لمحة عن التشيع في مصر إلى سقوط الدولة الفاطمية
في بحث لنا تتبَّعنا فكرة التشيع في مصر الإسلامية حتى دخل الفاطميون مصر سنة ٣٥٧ﻫ،١ وتُلخَّص هذه الفكرة: في أن أكثر مسلمي مصر في هذا العهد كانوا على مذهب أهل
السنة والجماعة، وأن قليلًا منهم كانوا يدينون بالتشيع، ولكن هؤلاء الشيعة من المصريين
لم
يشتركوا اشتراكًا إيجابيًّا في حركات فرق الشيعة التي ظهرت في الأقطار الإسلامية الأخرى؛
إذ
لم يذكر مؤرخو مصر شيئًا عن صدى حركات الشيعة في مصر سوى حركة محمد النفس الزكية سنة
١٤٤ﻫ،
ولكن هذه الحركة سرعان ما خمد أوارها، ولم تظهر لها في مصر نتائج سياسية، أو مذهبية.
ولم
يكن للمصريين في هذا العصر رأي شيعي خاص بهم، ولم تظهر لهم فلسفة شيعية مثل هذه الفلسفات
التي نراها عند فرق الشيعة في العراق وفارس والشام، إنما كان التشيع في مصر يكاد ينحصر
في
حب أهل البيت، وهذا رأي كثير من المسلمين غير المتطرفين، فعلماء أهل السنة في مصر وفي
غير
مصر كانوا يحبون أهل البيت، وعندنا الشافعي والنسائي المحدِّث وغيرهما دليل على ذلك،
بل من
العلماء من كان يفضل علي بن أبي طالب على الشيخين، وفي مصر كان محمد بن عبد الله بن عبد
الحكم رئيس المدرسة المالكية وابن الحداد القاضي وغيرهما كانوا يفضلون عليًّا على أبي
بكر وعمر.٢
ومع ذلك لم ينحرف هؤلاء الأعلام عن مذهب أهل السنة والجماعة.
وهكذا عاش المصريون بعيدين عن التيارات والمعتقدات الشيعية التي كثرت في غير مصر
من
البلدان، حتى ظهر عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية في بلاد المغرب سنة ٢٩٦ﻫ، وكانت
دعوته دخلت مصر من قبل على أيدي بعض دعاته من أمثال فيروز، وأبي علي، وأبي جعفر بن نصر
وغيرهم،٣ واعتنق بعض المصريين هذه الدعوة سرًّا وكاتبوا المهدي لفتح مصر، فأرسل المهدي
هذه الحملات المتعددة التي ذكرها المؤرخون، وكان قواد هذه الحملات يكاتبون إخوانهم من
المصريين لتأييدهم والعمل على نجاح حملاتهم، وحفظ عريب بن سعد مقطوعة شعرية من قول أبي
القاسم بن المهدي (القائم بأمر الله الخليفة الفاطمي الثاني) يُخاطب بها جماعة من المصريين
الذين استجابوا لدعوة الفاطميين،٤ ومع ذلك لم يذكر المؤرخون شيئًا عن تحرك المصريين لتأييد حملات الفاطميين، ولم
نعرف أن عقائد الفاطميين انتشرت في مصر انتشارًا كان له أثرٌ في الحياة الفكرية، فقد
ظل
أكثر المصريين على مذهب أهل السنة والجماعة يختلفون فيما بينهم بين آراء مالك والشافعي،
وقلَّ أن نجد بينهم من كان على مذهب أبي حنيفة، أو من يقول بمقالات المعتزلة، أو
الشيعة.
ولما فتح جوهر الكاتب أحد قواد المعز لدين الله الفاطمي مصر سنة ٣٥٨ﻫ كتب أمانًا
للمصريين، ونصَّ على أن يترك للمصريين حريتهم في اختيار العقيدة التي يرضونها لأنفسهم،
وأن
لا يحملهم كرهًا على تغيير مذهبهم أو دينهم الذي دانوا الله به،٥ ولكن الفاطميين لم يحترموا هذا الأمان، فقد قامت دولتهم على أساس عقيدتهم
المذهبية، فكان من الطبيعي أن يعملوا على صبغ البلاد التي تخضع لحكمهم بهذه الصبغة المذهبية
التي تمايزوا بها، فلا غرابة أن رأينا دعاتهم ينشطون في كل البلاد وفي كل المجتمعات،
يكالبون أصحاب المذاهب الأخرى، ويعقدون مجالس الحكمة التأويلية، ويأخذون العهد على كل
مستجيب، واتخذوا للدعوة لمذهبهم وسائل وتدابير مختلفة، فاستجاب كثير من المصريين إلى
دعوتهم
وعقيدتهم، وظل بعض المصريين على عقيدته ومذهبه، ولكن عقائد الفاطميين شغلت أذهان المصريين
طوال الحكم الفاطمي حتى تأثر بها المصريون جميعًا، سواء من دخل منهم في الدعوة أو من
ظل
متمسكًا بمذهب أهل السنة والجماعة، حتى خُيِّل إلى كثيرٍ من الباحثين أن المصريين جميعًا
أصبحوا يتمذهبون بعقيدة الفاطميين ويتبعون التقاليد الفاطمية، أي أن مصر قد طُبِعَت بطابع
العقائد الفاطمية طوال السنين التي خضعت فيها لحكم الفاطميين.
وبالرغم من أن نفوذ العقائد الفاطمية كان متغلغلًا في مصر، فإن هناك عدة عوامل عملت
على
إضعاف هذه العقيدة في نفوس المصريين، ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن هذا الضعف بدأ في عهد
الحاكم بأمر الله (المتوفى حوالي سنة ٤١١ﻫ)، ولا سيما بعد أن وفد على مصر دعاة تأليه
الحاكم
أمثال الدرزي، وحمزة، والأخرم الفرغاني،٦ ونحن نعلم أن المصريين ثاروا على هؤلاء الدعاة، وقتلوا الأخرم سنة ٤٠٨ﻫ، وأن
الدرزي وحمزة هربا، وأن الحاكم انتقم من المصريين فحرق الفسطاط، وقتل عددًا كبيرًا من
المصريين، وكانت خاتمة حياة الحاكم نهاية لهذه الدعوة الإلحادية الجريئة في مصر، ولكن
كان
من نتائجها أن بدأ الناس يَشُكُّون في عقيدة الفاطميين وفي كل ما قاله الدعاة عن الإمامة
والأئمة، وظهرت هذه النتيجة بشكلٍ لافتٍ في عهد المستنصر بالله ٤٢٧–٤٨٧ﻫ ولا سيما في
تلك
السنوات من حكمه التي ضعفت فيها الحياة الاقتصادية وبلغت درجة من الانحطاط جعلت الناس
لا
يرعون للإمام حرمة ولا للعقيدة وزنًا، فضعفت ثقة المصريين في عقيدة الإمام المعصوم وأنه
الواسطة بين الله والخلق، وفي عقيدة النص على ولاية العهد، وهي العقيدة التي كانت أساس
مذهب
الإسماعيلية وسببًا في انقسام الشيعة الإمامية إلى إسماعيلية وموسوية، فتهاون المصريون
بهذه
العقيدة مما سهَّل الأمر للأفضل بن بدر الجمالي في تحويل الإمامة بعد المستنصر إلى
المستعلي، وحُرم منها صاحب النص نزار بن المستنصر، فانقسمت الدعوة إلى فرعين رئيسيين
هما:
الإسماعيلية النزارية، التي عُرفت بالإسماعيلية الشرقية أحيانًا، وبالإسماعيلية الحشيشية
أحيانًا أخرى، ويعرفون الآن بالخوجة أو الأغاخانية، وإمامهم الآن هو أغا خان المعروف.
والفرع الآخر هو الإسماعيلية المستعلية، أو الإسماعيلية الغربية وهي التي ظلت في مصر
واليمن، فكان هذا الانفصال من عوامل ضعف العقيدة وزعزعتها من نفوس المصريين. أضف إلى
ذلك
أنَّه لما قُتل الآمر بأحكام الله سنة ٥٢٤ﻫ ولم يكن له ولدٌ، ذهب الصليحيون أصحاب الدعوة
في
اليمن إلى أن الآمر لما قُتل كانت إحدى جهاته حاملًا، وأنَّها أنجبت ولدًا له هو الطيب
بن
الآمر، وأن الإمامة للطيب هذا، وأنه دخل الستر وجعل الملكة الحرة الصليحية حجته وصاحبة
الستر عليه، فوجِد بذلك فرع جديد للإسماعيلية، وعُرفت هذه الدعوة بالدعوة الطيبية ولا
تزال
تُعرف بهذا الاسم إلى اليوم، وأتباع هذه الدعوة يُعرفون الآن بالبهرة، وداعيهم المطلق
هو
طاهر سيف الدين، وإمامهم من نسل الطيب بن الآمر لا يزال في دور الستر، أما في مصر فلم
يعترف
المصريون بشيء اسمه الطيب بن الآمر، وأقيم عبد المجيد بن محمد بن المستنصر المعروف بالحافظ
لدين الله كفيلًا للإمام المنتظر في أول الأمر، ثم اعتُرف بإمامته بعد ذلك، فكان الاعتراف
بإمامته خارجًا عن أسس الإمامة عند الإسماعيلية؛ إذ الإمامة عندهم لا تكون إلا في الأعقاب،٧ وأن الإمام ينصُّ على حجته وولي عهده من أبنائه، ولا تنتقل الإمامة من أخٍ إلى
أخٍ، بل لا بد أن تكون من أب إلى ابن، والحافظ لم يكن ابنًا لإمام فليس له حق في الإمامة،
ومع ذلك اعترف به المصريون إمامًا لهم تهاونًا منهم بالعقيدة الإسماعيلية، مما أدى إلى
زيادة استخفافهم بالفاطميين وعقائدهم، وإلى تزعزعها من نفوس كثير ممن استجابوا لها من
المصريين.
وبلغ التهاون حدًّا بعيدًا حين نرى الوزير الفاطمي أبا الحسن بن السلار المنعوت بالملك
العادل سيف الدين الذي تولى الوزارة للظافر سنة ٥٤٤ﻫ، يتظاهر بالتسنن على مذهب الشافعي،
ولما وصل الحافظ أبو طاهر أحمد السلفي إلى الإسكندرية واتخذها دار مقامه، احتفى به العادل
ابن السلار، وعمر له هناك مدرسة فوَّض تدريسها إليه، ولم يكن للشافعيين بالإسكندرية سواها٨ وهو عمل لا يُقدم عليه الوزير إلا إذا كان على ثقة تامة أن أتباع العقيدة
الفاطمية لا يستطيعون مقاومته؛ وذلك لضعفهم، ولتزعزع العقيدة من نفوس أكثر المصريين،
وهناك
قصة عمارة اليمني مع سيف الدين الحسين بن أبي الهيجاء صهر الملك الصالح طلائع بن رزيك،
وهي
إن دلت على شيءٍ فإنما تدل على أن الشكَّ في العقيدة الفاطمية دبَّ في نفس سيف الدين،٩ وقصة أخرى ذكرها عمارة أيضًا ترينا كيف كان الداعي ابن عبد القوي والوزير شاور
وابنه الكامل يفكرون في تسيير الدعوة لولدي صاحب عدن ونقل مركز الدعوة إلى عدن، فاستشاروا
عمارة في ذلك، فقال: «إن أهل اليمن إنما يبعثون لكم الهدايا، والتحف، والنجاوي، ويتولونكم
لأجل الدعوة: فإذا تبرعتم بها فقد هونتم حرمتها.»١٠ فهذه كلها أدلة نسوقها على ما نذهب إليه عن مدى ضعف العقيدة في نفوس أكثر
المصريين في أواخر أيام الفاطميين، حتى في نفوس بعض الدعاة وكبار رجال الدولة.
١
M. Kamil Hussein: Shi'ism in Egypt before the Fatimid (i. R. A.
Miscellany) Vol. 1. p. 73. 1948 وكتاب في أدب مصر الفاطمية ص٨
مقدمة (طبع دار الفكر العربي).
٢
ابن حجر العسقلاني: رفع الإصر عن قضاة مصر ص٩٩.
٣
ابن زولاق: سيرة سيبويه المصري ص٤٠، وجعفر بن منصور: الفترات والقرانات (نسخة
خطية بمكتبتي).
٤
عريب بن سعد: صلة تاريخ الطبري ص٤٢ (طبع المطبعة الحسينية بمصر).
٥
المقريزي: اتعاظ الحنفا ص١٤٨–١٥٣ (طبع دار الفكر العربي).
٦
راجع الرسالة الواعظة لأحمد حميد الدين الكرماني، نشر محمد كامل حسين (بمجلة كلية
الآداب عدد مايو سنة ١٩٥٢).
٧
المجالس المؤيدية ج١ ص٥ (نسخة خطية بمكتبتي)، والمجالس والمسايرات ورقة ٧٩ (نسخة
خطية بمكتبتي).
٨
ابن خلكان: وفيات الأعيان ج١ ص٣٧٠ (طبع المطبعة الميمنية).
٩
عمارة اليمني: النكت المصرية ص١٢٦ (طبع شالون).
١٠
نفس المرجع السابق ص٩٢.