تصدير المراجع
الرواية مروية بضمير المتكلِم، ومسرحُ أحداثِها — إن صح أن فيها أحداثًا — عربةُ قطارٍ يمر بالجزء الجنوبي الشرقي من الريف الإنجليزي، منطلقًا من لندن. والراوية (الأغلب أنها امرأة) تشترك في العربة مع خمسة مسافرين لا يلبثون أن يهبطوا — واحدًا في إثر آخر — في محطاتهم، فلا يتبقى معها سوى امرأة تختار الراويةُ أن تدعوها «ميني مارش». وتتخيل الراويةُ مواجهةً كبرى بين هذه العانس الفقيرة؛ ميني مارش، وزوجة أخيها المدعوة «هيلدا». وثمة لمحاتٌ عن ميني مارش بأعين الآخرين، إلى جانب عينَي الراوية؛ فالعاملون في المستشفى يتعجبون من نظافة ثيابها الداخلية؛ مما يدل على أنها (وإن تكن رقيقةَ الحال) سيدةٌ حسنةُ التربية. ولا تلبث تخيلات الراويةِ الصامتة أن تُقاطع وتنزل إلى الأرض من سبحاتها في الفضاء عندما تروح «ميني مارش» — إذ تستعد لأكل وجبتها الخفيفة؛ بيضةً مسلوقة — تعلق بصوتٍ عالٍ: «البيضُ أرخص!» وعلى طريقة تداعي الأفكار، التي شُهِر بها جويس وفرجينيا وولف ووردورثي رتشاردسن، يستثير الفتاتُ الأصفر والأبيض المتساقط من البيضة سلسلةً من الصور.
الرواية عميقةُ الجذور في زمانها ومكانها. فهناك، مكانيًّا، إشاراتٌ إلى إيستبورن؛ وهي منتجع على شاطئ البحر، ولويس؛ وهي بلدة في شرقي مقاطعة سُسيكس، وكاتدرائية القديس بولس في لندن (المقابل الإنجليزي لكاتدرائية القديس بطرس في روما) وغيرها.
وهناك ذِكرٌ لجريدة «التايمز»؛ كبرى الجرائد اليومية البريطانية، وﻟ «الحقيقة» وهي مجلةٌ أسبوعية كانت ذات رواجٍ شعبي في يومها. وهناك ابتعاثٌ لشخصيات من الماضي القريب والبعيد: مثل بول كروجر (١٨٢٥–١٩٠٤م)؛ وهو سياسي من الترنسفال، كان معارضًا للنفوذ البريطاني في جنوب أفريقيا، ثم صار رئيسًا لجمهورية البوير لمدة عشرين عامًا، وتُبيِّنه صورُه في مِعطفٍ رسمي بوجهٍ مُلْتحٍ صارم، ومثل الأمير ألبرت (١٨١٩–١٨٦١م) زوج الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا، ومثل السير فرنسيس وريك (١٥٤٠–١٥٩٦م) وكان مستكشفًا إنجليزيًّا وقبطانًا بحريًّا يأسرُ السفن الإسبانية، عند عودتها من أمريكا الجنوبية محملةً بالذهب والفضة المسروقَيْن من الهند (من صور الرواية الشعرية: صورة للهنود على شكل كتلٍ متدحرجة من الرخام على جبال «الأنديز» لسحق الغزاة الأوروبيين). ومن الشخصيات التخيلية في الرواية: مندوب مبيعات مسافر، تختار له الراوية اسم «جيمس مجردج»، وتتخيله يبيع أزرارًا، ثم تردف ذلك بوصفٍ وجيز لبضائعه.
هذه — باختصار — قصة إنجليزية مغروسة في تربتها المحلية، ولا سبيل لتذوقها تذوقًا كاملًا — فثمة مستويات عدة للتذوق — إلا إذا كنتَ قد ركبتَ قطارًا إنجليزيًّا يخترق بك الريفَ الإنجليزي، وخالطتَ ركابَه، وعرفت كيف يعيش هؤلاء القوم وكيف يفكرون ويشعرون ويسلكون.
هذه روائيةٌ مرهفةُ الحس، حادة الذكاء (كان عارفوها يخشون سخريتَها اللاذعة)، مصقولةُ الأسلوب، مدربةُ الحساسية، تستحق أن يُذكر اسمها — في نَفَسٍ واحدٍ — مع عمالقة الرواية السيكولوجية من أمثال هنري جميز، وكونراد، وجويس، ولورنس، وبروست.
هذا — في تصوري — كتابٌ يقدم للقارئ متعةً ثلاثية:
فهناك أولًا فن فرجينيا وولف القصصي الذي يمتاز بتقمُّصه دخائلَ النفسِ وقصدِه في التعبير وخلوه من الزوائد والحواشي.
وهناك ثانيًا تقدمة فاطمة ناعوت الجامعةُ بين سعة المعرفة بموضوعها والقدرة على تقمص خبرة الكاتبة على نحوٍ يجعلُ من التقدمة أثرًا فنيًّا، بحقِّه الخاص، ليس فيه دوجماطية النقاد الأكاديميين، ولا سطحية النقاد الانطباعيين.
وهناك ثالثًا قصة فرجينيا وولف في ثوبها العربي الراهن، حيث جاورت المترجمةُ فيه بين أمانة النقل مع طلاقة الأداء.
في مؤتمر «الترجمة وتفاعل الثقافات»، الذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة على امتداد أربعة أيام من ٢٩ مايو إلى ١ يونيو ٢٠٠٤م، ألقتْ فاطمة ناعوت بحثًا بعنوان «ترجمة الشعر: فعلُ إبداع». وأحسبُ أن دعواها في هذا البحث يمكن أن تنسحب على كافة ألوان الترجمة الأدبية سواءٌ كان النص المترجَم قصيدةً أو روايةً أو قصةً قصيرة أو مسرحيةً أو مقالة. ولأن قصة فرجينيا وولف — كما أسلفتُ — تدخل، بمعنًى من المعاني، في باب الشعر المنثور، فقد حرصَت المترجمة على أن تمتصَّ جزءًا من الطاقة الشعرية للنص، وسعتْ إلى أن تَخرج بإبداعٍ موازٍ، لا مجردَ تابعٍ ذي درجةٍ أدنى. وسيجد القارئُ — الذي يتجشم جَهدَ معارضةِ ترجمتِها على الأصل — أنها قد وُفِّقتْ في مسعاها وأضافتْ إلى اللغةِ العربية — شأن الصانعِ البارع — جوهرةً صغيرةً محكمةَ الصُّنع.
وجدير بالذكر أن ثلاثًا من روايات وولف الكبرى قد تُرجمت إلى العربية: «مسز دالواي» و«إلى المنارة» و«الأمواج»، وبعض مقالات وأقاصيص لها، مثل أقصوصة «بيت مسكون». وهناك: القارئ العادي؛ مقالات في النقد الأدبي، ترجمة د. عقيلة رمضان، مراجعة د. سهير القلماوي، الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر ١٩٧١م. وغرفة تخص المرء وحده، ترجمة د. سمية رمضان، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة ١٩٩٩م. وللدكتورة عقيلة رمضان دراسة باللغة الإنجليزية عن «روايات فرجينيا وولف الرئيسية»، مكتبة الأنجلو المصرية. وحديثًا أصدرت سلسلة روايات الهلال ترجمة لرواية مايكل كاننجام «الساعات» وهي عن حياة فرجينيا وولف.
ولعل خير ما يمثل تكنيك فرجينيا وولف هو الصفحات الأولى من روايتها «غرفة يعقوب»، خصوصًا حين تصور انطباعات الطفل عن الرمال والبركة بين الصخور، والصانعين المستغرقين في النوم، والسفينة؛ وهي الانطباعات التي تقدمها الكاتبة بتضاربٍ ظاهري، محدثة فينا تلك الهزة التي يستثيرها التقاء المرء بشيء ما لأول مرة. وتركز الكاتبة الأحداث في بؤرةٍ واحدة بنفس القدر من الذكاء والمفاجأة اللذين لا يفتآن ينتقلان من شيء إلى شيء إلى شيء، كأنما تنظر في منظارٍ سحري. تقول الفنانة: انظر أولًا، ثم اربط بين المرئيات ثانيًا. وهكذا ففي وصفها دمعة مسز أمبروز في «الرحلة البحرية إلى الخارج»، نرى أولًا — كأنما من خلال غمامة — الدمعة المستديرة المرتعشة.