الفصل الثاني

عهد الحقوق القديمة

يبتدئ هذا العهد منذ أوائل الجمهورية سنة ٥٠٩ق.م وينتهي بزمن آل «غراك Les graques» أي نحو سنة ١٠٥ق.م. والمصادر الرئيسية للحقوق في هذا العهد هي: قانون الاثني عشر لوحًا، والقوانين التي تلته، والاجتهاد أو التفسير.

(١) البند الأول: نظرة عامة في النظام السياسي والاجتماعي والحالة الاقتصادية

(١-١) النظام السياسي

إن تاريخ تأسس الجمهورية والأحوال والحوادث التي أدت إلى تأسيسها ورافقت نشوءها محاطة بقصص وأساطير يتعذر استنباط الحقيقة منها. وجل ما يمكن الإيقان به أن التبدل الذي طرأ على المؤسسات الرومانية منبعث عن حركة عامة كانت ترمي إلى استبدال الحكام المنَصَّبين لمدى حياتهم، بحكام يُنصَّبون مؤقتًا لمدة سنة واحدة. فلنستعرض إذن السلطات السياسية في هذا العهد.
  • القنصلان: حينما أُسقطت الملكية، استعيض عن الملك بقنصلين معينين لمدة سنة واحدة ومقلدين جميع سلطات الملك، ما عدا السلطة الدينية؛ لأن الرومان كانوا متمسكين بتقاليدهم الدينية؛ لذلك، وخشيةً من أن يحيق بهم غضب الآلهة، أبقوا في المقر الملكي القديم ملكًا دينيًّا، لا حول له ولا قوة، بل ولا حق، ليستبقوا عطف الآلهة وحمايتها.١

    كان هذان القنصلان يتمتعان مدة السنة التي يدوم فيها حكمهما بالسلطة العسكرية (حق قيادة الجيش)، والسلطة القضائية، وحق جمع اﻟ «كوميس» ومجلس الشيوخ، وحق تعيين أعضاء هذا المجلس، كما أنهما كانا يشبهان الملك من حيث المناعة التي كانا يتمتعان بها أثناء مدة حكمهما.

    وقد كان القنصلان يمارسان السلطة بالاشتراك، والاتفاق، فإذا اختلفا فيما بينهما في أمرٍ ما، قُضي على هذا الأمر. وعدم الوحدة في الرئاسة السياسية كان من أسباب ضعف مقام القنصلية.

  • مجلس الشيوخ: ما زال مجلس الشيوخ، من الوجهة الحقوقية ومن حيث الصلاحيات، كما كان سابقًا؛ أي إنه ظل مجلسًا استشاريًّا يعين أعضاءه القنصلان، كما كان يعينهم الملك. ولكنه ازداد شأنًا ونفوذًا من الوجهة الفعلية. وهذا أمر غير مستغرب؛ لأن سلطة القنصلين وإن كانت حقوقيًّا كسلطة الملك سابقًا، إلا أنها فعلًا كانت دون سلطة الملك؛ لأن القنصلين إنما يظلان سنة واحدة في الحكم يصبحان بعدها خاضعين للمسئولية أمام مجلس الشيوخ عن أعمالهما أثناء مدة حكمهما. وهذا ما كان يحدو بالقناصل إلى استشارة مجلس الشيوخ والحصول على موافقته في جميع الأعمال الخطيرة.
  • اﻟ «كوميس»: صار للكوميس بمختلف أنواعها — أي الكوميس القائمة على أساس الكوريا، و«كوميس سنتوريا»، و«كوميس القبائل» — سلطة في هذا العهد أوسع من سلطتها في العهد الماضي. فقد أحرزت، عدا السلطة التشريعية التي كانت تتمتع بها، سلطة انتخابية هي حق انتخاب القنصلين (الذي تمارسه اﻟ «كوميس سنتوريا»)، وسلطة قضائية هي حق النظر بالأحكام الجزائية الخطيرة بالصفة الاستئنافية.
    بجانب هذه الهيئات والسلطات، نجد في العهد الجمهوري حكامًا معروفين باسم questeurs يلزم القنصلان بإنابتهم منابهما في إدارة بيت المال وممارسة القضاء الجزائي. وهذا ما يضعف من سلطة القنصلين.

(١-٢) حالة الشعب

يزعم كثير من المؤرخين وبعض المؤلفين الحقوقيين أن طبقة الشعب لم تستفد شيئًا من تأسس الجمهورية التي أطلقوا عليها اسم جمهورية الآباء، وأنها بعكس ذلك قد رجعت القهقرى؛ إذ فقدت موئلًا لها وحاميًا هو الملك. ولكن الحقيقة هي أن طبقة الشعب قد استفادت من الانقلاب السياسي بالرغم من أن طبقة الآباء هي التي أحدثته؛ لأنها هي التي قوضت دعائم الملكية؛ وذلك لأن سلطة الحكام — ومنهم القنصلان — قد حُددت وقُيدت، فلم يعد الناس — ومنهم سواد الشعب — معرضين لاستبداد هؤلاء الحكام. أضف إلى ذلك أن طبقة الشعب تمكنت، بفضل انسحابها مؤقتًا من روما وتهديدها بعد الرجوع إليها، من الحصول على حكام شعبيين لهم صفةٌ خاصةٌ وشأنٌ عظيمٌ، ألا وهم اﻟ «تربيان Tribuns» الذين كانوا يعينون لمدة سنة واحدة ويتمتعون بمناعة من نمط المناعة التي تحوط القناصل. وكان لهؤلاء الحكام، أو أشباه الحكام، امتياز غريب هو حق حماية كل فرد من الشعب من كل عمل من أعمال الحكام متخذ ضده في روما وضاحيتها.
وقد ذهبت طبقة الشعب إلى اتخاذ قرارات — على أثر اقتراحات صادرة عن اﻟ «تربيان» — لها صفة قضائية جزائية يرجح بعض المؤلفين أنها صارت نافذة حتى بحق أفراد طبقة الآباء. ثم صارت تصدر قرارات لها صفة تشريعية تصبح نافذة عند موافقة مجلس الشيوخ عليها. وانتهى الأمر بطبقة الشعب في هذا العهد أن أحرزت حقوقًا مدنية لم تكن تتمتع بها في العهد السابق، منها حق الزواج بالأشخاص المنتمين لطبقة الآباء، وذلك بموجب قانون «كانولييا Canuleia».

وأجلُّ فوزٍ أحرزه الشعب، بل أجلُّ عملٍ حقوقيٍّ حصل في عهد الجمهورية، هو تدوين الحقوق العرفية الذي تم بقانون الاثني عشر لوحًا، ذلك القانون الذي سوف نفرد له بندًا خاصًّا.

(١-٣) النظام الاجتماعي

إن الحروب التي خاض الرومان غمارها في هذا العهد والفتوح التي قاموا بها أحدثت تبدلًا في الحالة الاجتماعية. فمن ذلك نشوء طبقة من العمال في روما وازدياد الأملاك الواسعة على أثر تضاؤل المالكين الصغار لما أصابهم من ضنكٍ بسبب تعاقب الحروب.

وقد فعلت هذه العوامل فعلها في الحالة الاقتصادية، فاتسع التداول وارتقت التجارة البرية والبحرية. وهذا ما بعث على تطور النقود. فقد ظهرت النقود المصكوكة النحاسية ثم الفضية.

ونتج عن تماس الرومان بالشعوب الغريبة، ولا سيما اليونان، على أثر الفتوح، تبدل في العادات والأخلاق الرومانية كان من مظاهره انتشار الترف وتسرب بعض الفساد في الأخلاق. ولكن لقاء ذلك اكتسب الرومان ثروة أدبية علمية كان من أبرز مظاهرها وجليل فوائدها تأثر الحقوق الرومانية بالفلسفة اليونانية التي أدخلت فكرًا جديدةً ساميةً كان لها خير أثر في الألانة من قسوة الحقوق الرومانية وتقدمها.

(٢) البند الثاني: قانون الاثني عشر لوحًا

كانت الحقوق الرومانية قبل صدور قانون الاثني عشر لوحًا، حقوقًا عرفية كما بيَّنا. وكان لهذه الحقوق العرفية، كما لها الآن، مساوئ منها الغموض والإبهام. وأجسمها في روما في ذلك الحين، بقاؤها، ضمن حد، سرية خافية على الناس، لانحصار معرفتها بالكهنة وزعماء طبقة الآباء؛ فكان الشعب من جراء ذلك عرضة للمظالم بسبب جهله القانون الذي يحتكم إليه ويحكم بموجبه عليه، وهدفًا لسوء استعمال الحقوق من قبل عارفيها ومحتكريها.

لذلك كان لا مندوحة للشعب، تخلصًا من هذه المحاذير ورغبةً في تأمين المساواة الحقوقية بينه وبين الآباء، من الوصول إلى إذاعة الحقوق. وهذا ما سعى إليه الشعب، وقد تمكن بعد أعمال ووقائع ليس لنا أن ندخل في بحثها، من إدراك ضالته المنشودة بتدوين الحقوق الذي تم بنشر قانون الاثني عشر لوحًا.

(٢-١) كيف وضع قانون الاثني عشر لوحًا

ينقل المؤرخون أنه، في سنة ٣٠٣ (من بناء روما) أي سنة ٤٥٢ق.م عُهد إلى هيئة مؤلفة من عشرة حكام معروفين باسم «ديسمفير decemvirs» وضع مشروع القانون المقصود. وقد عُين هؤلاء الحكام من طبقة الآباء لمدة سنة واحدة لأجل هذه الغاية، فقاموا بمهمتهم بعد أن استناروا — كما ورد في الرواية التاريخية — بآراء ومعارف وفد أُرسل إلى بلاد اليونان لدرس قوانين «سولون»، ووضعوا مشروعًا متضمنًا مجموعة من المواد القانونية مدونة على عشرة ألواح خشبية عرضوها على الهيئة المعروفة ﺑ «كوميس سنتوريا» فأقرَّتها. ولما لم يُكتف بهذه المواد، وضع الحكام الذين أعقبوا الحكام السابقين بعد انقضاء مدتهم أحكامًا جديدةً دونت في لوحين آخرين، فصار المجموع اثني عشر لوحًا أطلق اسمها على القانون الذي تضمنته.
إن الاثني عشر لوحًا التي كانت تضم نص القانون المعروف باسمها، قد أتلفت أثناء غزو اﻟ «غوليين Gaulois» لروما وانتهابهم إياها سنة ٤٩٠ق.م. ولكن نصه، الذي كان اهتمام الرومان به عظيمًا حتى إن طلاب المدارس كانوا يحفظونه، قد وصلنا بصورة متفرقة في مختلف كتب المؤلفين والمفسرين، بعد أن أنشئ من جديد بالاستناد إلى ذاكرة حافظيه. وقد أصبح من الثابت الراهن تاريخيًّا أن هذا القانون قد وُجد حقًّا؛ أي إنه غير موهوم، وأن نصوصه التي وصلتنا صحيحة ولو كان بعضها لم ينقل إلينا بحرفه كما كان وضع في الأصل.
لقد اختُلف في أصل القواعد التي تضمنها قانون الاثني عشر لوحًا. فمن المؤلفين من عزاها إلى أصلٍ إغريقيٍّ، ويدلل أصحاب هذه الفكرة على صحتها بالتشابه الكبير في بعض الأحكام بين هذا القانون وقانون «سولون» اليوناني، وبإرسال الوفد اليوناني لدرس قوانينها بقصد الأخذ عنها.٢ ومنهم من جزم أن قانون الاثني عشر لوحًا متحدرٌ من أصلٍ رومانيٍّ بحت، وأنه عبارة عن عرف وعادات رومانية قديمة وأنه لم يأخذ عن الحقوق اليونانية إلا الأحكام المتعلقة بمراسم دفن الأموات.٣ وقد زعم أحد العلماء الأثريين، «ريفييو Revillout»،٤ أن هذا القانون بل أكثر الحقوق الرومانية مستقاة من الحقوق المصرية القديمة.
ولكن الرأي الراجح هو رأي الأستاذ العلامة «جيرار» الذي يمكن تلخيصه بأن: قانون الاثني عشر لوحًا روماني الأصل بصورة إجمالية، وأن ما أخذه هذا القانون مباشرةً عن القوانين الرومانية طفيفٌ وثانويٌّ.٥

ولئن كان لا يمكن أن يعد قانون الاثني عشر لوحًا، حسب رأي الأستاذين العالمين «جيرار» و«كوك»، بمثابة نسخة — ولو بصورة جزئية — عن قانون «سولون» أو غيره من القوانين اليونانية بالرغم من رجحان صحة إرسال وفد روماني إلى بلاد اليونان للاستنارة بقوانينها، إلا أن تأثير فلسفة وحقوق اليونان على الحقوق الرومانية أمرٌ لا ينكر، ولم ينكره أكثر العلماء والمؤلفين، ومنهم العالمان الجليلان المتقدم ذكرهما. وهذا برأينا لا ينفي وجود صلة غير مباشرة بين الحقوق الرومانية والحقوق المصرية القديمة عن طريق الحقوق اليونانية.

(٢-٢) مضمون قانون الاثني عشر لوحًا

إن معظم الأحكام التي تضمنها هذا القانون متعلقة بالحقوق الخاصة. أما ما كان منها له صلة بالحقوق العامة فقليلٌ ومقتصرٌ على الأمور الجزائية.

وهذه هي مختلف المواضيع التي عالجها قانون الاثني عشر لوحًا حسب الترتيب الأصلي على ما يعتقد العلماء، والتي نص عنها بإيجاز بصيغة الأمثال الحقوقية:
  • (١)
    أصول المحاكمات القديمة التي سميت فيما بعد دعاوى القانون Legis actiones لأنها مؤيدة بقانون الاثني عشر لوحًا، والتي كانت جميعها شفهية قائمة على المراسم والأشكال.
  • (٢)

    سلطة رب العائلة، وأحكام الوصاية، والميراث والوصايا.

  • (٣)

    معلومات في الأعمال الحقوقية كاﻟ «مانسيباسيو» أي طريقة نقل الملكية بواسطة البيع، واﻟ «إين جوري سيسيو» أي الفراغ أمام القضاء كما سنرى ذلك بالتفصيل.

  • (٤)
    أحكام متعلقة في الأصول الجزائية جلها تبحث في الجرائم العامة (كالقتل مثلًا)، والجرائم الخاصة؛ أي التي يترك أمر تعقيبها للمجني عليهم (كالسرقة مثلًا). وقد أخذ القانون الذي نحن بصدده بأسلوب وسط بين العدالة العامة والعدالة الخاصة، وأقر مبدأ القصاص المعروف ﺑ Loi du talion والذي يلخص بعبارة «العين بالعين والسن بالسن» للمعاقبة على بعض الجرائم، وأخذ بطريقة الأرش Composition.

يتبين للمدقق في قانون الاثني عشر لوحًا أن بحثه في حقوق العائلة مختصر؛ وذلك لأن الأسر والقبائل في روما كانت في ذلك العهد تحيا حياة مستقلة عن الدولة. في حين أنه بحث بحثًا مطولًا في حقوق الأشياء، ولا سيما في الملكية العقارية، وطرائق انتقال الأموال أثناء الحياة، وبعد الموت. في حين أنه لم يعن العناية المطلوبة بالوجائب؛ ويرجع السبب في ذلك لحياة روما الزراعية في ذلك الحين.

لقد كان لقانون الاثني عشر لوحًا مزايا جمة، أعظمها أنه لم يبق مجالًا لاستبداد الحكام من طبقة الآباء وظلمهم الذي كان ينتج عن غموض العرف والعادات وجهل الناس إياها؛ إذ لم تكون مدونة. وأنه قضى على التفاوت الذي كان موجودًا قبلًا، من حيث التمتع بالحقوق الخاصة بين طبقة الآباء وطبقة سواد الشعب. ومن مزاياه أيضًا اقتصاره على القواعد العامة، وتلك حسنة كانت من العوامل التي ساعدت على بقائه مرعيًّا زمنًا طويلًا. أما قدره في الحقوق الرومانية فجليلٌ عظيمٌ: وقد قيل إن تأثيره في تاريخ الحقوق الرومانية كان أشبه بتأثير قصائد هوميروس في تاريخ الآداب الإغريقية، وقال عنه المؤرخ الروماني الشهير «تيت ليف Tite Live» إنه: «أساس الحقوق الرومانية بأسرها.»

(٢-٣) القوانين الأخرى

لقد صدرت قوانين أخرى في هذا العهد عدا قانون الاثني عشر لوحًا، لم يكن لها من الشأن والخطر ما كان لهذا القانون.

بيد أنه لا بد من الإشارة إلى بعضها، لما له من المكانة في تطور الحقوق. كقانون «كانولييا Canuleia» الصادر في بدء القرن الرابع (من بناء روما) والذي أباح الزواج بين طبقة الآباء وطبقة سواد الشعب، وقانون آخر ذي شأن صدر سنة ٤٢٧ (من بناء روما) هو قانون بويتيليا بابيريا poetelia papiria الذي بحث في أمر الديون والمدينين.

وقد صدرت في القرن السادس (من بناء روما) سلسلة قوانين بشأن الكفالة والنسيئة أو الائتمان، والوصايا … إلخ.

(٣) البند الثالث: نظرة في سن القوانين

لقد جئنا على ذكر القوانين التي يتألف منها المصدر المدون للحقوق الرومانية، فحريٌّ بنا أن نُبين مختلف أنواع القوانين في روما وطرائق سنها.

لم يكن وضع القوانين في روما منحصرًا بهيئة واحدة، بل كان ثم ثلاث هيئات — رأيناها سابقًا — تصدر عنها القوانين:
  • (١)

    اﻟ «كوميس كوريا» التي كانت في البدء لا تتألف إلا من طبقة الآباء.

  • (٢)

    اﻟ «كوميس سنتوريا».

  • (٣)

    «مجامع القبائل» التي ظهرت في العهد الجمهوري.

(٣-١) القانون المعروف ﺑ Lex والقانون المعروف ﺑ Plébiscitum

إن القرارات التي كانت تصدر عن اﻟ «كوميس» بمختلف أنواعها كانت معروفة ﺑ Leges مفردها Lex. وبجانب هذه القوانين كانت المجامع الشعبية الموسومة ﺑ Concilia plebis تتخذ مقررات بطريقة التصويت تسمى Plebiscita لها صفة القوانين من حيث كنهها وفحواها، وليس لها قوة القوانين المعروفة ﺑ Leges؛ لأن هذه المجامع الشعبية لم تكن في البدء تملك حق التشريع.
ولكن قانون «هورتانسيا Hortensia» الصادر في نهاية القرن الخامس منح المقررات الشعبية ما للقوانين الصادرة عن اﻟ «كوميس» من قوة تشريعية. فأصبح لها صفة القوانين من جميع الوجوه. وقد ازداد شأنها وعظم قدرها حتى أصبحت تشمل جميع الأفراد لا من طبقة الشعب فقط، بل من طبقة الآباء أيضًا. فلم يعد بعد ذلك للتمييز بين النوعين من القوانين قدر أو شأن، بل صارت القوانين كلها تسمى Leges. وقد كانت القوانين مختلفة فيما بينها من حيث المؤيد، فكانت من هذه الجهة تقسم إلى قوانين «كاملة prefectae» مؤيدها بطلان الأعمال المخالفة لأحكامها، وقوانين قريبة من التامة Minus quam perfectae مؤيدها عقوبة نقدية أو بدنية يحكم بها على من يخالف أحكامها، وقوانين ناقصة imperfectae وهي التي لا يدعمها مؤيد.

(٣-٢) طريقة سن القوانين

كانت القوانين تشرع بتصويت المجالس أو الهيئات المختلفة، التي كانت تملك حق التشريع، على اقتراحات الحكام ذوي المناصب العليا في الدولة، كالقنصلين اللذين كان لهما حق اقتراح القوانين على الكوميس، والحكام الوطنيين (تريبان) أصحاب حق اقتراح القوانين على المجامع الشعبية. فلم يكن إذن للهيئات التشريعية حق اقتراح القوانين.

بل إن اقتراح القوانين كان منحصرًا بالحكام الذين كانوا يتقدمون به بعد القيام بمراسم دينية خاصة، كما أنه لم يكن للهيئات التشريعية حق تعديل مشاريع القوانين المعروضة عليها،٦ بل كان عليها أن تقرها كما هي أو أن ترفضها.

(٣-٣) تسمية القوانين

كانت القوانين في روما تعرف باسم الحكام الذين اقترحوها. فإذا كان الاقتراح صادرًا عن حاكم واحد سمي القانون باسم واحد هو اسم قبيلة ذلك الحاكم، وإذا كان صادرًا عن حاكمين (كالقنصلين) عرف باسميهما اثنيهما.

(٤) البند الرابع: الاجتهاد أو تفسير القانون

إن قانون الاثني عشر لوحًا، بالرغم من إذاعة الحقوق وتثبيتها في نصوص مدونة، لم يقض جميع لبانات الشعب. فقد ظل الناس بحاجة إلى من يوضح لهم أحكام القانون ويهديهم سواء السبيل باتباع الأصول والمراسم للوصول إلى حقوقهم أو للدفاع عنها؛ ذلك لأن نصوص القانون كانت مختصرة، ولأن أصول المحاكمات والحقوق بصورة إجمالية كانت قائمة على الأشكال والمراسم، وهذا ما جعل للتفسير مكانة عظيمة في هذا العهد.

(٤-١) تفسير الكهنة

كان التفسير في هذا العهد منحصرًا بالكهنة pontifes الذين كان يساعدهم على الانفراد بهذا المصدر الحقوقي احتفاظهم بتقويم الأيام (الروزنامة) المتضمن وحده بيان الأيام الجائز فيها التقاضي، تلك الأيام المعروفة ﺑ fastes.

فلئن زال في هذا العهد احتكار الكهنة معرفة الحقوق نفسها بفضل صدور قانون الاثني عشر لوحًا، فقد ظلوا محتكرين حقبة من الزمن تفسير القانون ومعرفة طرائق إعماله. وقد بقي الأمر كذلك حتى سنة ٤٥٠ رومانية/٣٠٤ق.م.

(٤-٢) ذيوع مراسم أصول المحاكمات وتقويم الأيام الكهنوتي

في سنة ٣٠٤ق.م نشر المتشرع فلافيوس Flavius، اختلاسًا من الكهنة، مجموعة المراسيم الشفهية المتعلقة بالدعاوى والتقويم الخاص بالأيام القضائية. فقضى بذلك على الامتياز الفعلي الذي كان يتمتع به الكهنة في تفسير القوانين وتدريب الناس على أصول المحاكمات.

(٤-٣) الاجتهاد أو التفسير العلماني

لقد حل محل الكهنة في التفسير والاجتهاد، بعد إذاعة مراسم أصول المحاكمات وتقويم الأيام، علماء ومتشرعون علمانيون. وقد أحرز هؤلاء مقامًا لا يقل حرمة ورفعة عن مقام الكهنة. ومما ساعدهم على اكتساب هذه المكانة السامية أنهم كانوا بعيدين عن الخصومات الفردية، بل كانوا يسعون لإزالة الاختلافات، وأنهم لم يكونوا يتقاضون أجرًا عما يبذلونه للناس من مساعدة وخدمة في الشورى والآراء الحقوقية.

ولم يكن المتقاضون وحدهم يلجئون للمتشرعين للاهتداء بعلمهم، بل كان القضاة أنفسهم في بعض الأحيان يستنيرون برأيهم، فكان المتشرعون فوق أجوبتهم على الاستشارات الموجهة إليهم ينظمون نماذج للأعمال الحقوقية، ويلائمون بين الحاجات الجديدة وبين أحكام الحقوق القديمة، بفضل استنتاجاتهم المنطقية واستمدادهم الرأي أحيانًا من روح الإنصاف.

وقد اشتهر بين هؤلاء المتشرعين «سيسكتوس آيليوس Sextus Aelius» الذي ألف كتابًا في تفسير قانون الاثني عشر لوحًا، بالاستناد إلى العرف والعادات التي كان الكهنة محتكرين معرفتها، وفي بحث أصول المحاكمات عرف ﺑ ius aelianum.
١  جيرار (ذ. س) ص١٩.
٢  راجع كتاب «جيفار» (ذ. س) ص٢٩ هامش ٣.
٣  كتاب الحقوق الرومانية ﻟ «ج ماي» رقم ٦.
٤  كتاب «المنشأ المصري للحقوق المدنية الرومانية».
٥  جيرار (ذ. س) ص٢٤.
٦  كوك: ص٢٧، جيفار: ج١ ص٣٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤