فرجينيا وولف: النشأةُ والمأساة
ولدَتْ فرجينيا ستيفن في ٢٥ يناير ١٨٨٢م، لأسرةٍ شديدة المحافظة أو ما كان يُطلق عليها أسرة فيكتورية (نسبة إلى العصر الفيكتوري).
علِقتِ المرارةُ بروح فرجينيا، على نحوٍ ذاتي، استياءً من عدم ذهابها إلى المدرسة، وعلى نحوٍ موضوعي أعمَّ، استياءً من عدم المساواة في معاملة الولد والبنت؛ احتجاجًا على ما تنطوي عليه تلك التفرقة من دلالة تشي بصغر قيمة المرأة في نظر المجتمع، ومن ثم انحطاط نظرته إلى فكرها وشكُّه في جدارتها الذهنية للتعلم. وكذلك ساءها استكانةُ المرأة ذاتها، وقبولها الأمر على ذلك النحو السلبي غير المقاوم، وانصياعها لذلك التمايز وكأنه مُسلَّمةٌ لا جدالَ فيها. وقد عبرت عن تلك الفكرة في كثير من مقالاتها المؤيدة للحركات النسوية التحررية. ثمة صدماتٌ عنيفة في طفولة وولف وشبابها ظلَّلت حياتها بمِسحة حزنٍ لازمتها حتى لحظة انتحارها في النهر عام ١٩٤١م. أولًا التحرش الجسدي من قِبل أخيها غير الشقيق «جيرالد داكوورث»، ثم موت أمِّها في فجر مراهقتها (تلك الحادثة كانت الإرهاصة المباشرة التي سببت انهيارها العقلي الأول). أخذت أختها غير الشقيقة «ستيللا داكوورث» مكانَ الأم لها، لكنها لم تلبث أن ماتت أيضًا بعد أقل من عامَين، كما عايش «ليزلي ستيفن»، الأب، موتًا بطيئًا مؤجلًا منذ داهمه السرطان. وفي الأخير تزامن موتُ شقيقها «ثوبي» عام ١٩٠٦م مع توغل الانهيارِ النفسي والعقلي المزمن بها، فرافق حياتها ولم يفرِّقهما غيرُ الموت.
بعد الحرب العالمية الأولى (١٩١٤–١٩١٨م) ظن الناس استحالةَ نشوبِ حربٍ بهذا الحجم مجددًا بعد كل الهول الذي رأوه وعظم حجم الخسائر التي تكبَّدها العالم بأسره من جراء الحرب الأولى؛ لهذا سببت الحربُ العالمية الثانية (١٩٣٩–١٩٤٥م) صدمةً مروِّعةً وانهيارًا للكثيرين. شهدت وولف انفجارَ بيتها بقنبلة عام ١٨٤٠م. وكانت مرتعبةً من فكرة فقد أصدقاء جدد في الحرب بعدما فقدت الكثير منهم في الحرب الأولى، هذا إضافةً إلى خوفها من غزو النازيين لإنجلترا، فعقدت العزم وزوجُها على الانتحار سويًّا بالغاز حال حدوث ذلك.
واستكمالًا للتأثير السلبي للحروب على نفسية فرجينيا وولف وجهازها العصبي، يلزم أن نشيرَ أيضًا إلى الحرب الأهلية الإسبانية التي وقعت بين عامَي ١٩٣٦م و١٩٣٩م. تلك الحرب التي اشتعلت إثر صراعٍ نشب بين حزب المحافظين الفاشستي وبين الحكومة الديمقراطية الإسبانية. كانت إيطاليا وألمانيا تنظران إلى إسبانيا باعتبارها أرضَ اختبارٍ خصبة للأسلحة والتكتيكات القتالية؛ ولذا تحالفتا مع حزب المحافظين الإسباني ضد الحكومة. وعبثًا حاولت عُصبة الأمم تفعيل سياسة عدم الانحياز؛ أقامت حاجزًا بشريًّا من خفر الحدود في محاولةٍ منها لمنع وصول المؤن إلى كلا الجانبَين المتصارعَين؛ لكن في الأخير هَزمَ المحافظون الحكومةَ الشرعية للبلاد وفرضوا على إسبانيا النظامَ الفاشستي الديكتاتوري.
في تلك الحرب قُتل «جوليان بيل»؛ ابن شقيق فرجينيا، أثناء مشاركته كأحد أفراد الحائط البشري. ربما نفهم من تلك الأحداث لماذا كرهت وولف الحرب دائمًا، ولمَ كانت في كثيرٍ من مقالاتها داعيةً للسلام.
(١) جماعة «بلوومز بيري»١١ الأدبية
ضمَّت الجماعةُ، ضمنَ آخرين: إ. إم. فورستر، ليتون ستراتشي، كليف بيل، فينيسا بيل (شقيقة وولف)، دانكين جرانت، وليونارد وولف (زوجها). ومع مطلع الثلاثينيات توقفت الجماعة عن الظهور المنتظم مثلما كانت في صورتها الأولى.
(٢) بدايات الكتابة
تُعد «الأمواج» من أعقد رواياتها، إذ تتتبع فيها حيوات ستة أشخاص منذ الطفولة الأولى وحتى مراحل الشيخوخة عبر حوارٍ ذاتي أحادي (مونولوج) يناجي كلُّ واحد فيه نفسَه.
كتب الناقد «كرونيبيرجر» في نيويورك تايمز: «إن وولف لم تكن حقًّا مهتمةً بالبشر، لكن اهتمامها الأكبر كان بالإشارات الشعرية في الحياة، مثل لحظات التحول بين الفصول، بين الليل والنهار، الخبز والنبيذ، النار والصقيع، الزمن والفضاء، الميلاد والموت؛ أي التحول والتناقض بوجهٍ عام.»
وفي أثناء الحرب العالمية، كانت وولف قد أصبحت في بؤرة المشهد الأدبي تمامًا، سواء في لندن أو في بلدتها الأم «رومديل» بالقرب من ليويز وسُسيكس. عاشت وولف في «ريتش موند» في الفترة ما بين عامي١٩١٥م و١٩٢٤م، ثم في «بلوومز بيري» من عام ١٩٢٤م وحتى عام ١٩٣٩م. لكنها ظلت مداومةً على زيارتها لمنزلها في «رومديل» منذ ١٩١٩م حتى لحظة مصرعها انتحارًا عام ١٩٤١م.
عملت وولف على تطوير تقنياتها الأدبية فكرست قلمًا نسائيًّا رفيعًا يناقشُ وينتقد هموم المرأة وحياتها في مقابل الهيمنة الذكورية وسيادة وجهة نظر الرجل في الواقع والوجود والكتابة.
في مقالها «السيد بينيت والسيدة براون»، ساجلت وولف بعض الروائيين الواقعيين الإنجليز مثل جون جولز وورثي، ﻫ. ج. ويلز وغيرهما، حيث اتهمتهم بمعالجة القشور واللعب فوق منطقة السطح، بينما ينبغي، من أجل اختراق العمق، تقليص المساحة المحظورة في تناول الحياة، والاستفادة من أدوات الكتابة المتاحة مثل تفعيل تيار الوعي، والحوارات الذاتية للشخوص، وكذا الانصراف عن السرد الخطي والبناء الهندسي للحدث والزمن.
(٣) الملمح النقدي لأهم رواياتها
«الخروج في رحلة بحرية» رواية توظف أكثر التيمات الروائية قِدمًا وقداسةً؛ الرحلة. تدور حول قَدَر «راشيل فينريز» التي ماتت أمها النشطةُ المتسلطة وهي بعدُ طفلة في الحادية عشرة، لتتركها تشب مع أبيها الخامل وعمتَيها العانسَين. لم تتواءم راشيل عضويًّا كما ينبغي حتى غدا عمرها ٢٤ عامًا. لدرجة أنها لم تكن تعرف شيئًا عن الجنس اللهم عدا الشذرات السطحية المستقاة من المدرسة. مع هذا كانت عازفةَ بيانو بارعة. أسرها الفن والبيانو فتلخَّصَ حلمُها ومثالُها الأعلى في كلمة «فنانة»، حد أن غدت غير متوائمة مع كل مفردات الحياة باستثناء «الفن».
هبطتِ المرأتان في سانتا مارينا؛ إحدى قرى الساحل الجنوب الأمريكي، أخذتا مقامهما في فيلا بدائية ذات حديقةٍ مهملة وتورطتا في التعامل مع مرتادي الفندق الوحيد في القرية، الذين كان من بينهم شابان هما: القديس جون هيريست، الذي يشبه إلى حدٍّ بعيد ليتون ستراتشي وسيقع في حب هيلين، والآخر هو تيرينس هيوات، وهو روائيٌّ طموح (الشخصية التي من خلالها ستعبِّر وولف عن معظم آرائها حول فن الكتابة عبر الكثير من الجدل والحوارات التي سيقيمها ذلك الشخص)، وهو سوف يحب راشيل.
أخيرًا يقوم بعض أعضاء الفوج بعمل الرحلة الثانية في النهر صوب الغابة، وهنا تأخذ الأحداث مساراتٍ أخرى ويتبدل كل شيء.
«الخروج في رحلةٍ بحرية» تحكي قصة العشاق التعسين المنهزمين ويتم رصدهم ضمن أصداء كورال من قصصٍ أخرى ووجهات نظر مغايرة، أي عبر منهج التعدد المنظوري.
«كان أول ما تبدى لها، تلك الممارسات الطائشة التي تخرق الآداب الاجتماعية وتقاليد اللياقة، لكن تلك الممارسات في جانبٍ آخر تحولت إلى رمية سهمٍ في السؤال الوجودي الأكبر الذي يلازم حياتنا. بينما تغادر مسز دالواي الحفل خلسةً لتتجه نحو شرفتها، تتأمل القضبان الحديدية الرأسية التي تشكِّل سور الحديقة وتفكر: ثمة قضبانٌ مماثلة تسوِّر جسد «سبتيمس» التعس، وتسأل عما إذا كان هناك هدفٌ وخطة وراء حياتنا؟ لماذا نستمر في الحياة في وجه الألم والمأساة؟»
«صوبَ المنارة»: رواية ذات بناءٍ ثلاثي الأبعاد: الجزء الأول، يتعرض لحياة أسرةٍ فيكتورية (كلاسيكية محافظة)، الثاني، يرصد حقبةً زمنيةً مدتها أعوامٌ عشرة، بينما يتناول الجزء الثالث أحد الصباحات التي تخلد الأشباح فيها للنوم. الشخصية المحورية في الرواية، مسز رامساي، مستوحاة من شخصية والدة وولف، وكذا بقية الشخصيات في الدراما كلها متكئة، بشكلٍ أو بآخر، على ذكريات وولف مع عائلتها.
«أورلاندو» ١٩٢٨م روايةٌ خياليةٌ فانتازية. يتتبَّع السردُ فيها مصيرَ البطل الذي تحوَّل من هويةٍ ذكورية، داخل بلاط المحكمة الإليزابيثية، إلى الهوية المؤنثة. الكتاب مزوَّد بصور لصديقة وولف «فيتا ساكفيل ويست» في ثياب أورلاندو الرجل. وعن العلاقة الملتبسة بين وولف وفيتا، حسب «نيجل نيكلسون»، فإن المبادرة كانت من جانب وولف الخجول رغم اتساع خبرة فيتا. وقد تزامنت تلك العلاقة مع أعلى ما أبدعته وولف أدبيًّا. في عام ١٩٩٤م استثمرت «إليين أتكينس» خطابات وولف وفيتا في خلقِ إبداعٍ درامي خلال مسرحية «فيتا وفرجينيا» بطولة «أتكينس» و«فانيسا ريدجريف».
(٤) النسوية في كتابات وولف
وربما تُذكرُنا تلك الفكرة — الحقيقية إلى حدٍّ بعيد — عن المرأة من خلال منظور الرجل ومنظور المجتمع بكتاب «الجنس الآخر» للكاتبة سيمون دو بوفوار حين قالت ما معناه إن المرأة لا تولد أنثى بالمعنى التداولي التنميطي للكلمة، لكن المجتمع يجعلها كذلك.
ككاتبة مقالات، كانت فرجينيا وافرة الإنتاج حيث نشرت حوالي خمسمائة مقالة في دورياتٍ ثقافية وكتب، بدايةً من عام ١٩٠٥م. اتسمت مقالات وولف بالطابع الحواري والتساؤلي الذي يجعل من القارئ مُخاطَبًا ومطالبًا بالإدلاء برأيه أكثر منه متلقيًا سلبيًّا. اعتمدت مقالاتها الملمح الجدلي حيث تخفت نبرةُ المؤلف الذي يدلي ببيان للقارئ.
كان لفرجينيا وولف دورٌ اجتماعي بارز في مناهضة العنف كما كانت أحد الناشطين في حركات التحرر النسائية، وهذا ما أظهرته بوضوح في مقالاتٍ كثيرة، وكانت عضوًا بارزًا في جماعة بلوومز بيري الأدبية. نُشرت مقالاتها النقدية والتحررية في ملحق التايمز الأدبي، أما مؤلفاتها فقد أصدرتها دار «هوجارث» التي أنشأتها وزوجُها الناقد والكاتب ليونارد وولف؛ تلك الدار التي بدأت بطابعةٍ صغيرة يمكن وضعها على طاولة، ثم تطورت حتى أصدرت مؤلفاتٍ مهمةً لقاماتٍ أدبيةٍ عالية، كما أسلفنا.
(٥) آخر أعمالِها
تلك الرواية هي آخر ما كتبت وولف، والتي ماتت قبل أن تشهد صدورها في كتاب. تشعر منذ الوهلة الأولى أنك أمام أغنية بجعة تطلق وداعًا حزينًا للوطن في عشية الحرب العالمية الثانية التي بات من المتوقع أن تطلق تعويذة دمارها الشامل خلال ساعات.
النسخة النهائية من آخر أعمال وولف وأكثرها غنائية هي التي تحتوي على النص الأصلي التي كانت تتوفر على كتابته حتى لحظة موتها.
خلال منهج التجريب الحداثي ذاته، الذي شخَّصت به «صوب المنارة»، يمكن للقارئ بسهولة متابعة أحداث الرواية. لكن تظل إعادة القراءة ضرورة لسبر غور النص واستكشاف عمقه وإسقاطاته السياسية والاجتماعية بل والوجودية.
تقع الرواية في أحد أيام شهر يونيو ١٩٣٩م في عزبةٍ بالريف الإنجليزي تُدعى «بوينتز هول»، مملوكة لعائلة «أوليفر» ذات الارتباط المَرضي بالماضي والجذور السَّلفية، إذ تولي ولاءً حميمًا للسلف إلى درجة الاعتقاد بأن «الساعة» التي أوقفتها رصاصةٌ في معركةٍ قديمةٍ جديرةٌ بالمحافظةِ عليها وإقامة مَعرِضٍ خاص لها.
كل عام في نفس ذلك الوقت، يهيئ آل أوليفر حدائقهم لإقامة فعاليات الحفل، ويُسمح للفلاحين بارتياد الموكب ورفع المال إلى الكنيسة. وكان من المقرر في برنامج ذلك العام أن يكون الموكب سلسلةً من التابلوهات التي تمجد تاريخ إنجلترا منذ عهد شوسر وحتى الزمن الراهن.
آل أوليفر أنفسهم كانوا تابلوهات للشخوص. كلٌّ يجسد ملمحًا بشريًّا ما، يفصل بين كلٍّ منهم حائطٌ من عدم التواصل والاغتراب. وتُظهر الرواية تباين مواقفهم وردود أفعالهم تجاه الحرب الوشيكة التي ستغير خارطة التاريخ.
العجوز «بارثولوميو أوليفر» وشقيقته «لوسي سويزن»، كلٌّ منهما أرمل، يعيشان مع بعضهما الآن بنفس العلاقة المتذبذبة التي عاشا عليها خلال الطفولة. «جايلز» نجل أوليفر، مقامرٌ في البورصة، يسافر إلى لندن يوميًّا من أجل العمل، ويعتبر ذلك الحفل شيئًا مزعجًا لا فرارَ من تحمله. «آيزا» زوجته غير القانعة، تخفي أشعارها عنه، وتفكر في إقامة علاقة غير شرعية مع مزارعٍ في القرية.
في نهاية الحفل، تخطط مخرجةُ العرض شيئًا خاصًّا وفريدًا من أجل الاحتفال بالحاضر؛ شيئًا له إسقاطات ذات أبعاد سياسية كانت تعنيها وولف: تجعل الممثلين يوجهون مراياهم صوب الجمهور وكأنها تقول: انظروا إلى وجوهكم، انظروا كيف أصبحت إنجلترا؛ يلفُّها العار والجمود. أليس كذلك؟»
على النحو نفسه أشهرت وولف مرآةً في وجه البشرية؛ مرآةً تعكس حزننا وخيباتنا عبر شخوص روايتها.
ربما تلك الدلالة، غير المبهجة، هي الأكثر مناسبةً لتلخيص مصير كاتبة مثل وولف، أحد أعظم رموز الحزن في التاريخ.
(٦) شبح الموت حول فرجينيا
إبان الاجتياح النازي، أعدَّت وولف وزوجها المؤن واتخذا تدابير الاستعداد حال الخطر. فاتفقا على تصفية نفسيهما جسديًّا، عن طريق الانتحار بالغاز السام، إذا ما هوجما من قِبل النازيين (نظرًا لكون زوجها يهودي الأصل).
لم تكن ظلال الخوف من الاجتياح النازي بكل ما تحمل من رائحة الموت وحدها التي مثلت شبحًا ضاغطًا على روح وعقل فرجينيا. فقد أُثقلت المرأة بحوادثَ فاجعةٍ كثيرة ليس بدءًا بموت أمها المبكر ولا بموت أبيها البطيء ولا شقيقها المحبوب، ولا انتهاءً بالأصدقاء الذين كانوا يذهبون إلى الحرب ولا يعودون بعد ذلك أبدًا. فكأنما كان الموت يترصدها كما ترصَّد محيطها، فقررت أن تذهب إليه بدلًا من أن تنتظر مجيئه على مبدأ «بيدي لا بيد عمرو».
تقول في يومياتها التي كتبتها بين عامَي ١٩٣١م و١٩٣٥م، وهي ما صدرت في كتابٍ حديث بالترجمة الألمانية، إنها ذهبت مع زوجها ليونارد وولف بعدما حصد الموت فجأة صديقهما المشترك «لايتون استراشي» من أجل مواساة حبيبته دورا كارينجتون التي بدت غير مصدقةٍ حتى اللحظة فقدان حبيبها. تقول وولف «كم بدت خائفةً! بدت كطفلٍ يخشى أن يُخطئ كيلا يطوله العقاب. وحين هممنا بالانصراف رافقتنا دورا إلى الطابق السفلي حتى باب المنزل، قبَّلتني مراتٍ عديدةً. قلت لها: تأتين لزيارتنا إذن في الأسبوع المقبل؟ قالت: نعم سآتي، وربما لن آتي. ثم قبلتني مرةً أخرى قائلةً: «وداعًا.» ثم دلفتْ إلى الداخل. التفتُّ لألوِّح لها، فوجدتها تقف هناك تشخصُ فينا. لوَّحت لي أكثر من مرة، ثم اختفت.»
كان ذلك المشهد هو آخر ما عرف الزوجان عن صديقتهما. في اليوم التالي عند الثامنة والنصف أطلقت دورا الرصاص على نفسها من بندقيةِ صيد. ولم يبرح عينَ فرجينيا مشهدُ الوداع المستطيل والتلويح المتكرر، والالتفاتات المتواترة، وشخوص الصديقة الراحلة فيها عند باب البيت، ثم الحدس السيئ الذي باغتها في تلك اللحظة بالذات بأن ثمة نذيرًا في الأفق الوشيك. شبح الموت الذي طفق يدوِّم ويحوِّم في أفق وولف يحصد كلَّ مَن أحبتهم واحدًا إثر واحد حتى إنه لم يُغفل «بينكا»، كلبتها المحبوبة.
(٧) النهاية
وُجِدت بين أوراقها رسالتان تُعلن فيهما عن انتحارها، إحداهما لشقيقتها فينيسا والأخرى لزوجها. الأولى بتاريخ يسبق توقيت الانتحار بعشرة أيام؛ مما يشي بأن محاولةً فاشلةً للانتحارِ قد تمت في ذاك التوقيت، سيما وقد عادت مرةً إلى البيتِ مبتلة الثياب من جولة لها على الأقدام، وفسَّرت الأمر بأنها سقطت في الماء.
في رسالتها الأخيرة لزوجها كتبت وولف:
«أيها الأعز، لديَّ يقينٌ أنني أقترب من الجنون ثانيةً. وأشعر أننا لن نستطيع الصمود أمام تلك الأوقات الرهيبة مجددًا. فلن أُشفى هذه المرة. بدأتُ أسمع الأصوات ولم يعد في وسعي التركيز. لهذا سأفعل الشيء الذي أظنه الأفضل. لقد وهبتَني أعظم سعادةٍ ممكنة. كنتَ دائمًا لي كلَّ ما يمكن أن يكونَه المرء. لا أظن أن ثمة زوجين حصَّلا ما حصلناه من سعادة إلى أن ظهر هذا المرض اللعين. لقد كافحتُ طويلًا ولم يعد لديَّ مزيد من المقاومة. أعرف أنني أفسدتُ حياتَكَ، لكنك في غيابي سيمكنك العمل. وسوف تواصل العمل، أعرف هذا. أنت ترى أنني حتى لا يمكنني كتابة هذه الرسالة على نحوٍ سليم. لم أعد أستطيع القراءة. ما أود أن أقول هو أنني أدينُ لك بكل سعادةٍ مرت في حياتي. لقد كنتَ صبورًا إلى أقصى حد، وطيبًا على نحوٍ لا يُصدَّق. أودُّ أن أقولَ هذا، كل الناس يعلمون هذا. إذا كان ثمة من أنقذني فقد كان أنتَ. كل شيءٍ ضاع مني إلا يقيني بطيبتك. لا أستطيع أن أستمر في إفساد حياتك أكثر.»
(٨) أيام فرجينيا الأخيرة
تقول فرجينيا وولف: «لا حدثَ يحدثُ بالفعل إذا لم يدوَّن.»
وربما تفسِّر تلك العبارة اهتمامَها بتدوين يومياتها التي من خلالها، ومن خلال يوميات زوجها وتقارير الأطباء والأصدقاء، سنحاول أن نرسم شهورها الأخيرة، وما هي الأعراض والأحداث التي سبقت موتها؟ وكم من الزمن لازمها الاكتئاب؟
بعد حوالي أربعين سنة من موتها تكلَّم زوجها ليونارد وولف عن العام الأخير في حياتها وعن حادثة الانتحار تحديدًا في أحد مجلدات سيرته الذاتية. وقد شكك في دوافعه عدد من النقاد المناصرين لحركات التحرر النسائي، لكن يومياته وأنشطته خلال فترة زواجه من فرجينيا بدت دقيقة ولا تفتقر إلى التفاصيل رغم التكثيف وعدم الإسهاب، على عكس ما كانت تفعل فرجينيا في يومياتها.
وبالرغم من إقراره أن تلك الفترة بين التاريخَين السابقَين كانت مشحونةً بالتوتر والضغط على الجميع، سيما في منطقة كجنوب إنجلترا آنذاك، حيث الغارات الجوية وتزايد فرص التهديد بالاجتياح، إلا أنه كتب: «إن فرجينيا كانت سعيدة معظم الوقت، وبدا عقلُها هادئًا أكثرَ من المعتاد.»
في شهرَيْ مايو ويونيو عام ١٩٤٠م، كانا قد تناقشا، آل وولف، فيما بينهما وبين أصدقائهما حول الخطوة التي يجب أن يتخذاها حال الاجتياح النازي. لم يكن لديهما شك حول الكيفية التي يمكن أن يُعامل بها نشطاءُ سياسيون مثلهما؛ مثقف يهودي وزوجته، من قِبل النظام النازي. «اتفقنا أننا حين تحينُ اللحظة سوف نغلق باب الجراج وننتحر بالغاز السام.» في يونيو ١٩٤٠م زودهما «آدريان ستيفن»، شقيق فرجينيا المحلل النفسي، بجرعاتٍ قاتلة من المورفين لتساعدهما على الموت في حال الغزو. كان هذا قرارًا مشتركًا بين الزوجَين وليس من دلالة له على حالة الاكتئاب لديها، ولم يكن نتاجَ فكرٍ ذي ملمحٍ تدميريٍّ انتحاري من جانبها. حتى إنها لم تستخدم المورفين حين قررت إنهاء حياتها.
في فبراير ١٩٤٠م أصيبتْ فرجينيا بالإنفلونزا، وأمضت ثلاثة أسابيع في الفراش. لم يكن قد سُيطر بعدُ على هذا المرض من قِبل الطب في ذلك الزمن، فكان يسبب لها، ضمن أعراضه، صداعًا طويلًا، وربما يخلِّف لونًا من الاضطراب المزاجي إذا لم يعالج جيدًا مع الراحة التامة.
في أوائل عام ١٩٤١م قررت فرجينيا إعادة قراءة كل تراث الأدب الإنجليزي وشرعت بالفعل في تنفيذ مشروعها.
اعتاد ليونارد أن يأخذ موقفًا فوريًّا. قال في يومياته: «لسنواتٍ كنت اعتدت أن أرصد أية علاماتٍ تنبئ بقدوم خطر على عقل فرجينيا، في البداية كانت الأعراض الإنذارية تجيء بطيئةً لكن غير مضللة: الصداع، عدم النوم، فقدان المقدرة على التركيز. كنا تعلَّمنا أن الانهيار يمكن دومًا تجنُّبه إذا ما تقوقعت داخل شرنقة السكون بمجرد أن تعلنَ الأعراضُ عن نفسها. لكن في هذه المرة لم تظهر الأعراض المنذرة.» الانهيار الآخر الذي حدث بغير مقدمات كان الأول في عام ١٩١٥م، وهو انهيارها الأطول والأكثر حدة.
في الأيام التالية شرع ليمان في قراءة المخطوطة: «أول ما لفت انتباهي كان طريقة الكتابة — خط يدها — كانت الحروف غير منمقة ولا ينتظمها السطر، وهو مخالف لكل ما سبق من المخطوطات التي قرأتها لها من قبلُ. كل صفحة كانت زاخرةً بالشطب والتصليحات، فطرأ على بالي أن اليد التي كتبت هذا الكلام قد مسَّها تيارٌ كهربائيٌّ عالي الفولت.»
بعد هذا وصله خطابٌ من فرجينيا تخبره أن الكتابَ سخيفٌ ومبتذلٌ وتافه، ولا ينبغي أن يُطبع، وكانت الرسالةُ مغلفةً برسالةٍ أخرى لليونارد يقول فيها إنها على تخوم الانهيار. كلتا الرسالتَين كُتبت قبل يومٍ واحد من الانتحار. يقول ليمان: «حين وصلتني الرسالتان كان الوقت قد فات، فقد كنت موقنًا من تيار الحزن الذي يسري بقوة تحت الكلمات في روايتها الأخيرة «بين فصول العرض»، الاكتئاب الحاد، الخوف الهائل، برغم الانطباع الأساسي والظاهري في الرواية، الذي كان أشبه بضحكةٍ مدوية وثورة.»
الشاهدُ الآخر كان طبيبتها الخاصة «أوكتافيا ويلبرفورس» وهي من سلالة «وليم ويلبرفورس». وكانت في تلك الآونة تدير مزرعةً لمنتجات الألبان في منطقةٍ قريبة في الجوار، وكانت تمد آل وولف بمؤنٍ من الزبد والقشدة والألبان في تلك الشهور العجاف بسبب الحرب. كانت تزور منزل فرجينيا الريفي بانتظام منذ يناير ١٩٤١م، لكن الزيارة الرسمية بصفتها المهنية كطبيبة لم تبدأ إلا منذ ١٧ مارس. قبل ذلك بثلاثة أيام كانت فرجينيا تناقش إحدى قصصها القصيرة مع د. أوكتافيا وقالت لها إن تلك القصة قد تركتها محبطةً ويائسةً إلى أقصى العمق.
بدأ ليونارد يشدد الاهتمامَ بها منذ ١٧ من مارس. وكانت بارعةً في المداراة وإخفاء المرض. حتى بعد هذا التاريخ كانت تكتب خطاباتٍ مبتهجةً ومتماسكةً وواضحةً لعدد من أصدقائها. ربما كانت تروم إخفاءَ حالة الاكتئاب والأفكار الانتحارية عن زوجها وطبيبتها.
بعض النقاد والمحللين عولوا كثيرًا على الحرب وحال التهديد والخوف من الغزو كأسبابٍ مباشرة لانتحارِها. ليونارد ود. أوكتافيا ويلبرفورس فكَّرا — بعد موتها مباشرةً — أن الحرب الثانية ربما أعادت إلى فرجينيا ذكرى مرضها أثناء الحرب العالمية الأولى، وأن الأحداث الجارية ربما تكون قد حوَّلت عقلها وأفكارها صوب الموت، لكن ليس صوب الانتحار.
قبل موتها بستة أشهر فقط، أي في ٢ أكتوبر ١٩٤٠م، كتبت فرجينيا وولف بنفسها افتتاحية جريدتها، أثناء الغارات الجوية، متخيلةً كيف يمكن للمرء أن يموتَ في إحداها ببساطة، وقالت: «سوف أفكر .. أوه .. كلا، أحتاج عشر سنوات أخرى .. ليس هذه المرة …»
بعدها بستة أشهر في ٢٩ من مارس ١٩٣١م، عادت فرجينيا إلى الموضوع ثانيةً: «لماذا شعرتُ بالانفعال بعد المحفل؟ سيكون أمرًا مثيرًا أن تعتمدي على بصيرتِك الداخلية لتري إلى أي حدٍّ يمكنكِ الكتابة عن حالات العقل المختلفة التي تقودكِ إلى أن تقولي لليونارد حين تعودين إلى البيت: «لو لم تكن أنتَ هناك، لكنتُ قتلتُ نفسي! آهٍ، كم أعاني!»
كان الانتحار هو الحديث دائم الحضور لدى وولف، وكان بوسعها تناوله بهدوء كمادة حديث في أوقات صحتها العقلية، رغم يقينها أن محاولاتها السابقة كان لها ما يبررها وكانت من قبيل الإيثار والغيرية. ولأن فترات صباها ومراهقتها كانت متخمةً بحوادث موت الأبوين والأشقاء، فقد ظل الموت حاضرًا أمامها طيلةَ حياتها. وكان حضور الموتى لديها على نفس قوة حضور الأحياء، إلى درجة أن إحساسَها بالواقع أحيانًا ما كان يتشوش بقوة حضور وحيوية الماضي.
من خلال كل الاعتبارات السالفة، يمكن أن نستخلصَ تشخيصًا دقيقًا لمرضها الأخير. من خلال رسالتها الأخيرة التي تركتها قبيل انتحارها. أكد المحلِّلون النفسيون في تقاريرهم أن التشخيص هو «حالة اكتئاب حاد». هي تقول إنها لم تكن مكتئبةً وحسب، بل ماضية نحو الجنون ثانيةً، وأظهرت لونًا من جَلْد الذات نتيجة إيمانها أنها تفسد حياة زوجها. تملَّكها اليأسُ من أن تستطيع مواجهة هجمة المرض الأخيرة؛ ولذا آمنت أن الحل الوحيد يكمن في إنهاء الحياة. جاء في تقرير ليمان أن تعليقها حول روايتها الأخيرة لم يكن مفهومًا، سيما وقد كانت قبل شهور فخورة وفرِحةً بها. وكانت محاولات إقناعها بجمال الرواية أو بإمكانية الشفاء تبوء بالفشل ولا طائل من ورائها. رفضت فرجينيا في البداية أن تُطلعَ الطبيبة، حين فحصتها في اليوم السابق للحادثة، على الأعراض التي تنتابها، ولم تخبرها أن ثمة خللًا في الأمر. وبعدها أكد الأطباء أن الأعراض جميعها تتطابق مع «الاكتئاب الحاد».
حين كتبت فرجينيا أنها ذاهبة إلى الجنون «ثانية»، كانت صادقة وتكلمت من خلال خبرتها المزمنة مع الانهيار العقلي. حدث لها الانهيار الأول في عمر الثالثة عشرة، والثاني في الثانية والعشرين من عمرها، ثم الثامنة والعشرين، ثم الثلاثين من عمرها. ثم أمضت الفترة بين الواحدة والثلاثين والثالثة والثلاثين (١٩١٣–١٩٣٣م) كاملة، يتناوبها المرض لفتراتٍ طويلة ومتواترة حتى خشي الأطباء من إطباق الجنون التام والدائم عليها. كانت هذه الضربات حادة، وكانت تتطلب أسابيعَ طويلةً من العلاج الطبي والخلود للراحةِ في الفراش. وخلال فترة حياتها التالية كان مزاجها متقلبًا معظم الوقت.
فسَّرَ انتحارُها تلك السمةَ التي صبغت أعمالها من الغموض والتركيب. وأعيد قراءة كتاباتها من جديد على ضوء انتحارها كمحاولةِ استكشافٍ وتحليلٍ للمأساة التي عاشتها وولف.
(٩) رواية «الساعات»
تناولت الرواية آخر يوم في حياة «فرجينيا وولف». لعب المؤلف لعبته الذكية حين استعار تقنية وولف في بنائها الدرامي ووظفها في تشكيل روايته عنها. فتذكَّر القارئُ أسلوبَ وولف اللاسردي اللاتراتبي في معالجة نصوصِها حيث الأحداث تتجاور وخط الزمن أفقي، فيخلو القصُّ من تيمة السَّرد الخطي التقليدي الصاعد الذي تتنامى فيه الأحداثُ مع التصاعد الزمني.
تتناول الرواية «الساعات» الأخيرة في حياة فرجينيا وولف عبر رصد يومٍ واحد في حيواتٍ ثلاث عبر ثلاثة عصور، ومن خلال ثلاث نساء لا تعرف الواحدة منهن الأخرى حيث تفصل فيما بينهن حواجز رأسية/زمانية وحواجز أفقية/جغرافية، وليس من جامعٍ بينهن سوى رواية «مسز دالواي» ووردة صفراء تتكرر في مشاهد عديدة:
لورا: ربة منزل في الزمن اللاحق للحرب العالمية الثانية مباشرة عام ١٩٥١م.
ثم الخيط الرابط بينهما؛ شخصية فرجينيا وولف ذاتها في عام ١٩٢٣م أثناء محاولتها الشروع في كتابة روايتها الأشهر «مسز دالواي».
لقطة المفتتح في الرواية عام ١٩٤١م، وهو العام الذي أنهت وولف فيه حياتَها عن طريقِ إغراق نفسِها في نهر «أووز»، المجاور لمنزلها الريفي ببلدة سُسيكس. رسم المؤلف مشهد الانتحار بالتفصيل، وبعدها يعود بالزمن إلى الوراء ليرصدَ لحظاتٍ حميمة وخاصة في حياة وولف؛ تلك اللحظات التي فيها تُمسك بقلمها لتكتب.
سيمضي السرد في الرواية بالتوازي بين الأزمنة الثلاثة، ليرصد السيدات الثلاث، كلٌّ في عصرها، وحسب ظروف وشروط عصرها.
استعاد الروائي «كننجام» معبودته الأدبية «فرجينيا وولف» للحياة، ناسجًا قصتها في تواشجٍ ذكي مع امرأتَين أكثر معاصرةً (كلاريسا، لورا).
في أحد صباحات لندن الرمادية عام ١٩٢٣م تصحو فرجينيا على حُلمٍ كئيب ومتكرر، سوف يقودها هذا الحلم إلى الشروع في كتابة روايتها الجديدة «مسز دالواي». تبدو حزينةً لأنها انتُزِعت من منزلها الذي تحب في بلوومز بيري، ولا يخفف من حزنها واضطرابها حنوُّ زوجها المحب ليونارد الذي أخذها إلى المنزل الريفي الهادئ؛ علَّها تُشفى من انهيارها العقلي. تجاهد أن تكبحَ عصفَ عقلِها الذاهب نحو الجنون، وتحاول السيطرة على أفكارها لتكتب.
لقطاتٌ سريعةٌ خاطفة لحياتَي هاتين المرأتين وخطٌّ عريض وأساسي يتقاطع معهما يمس حياةَ وولف ذاتها فتتشكلُ شبكةٌ دراميةٌ واحدةٌ تجدلُ حيوات تلك السيدات الثلاث بخيوطٍ تتقاطع مع رواية «مسز دالواي» من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى اشتراكهن في البحث عن «لحظات الوجود» الحقيقية، تلك اللحظات الثمينة التي يحاول فيها المرءُ أن يقبضَ على شيء من التحقق أو يجد مبررًا مقبولًا لحياته. حول ذلك المعنى يقول كننجام في روايته على لسان كلاريسا: «من هدايا الحياة الصغيرة لنا ساعةٌ هنا أو ساعة هناك، حين تحنو الحياةُ فجأة — برغم كل العقبات والتوقعات — لتتفَتحَ طاقة نورٍ وتمنحنا كل الأشياء التي حلُمنا بها طويلًا.»
فيما يتجول كننجام بين النساء الثلاث، عبر انتقالاتٍ ناعمة غير مفتعلة، تلتقط وولف، في نهاية الفصل الأول، قلمَها لتخطَّ جملتها الأولى في الرواية: «قالت السيدةُ دالواي إنها سوف تشتري الورود بنفسِها.»
في بداية الفصل الثاني (نفس لحظة كتابة الجملة السابقة)، تمر عين «لورا» على هذا السطر تحديدًا، فتبدو سيماء الابتهاج على وجهها، ربما لفكرة الورود وربما لكونها موشكة على حال استغراقٍ وشيك مع رواية بقلم فرجينيا وولف التي تعشق كتابتها.
على الجانب الآخر، يصبح يوم كلاريسا (ابنة الزمن الحالي) انعكاسًا مرآويًّا ليوم السيدة دالواي (بطلة رواية وولف وابنة أوائل القرن الماضي)، مع مسحة تحديثية تناسب زمن الألفية الثالثة (وتلك هي اللعبة الخطرة التي لعبها المؤلف من تعديلِ زمنِ رواية وولف وما يستتبعه هذا التعديل الزمني من تغييرات في الأحداث التي أساءت في بعض الأحيان إلى رواية وولف «مسز دالواي» إلى حدٍّ ما من وجهة نظر بعض النقاد)، ولكن يبدو أن المؤلف أرادَ أن يخرجَ من أسرِ زمن وولف ليفتح مجال الإلهام على مصراعيه ويفيد من تقنيات العصر الحديث، وكذا ليخلقَ ثراءً دراميًّا على خط الزمن.
كلاريسا تعلم أن رغبتها القوية في منح صديقها القديم (المصاب بالإيدز في رواية «الساعات» والمصاب بصدمة القذيفة من الحرب العالمية حسب رواية وولف «مسز دالواي») حفلًا رائعًا ومتقنًا كي يرفع من روحه المعنوية أمرٌ سوف يبدو مبتذلًا وغير مقبولٍ بالنسبة للجميع. رغم ذلك فقد كانت موقنة أن ذاك الحفل ضرورة نفسية ووجودية ربما تسد ثغرةً في باب اليأس المشرع على مصراعَيه أمام الشاعر الذي ينتظر نهايته الوشيكة. غير أنه سيرفض حضور الحفل حين تذهب لدعوته قائلًا: «… لكن سيظل عليَّ مواجهة الساعات؛ الساعات التي ستعقب الحفل.» ثم يباغتها ويقفز من الشرفة. ليغدو الانتحار هو الخط الرئيسي في الرواية منذ المشهد الأول.
أحسن المؤلف توظيف تيمات فكر وولف التي تجلَّت في روايتها السيدة دالواي، وكذلك في مقالة «غرفة تخص المرء» ليصنع حبكةً محكمة من التوازيات الزمنية والبشرية.
وبالرغم من محاولة مؤلف الرواية «تمجيد» وولف عبر روايته إلا أن التغييرات التي صاغ خلالها روايتها «مسز دالواي» (من أجل جعلها متسقةً والزمن المعاصر الذي كُتبَت فيه) قد حملت وجهَين، أحدهما إيجابي والآخر سلبي.
ففي حينٍ، فتح المؤلف قوسَ الزمنِ على اتساعه فمنحَ روايته ثراءً تقنيًّا ومعاصرًا لم يكن يتاح له لو أنه احترم زمن الرواية الأصلية لوولف في أوائل القرن الماضي، ومن ثم استفاد من «عصرنة» الشخوص لخلق دراما جدلية نتجت عن التباين الزماني بين نساء من أزمنةٍ مختلفة.
غير أنه على الجانب الآخر أضعف جلال رواية «مسز دالواي» حين غسل عنها زمن الحرب الكونية الأولى بكل ما غلَّف تلك المرحلة من شجن واشتباكات وتداعياتٍ سوسيولوجية وسياسية وانقساماتٍ نفسية لمعاصري ذاك الزمن. وجازف بالاصطدام مع قراء وولف المعاصرين الذين أحبوا رواياتها بكل مفردات ذاك الزمان الجميل (لأن كل ماضٍ هو جميل بالضرورة). كما أن استبدال إصابة الشاعر بالإيذر عوضًا عن إصابته بصدمةٍ عصبية من جراء انفجار قذيفة في الحرب على مقربة منه، يعد إساءةً بالغة لرائعة وولف الروائية (هذا في رأيي على الأقل).
ربما كان من الضروري على قارئ رواية الساعات أن يكون على دراية بأسلوب كتابة وولف الروائية حتى يتسنى له فهم «الساعات» بسهولة، وفحص مفرداتها الجمالية من حيث البناء الدرامي وتوظيف الأحداث. فتلك الرواية هي تجسيد لفلسفة وولف التي صاغتها في إحدى رواياتها على لسان إحدى شخصياتها (غير أنها خانتها في حياتها بانتحارها) حيث تقول: «ليس بوسعك أن تجد السلام الداخلي، بتجنب الحياة.»
القفز فوق سلَّم الزمن والانتقال المباغت بين فصول العرض والتقاطع المشتبك مع الوقت والشخوص هي أهم تقنيات وولف في البناء الروائي، وهي التيمة ذاتها التي لعب عليها المخرج في بناء دراما فيلمه الذي فاز بأوسكار.
يقول الناقد الأدبي «برناديت جاير» من ولاية أرلينجتون: «رواية الساعات تُعد أحد أجمل الروايات المعاصرة التي قرأتها، ومن السهل أن ندرك لماذا حصدت بوليتزر.
ويظهر تميُّز العمل في نجاح المؤلف في تناول الأمر من منظور المرأة، حيث نلمس كيف اخترق دواخل روح هاتين السيدتَين، واستطاع أن يستلهم ويستقرئ كيف كانت تفكر وولف أثناء عملية الكتابة وماهية حوارها الداخلي.»
(١٠) عن: رواية لم تكتب بعد
صدرت للمرة الأولى عام ١٩٢١م ضمن مجموعةٍ قصصية بعنوان «الإثنين أو الثلاثاء».
هذه القصة لا تتبع النسق التقليدي للقصِّ أو السرد المنطقي المتراتب المتعارف عليه في آونة كتابتها. فالكاتبة تحاول أن تَشْرح وتُشرِّح عملية الكتابة ذاتها. فنجد الراوية تتكلم عن رواية تحاول أن تكتبها، لكنها لم تكتبها بعدُ. تصف لنا كيفية تخلُّق الفكرة والحبكة والسرد القصصي ومحاولات الكتابة والإخفاق والتعديل ثم إعادة الكتابة.
ستبني الراوية حبكتها الدرامية من خلال ما تستطيع قراءته من أفكار السيدة التي تجلس قبالتها في عربة بالقطار أثناء رحلة إلى الجنوب الإنجليزي. ستظل طوال الوقت ترقبها خلسة بعد أن أطلقت عليها اسم «ميني مارش». فتبني شخوصًا محتملَة وحبكةً دراميةً لروايةٍ على وشك الكتابة، وتغذي السرد بملاحظاتها حول السيدة بالمشاهدات الواقعية عبر نافذة القطار. وتنجح الراوية في تضفير الواقع بالخيال، والمتعين بالذهني، فإذا مرَّ القطار بمدينة بها بعض البيوت المترامية، تلتقط عينها غرفة النوم العلوية في أحد تلك البيوت، لتنسج خطًّا دراميًّا توشجه في متن القصة المفترضة، وهكذا.
ولذا سنلمس تلك الوثبات المباغتة بين الواقعي والخيالي، بين صوت الراوية الراصد، وصوت الشخوص، في تداخلٍ وتشابك قد يستغلق على القارئ في البدء ريثما يعتاد تلك الآلية مع تقدُّم القراءة.
الارتباكُ في السرد مقصودٌ من الكاتبة، لأنها تقف فوق لحظة الكتابة ذاتها بكل ما يعتورها من انصهار الوعي في اللاوعي، وبكل ما فيها من تردد ومفاضلة واختيار في محاولة لاقتناص الفكرة ثم العدول عنها أو إعادة تحريرها، وهكذا. إضافةً إلى منهج وولف السردي خلال أسلوب التداعي الحر.
وقد حاولتُ أن أنقل ذلك الارتباك بأمانةٍ قدر الإمكان، إلا في الحالات التي ارتأيت فيها أن اختلاف الروح والبنية الصياغية بين اللغتين الإنجليزية والعربية، سوف يسبب إلغازًا وطلسميةً عند المتلقي، في تلك الحالات فقط جانبتُ الأمانةَ قليلًا ومارستُ النزرَ اليسير من «اللصوصية» أو التوضيح الطفيف بقدر ما يخفف حدة الغموض ويخدم عملية التلقي، وفي ذات الوقت لا يستلب من النص الأصلي ولا يضيف إليه.
تنتهج هذه القصة — كما يقول النقاد — أسلوب السرد التجريبي الحداثي، خلال لغةٍ إنجليزيةٍ تقليديةٍ رصينة. وهي عبارة عن مونولوج داخلي مندرج تحت «تيار الوعي» ومتأرجح بين شحذ الخيال الذاتي والرصد الظاهري للواقع الخارجي. وهذا السرد القصصي الذي يتماوج بين التشكيل التخيُّلي وبين الملاحظة الموضوعية، يقود الراوية صوب اكتشافات غير متوقعة سواء عن ذاتها أو عن طبيعة الفن والإبداع وعن كيمياء التشكيل الأدبي.
(١١) الملامح الرئيسية للعمل
-
تفتيت التراتب الزمني الكرونولوجي.
-
التباس وغموض الحبكة القصصية والأحداث.
-
تفعيل الإدراك الحسي، والنقلات المباغتة لعقل المؤلفة.
-
الإخلاص للقيم الجمالية ليوازن بين الأبعاد العديدة للواقعية ومحاولة تضفيرها في كلٍّ متماسكٍ راسخ. وعدم الانشغال بالبناء السردي المحكم والنهايات ذات الحبكة التقليدية، بل ترك النص مفتوحًا غنيًّا بفضاءات تسمح للقارئ بولوجها والتعامل معها وتكملتها.
-
الانشغال بعملية التأليف والإبداع، وكذا العلاقة الخاصة التي تنشأ بين الكاتبة وبين عملها الإبداعي الذي لم يزل في طور التكوين.
-
استجابة المبدع للعالم الخارجي لحظة خلق عالم الرواية.
-
التأكيد على فن الكتابة عوضًا عن محاكاة الواقع الخارجي على نحوٍ فوتوغرافي، والتأكيد على التخييل الإبداعي والواقع الداخلي الذاتي.
-
تشحيذ ملكة التخيل في أقصى صورها في ربطٍ أنيق مع الواقع، أي تضفير الميتافيزيقي مع الفيزيقي، ومثال ذلك الرحلة التي خاضتها الراوية داخل جسد موجريدج، واصفةً لنا تدفق الدم في القلب، وتشابك الضلوع والعمود الفقاري، وتماسك النسيج البشري، (ثم دخول خيط الواقع) حين ترقب تساقطَ قطعِ اللحمِ ودفقات الخمر داخل جوفه (إذ شرع في تناول وجبته)، ثم تجوُّلها عبر جسده حتى تنتهي رحلتها إلى العينَين لتبدأ في مشاهدة العالم من خلالهما.
-
الانشغال بمشكلات القمع: السياسي، النوعي، الجنسي، العاطفي، الروحي، الفكري.
-
التشكيل المعقد للخط الرمزي يصبغ الدلالات ووضوح الحدث بمسحةٍ من عدم الترابط الظاهري، ويكرس التفاصيل الحادة والشخوص الاستبدادية في القصة.
-
تناول مسألة الرغبة الجسدية، وإدراك — أو سوء إدراك — الذات.