أثر الفاطميين في شعر أهل السنة
وإذا تركنا هؤلاء الشيعة الذين أظهروا تشيعهم في أشعارهم، وصوروا لنا لونًا من ألوان
الفن
المتأثر بهذا المذهب الديني، فإننا نواجه ناحية هامة عند شعراء هذا العصر الذي نتحدث
عنه،
تلك الناحية هي تأثر الشعراء بالآراء والصور التي تركها شعراء المدح في عصر الفاطميين،
فنحن
نعلم أن الفاطميين جعلوا للأئمة صفات خاصةً أخذت من صميم عقيدتهم ومذهبهم،
١ واستخدم جميع الشعراء الذين اتصلوا بالأئمة سبيل المدح بذكر هذه الصفات،
٢ واستمر هذا الضرب من المديح طوال عصر الفاطميين في مصر، وبالرغم من أن الدولة
الفاطمية زالت على يد الأيوبيين، وأن الدعوة الفاطمية اضمحل أمرها فلم يعد الدعاة يقومون
بنشاطهم، فإن الشعراء استمروا في مديحهم في نفس التيار الذي رأيناه عند الفاطميين، بل
خلعوا
على سلاطين الأيوبيين نفس الصفات التي خلعها الفاطميون على أئمتهم، بل غلا بعضهم في المدح
فنسب إلى السلاطين والخلفاء العباسيين ما لم ينسبه الفاطميون إلى أنفسهم، فابن سناء الملك
المتوفى سنة ٦٠٨ﻫ مدح صلاح الدين بقوله:
أعدت إلى مصر سياسة يوسف
وجدَّدت فيها من سمِيِّك موسما
وأحييت فيها الدين بعد مماته
فأنت ابن يعقوب وأنت ابن مريما
بقيت إلى أن تملك الأرض كلها
ودمت إلى أن يرجع الكفر مسلما
٣
فإذا كنا نقبل أن تكون المقارنة بين صلاح الدين ونبي الله يوسف لتشابههما في الاسم،
فإننا
لا نقبل أن يكون صلاح الدين هو «ابن يعقوب» أو هو عيسى بن مريم؛ لأنه أحيا الدين بعد
مماته،
إلا إذا كنا نتمذهب بالعقيدة الفاطمية التي تؤول الآيات القرآنية التي وردت في المسيح
بأن
إحياء الموتى هو نشر الدين وإحياء النفوس حياةً صحيحةً بالعبادة العلمية،
٤ أو أن نقول كما قال الفاطميون بالدور وانتقال النبوة والأئمة بالتسلسل
والتعاقب، وأن الخلف يَرِث دور السلف تمامًا ويحدث في أيامه ما حدث في أيام من سبقه،
فإذا
بمحمد هو عيسى وهو موسى وهو نوح … إلخ.
٥
فقول ابن سناء الملك «فأنت ابن يعقوب وأنت ابن مريما» هو أثرٌ من آثار العقائد
الفاطمية.
وفي قصيدة أخرى مدح هذا الشاعر صلاح الدين بقوله:
نُصرت بأفلاك السماء فشهبها
خميس به يردي الخميس العرمرما
رقيت إلى أن لم تجد لك مرتقى
وأقدمت حتى لم تجد متقدما
فما يبرم المقدار ما كنت ناقضا
وما ينقض المقدار ما كنت مبرما
٦
ففي البيت الأول يتحدث عن «أفلاك السماء» التي نصرت السلطان، وأفلاك السماء في التأويل
الفاطمي يعني الملائكة، وهم العقول في الاصطلاحات الفلسفية والإسماعيلية أيضًا،
٧ وفي البيت الثاني دفع الشاعر شدة المبالغة، والغلو في المديح إلى أن جعل صلاح
الدين في مرتبة ليس فوقها مرتبة، وهذا المعنى كثير جدًّا في شعر العصر الفاطمي؛ لأن الإمام
مثل للمبدع الأول الذي ليست فوقه مرتبة،
٨ والبيت الثالث نفس معنى بيت ابن هانئ الأندلسي في مدح المعز لدين الله
الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحْكُم فأنت الواحد القهار
ثم اقرأ لابن سناء الملك أيضًا قوله في مدح علي الشهيد نور الدين زنكي:
مولى الأنام «علي» هكذا نقلت
لنا الرواة حديثًا غير مختلق
٩
فالشاعر هنا نقل الحديث النبوي «من كنت مولاه فعلي مولاه» الذي قيل في علي بن أبي
طالب
إلى علي الشهيد نور الدين، وتبع سنة شعراء الفاطميين الذين مدحوا الأئمة بأنهم موالي
الأنام.
ومرة أخرى يمدح صلاح الدين بقوله:
قد ملكت البلاد شرقًا وغربا
وحويت الآفاق سهلًا وحزنا
واغتدى الوصف عن علاك حسيرا
أي لفظ يقال أو أي معنى
وشعراء الفاطميون كانوا يضمِّنون في أشعارهم الآية القرآنية: أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وقال
الدعاة: إن هذه الآية أُنزلت في علي بن أبي طالب، فأخذ ابن سناء الملك هذا المعنى وأودعه
شعره، ولم يجعلها في الأئمة من أهل بيت علي بن أبي طالب إنما جعلها في صلاح الدين.
ولم يكتف ابن سناء الملك بأن يتأثر بهذه العقائد الفاطمية، ويتبع تيار الشعر الفاطمي
في
مدحه لصلاح الدين الأيوبي أو نور الدين زنكي، بل نراه في مدائحه للقاضي الفاضل يأتي
بالمعاني التي كانت تُقال للأئمة الفاطميين، ولها من عقائدهم سند، أما أن تُقال للقاضي
الفاضل فهذا هو الأثر القوي على شعر ابن سناء الملك، فنحن نعلم أن الفاطميين وصفوا الأئمة
بأنهم رحمةٌ للعالمين،
١١ فجاء ابن سناء الملك، وقال للقاضي الفاضل:
عبد الرحيم على البرية رحمةٌ
أمنت بصحبتها حلول عقابها
١٢
وقال الفاطميون إن قصر الإمام هو في العبادة العلمية (التأويل الباطن) هو الكعبة،
وأن
الحج الباطن هو زيارة الإمام،
١٣ فقال ابن سناء الملك للقاضي الفاضل:
وهكذا نستطيع بسهولة أن نتتبع أثر العقائد الفاطمية في شعر ابن سناء الملك وهو من
شعراء
الدولة الأيوبية ومن كبار رجالاتها.
وها هو الشاعر الدمشقي ابن الساعاتي الذي وفد على مصر واتخذها دار إقامته، نراه قد
تأثر
بما كان في مصر والشام من عقائد الفاطميين، ونهج نهج شعراء المدح في العصر الفاطمي، فنراه
يمدح الخليفة العباسي الناصر لدين الله بما كان يمدح به الأئمة فهو يقول مثلًا:
فروع إلى العباس تنمى أصولها
وما خير فرع أسلمته أصول
هو النسب الزاكي أناف بفضله
«وصي» حوى سبق العلا ورسول
ترى اليوم طلقًا حين يذكر «جعفر»
ويسمى إليه حمزة وعقيل
له شرف البيت العتيق وزمزم
وما ساقه حاد إليه عجول
وفضل الذبيحين الذي ما لفضله
نظير، وهل للنيرين عديل
علاه على السبع الشداد محله
ومجد قديم لا يرام أثيل
ففي كل يوم للملائكة العلى
فهو يمدح الخليفة العباسي بأنه يُنتسب إلى الرسول، والوصي علي بن أبي طالب، وجعفر
بن أبي
طالب، وعقيل بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وهذا مدح شيعي خالص، لا يُمدح به إلا
الأئمة
من نسل علي بن أبي طالب، وفي البيت الرابع معنى من المعاني الفاطمية التي تُؤول شعائر
الحج
على أنهم الأئمة وقد شرفهم الله تعالى بذلك،
١٦ وفي البيت السادس يُضمن عقيدة باطنية خالصة بأن جعل الخليفة العباسي فوق السبع
الشداد، أي في منزلة المبدع الأول (العقل الأول أو القلم)، وقد ذكرنا أن هذا المعنى لا
يُمدح به إلا إمام إسماعيلي على نحو ما أوردناه في نظريتنا التي أطلقنا عليها (نظرية
المثل
والممثول)؛ لأن الإمام في العالم الجسماني مثل العقل الأول الروحاني، ولكن ابن الساعاتي
أتى
بهذا المعنى غلوًّا منه ومبالغةً وتأثرًا بما كان في العصر الفاطمي، وفي البيت الأخير
جعل
الملائكة يطوفون ببيوت العباسيين، وهو معنى لم يُنشد إلا في بلاط الخليفة الفاطمي، فإن
الفاطميين أوَّلوا الملائكة وطوافهم ببيت الإمام على الدعاة، والحجج الذين يزورون الإمام
ويتجهون إليه؛ لأنه قبلة نفوسهم، وهكذا نرى شاعرًا آخر من شعراء الأيوبيين يتأثر بالشعراء
الفاطميين.
أما الشاعر ابن النبيه المصري المتوفى سنة ٦١٩ﻫ، فقد كان أجرأ شعراء مصر في الأخذ
من
عقائد الفاطميين، وكان أشدهم مبالغةً في مدحه للخليفة الناصر العباسي حتى إن القدماء
أنفسهم
عابوا عليه هذه المبالغة، واتهموه في دينه، ولابن النبيه عذره، فقد وُجد في عصر كانت
عقائد
الفاطميين لا تزال ماثلة في أذهان الناس، وكان شعر شعراء الفاطميين لا يزال يُروى بين
الناس، فسار ابن النبيه في تيار هؤلاء الشعراء وخُيل له أنه يمدح إمام الفاطميين لا الإمام
العباسي عدو الفاطميين، بالرغم من أن الإمام الناصر العباسي نفسه كان متشيعًا.
فانظر إلى ابن النبيه في إحدى قصائده في مدح الخليفة الناصر يقول:
بغداد مكَّتنا، وأحمد «أحمد»
حجوا إلى تلك المنازل واسجدوا
يا مذنبين، بها ضعوا أوزاركم
وتطهروا بترابها وتهجدوا
فهناك من جسد النبوة بضعة
بالوحي جبريل لها يتردد
«باب النجاة» «مدينة العلم» التي
ما زال كوكب هديها يتوقد
ما بين سدرته وسدة دسته
نبأ يقرُّ له الكَفور الملحد
هذا هو السر الذي بهر الورى
من ظهر آدم والملائك سُجَّد
هذا «الصراط المستقيم» حقيقة
من زل عنه ففي الجحيم يقيد
هذا الذي يسقي العطاش بكفه
والحوض ممتنع الحمى لا يُورد
«القائم المهدي» أنت بقيت للإسـ
ـلام تمهد تارة وتشيد
بعدًا «لمنتظر» سواه، وقد بدت
منه البراهين التي لا تجحد
إن كان فوق الطور ناجى ربَّه
موسى، فبالمعراج أنتم أزيد
أو كان يوسف عبر الرؤيا، فكم
للغيب منكم مصدر أو مورد
الله أنزل وحيه لمحمد
وإليكم وصى بذاك محمد
الدهر في يده فجور مرسل
سبط وبأس مكفهر أجعد
يا من لمبغضه الجحيم قرارة
ولمن يواليه النعيم السرمد
لولا التقية كنت أول معشر
غالوا فقالوا: أنت رب يعبد
١٧
هذا ما أنشده ابن النبيه في الخليفة العباسي، وواضح كل الوضوح مدى غلو هذا الشاعر
في
مدحه، هذا الغلو الذي لا أكاد أجد له مثيلًا بين شعراء الفاطميين أنفسهم على ما وصفوا
به
أئمتهم من صفات، وأسبغوا عليهم من نعوت، ولكن شعراء الفاطميين أتوا بهذه الصفات والنعوت
من
العقيدة الفاطمية نفسها، ومن التأويلات الباطنية التي تمايز بها الفاطميون ولم يقرهم
عليها
فرقة من فرق المسلمين، أما ابن النبيه وهو شاعرٌ سني في
دولةٍ أطاحت بالدولة الشيعية، وحاولت أن تمحو من البلاد العقيدة الشيعية، وكان يمدح الخليفة
العباسي، ثم يغلو هذا الغلو في المدح، فهذا هو الشيء الذي لم نكن نتوقعه في شعر المدح
في
مصر في عصر الأيوبيين، والذين لهم إلمام بالعقائد الفاطمية يستطيعون في سهولةٍ ويسرٍ
أن
يدركوا تأثر هذا الشاعر بالفاطميين، فالشطر الأول من البيت الأول هو نفسه رأي الفاطميين
في
عقيدة الأدوار التي تحدثنا عنها من قبل، والحج في الشطر الثاني من البيت الأول، وكل البيت
الثاني هو نفسه رأي الفاطميين في الحج الباطني.
وعجيب أن يذهب الشاعر إلى أن الخليفة العباسي الناصر بضعةٌ من جسد الرسول؛ لأنه ليس
من
نسل الرسول، والحديث النبوي يقول: «فاطمة بضعة مني» ولكن مبالغة الشاعر، وغلوه في المدح
جعل
الخليفة الناصر من أبناء فاطمة، مثله في ذلك مثل أئمة الشيعة.
ومثل ذلك قوله في قصيدة أخرى:
أهل بيت قد أذهب الله عنهم
كل رجسٍ وطُهِروا تطهيرا
وكذلك قوله: «مدينة العلم» التي جعلها النبي لنفسه دون سواه فقال: «أنا مدينة العلم
وعلي
بابها»، وشعراء الشيعة لم يذهبوا إلى أن عليًّا أو أحد أبنائه «مدينة العلم»، ولكن هذا
الشاعر السني أبى إلا أن يجعل الخليفة الناصر في مقام النبي نفسه.
أما قوله: «باب النجاة» فهو من أقوال شعراء الفاطميين، وكذلك قوله بعد ذلك إن الناصر
هو
«الصراط المستقيم»، فهذا تأويل باطني خالص لا يقول به إلا شاعر إسماعيلي في مدح إمام
إسماعيلي،
١٨ أما في قوله: هذا هو السر الذي بهر الورى … البيت، فهو نفس ما قاله الفاطميون
عن مرتبة الاستيداع، (النبوة)، ومرتبة الاستقرار (الإمامة)، وتنقلهما منذ خلق آدم هذا
الدور،
١٩ وهي نفس النظرية التي اعتنقها الصوفية في هذا العصر وهي نظرية «النور المحمدي»،
ويظهر تأثر ابن النبيه بالمصطلحات والعقائد الفاطمية
تأثرًا واضحًا في وصفه للخليفة العباسي بأنه «القائم المهدي»، فقوله هذا أُخذ أخذًا من
أقوال الفاطميين، وهو اصطلاح من مصطلحاتهم الخاصة الذي تمايزوا به عن الفرق الأخرى في
وصف
«المهدي المنتظر» الذي هو عند الفاطميين آخر دور آدم الحالي «وخاتم السبع المثاني»، وهو
عند
الفاطميين الناطق السابع وآخر النطقاء، فإذا كان الفاطميون قد انحرفوا عن الدين القويم
بأن
جعلوا نبيًّا بعد محمد
ﷺ، فإن أسفنا أشدُ حين نجد شاعرًا يتمذهب بمذهب أهل السنة
والجماعة، يصف خليفة عباسيًّا بهذه الصفة الفاطمية، وإذا كان أهل السنة يرون أن النبي
ﷺ قُبض ولم يُوصِ لأحد بعده، خلافًا لقول الشيعة الذين ذهبوا إلى أن النبي أوصى لعلي
يوم «غدير خم»، فإن الشاعر هنا جعل وصية محمد للعباسيين وهو قول لم نسمع به إلا من شعراء
مصر في عصر الأيوبيين.
ومن الصفات التي خلعها الفاطميون على عليِّ بن أبي طالب أنه «قسيم الجنة والنار» أي
أنه
يقسم الناس بين الجنة والنار، فمُبغضه في النار ووليه في الجنة.
وفي ذلك قال المؤيد في الدين يمدح الإمام المستنصر الفاطمي:
بمولانا الإمام أبي تميم
هُديت إلى الصراط المستقيم
قسيم النار مولانا معد
وجنات العلي وابن القسيم
فجاء ابن النبيه وجعل هذه الصفة للعباسيين، ويختم ابن النبيه هذه القصيدة بقوله، ولولا
تقاه لبلغ به غلوه إلى تأليه الخليفة العباسي، بينما لم يذهب إلى تأليه الأئمة الفاطميين
سوى الغلاة الذين طُردوا من حظيرة الدعوة الفاطمية، ومن هؤلاء دعاة الحاكم، ولم يذهب
شاعرٌ
من شعراء الفاطميين إلى القول بهذه الدعوى، فنرى المؤيد في الدين مثلًا يقول لإمامه:
لست دون المسيح سماه ربَّا
أهل شرك ولا نسميك ربَّا
وفي قصيدة أخرى لابن النبيه في مدح الخليفة العباسي الناصر لدين الله أيضًا يقول:
خذ من زمانك ما أعطاك مغتنِما
وأنت ناه لهذا الدهر آمره
فالعمر كالكأس تستحلى أوائله
لكنه ربما مجَّت أواخره
واجسر على فرص اللذات محتقرا
عظيم ذنبك إن الله غافره
فليس يخذل في يوم الحساب فتى
و«الناصر» ابن رسول الله ناصره
تجسد الحق في أثناء بردته
وتوِّجت باسمه العالي منابره
له على ستر سر الغيب مطلع
فما موارده إلا مصادره
يقضي بتفضيله سادات عترته
لو كان «صادقه» حيًّا «وباقره»
كل الصلاة خِداج لا تمام لها
إذا تقضت ولم يذكره ذاكره
كل الكلام قصير عن مناقبه
إلا إذا نظم القرآن شاعره
رأيت ملكًا كبيرًا فوق سدَّته
جبريل داعيه أو ميكال زائره
٢٠
فابن النبيه في هذه الأبيات يرى أن الخليفة الناصر من نسل رسول الله، وهو نفس الرأي
الذي
قاله من قبل في قصيدته السابقة:
فهناك من جسد النبوة بضعة
بالوحي جبريل لها يتردد
فإذا كانت هذه هي نظرة ابن النبيه إلى الخليفة العباسي، فلا غرو أن نراه يصف هذا الخليفة
بالصفات التي قالها الشيعة عن أئمتهم، فهو إذن الشفيع يوم القيامة، ويكرر هذا المعنى
في
قصيدة أخرى فيقول:
بولائي أمنت من سيئاتي
يوم ألقى كتابي المنشورا
بل يذهب في الغلو إلى مدى أبعد مما ذهب إليه شعراء العصر الفاطمي؛ إذ نسب إلى الخليفة
العباسي معرفة الغيب، وكرَّر هذا المعنى فذكره في هذه القصيدة وفي القصيدة السابقة، فبينما
طعن علماء أهل السنة أئمة الفاطميين بأنهم يدَّعون معرفة الغيب، وتبرأ الفاطميون من هذه
المقالة وممن قال بها،
٢١ نرى ابن النبيه يُلصقها بالخليفة العباسي، ويذهب ابن النبيه إلى أن أئمة الشيعة
وخاصة جعفر الصادق، ومحمد الباقر بن علي زين العابدين، لو كانوا أحياء لقدموا الناصر
العباسي عليهم، ونلاحظ أنه خصَّ جعفر الصادق والباقر دون غيرهما؛ أولًا للضرورة الشعرية
في
القافية الرائية؛ وثانيًا لأن جلُّ علوم الشيعة إنما رُويت عن طريقهما، ثم يعود ابن النبيه
إلى عقيدة الفاطميين التي تذهب إلى أن الصلاة لا تقبل ما لم يصلِّ على الأئمة، فالشاعر
هنا
أخذ هذه العقيدة ونظمها مستعملًا ألفاظ الفقهاء فزعم أن الصلاة خِداج إن لم يكن بها الصلاة
على الناصر، فإذا كان الشيعة يقولون ذلك بناء على عقائدهم فنحن لا ندري على أي أساس قال
ابن النبيه ذلك، إلا إذا اعتبر الخليفة العباسي من أئمة الشيعة، وكرَّر ابن النبيه هذا
المعنى في قصائد أخرى، فمن ذلك قوله:
أنت يا بن النبي، خابت صلاة
لم تكن في خلالها مذكورا
ونحن نعلم أن الشيعة ذهبوا إلى أن في القرآن الكريم عددًا من الآيات أُنزلت في أهل
البيت،
٢٢ وعدُّوا ذلك من فضائل أئمتهم ومن مناقبهم، وها هو ابن النبيه يمدح الناصر بهذا
المعنى الشيعي، وختم الشاعر هذه القصيدة بأن الناصر ملكٌ كبير، وأن جبريل داعيته وأن
ميكائيل زائره، وهذه من المعاني الباطنية الإسماعيلية التي لم يقل بها سوى الإسماعيلية،
وذلك أن تأويل الملائكة على الدعاة والحجج، وفي ذلك يقول المؤيد في الدين داعي
الفاطميين:
أنا آدمي في الرواء حقيقتي
ملك تبين ذاك للمسترشد
فأخذ ابن النبيه هذه العقيدة الباطنية، ونظمها في شعره وجعلها في الخليفة الناصر العباسي،
ومن هذه الأمثلة التي أوردناها من شعر ابن النبيه، ومن أشعاره الأخرى التي يجمعها ديوانه
نستطيع أن نلمس مدى تأثر هذا الشاعر بالتعاليم الشيعية عامةً والفاطمية منها على وجه
الخصوص.
ولم يكن ابن النبيه هو الشاعر الوحيد الذي نرى في شعره أثر هذه التعاليم، فها هو زميله
ابن مطروح المتوفى سنة ٦٤٩ﻫ يتأثر بما تأثر به ابن سناء الملك، وابن الساعاتي، وابن النبيه
وغيرهم من شعراء ذلك العصر من تعاليم شيعية ومن تراث الفاطميين، ففي مديحه للخليفة المستنصر
بالله العباسي خلع عليه صفات الإمام الفاطمي فهو يقول:
الله أكبر أي طرف يطمح
أم أي ذي لَسَن يقول فيُفصح؟
حرمُ الخلافة والإمام إمامنا
فمن العجائب أن لفظًا يجنح
عظُم المقامُ عن المقال فحسبنا
أنَّا نقدس عنده ونسبح
شرفًا بني العباس ما أبقيتم
فخرًا لمفتخرٍ به يتبجح
من معشرٍ جبريلُ من خدَّامهم
وبمثل ذا يتمدح المتمدح
لما سَموا سمحوا فحدَّث صادقا
عن أنفُس تسمو وأيد تسمح
فوق السماء خيامهم مضروبة
فلخيلهم مسرى هناك ومسرح
حيث النجوم تعد من حصبائها
والبرق منها بالسنابك يقدح
أخليفةَ اللهِ الرضا، هل لي إلى
بحبوحة الفردوس باب يفتح؟
حتى أطوف بذلك الحرم الذي
ما فاز إلا من به يتمسح
وأجيل في ملكوت قدسك ناظرا
ما زال يُغبَق بالنسيم ويصبح
وأقبِّل الأرض المقدسة التي
أَرَج السعادة من ثراها ينفح
هذا الذي نزل الكتاب بمدحه
فبأي شيء بعد ذلك يُمدح؟
هذا نذير النفخة الأخرى الذي
من لا يدين بحبه لا يفلح
إن الخلافة لم تكن إلا لكم
فابن مطروح في هذه الأبيات التي يمدح فيها الخليفة العباسي لا يُجاري شعراء العباسيين
في
مدائحهم، إنما هو يجاري شعراء الشيعة في مدح أئمتهم، وينهج نهج شعراء الفاطميين خاصة
الذين
أسبغوا على الأئمة لونًا من التقديس، ورفعوا مرتبة الأئمة فوق السموات العلى،
وجعلوا بيد الأئمة دخول الجنة أو النار، وذهبوا إلى أن
بالقرآن الكريم آيات وردت في الأئمة دون غيرهم، وأن من لا يدين بحب الإمام ويتولاه فهو
بعيد
عن زمرة المؤمنين، وأن الإمام هو نذير النفخة الكبرى، وأن الإمامة تنقلت من آدم إلى أن
استقرت في إمام العصر، فهذه كلها من المعاني الشيعية التي لم يُمدح بها إلا أئمة الشيعة،
ولم نسمع أن شاعرًا من شعراء الأمويين، أو العباسيين مدح خلفاء الأمويين والعباسيين بمثل
هذه المعاني إلا في هذا العصر المتأثر بالتقاليد الشيعية الفاطمية.
فإذا اغتفرنا لابن مطروح أن يصف الخليفة العباسي بمثل هذه المعاني الشيعية؛ لأن المستنصر
بالله كان إمام المسلمين، وخليفة رب العالمين، ويمت إلى النبي ﷺ بصلة القرابة
القريبة، فغلا الشاعر في مدحه غلو الشيعة في مدح أئمتهم.
فما عذر ابن مطروح في مدائحه للملك الكامل ناصر الدين محمد بن العادل الأيوبي الذي
لا يمت
إلى الخلافة بصلةٍ ولا ينتسب إلى النبي صلوات الله عليه بسبب؟ ففي قول ابن مطروح في الملك
الكامل:
«قدَّست» من ملك عظيم الشان
متتابع الحسنات والإحسان
تتزاحم التيجان في أبوابه
عند السلام، ولابسو التيجان
حتى إذا بَصِرت به أبصارُهم
خروا لهيبته إلى الأذقان
أفد المواكب كالكواكب والتحق
«بشريف ذاك العالم الروحاني»
ألقى مقاليدَ الممالك عنوة
لك حسنُ تدبير وثَبْت جنان
وتشوف الأملاك لاسمك كلما
ذكروا سَمِيَّك عند كل أذان
أما وقد علقت يدي «بمحمدٍ»
وظفرت منه «ببيعة الرِّضوان»
أنا فيك «حسَّانٌ» وأنت «محمدٌ»
«بمحمدٍ» عطفًا على «حسان»
٢٤
فما معنى تقديس هذا الملك؟ وما الذي صبغ عليه هذه القدسية، وما الذي جعل للملك الكامل
الأيوبي شرف الانتساب إلى العالم الروحاني؟ وما هذه البيعة التي وصفتها بأنها «بيعة
الرضوان» هذه كلها مسائل نُرجعها جميعًا إلى مبالغة الشاعر في مدحه، وهي المبالغة التي
ورثها شعراء عصره عن شعراء الفاطميين، وإذا كان ابن مطروح هنا قد أساء في مبالغته؛ لأنه
مدح
الملك الأيوبي بصفات دينية ليس بينه وبينها سببٌ، لكنه سار على سنة شعراء الفاطميين،
وجرى
في تيارهم متأثرًا بهم، ومثل هذا قوله في مدح الملك الأشرف مظفر الدين أبي الفتح
موسى:
الأشرف الملك الكريم المجتبى
موسى وتمم بالرحيم المحسن
يا أيها الملك الذي من فاته
نظر إليك فما أراه بمؤمن
والسبعة الأفلاك ما حركاتها
إلا مخافة أن تقول لها اسكني
٢٥
فالشاعر هنا جعل النظر إلى الملك الأشرف لونًا من ألوان العبادة! وأن الأفلاك تسير
بأمره!
وهي صفات خلعها عليه الشاعر مبالغةً وغلوًّا، بينما هي صفات شيعية هي من صميم عقائد الشيعة
في الإمامة، فإذا قِيلت هذه الصفات في الملك الأشرف، أو في غيره من ملوك الأيوبيين، أو
سلاطين المماليك فهي السخف بعينه؛ لأنها لا تقوم على أساس مذهبي أو عقيدة دينية ولكنها
المبالغة والتقليد لما كان يجري في العصر الفاطمي في مصر، فبالرغم من أن الأيوبيين في
مصر
عملوا على محو التشيع، ونجحوا سياسيًّا في تقويض أركان دولة الفواطم، فإنهم لم يستطيعوا
أن
ينتزعوا من عقول المصريين هذه الآراء الشيعية، أو أن يمحوها محوًا تامًّا، فقد رأينا
من تلك
الأمثلة التي أوردناها من الشعر كيف كان تأثير عقيدة الشيعة عظيمًا في هؤلاء الشعراء،
حتى
خُيل إلينا أننا أمام شعراء من الشيعة يمدحون أئمة الشيعة.
على أننا نستطيع أن نقول: إنه بالرغم من ذلك كله، فإن التشيع ضعُف في مصر شيئًا فشيئًا،
حتى كاد يُمحى منها وأصبحت مصر في القرن العاشر الهجري وما بعده تدين بمذهب أهل السنة
والجماعة، ولم يكن ذلك عن طريق السيف والإرهاب فحسب، بل كان هنالك سببٌ أقوى من الإرهاب
والسيف، وهو نشر العلم في مصر.
انتشر المذهب الفاطمي بمصر على يد عددٍ من الدعاة، واهتم الفاطميون بالدعاة اهتمامًا
عظيمًا فوضعوا للدعاية أسسًا وللدعاة شروطًا،
٢٦ فانبث الدعاة بين الناس؛ يكالبون أصحاب الفرق الأخرى ويحتجون عليهم، ويبطلون
آراءهم، وأوهموا الناس أن الحق فيما يقوله الدعاة عن الأئمة، وما زالوا بالناس حتى أقبل
على
دعوتهم عددٌ كبيرٌ اعتنقوا المذهب رغبة أو رهبة، فشغلت عقائد الفاطميين أذهان الناس طوال
العصر الفاطمي، وجاء عصر الدولة الأيوبية فأراد القائمون عليها أن يغيروا عقائد الشيعة
في
مصر، ورأوا أن الفاطميين نشروا مذهبهم عن طريق العلم، فحاربوا التشيع بنفس السلاح الذي
استخدمه الفاطميون، وهو الدعوة إلى أهل السنة والجماعة عن طريق فتح المدارس السنية أولًا،
وتشجيع حركة التصوف ثانيًا، وتشجيع المدائح النبوية ثالثًا.