شعر المتشيعين
كان بين بقايا الشيعة في مصر عدد كبير من الشعراء، حُفظت بعض قصائدهم التي يظهر فيها
أثر
العقيدة الشيعية التي دانوا بها، نذكر من هؤلاء الشعراء أبا العباس شهاب الدين أحمد بن
عبد
الملك العزازي ٧١٠/٦٣٤ﻫ التاجر بقيسارية جهاركس بالقاهرة،
١ كان أديبًا بارعًا ولا سيما في نظم الموشحات، وكان يتشيع ويُظهر تشيعه في شعره
فمن ذلك قوله:
إذا أنا لم أبت دامي الأماقي
عليه وداني الكمد القصي
وأمسي فيه ذا وسن ضنين
وأصبح فيه ذا شجنٍ شجي
فلا سارت بقافية ركابي
ولا عادت بناجحة مطي
وإلا لا اعتقدت ولا علي
ولا أضمرت حب بني علي
أناسٌ أدركوا أمد المعالي
ونالوا رتبة الشرف العلي
هم سحب الندى يوم العطايا
ويوم الفخر أقمار الندي
إذا كرَّرت ذكرهم كأنِّي
فتقت لطايم المسك الزكي
أبوهم ذو الجلالة من قريش
وذو النسب الصحيح من النبي
وناصر دينه سرًّا وجهرا
خلافًا للفريق الجاهلي
وقاهر كل كفارٍ عنيد
وقاتل كل جبارٍ عتي
وضارب يوم صفين وبدر
أعالي هامة البطل الكمي
وكاشف كل مشكلة ولبس
وغامضة بلا حصر وعي
أللباغي عليهم يوم فخر
كأصلهم وفرعهم الزكي
أللساعي بهم نحو المنايا
كقدرهم ومجدهم العلي
أتقدر ظلمة اللَّيل الدياجي
تغطي آية الصبح الجلي
ترى بعد الحسين يسوغ ماء
ويحلو مورد العيش الهني
وأية عيشة تحلو وتصفو
وقد جار العدو على الولي
لقد ظلموا وما حازو حقوقا
لفاطمة البتول ولا الوصي
بكم يا آل يس وطه
تحط خطية الجاني المسي
ويحظى بالشفاعة كل عاصي
ويسعد كل مجترم شقي
سلام الله والرضوان منه
عليكم في الغدو وفي العشي
٢
فهذه المعاني التي وردت في هذه المقطوعة لا يمكن أن تصدر إلا من شاعر يعتنق التشيع
له
دينًا، فولايته لآل البيت، وإسباغ الفضائل عليهم، وشفاعته بهم، وحزنه على الحسين بن علي
وعلى من قُتل من العلويين، كل هذه معانٍ شيعية خالصة لا يُنشدها إلا شاعرٌ شيعي، ولكن
العزازي في هذه القصيدة وفي غيرها من قصائده الشيعية في ديوانه لم يُلم بالمعاني الفلسفية
الشيعية التي كنا نراها عند شعراء الفاطميين، بل اكتفى بإيراد المعاني الشيعية العامة
التي
يقول بها كل فرق الشيعة غير المتطرفة على اختلاف مذاهبهم؛ ولذلك صار من الصعب علينا أن
نتعرف الفرقة الشيعية التي كان ينتمي إليها العزازي.
وكذلك نقول عن الشاعر ابن شواق الإسنائي جلال الدين الحسن ابن منصور الذي وصفه الأدفوي
بقوله: «رأيته وصَحبته مدة، وكان رئيس الذات والصفات، حسن الأخلاق، كريمًا في نهاية المكرم
حليمًا له في الحلم علم، وقد ذكرنا كيف صُودرت أمواله لتشيعه وأنه رحل إلى القاهرة، فاجتمع
بالصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين، فأُعجب هذا به وعرض عليه العمل في ديوان
الإنشاء فرفض، كان هذا الرجل يتشيع وكان تشيعه على النحو الذي كان عليه شيعة مصر قبل
عصر
الفاطميين، أي حب الصحابة وتعظيمهم والاعتراف بفضلهم، إلا أنه كان يقدِّم علي بن أبي
طالب عليهم.»
٣ ومع ذلك كان هذا المتشيع شاعرًا، وقد وصلتنا قصيدة له يمدح بها أهل البيت
ويصفهم بصفات هي أقرب ما يكون إلى الصفات التي يذكرها علماء الشيعة الإسماعيلية عن الأئمة،
فهو يقول:
كيف لا يحلو غرامي وافتضاحي
وأنا بين غبوق واصطباح
مع رشيق القد معسول اللما
أسمر فاق على سمر الرماح
جوهري الثغر ينحو عجبا
رفع المرضى لتعليل الصحاح
نصب الهجر على تمييزه
وابتدا بالصد جِدًّا في مزاح
فلهذا صار أمري خبرًا
شاع في الآفاق بالقول الصراح
يا أهيل الحي من نجد أعسى
تجبروا قلب أسير من جراح
لم خفضتم حال صب جازم
ما له نحو حماكم من براح
ليس يصغي قول واشٍ سمعه
فعلى ماذا سمعتم قول لاح
ومحوتم اسمه من وصلكم
وهو في رسم هواكم غير ماح
فلئن أفرطتموا في هجره
ورأيتم بُعده عين الصلاح
فهو راج لأولي آل العبا
معدن الإحسان طرًّا وللسماح
قلدوا أمرًا عظيمًا شأنه
فهو في أعناقهم مثل الوشاح
أمناء الله في السر الذي
عجزت عن حمله أهل الصلاح
هم مصابيح الدجى عند السرى
وهم أسد الشرى عند الكفاح
تشرق الأنوار في ساحاتهم
ضوءها يربو على ضوء الصباح
أهل بيت الله إذ طهره
فجميع الرجس عنهم في انتزاح
آل طه لو شرحنا فضلهم
رجعت منا صدور في انشراح
أنتم أعلى وأغلى قيمة
من قريضي وثنائي وامتداحي
جدُّكم أشرف من داس الحصا
في مقامٍ وغدو ورواح
وأبوكم بعده خير الورى
فارس الفرسان في يوم الكفاح
وارث الهادي النبي المصطفى
ما على من قال حقًّا من جناح
لو يقاس الناس جمعًا بكم
لرجحتم جمعهم كل رجاح
يا بني الزهراء يرجو حسن
بكم الخلد مع الحور الصباح
قد أتاكم بمديح نظمه
كجمان الدُّر في جيد الرداح
فاسمعوا يا خير آل ذكركم
ينعش الأرواح مع مرِّ الرياح
وعليكم صلوات الله ما
غشيت شمس الضحى كل الضواحي
فالشاعر في هذه القصيدة ألمَّ ببعض عقائد الشيعة، فالأئمة قد قلدوا أمرًا عظيمًا شأنه
—
وهي مرتبة الإمامة — وأن الأئمة «أمناء الله في السر» أي في التعاليم الباطنية التي ائتمنوا
عليها والتي عجز عنها غيرهم، وضمَّن في شعره الآية القرآنية
إِنَّمَا
يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيرًا.
٥ وهي الآية التي ذهب الشيعة على أنها أُنزلت في أهل البيت من نسل فاطمة بنت
الرسول. ثم ذكر أن عليًّا وصيُّ النبي ووريثه، وهي العقيدة التي يتمايز بها الشيعة، بل
هي
أساس التشيع، فهذه كلها معتقدات شيعية بها بعض التأثر بالمعتقدات الشيعية الإسماعيلية،
مما
يدل على أن الشاعر قرأ كثيرًا عن الشيعة وعقائدهم ودان بهذه العقائد، وتوفي هذا الشاعر
سنة
٧٠٦ﻫ.
والشاعر الفقيه الشافعي محمد بن علي بن منجي المتوفى سنة ٦٧٣ﻫ لم يُعرف عنه أنه تشيع،
بل
اتجه في أواخر أيامه إلى التصوف، وبنى بأدفو رباطًا ووقف عليه وقفًا،
٦ كان متأثرًا بآراء الشيعة، ولا سيما في عقيدتهم، أن بولاية أهل البيت ينال
العفو في الآخرة، ففي قصيدته التي أولها:
حادياها خلياها وسراها
للحمى إن شئتما أن تُسعداها
ختمها بقوله:
ولئن جرتم عليه في الهوى
وعدلتم نحو عذال عداها
فهو يرجو العفو يوم العرض عن
ولم تصلنا من أشعار هذا الفقيه الصوفي شيء في التشيع سوى هذا البيت الأخير، وإنما
أوردناه
لندلِّل على أن أثر الشيعة كان قويًّا في نفوس بعض المصريين.
وقد ذكرنا أنَّه في سنة ٦٩٧ﻫ ظهرت حركة داود بن سليمان (ويقال ابن شعبان) بن العاضد،
التي
دعا فيها لنفسه، وأن الناس اجتمعوا حوله، ومدحه الشعراء بمقطوعات تظهر فيها أثر عقائد
الفاطميين، من ذلك قول الشاعر إبراهيم بن محمد بن علي بن نوفل الإدفوي المتوفى سنة ٧٣٥ﻫ
في
مدح داود هذا:
ظهر النور عند رفع الحجاب
فاستنار الوجود من كل باب
فالشاعر في هذين البيتين مدح داود بهذه الصفات التي أسبغها شعراء العصر الفاطمي على
الأئمة، متخذًا المصطلحات الفاطمية الخالصة، «فظهور النور عند رفع الحجاب» هو ظهور الإمام
بعد استتاره، وفي البيت الثاني يشير إلى أن داعية الإمام — الذي عبر عنه بالبشير — جاءهم
بفصل الخطاب، وقد رأينا أن وظيفة الحجة في الدعوة الإسماعيلية هي فصل الخطاب،
٩ فالشاعر كان يتحدث إذن كما كان يتحدث شعراء الفاطميين بالرغم من مرور قرن ونصف
تقريبًا على زوال الدولة الفاطمية في مصر.
وعندما انتشرت دعوة داود هذا في بلدته أسفون أنشد الشاعر الماجن الهجَّاء قطنبة الأسفوني
— الحسين بن محمد بن هبة الله — مقطوعة شعبية في هجاء هذه الدعوة وهجاء دعاتها فقال:
حديث جرى يا مالك الرق واشتهر
بأسفون مأوى كل من ضلَّ أو كفر
لهم منهم داع كتيس معمم
وحسبك من تيس تولى على بقر
ومن نحسهم لا أكثر الله منهم
يسبُّوا أبا بكرٍ ولم يشتهوا عمر
فخذ مالهم لا تختش من مآلهم
فإن مآل الكافرين إلى سقر
١٠
فمن هذه المقطوعة الشعبية التي أنشدها قطنبة نستطيع أن نعرف أن الدعوة انتشرت بقوة
في
بلدة أسفون، وكان لها دعاةٌ يأخذون العهود والمواثيق، وأنهم كانوا يسبون الصحابة على
نحو ما
كان يفعل الفاطميون، ويُخيل إليَّ أن داود بن سليمان هذا ما هو إلا دعي، وأنه أحد دعاة
الإسماعيلية النزارية (الإسماعيلية الشرقية)، فإن من عقائد هذه الدعوة أن يتحمل الإمام
فرائض الدين عن المستجيبين وبذلك دعى داود هذا،
١١ ولذلك لم تجد الدعوة قبولًا عند أكثر المسلمين، وهجاه الشاعر علاء الدين
الأسفوني علي بن أحمد بن الحسين المتوفى سنة ٧٣١ﻫ فقال:
ارجع ستلقى بعدها أهوالا
لا عشت تبلغ عندنا آمالا
يا من تجمع فيه كل نقيصة
فلأضربن بسيرك الأمثالا
وزعمت أنك للتكلف حامل
وكذا الحمار يحمل الأثقالا
١٢
فلا غرابة إذن أن نرى هذه الدعوة التي هي أقرب إلى دعوة القرامطة القديمة قد فشلت
في مصر
سريعًا، وأن تنفر من داود ومن الذين استجابوا له قلوب سواد المصريين؛ ولذلك لم نعد نسمع
عن
محاولات أخرى في مصر لإعادة الدعوة الفاطمية بعد محاولة داود هذا.
ومن الطرائف التي حدثت في النزاع بين أهل السنة والشيعة في هذا العصر ما سجَّله الشعر
فيما كان يحدث في عاشوراء، ففي هذا اليوم من كل عام كان الشيعة يقيمون مأتم الحسين بن
علي
جريًا على السنة التي كان يتبعها الشيعة في جميع البقاع الإسلامية، وتقليدًا لما كان
متبعًا
في مصر الفاطمية، وكان الشعراء ينشدون أشعارهم في هذه المناسبة مثل ما أنشده العزازي
في
قصيدته التي ذكرناها من قبل، ومثل قول الشاعر شهاب الدين أبي العباس أحمد بن صالح وقد
وقع
مطرٌ غزيرٌ في ذلك اليوم:
يوم عاشوراء جادت بالحيا
سحبٌ تهطل بالدمع الهمول
عجبًا! حتى السموات بكت
رزء مولاي الحسين بن البتول
١٣
ولكنَّ أهل السنة أرادوا أن يكيدوا للشيعة، فكانوا يخرجون في هذا اليوم وقد كحلت أعينهم
وخضبت أيديهم، وفي ذلك يقول الشاعر المصري أبو الحسن الجزار:
وبعود عاشوراء يذكرني
رزء الحسين، فليت لم يعد
يا ليت عينًا فيه قد كحلت
لشماتة لم تخل من رمد
ويدًا به لمسرة خضبت
مقطوعة من زندها بيدي
وأبو الحسين الجزار نفسه هو الذي داعب الشريف شهاب الدين ناظر الأهراء، فكتب إلى الشريف
ليلة عاشوراء عندما أخر عنه ما كان من جاريه:
قل لشهاب الدين ذي الفضل الندي
والسيد بن السيد بن السيد
أقسم بالفرد العليِّ الصمد
إن لم يبادر لنجاز موعدي
لأحضرنَّ للهناء في غد
مكحل العينين مخضوب اليد
١٥
فالشاعر بمداعبته هذه أعطانا صورة لما كان يجري في ذلك العصر بين المتعصبين من أصحاب
المذهبين: المذهب السني الذين كانوا يخرجون ليلة عاشوراء للهناء، والمذهب الشيعي الذين
كانوا يخرجون للعزاء، ويُخيل إليَّ أن عادة المصريين الآن ولا سيما في الأرياف بصنع أطباق
الحلوى المعروفة باسم عاشوراء، هي أثرٌ من تراث هذا النزاع بين المذهبين في عصر الأيوبيين
والمماليك.