الفصل الثالث

التبني

(١) البند الأول: فكر عامة

التبني adoptio مؤسسة غايتها إنشاء قدرة أبوية لشخص على شخص بصورة صنعية، وإيجاد قرابة بين هذين الشخصين كالقرابة المتولدة من الزواج الشرعي الروماني للوصول إلى النتائج التي تنتجها هذه القرابة العادية الأخيرة. وفائدة التبني الرئيسية هي تمكين الشخص العاقر، أو الذي لم يعد له ولد شرعي، من تخليد اسم الأسرة وإبقاء المذهب العائلي — الذي كان له في اعتقاد الرومان قديمًا — كما بيَّنا سابقًا — تأثيرٌ ماديٌّ على الأموات في قبورهم — وذلك بإيجاد ولد له، ولو صنعيًّا، في شخص المتبنى يرثه في الاسم والدين والمال.

أضف إلى هذه الفائدة، فوائد أخرى نذكر منها إدخال رب العائلة في قدرته أحفادًا له خرجوا بنتيجة طرائق وقواعد الحقوق القومية من عائلته، كولد ابنه المحرَّر بعد تحرير أبيه، وإدخال الولد المحرَّر في قدرته الأبوية ولدًا له مولودًا قبل تحريره، ما زال في قدرة رب العائلة المحرِّر.

وكان للتبني، عدا هذه الفوائد التي ليس لها صفة عائلية، فوائد سياسية منها إكساب شخص غير وطني حق الوطنية الرومانية، ونقله من طبقة إلى طبقة أخرى، من طبقة سواد الشعب مثلًا إلى طبقة الآباء، وتأمين انتقال الحكم.

(١-١) نوعا التبني: اﻟ «أدوبسيو» واﻟ «أدروكاسيو»

التبني نوعان: التبني المعروف ﺑ adoptio، وهو النوع الذي يكون فيه المتبنى ولدًا متكلًا، والتبني المعروف ﺑ adrogatio وهو الذي يكون فيه المتبنى مستقلًّا. ولئن كان بين هذين النوعين وجوه شبه، إلا أن بينهما فروقًا من حيث الأشكال والشروط والنتائج.

(٢) البند الثاني: التبني المعروف ﺑ «أدروكاسيو Adrogatio»

اﻟ «أدروكاسيو» هو عبارة عن تبني شخص مستقل شخصًا مستقلًّا، بل كان هذا النوع من التبني لا يشمل إلا الرجال المستقلين، لا النساء؛١ لأن النساء لا يخلدن اسم الأسرة ومذهبها بسبب انتساب الأولاد لآبائهم لا لأمهاتهم.

كان ﻟﻟ «أدروكاسيو» من الشأن والخطر ما لم يكن ﻟﻟ «أدوبسيو»؛ لأن النوع الأول الذي نحن بصدده قد يؤدي بسبب انتقال الرجل المستقل الذي هو رب عائلة لقدرة رب عائلة آخر، إلى زوال اسم أسرة ومذهب عائلي.

(٢-١) أشكال اﻟ «أدروكاسيو»

إن اﻟ «أدروكاسيو» الذي يرجح في الرأي أنه أقدم من اﻟ «أدوبسيو» لم يبق خاضعًا طول العصور التي تقلبت عليه إلى أشكال واحدة، بل تطور وتهذب كغيره من المؤسسات الحقوقية.

عهد الحقوق القديمة

إن النتائج الخطيرة التي ينتجها اﻟ «أدروكاسيو» والتي لها صلة بالمدينة؛ أي الدولة (زوال أسرة المتبنى؛ إذ المدينة كانت مؤلفة من مجموع الأسر) وبالدين (زوال مذهب المتبنى العائلي)، كانت تقضي بتدخل الدولة والكهنة في هذا النوع من التبني.

لذلك كانت أشكال اﻟ «أدروكاسيو» تتلخص بموافقة الكهنة بعد تحقيق دقيق في أسباب التبني والنتائج التي يمكن أن يؤدي إليها من الوجهة الدينية، ثم برضاء الشعب مجتمعًا في قبائل اﻟ «كوريا» (كوميس كوريا)؛ حيث كان يوجه سؤالٌ للمتبني لمعرفة ما إذا كان يبغي تبني الفتى المستقل، وسؤالٌ للمتبنى للتثبت من رضائه بالتبني، وسؤالٌ للشعب لاستنبائه عن موافقته.

كانت طبقة سواد الشعب محرومة من التبني؛ بسبب هذه المراسم التي كانت تجرى أمام «الكوميس كوريا» في روما؛ لأن أفراد هذه الطبقة، لم يكن لهم في البدء حق الدخول لهذه الهيئات.

ولكن في نهاية العهد الجمهوري تعدلت مراسم اﻟ «أدروكاسيو» على أثر عدم انعقاد هيئة «الكوميس كوريا»، فصار يجري هذا النوع من التبني أمام عصبة من الضباط المعروفين ﺑ licteurs تمثل الهيئة الشعبية القديمة. وقد مكن هذا التطور طبقة الشعب من التبني باﻟ «أدروكاسيو».٢

بقيت مراسم اﻟ «أدروكاسيو» قائمة على تدخل الكهنة وحضور الضباط، كرمز لهيئة الكوريا التي كانت تمثل الشعب، حتى عهد الإمبراطورية السفلى.

ففي عهد الإمبراطورية السفلى؛ حيث كانت اضمحلت الأفكار الدينية القديمة، لم تراع المراسم التي ذكرناها، وصار اﻟ «أدروكاسيو» يتم بمرسوم من الإمبراطور الذي تتجلى بشخصه السلطة التشريعية، تلك السلطة التي ما زال يستلزم هذا النوع من التبني تدخلها.

بجانب هذه الطريقة الرومانية البحتة للتبني باﻟ «أدروكاسيو» عرفت المقاطعات الشرقية الخاضعة لسلطان روما، طريقة للتبني بسيطة: هي التبني بالعقد، ولكن هذه الطريقة التعاقدية لم تكن تكسب المتبني القدرة الأبوية على المتبنى.٣

(٢-٢) شروط اﻟ «أدروكاسيو»

ينبغي لإمكان التبني بنوعيه اجتماع عدة شروط، وإنا لباحثون الآن الشروط المطلوبة في اﻟ «أدروكاسيو» لدى المتبني والمتبنى، الذين يلزم بادئ ذي بداءة رضاؤهما، كما يتبين ذلك من أشكال ومراسم اﻟ «أدروكاسيو».

(٢-٣) الشروط المطلوبة لدى المتبني

تتلخص الشروط التي كان يطلب اجتماعها لدى المتبني في الحقوق الرومانية بما يأتي:
  • (١)

    يجب أن يكون المتبني رب عائلة ليمارس القدرة الأبوية على المتبنى. لذلك لم يكن النساء يستطعن أن يتبنين أحدًا. وقد بقي هذا الشرط ثابتًا مطلقًا حتى العهد الإمبراطوري؛ حيث جُوز — منذ زمن الإمبراطور ديوكليسيان — للنساء التبني من دون أن يحرزن القدرة الأبوية على المتبنى.

  • (٢)

    ينبغي أن يكون المتبني قد جاوز سن الستين (إذ كان يقدر أنه لا يولد للرجل ولد بعد هذه السن).

  • (٣)

    يشترط أن لا يكون للمتبني ولدٌ شرعيٌّ ذكرٌ مولود من زواجٍ شرعيٍّ أو متبنى من قبل.

وفي العهد الإمبراطوري؛ حيث صارت شروط التبني منوطة بفكرة (تقليد البنوة الطبيعية)، أضيف للشروط المتقدم ذكرها شرط آخر هو وجود تفاوت في السن بين المتبني والمتبنى يمكن معه النظر إلى الأول كأبٍ للثاني، ذلك التفاوت الذي جعل في عهد جوستنيان (١٨) سنة.

(٢-٤) الشروط المطلوبة لدى المتبنى

يشترط أن يكون المتبنى حرًّا، وهذا شرط يكاد يكون بديهيًّا؛ لأن على الحر وحده تمارس القدرة الأبوية ولأن ابن الحر يجب أن يكون حرًّا. وقد كان يتحتم في البدء أن يكون المتبنى ذكرًا بالغًا، ولكن هذا الشرط زال في العهد الإمبراطوري؛ حيث صار يجوز تبني النساء والأشخاص غير البالغين (الذين يطلب موافقة أوليائهم على تبنيهم).

(٢-٥) نتائج اﻟ «أدروكاسيو»

للتبني بالأدروكاسيو مفعول بحق شخص المتبنى وأفراد أسرته الخاضعين لقدرته. وبحق أمواله.

ففيما يتعلق بالمتبنى ومن هو في قدرته، يئول اﻟ «أدروكاسيو» إلى إدخال المتبنى بأسرة المتبني، وجعله قريبًا له ولأقربائه قرابة عصبية، وإخضاعه لقدرته الأبوية، فيصبح من جراء ذلك متكلًا بعد أن كان مستقلًّا، ويدخل أولاده معه في عائلة المتبني، ويخضعون لقدرته الأبوية بعد أن كانوا خاضعين لقدرة أبيهم، كما أن زوجته — إذا كان متزوجًا بمانوس — تصير أيضًا في قدرة المتبني. ثم إن اﻟ «أدروكاسيو» كان يؤدي إلى قطع جميع أواصر القرابة العصبية والحقوق الناتجة عنها بين المتبنى وأسرته القديمة.

وفيما يتصل بثروة المتبنى، كان «الأدروكاسيو» يؤدي إلى نقلها إلى المتبني؛ إذ إن هذا يصبح بنتيجة التبني رب أسرة المتبنى، ولا يجوز للولد المتكل أن يكون له مبدئيًّا ثروة خاصة.

بيد أنه في عهد الإمبراطورية، صار للمتبنى حق الاحتفاظ بأموال خاصة مستقلة عن ثروة المتبني، وذلك على أثر ظهور اﻟ «بيكوليوم-القطائع» للأولاد المتكلين، وبدأت نتائج التبني تجنح إلى أن تكون سهلة لينة، قريبة من نتائج التبني في الشرائع الحديثة.

ومما يجدر ذكره في تطور التبني بهذا الشأن، أنه حينما سوغ تبني الأحداث (دون الأربعة عشر عامًا) المستقلين باﻟ «أدروكاسيو» في عهد الإمبراطور «أنطونان التقي Antonin le Pieux» — وذلك تبدل غير قليل — صار يفرض على المتبني إعادة أموال المتبنى إلى أقربائه العصبيين القدماء عند وفاته، وأن يعيد إليه نفسه أمواله عند تحريره (أي إخراجه من قدرته وأسرته)، كما أن القانون حفظ للمتبنى حصة معينة هي الربع من تركة المتبني بعد وفاته، عندما يكون هذا قد أخرجه بطريقة التحرير من أسرته أو حرمه من ميراثه من دون مسوغ.

(٣) البند الثالث: التبني المعروف ﺑ adoptio

هذا النوع من التبني الذي هو أحدث من اﻟ «أدروكاسيو» عبارة عن العمل الحقوقي الذي يخرج بموجبه ولد متكل، ذكرًا كان أم أنثى، من أسرته الأصلية ويدخل في أسرة أخرى (هي أسرة المتبني).

(٣-١) أشكال التبني باﻟ «أدوبسيو»

لم يكن لهذا التبني، بعكس اﻟ «أدروكاسيو»، صلة بالدين والدولة؛ إذ لم يكن يفضي إلى إزالة أسرة من الأسر، أو مذهب من المذاهب العائلية، بل كان جل ما يؤدي إليه انتقال شخص متكل من أسرة إلى أسرة أخرى.

لذلك لم يكن يتدخل الشعب والكهنة في هذا التبني.

كيف يصار إلى نقل الولد المتكل من أسرته وقدرة أبيه إلى أسرة المتبني وقدرته الأبوية؟

رأينا فيما سبق أن القدرة الأبوية لم تكن قابلة لأن يتنازل عنها لشخص آخر كما يفرغ مثلًا من الأشياء، أو من حق السيد على العبد لمصلحة شخص آخر. لذلك لجأ الرومان إلى طريقة غير مباشرة للوصول إلى إخراج الولد المتكل من عائلته وإدخاله في عائلة المتبني، تتضمن عملين متتابعين: إسقاط قدرة رب عائلة المتبنى العتيد الأبوية، وإكساب المتبني العتيد القدرة الأبوية على الولد المتكل.

(٣-٢) إسقاط القدرة الأبوية

رأينا في بحث القدرة الأبوية أن قانون الاثني عشر لوحًا كان يعاقب رب العائلة الذي يبيع ابنه ثلاث مرات بالمانسيبيوم بسقوط قدرته الأبوية عليه، وأنه صار فيما بعد يلجأ إلى هذه البيوع المتوالية لتحرير الولد émancipatio.

فقد استخدم هذا الأسلوب نفسه لإسقاط القدرة الأبوية في سبيل تحقيق التبني؛ إذ صار يبيع رب العائلة الابن المتكل — المتفق على تبنيه — إلى شخص آخر، يمكن أن يكون المتبني العتيد، ثلاث مرات (أو مرة واحدة إذا كان الولد المبيع حفيده، أو ابنته)، يصبح الولد بعدها حرًّا من قدرة رب عائلته الأبوية وخاضعًا لسلطة شخص آخر قد يكون المتبني العتيد. تلك هي السلطة المعروفة باﻟ «مانسيبيوم». ويجوز لمحرز اﻟ «مانسيبيوم» هذا أن يبيعه لرب عائلته القديم بالمانسيبيوم، فيكون لهذا عليه هذه السلطة لا القدرة الأبوية، وهكذا ينتهي العمل الأول بوضع المتبنى العتيد باﻟ «مانسيبيوم».

(٣-٣) إكساب المتبني العتيد القدرة الأبوية على الولد المتكل

يوصل إلى هذه النتيجة بالأخذ بطريقة من طرائق الحقوق القديمة معروفة ﺑ in jure cessio هي عبارة عن دعوى صنعية، يمثل فيها أمام الحاكم المتبني العتيد وصاحب اﻟ «مانسيبيوم»، على المتبنى العتيد الذي قد يكون رب عائلته، فيدعي الأول أن الولد ولده وخاضع لقدرته الأبوية، فلا ينكر عليه الثاني ذلك، وحينئذٍ يحكم الحاكم للأول؛ أي للمتبني العتيد بأن له القدرة الأبوية على الولد.
لقد زالت أشكال التبني هذه في عهد الإمبراطورية؛ حيث صار يجري التبني بمثول المتبني ورب عائلة المتبني، والمتبنى، أمام الحاكم وتسجيل التبني — الذي يتم بعقد بين ربي الأسرتين ورضاء المتبنى — في سجل (ضبط) المحكمة الرسمي.٤

(٣-٤) شروط هذا النوع من التبني

إن الشروط المطلوبة في التبني باﻟ «أدوبسيو» هي عين الشروط المطلوبة في اﻟ «أدروكاسيو»، ما عدا شرطين هما خاصان باﻟ «أدروكاسيو» وغير لازم وجودهما في اﻟ «أدوبسيو»، وهما: مجاوزة المتبني الستين من عمره، وعدم وجود أولاد له.

ولنلاحظ أيضًا أن تبني القاصرين (غير البالغين) والنساء كان جائزًا في اﻟ أدوبسيو» منذ نشوء هذا النوع من التبني، بعكس ما حدث في اﻟ «أدروكاسيو» إذ لم يجوَّز ذلك إلا في عهد الإمبراطورية كما بيَّنا سابقًا.

(٣-٥) نتائج اﻟ «أدوبسيو»

لما كان المتبنى في هذا النوع من التبني، شخصًا متكلًّا، كانت نتائج التبني مقتصرة عليه لا تتعداه. فهو وحده ينفصل عن عائلته القديمة وتزول بينه وبين أفرادها كل صلة قرابة قومية، وما ينتج عنها من نتائج، ويدخل في أسرة المتبني، ويخضع لقدرته الأبوية ويصبح قريبًا له، ولأقربائه العصبيين قرابة عصبية، ويتبع دينه العائلي. أما أولاده المولودون قبل تبنيه، فيظلون في أسرته القديمة خاضعين لقدرة ربها الأبوية، بل إن زوجته — إذا كان متزوجًا قبل تبنيه زواجًا بمانوس — تظل بمعزل عن أسرة متبنيه، وتبقى في قدرة رب عائلته القديم.٥

تلك هي نتائج التبني بحسب الحقوق القومية، وقد كانت على ما نرى قاسية، ولا سيما صرم القرابة القومية بين المتبنى وبين عائلته القديمة؛ إذ كان ذلك يئول إلى حرمانه من وراثة أقاربه القديمين.

ولكن البريتور خفف من قسوة هذه النتائج؛ إذ منح المتبنى حق وراثة أفراد أسرته القديمة، بصفة أقرباء رحم فقط. وذلك فيما إذا حرره المتبني من قدرته.

وقد تأثر الإمبراطور جوستنيان بحكم البريتور فقضى بإبقاء الولد المتبنى في أسرته الأصلية من الوجهة الحقوقية، ومنحه حقوقًا إرثيةً في عائلة المتبني، وتلك هي القاعدة في الشرائع الحديثة.

ولكن نتائج اﻟ «أدروكاسيو» بقيت كما كانت عليه ولم ينلها ما نال نتائج اﻟ «أدوبسيو» من تعديل.

١  راجع: كوك (ذ. س) ص١٩٧.
٢  ظهرت في هذا العهد أيضًا طريقة اﻟ «أدروكاسيو» بواسطة الوصية، تتلخص بإيصاء شخص مستقل لشخص مستقل آخر بجميع أمواله، وبالتسمي باسمه العائلي. وبديهي أن التبني لم يكن يتحقق وينتج نتائجه إلا بعد وفاة الموصي، وقد اشتهرت هذه الطريقة لالتجاء يوليوس قيصر لها إذ تبنى «أوغستوس».
٣  كوك (ذ. س) ١٩٨، بل إنه كان في سورية حينئذٍ نوعٌ من التآخي، يتخذ الإنسان بموجبه شخصًا آخر كأخٍ له، موازٍ للتبني، وقد حرمه الإمبراطور ديوكليسيان (راجع: كوك ص١٩٩).
٤  راجع جيرار (ذ. س) ص١٧٧، جيفار (ذ. س) ج١ ص٢٣٧.
٥  راجع غاستون ماي (ذ. س) رقم ٥٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤