المنفِّر الذي يدل على التناسل بطريقةٍ غير طريقة التفريخ، وكان أثر السوما قد زال، فأحسَّ بالخجل من الضعف الذي أبداه في الفندقِ ذلك الصباح، وأراد أن يظهر قوتَه وعدم تقيُّدِه بالأصول المرعية.
وقال في ثورةٍ متكلَّفة: «ما أجملَ تلك العلاقة وما أحبَّها إلى النفوس، وما أغزرَ ذلك الشعور الذي تولده هذه العلاقة! لطالما جال بخاطري أن المرء يفقِدُ شيئًا ما إذا لم تكن له أم، ولربما فقدت الكثير يا ليننا؛ لأنك لم تكوني أمًّا، تصوري نفسك جالسة هناك ومعك طفلك الصغير الخاص …»
وقالت: «كيف تجرؤ على هذا القول يا برنارد؟» ثم صرفها عن غضبها مرور امرأة عجوز، مصابة بالرمد وبمرضٍ جلدي.
ثم قالت: «دعنا ننصرف، إني لا أحبُّ هذه المناظر.»
وعندئذٍ عادَ مرشدهما وأشار إليهما أن يتقفيا أثرَه، ثم تقدَّمَهما وسار نحو الطريق الضيق الذي يقع بين البيوت، وساروا جميعًا حول أحد الأركان، وأبصرا كلبًا ميِّتًا ملقًى على كومةٍ من المخلَّفات القَذِرة، وامرأة تضخمت غدتها الدرقية تبحث عن القَمل في شعر فتاةٍ صغيرة، ثم وقف المرشد عند أسفل أحد السلالم المتنقلة، ورفع يده عمودية ثم دفعها أفقية إلى الأمام، وفعلا ما أمرهما به بالإشارة دون الكلام، فتسلقا السلم، ووَلَجا الباب الذي يؤدي السلم إليه، فإذا بهما في غرفةٍ طويلة ضيِّقةٍ، مظلمة تنتشر فيها رائحةُ الدخان والدهن المطبوخ والملابس البالية القذِرة، وكان في الطرف الآخر من الغربة بابٌ آخر ينفذ منه شعاع من ضوء الشمس وضجيج الطبول القريبة.
ووطئَتْ أقدامهما عتبة الباب فألفَيَا نفسَهما في دهليزٍ فسيحٍ، وتحتَ أبصارهما ميدان القرية تتحوطه المنازل المرتفعة من جميع النواحي ويموجُ بالهنود، فلمَحوا الأردية البرَّاقة، والريش في الشعر الأسود، ولألأة الفيروز، والجلود السوداء التي تلمع وتشعُّ الحرارة، فوضعت ليننا منديلَها على أنفها مرة أخرى، وكان بالفضاء الذي يقعُ وسط الميدان رصيفان مستديران مشيدان من الصلصال المضغوط — ومن الواضحِ أن تلك كانت سطوح حجرات تحت الأرض؛ لأنهما شاهدا وسط كل رصيف بابًا مفتوحًا، يخرج منه سلم يبرز من الظلام السفلي، وطرق أسماعَهما مزمارٌ يعزف في باطن الأرض، غير أنه يكاد يتلاشى في دق الطبول الثابت المتصل الذي لم يعبأ بأحد.
وكانت ليننا تحب دقَّ الطبول، فانغمضت عيناها واسترسلت مع ذلك الصوت المتكرر الذي يشبه قصف الرعد، ومكَّنَته من أن يتغلغل في شعورها وإحساسها شيئًا فشيئًا، حتى لم يبق في العالم في نهاية الأمر، سوى نبضات الطبل الشديدة المتوالية، وذكرها ذلك الصوت تذكيرًا قويًّا بالضوضاء المصطنعة، التي تحدث في صلاة الجماعة وفي الاحتفال بعيد فورد، فدمدمت قائلة «شولم، شولم.» إذ إن الطبل الذي طرق سمعها كان يدقُّ على هذا النغَم.
ثم تفجَّرَ الغناءُ بغتةً فتنبهتْ ليننا. كانت أصوات المئات من الذكور تصيح معًا بشدة، وكأنها رنين المعدن الغليظ، وأنشد المغنون بضعَ نغمات طويلة ثم صمتوا، وبقيت الطبول وحدها تجلجل كالرعد، ثم أجاب النسوةُ بصوتٍ حاد كأنه الصهيل المرتفع، ثم عادت الطبول إلى دقِّها، وعاد الرجال المتوحشون إلى غنائهم، بصوتٍ عميق يؤكد رجولتهم. عجيب حقًّا، كان ذلك المكان عجيبًا، وكذلك كانت الموسيقى، وكذلك كانت الأزياء والغدد الدرقية المتضخمة، والأمراض الجلدية والشيوخ المسنون، أما الأداء نفسه فلم يكن فيه ما يستدعي العجَب بصفةٍ خاصة.
وقالت لبرنارد: «يذكرني هذا بالغناء الجماعي للطبقات الوضيعة.»
ولكن بعد فترةٍ قصيرة لم يعد هذا الغناء يذكرها — كما كان يفعل من قبل — بغناء الطبقات الفقيرة الذي لا يعود على أحدٍ بالضرَر، إذ إنها شهدت بغتة جماعة شاحبة اللون، من أولئك المتوحشين تخرج من تلك الحجرات السفلية وتتجَمْهر، وكان أفراد تلك الجماعة يبدون في هيئة زرية، يختلفون عن البشَر في مظهرهم كل الاختلاف، وقد بدءُوا يدبون حول الميدان، وهم يرقصون رقصة غريبة مرتخية، وأخذوا يدورون حولَ الميدان مرةً بعد أخرى مغنين وهم يرقصون — وكانوا يسرعون في كل رقصة عن الرَّقصةِ السابقة. وتغير دق الطبول وأسرع في النغم، حتى أصبح مسمعها كنبض الحمَّى في الآذان، وشرعت الجماهير تغني مع الراقصين، وعلا غناؤهم، وقد صاحت إحدى النسوة، ثم تبعتها ثانية فثالثة كأنهن يُقتلن، وبعدئذٍ خرج عن الصف بغتة قائد الفرقة الراقصة، واندفع نحو صندوق خشبي كبير قائم في طرف من أطراف الميدان، ثم رفع الغطاء وأخرج ثعبانين أسودين، فانفجرت الجماهير صائحة، وجرى بقية الراقصين نحوه ومدوا له أيديَهم، فألقى الثعبانين على أول القادمين، ثم أدخل يده في الصندوق ليخرج غيرَهما، وتكاثرت الثعابين، منها الأسود ومنها البُنِّيُّ ومنها المرقَّش — وقد طوَّحها جميعًا، ثم بدأ الرقص مرة أخرى على نغمة أخرى، فداروا حول الميدان يحملون الثعابين ويتلوَّوْن مثلها، ويتماوجون تماوجًا خفيفًا عند الركب والأرداف، ثم أشار لهم قائدهم، فألقيت الثعابين واحدًا بعد الآخر وسطَ الميدان، وظهرَ حينئذٍ رجل عجوز من تحت الأرض ونثر فوقها دقيقَ الحنطة، وخرجت من الفتحة الأخرى امرأة رشَّتْ فوقها الماء من وعاءٍ أسود، وعندئذٍ رفَع الشيخ يدَه، فصمت الجميع مذعورين خائفين، وكفَّت الطبول عن الدق وكأن الحياة قد انعدَمت من كل شيء، وأشار الشيخُ صوبَ الفتحتين اللتين تؤديان إلى العالم السفلي، وقد برز من إحداهما تمثال نسرٍ ملون، رفعته في بطءٍ شديد أيادٍ مختفية، وبرز من الفتحة الأخرى تمثال رجلٍ عار مسمَّر فوق صليب، وبقيا هناك معلقين، وكأن كلًّا منهما يقيم نفسه، وكأنهما يرقبان. وصفق الشيخ بيديه، وتقدَّمَ من الجمع الحاشد غلامٌ في الثامنة عشرة من العمر تقريبًا، عاري الجسد لا يتستر إلا بقطعةٍ يسيرة من القماش عند ردفيه، ووقف أمام الشيخ، ويداه متصالبتان فوق صدره، ورأسه منحنٍ، فرسم الشيخ فوقه علامة الصليب ثم انصرف، فشرع الغلام يسير مبطئًا حول كومة الثعابين المُلتوية، وبعد ما أتم الدورة الأولى وقطع من الثانية نصفَها، تقدم نحوه من بين الراقصين رجلٌ طويلُ القوام، يتقنع بجلد الذئب ويمسك في يده سوطًا من الجلد المضفور، فتحرك الغلام كأنه لا يعلم بوجود الرجل، فرفع الرجل المستَذْئِب سوطه، وتعلقت الأنفاس لحظة طويلة في ارتقاب ما عساه يحدث، ثم تحرك الرجل حركة سريعة أعقبها صفير السوط وهو يهبط، وصوته الضخم وهو يمسُّ جسد الغلام، واهتز جسم الصبي، ولكنه لم يحدث صوتًا، بل واصل سيره محتفظًا بخطوته البطيئة الثابتة، وأخذ الرجل المستَذْئِب يضربه مرة بعد أخرى، وعند كل ضربة يعلو من الجمهور اللُّهاث، الذي يعقبه الأنين العميق، وظل الغلام يدور للمرة الثانية، فالثالثة، فالرابعة، والدم يتدفق منه، ثم دار للمرة الخامسة فالسادسة، فحجبت ليننا لفورها وجهها بيديها، ثم أجهشت بالبكاء، وقالت متوسلة: «أوقفوهم، أوقفوهم.» ولكن السياط توالت بغير انقطاع، ودار الغلام دورته السابعة، ثم ترنَّحَ وخرَّ على وجهه صريعًا دون أن ينبِس ببنتِ شفةٍ، فانحنى فوقه الشيخ ومس ظهره بريشة طويلة بيضاء، ثم رفع الريشة ليَراها الناس، فإذا بها قرمزية اللون، ثم هزَّها ثلاثَ مرات فوق الثعابين، وسقطت بضع قطرات، ثم شرعت الطبول تدق مرة أخرى مسرعة تثير الرعبَ، وسُمعت صيحة عالية فاندفع الراقصون إلى الأمام، والتقطوا الثعابين وجرُّوا بعيدًا عن الميدان، وتبعهم الرجال والنساء والأطفال وكل الجمع المحتشد، وبعد دقيقة خلا الميدان ولم يبقَ به غير الغلام، منكفئًا على وجهه ساكنًا حيث خرَّ، وخرج ثلاث من النسوة العجائز من أحد المنازل، ورَفَعْنَه في شيءٍ من المشقة ثم أدخلنه الدار، وبقيَ النسر والرجل المصلوب بُرهةً يحرسان القرية الخاوية، ثم هبطا مبطئين خلال الفتحتين واختفيا في العالم السفلي، وكأنهما اكتفيا بما شاهَدَا.
وما برحتْ ليننا تبكي وتكرِّر قولها: «هذا شيء مريع! تلك الدماء!» ولم يجدها عزاء برنارد نفعًا، وارتعدت رعبًا وفزعًا، ثم قالت: «وددت لو تناولت السوما.»
وسمع في الغرفةِ الداخلية وقع أقدامٍ، فلم تتحرك ليننا، بل لبثت مكانها ووجهها بين يديها، في عزلةٍ عن العالم، لا ترى شيئًا، والتفت برنارد وحده.
وبرز إلى الدهليز شاب في زِيِّ الهنود، غير أن شعره المضفور كان في لونِ القش، وعيناه زرقاوان شاحبتان، وجلده أبيض برنزي.
قال هذا الرجل الغريب في لغةٍ إنجليزية عجيبة برغم خلوِّها من الخطأ: «أهلًا، عموا غدًا، إنكم قوم متمدنون، أليسَ كذلك؟ أتيتم من العالم الآخر خارج هذه المنطقة.»
فدهش برنارد وبدأ الكلام بقوله: «من ذا عسى أن يكون …؟»
فتنهد الشاب وهز رأسه وقال: «إنه رجل بائس!» ثم أشار إلى لوثات الدمِ وسط الميدان، وقال: «هل ترون تلك البقعة اللعينة؟» وقد تهدَّجَ صوته من شدة العطف.
وقالت ليننا من خلف يديَها بطريقةٍ آلية: «جرام واحد خير من اللعنة، وددت لو تناولت السوما!»
واستمرَّ الشاب في كلامِه، قال: «كان ينبغي أن أكونَ هناك، لِمَ لمْ أكن ضحيتهم؟ إذن لاستطعت أن أدور عشر مرات — بل اثنتي عشرة، بل خمسةَ عشر، أما بالوهتوا فلم يَعْدُ السبع، كانوا يستطيعون أن يظفروا من دَمِي بضِعف ما ظفروا منه، يظفرون ببحارٍ واسعة من الدم القاني.» ومدَّ ذراعيه بحركةٍ عنيفة، ثم أَرخاهُما قانطًا وقال: «ولكنَّهم لم يرضَوا بي، إنهم يمقتونني من أجل بَشرتي، وقد كانوا كذلك دائمًا، دائمًا.» وتجمع الدمعُ في مقلتيه فخجل وانصرف.
وأنسى الذهولُ ليننا حرمانَها من السوما، ثم كشفتْ عن وجهها وألقتْ على الغريب أول نظرة وسألته: «هل تعني أنك كنت تريد أن تضربَ بذلك السوط؟»
وكان الشاب منصَرِفًا عنها، ولكنه أشار بالإيجاب وقالَ: «ومن أجل القرية — كي تهطل الأمطار وينمو القمح؛ ولكي يرضى بوكونج ويسوع؛ ولكي أبرهنَ أني أستطيعُ أن أتحمل الألمَ بغير بكاء.» وتغيرت نغمة صوته، وأدار منكبيه معجبًا ورفع ذقَنه متحدِّيًا متشامخًا، وقال: «كي أبرهن على رجولتي.» وشهِق ثم صمت وفغرَ فاه. لقد كانت تلك أول مرة في حياته يشهد فيها فتاة وجهها ليس كالشكولاته أو جلد الكلب لونًا، وشعرها مصفر دائم التموج، وملامحها تنم عن الخير، وذلك شيءٌ عجيب غير مألوف، وابتسمت له ليننا، وقد أعجبت أشد الإعجاب بحسن مظهره وجمال قوامه، فتدفق الدمُ في وجنتي الشابِّ، وأرخى جفنَيه، ثم رفعهما بعد لحظة فوجد أنها ما تزال تبتسم له، فغلبه الخجل والتفتَ إلى وجهة أخرى، وتظاهر بالتحديق في شيءٍ ما في الجانب الآخر من الميدان.
وأنقذ برنارد الموقف بما وجه إلى الشابِّ من أسئلة: «من يكون؟ وكيف؟ ومتى؟ ومن أين؟» وثبت الشاب نظره في وجه برنارد (لأنه كان يتحرَّق شوقًا ليرى ليننا وهي تبسِم، حتى إنه لم يجرؤ على مجابَهتِها بالنظر)، وحاول أن يشرحَ حقيقةَ أمره. كان هو وأمه لندا (وقد بدا القلق على ليننا عندما سمعت لفظة الأم) غريبين في تلك المنطقة، فلقد أتتْ لندا قبل مولدِه مع أبيه من العالم الآخر، وهنا رفع برنارد أذنيه مصغيًا، ثم قال الشاب: «إن أمه تجوَّلتْ في تلك الجبال وحدها، وسارت نحو الشمال، ثم سقطت من مكان مرتفع شديد الانحدار وآذت رأسها.» قال برنارد متهيجًا: «أسرع، أسرع!» فوجدها بعض الصيادين من مالبي وصحبوها إلى القرية، ولم تر لندا أباه بعد ذلك الحين، وكان اسمه توماكين (وتوماس هو الاسم الأول للمدير)، ولا بد أن يكون قد عاد طائرًا إلى العالم الآخر بغير الأم — لقد كان سيِّئَ الخُلق قاسيًا شاذًّا.
وختم حديثَه قائلًا: «وهكذا ترون أنني ولدتُ في مالبي.» ثم هزَّ رأسه.
ما أقذر ذلك المنزلَ الصغير الذي يقع في ضاحية من ضواحي القرية!
كانت تفصله عن القرية أرضٌ فضاء تغطيها الرمال والغابات.
وكان لدى كومة القاذورات، عند الباب، كلبان جائعان ينبحان نباحًا فاحشًا، ولما ولجوا الدار فاجأتهم رائحةٌ كريهة وطنين الذباب.
وصاح الشاب مناديًا: «لندا!»
فأجابته من الغرفة الداخلية بصوتٍ نسائي أجشَّ قائلة: «إني آتيةٌ.»
وانتظروا، ووقعت أبصارُهم على بقايا وجبة، أو وجبات عديدةٍ من الطعام في الأواني الملقاة فوق الأرض.
وانفتح الباب، فإذا بامرأة من الهنود الأمريكيين، بدينة شقراء تطأُ العتبة، ثم تقف ناظرةً إلى الغريبين محدِّقة فيهما، فاغرة فاها لا تصدق ما ترى، وتقززت ليننا عندما لاحظت أن المرأة كان ينقصها اثنتان من الأسنانِ الأمامية، وأن لون ما بقي لها من أسنان … واقشعرَّ بدنها، لقد كانت أسوأ من الشيخ، بدينة، وجهها مجعد، مترهلة، متغضنة، وقد تجوف خدَّاها وتلطخا بلوثات أرجوانية اللون، وظهرت الحمرة في عروقِ أنفها، والتهبتْ عيناها، وما أقبح جيدَها، وذلك القماش الغليظ الذي غطَّت به رأسها، ما أقذره وما أشدَّ تمزيقه، وقد برزت بطنها وردفاها وثدياها تحت ذلك الرداء البني الذي يُشبه الجوال. حقًّا لقد كانتْ أسوأ من الرجل العجوز! وتفجر هذا المخلوق فجأة بتيار جارف من الكلام، ثم اندفعت نحوها بذراعين ممدودتين، يا لله يا لله! لقد كانت منفرة جدًّا، ولو بقيت لحظةً أخرى لخرَّت ليننا عليلة، ثم التصق بها نتوء بطنها وثدييها وقبلتها. يا لله! أفتقبلها، وقد سال لعابُها وانتشرت منها الرائحة الكريهة؟! لا شك أنها لم تستحم قط، وكانت تفوح منها رائحة تلك المادة الكريهة، التي توضع في قوارير «د» و«ﻫ» (وليس صحيحًا ما يُقال عن برنارد)، وتنتشر منها رائحة الكحول، فحاولت ليننا أن تفرَّ بأسرع ما استطاعت، فالتقت بوجهٍ شائه باك، فقد كانت المرأةُ تبكي بصوتٍ مرتفع.
وأخذت العجوز تتدفق في الكلام وهي تبكي، وقالت: «عزيزتي، لو عرفت مقدار سروري — بعد كل هذه السنوات — لرؤية وجهٍ متمدن، وزيٍّ متمدن، لقد كنت أحسب أني لن أرى قطعةً من حرير الحامض مرة أخرى.» ثم لمَست بأصبعها كم قميص ليننا، وكانت أظافرها سوداء، ثم قالت: «وهذه السراويل القصيرة الباهرة من المخمل اللين! هل تعلمين يا عزيزتي أني ما زلتُ أحتفظ في أحد الصناديق بملابسي القديمة التي قدمت فيها أول مرة، وسوف أطلعك عليها فيما بعد، وإن تكن الخروق قد كثرت في الحرير الحمضي، ولكن ما أجمل حزامَ الكتف الأبيض، وإن كنت أقر بأن حزامك المراكشي الأخضر أجمل منه، غير أني لم أفد كثيرًا من حزامي.» وبدأ الدمع ينحدرُ من عينيها ثانية، ثم قالت: «أحسب أن جون قد أخبرك، لقد عانيت كثيرًا، ولم يكن عندي جرام واحد من السوما، لم يكن لدي سوى شراب المسكال، أتناول منه الفينة بعد الفينة، كلما أتاني به بوبي، وبوبي هذا ولد عرفته، ولكن هذا الشرابَ له أثر سيِّئ على الحس فيما بعد، إنه يصيب شاربه بمرض البيوتل، وهو فوق ذلك يبعث في الشارب في اليوم التالي إحساسًا شديدًا بالخجل، ولقد خجلت جدًّا، هل تتصورون أني حملت وأنا من «ب»، ضعوا أنفسكم مكاني (وهذه الإشارة المجردة أصابت ليننا بالرعدة)، ولكني أقسم لكم إن الخطأ لم يكن مني؛ لأني ما زلت أجهل كيف حدث هذا، وقد قمت بالتدريب المالتسي كله — وهو بالعدد كما تعلمون: ١، ٢، ٣، ٤ — وأقسم أني ما قصرت، ولكن الحادث برغم ذلك قد وقع، وبالطبع لم يكن هنا مركز للإجهاض. وبهذه المناسبة، هل لا يزال مركز الإجهاض في شلسي؟ (فأجابتها ليننا بالإيجاب) وهل لا تزال تنعكس فوقه الأضواء أيام الثلاثاء والجمعة؟ (فأجابت ليننا بالإيجاب مرةً أخرى) ما أجمل ذلك البرج الزجاجي القرنفلي!» ورفعت لندا المسكينة رأسها، وبعينين مغمضتين أعادت إلى مخيلتها — وهي مذهولة — صورة ذلك البرج اللامع، ثم قالت في همس: «وما أبدع النهر في المساء!» وتسرب الدمع الغزير على مهلٍ من بين جفنيها المغمضين، ثم قالت: «وأذكر أنا كنا نعود بالطائرة مساءً من ستوك بوجس، ثم نأخذ حمامًا ساخنًا ونستخدم آلة التدليك المذبذبة المفرغة … ولكن كفى كفى!» وتنهدت تنهدًا عميقًا، وهزت رأسها، وفتحت عينيها ثانية، واستنشقت مرةً أو مرتين، ثم أفرغت مخاط أنفها فوق أصابعها، ومسحته في الجزء الأسفل من ردائها، وكشرت ليننا اشمئزازًا وهي لا تشعُر، فأجابتها لندا قائلة: «إني آسفة وما كان ينبغي لي أن أفعل ذلك، إني آسفة، ولكن ماذا يفعل المرء إذا لم يكن لديه منديل؟ أذكر كيف كنت أتقزز من مثل هذه القذارة، وليس عندي مطهر، ولقد أصبت بجرحٍ كبير في رأسي عندما أتوا بي هنا أول مرة، وإنك لا تتصورين المادة التي وضعوها عليه، قذارة، وليس غير. وكنت دائمًا أقول لهم: «المدنية تعقيم.» وأخذت أُنشدهم — كأنهم أطفالي — مُحببة إلى نفوسهم النظافة والحمامات والمراحيض، ولكنهم بالطبع لم يفقَهُوا قولي، وكيف يفقَهون؟ ولكني أعتقد أني اعتدت طبائعَهم في نهاية الأمر. وعلى أيةِ حال، كيف يستطيع المرء أن يحتفظ بنظافة الأشياء، إذا لم يكن لديه ماء ساخن، ثم انظري إلى هذه الملابس، إن هذا الصوف الخشن ليس كالحرير الحمضي، إنه يتحمل كثيرًا، وعلينا أن نرتُقَهُ إن تمزق، ولكني من «ب» وكنت أعمل في حجرة التلقيح، ولم أتعلَّم شيئًا مثل هذا، فلم يكن من عملي، ثم إني تعلمت أن رتق الملابس ليس من الصواب في شيء، كنا نرميها إذا ظهرتْ فيها الخروق ونشتري غيرها، ومبدؤنا «إذا كثر الإصلاح قل الثراء» أليس كذلك؟ فإصلاح الأشياء ليس أمرًا اجتماعيًّا، ولكن الأمور هنا تسير على غير ذلك، وكأننا نعيش مع المجانين، كل ما يفعلونه يدل على الجنون، ثم تلفتت حولها، وعرفت أن جون وبرنارد قد تركاها وأخذا يسيران جيئةً وذهابًا في التراب والقاذورات خارج البيت، ولكنها برغم ذلك أخفضتْ صوتها، وأسرت إلى ليننا وقد مالت عليها والتصقتْ بها، حتى إن هبوب دخان سم الجنين قد هزَّ الشعرَ فوق خدِّها (وقد تصلبت ليننا وانكمشت)، وهمست بصوتٍ خشن قائلة: «خذي مثلًا علاقة أحدهم بالآخر هنا، إنهم مجانين كما قلت لك، بل وفي منتهى الجنون، نحن نعلم أن كل فرد يتعلق بكل فردٍ آخر، أليس كذلك؟» ثم جذبت كم ليننا وهي تتحمس في كلامها، فحولت ليننا عنها رأسها وأومأت إيجابًا، ثم أطلقت نفَسَها المكتوم واستطاعت أن تتنفس تنفُّسًا آخر غير ملوث نسبيًّا، وواصلت الأخرى حديثها قائلة: «أما هنا؛ فإن الفرد لا يتعلق بأكثر من فردٍ واحد، فإذا كانت علاقةُ أحد الأفراد بالآخرين كما عهِدنا، ظنَّه الناس شريرًا يعادي المجتمع، وكرهوه وازدروه، وقد حدث مرة أن جماعة من النسوة أتين إليَّ، وتشاجرن لأنَّ رجالهن قد أتوني، ولماذا لا يأتون؟ واندفعن نحوي، وكان منظرًا مريعًا، لا أستطيع أن أحدثك عنه.» وغطت لندا وجهها بيديها وارتعدت فرائصها، ثم قالت: إنني أمقت النساء هنا أشد المقت، إنهن مجنونات قاسيات، وهن بالطبع لا يعرفن شيئًا عن تدريب مالتس، أو القوارير، أو التفريغ، أو ما شابه ذلك؛ ولذا فهن يلدن دائمًا — كالكِلاب، وهو شيء منفِّر، وإني لأصعق حينما أذكر أني … يا لله، يا لله! ومع ذلك فلقد كان لي في جون عزاء جميل، ولست أدري ماذا كنت أصنع بغَيره، وذلك رغم أنه يرتبك أشدَّ الارتباك كلما رأى رجلًا … حتى حينما كان طفلًا صغيرًا. ولقد حاول مرة — لما شبَّ قليلًا ما — أن يقتل وايهو سيده المسكين — أو لعله كان بوبي — لأنه كان يتردد عليَّ بين الحين والحين؛ وذلك لأني لم أستطع قط أن أفهمه أن ذلك هو ما ينبغي للمتمدنين أن يفعَلوا، وإني أعتقد أن الجنون مُعدٍ، ويظهر أنه انتقل من الهنود إلى جون؛ لأنه كان يرافقُهم كثيرًا، وذلك رغم قسوتهم عليه وحرمانه من أداء ما يفعل غيره من الصبيانِ، وكان ذلك حسنًا من ناحية؛ لأنه يسر لي تكييفه إلى حدٍ ما، وإن كنت لا تتصورين ما لاقيت في ذلك من مشقَّة، وكثير من الأمور لا يعلمه المرء، ولم يكن من شأني أن أعلمَ به، وأعني أن الطفلَ يسألك: «كيف تسير الطائرة؟ أو من خلق الدنيا؟ فبماذا تجيبين إن كنت من «ب» تشتغلين دائمًا في حجرة التلقيح؟ بماذا تجيبين؟»