رواية لم تُكتَب بعدُ١ (١٩٢١م)
مثلُ هكذا تعبيرٍ تَعِس، كان في ذاتِه كافيًا ليجعل عينَي المرء
تتسللان فوق حافة الجريدة إلى حيث وجه تلك المرأة البائسة
──
وجهها الذي لا يلفتك لولا تلك النظرة التي حملت، إلى حدٍّ بعيد، ملمحًا
من قضاءِ الإنسانِ وقَدَرِه.
الحياة هي ما تراه في عيون الناس؛ الحياة هي ما يتعلمونه ويكتسبونه،
وما اكتسبوه وتعلَّموه بالفعل، وأبدًا، بالرغم من هذا يحاولون إخفاءَه،
ويجتهدون في التوقف عن الوعي ﺑ… بماذا؟ الحياةُ تشبه تلك التي تبدو
لنا.
وجوهٌ خمسةٌ قُبالتي
──
خمسة وجوهٍ ناضجة
──
وتسكنُ المعرفةُ في كل وجهٍ منها. والعجيب، برغم هذا، كم يرغبُ البشرُ
في إخفائها!
سيماءُ التكتُّم كامنةٌ في كل تلك الوجوه: شفاهٌ مغلقة، عيونٌ
تغلِّفُها الظلال، وكل واحدٍ من الشخوص الخمسة يفعل شيئًا من شأنه
إخفاءُ أو إفسادُ معرفتِه.
أحدهم شرعَ في التدخين؛ وآخرُ أخذ يقرأ؛ وثالثٌ راحَ يفتش عن مفرداتٍ
في قاموسِ جَيبٍ؛ بينما راح رابعٌ يحدِّقُ في خريطة شبكةِ مسارِ القطار
المثبتة في إطارٍ قبالته؛ والخامسة
──
أخطرُ ما في الخامسة أنها لم تكن تفعلُ شيئًا على الإطلاق.
إنها تنظرُ صوب الحياة، تنظرُ وحسب. ولكن، آهٍ أيتها المرأة التعسة
سيئةُ الحظ، هيا انضمي إلى اللُّعبة
──
خُذي دورَك الآن، إكرامًا لنا، اشرعي في التخفي!
وكأنما سمعتْني، رفعت المرأةُ بصرَها، تململتْ في مقعدِها قليلًا، ثم
تنهدتْ. بدت كما لو كانت تعتذر، وفي ذات الوقت كأنما تقول لي: «فقط لو
كنتِ تعرفين!»
ثم عادت مجددًا تنظرُ إلى الحياة.
– «لكنني أعرف.»
أجبتُها في صمت، فيما أرنو لصحيفة «التايمز»،
٢ مراعاةً لدواعي اللياقة العامة.
– «أنا أعلمُ الأمرَ كلَّه.»
(السلامُ بين ألمانيا وقوى التحالف تم أمس التبشيرُ به رسميًّا في
باريس ──
انتخاب «السينيور نيتي»، رئيسًا لوزراء إيطاليا
──
تحطُّم قطارِ ركابٍ في «دونكاستر» إثر اصطدامه مع قطار شحن بضائع
…)
– «جميعُنا يعرف
──
صحيفة «التايمز» تعرف
──
لكننا فقط نتظاهرُ بعدم المعرفة.»
مرةً أخرى، تسللتْ عيناي فوق حافة الجريدة. فاختلجتِ المرأةُ،
انتزعتْ ذراعَها على نحوٍ غريب، أرختْه في منتصف ظهرها ثم هزت
رأسها.
من جديد، أطرقتُ برأسي لأُغرقَها في مستودعي الكبير؛ مستودع
الحياة.
«خذْ ما شئتَ»، تابعتُ، «مواليد، وفيات، زواج، نشرةُ أخبار البلاط
الملكي، من عادات الطيور، ليوناردو دافنشي، جريمة قتل في «ساندهيل»،
ارتفاعُ الأجور لمواجهة تكاليف المعيشة … ياااه! خذْ ما شئتَ، «أعدتُها
مرارًا»، كل شيءٍ في «التايمز»! الحياة كلُّها.»
من جديد، وبضجرٍ لا نهائي، أخذَ رأسُها في التحرُّك يمينًا ويسارًا
حتى إذا ما هدَّه التعبُ من جرَّاء الدوران المتسارع، سكنَ من جديد فوق
عنقها.
لم تعد «التايمز» تمثل حائطَ حمايةٍ لي أمامَ مثل هكذا حزن في
عينَيها، سوى أن الأشخاصَ الآخرين قد حالوا دون تواصلنا.
أفضلُ ما يمكنُ اتخاذه ضد الحياة هو أن تطوي الصحيفةَ مرارًا حتى
تحصل على مربعٍ سميكٍ منتظم الأضلاع؛ مربع مُصمَت وغيرِ مُنفِذٍ حتى
للحياة.
هذا بالضبط ما فعلت، ثم رنوتُ إلى أعلى مسرعةً، متسلحةً بالدرعِ
الواقي الذي صنعتُه توًّا من الجريدة، غير أنها اخترقتْ حائطَ دفاعي
وحدقت مباشرةً، وعلى نحوٍ ثابتٍ، في عيني َّكأنما تنقِّبُ في أغوارِهما
عن أثرٍ من شجاعةٍ، لتحيلَها ضَعفًا وصلصالًا رطبًا.
سوى أن اختلاجتَها، وحدها، أفسدتْ كل شيء، وأَدَتْ كل أملٍ، وحسمتْ
كل خيال.
وهكذا كنا نتهادى بالقطار خلال «سيرلي» وعبر حدود «سُسيكس».
٣ غير أني، بعينيَّ الشاخصتين صوب الحياة، لم ألحظ المسافرين
الآخرين وقد غادروا القطار واحدًا فواحدًا، حتى غدونا — باستثناء الرجل
الذي يقرأ — وحيدتَين معًا.
ها هي محطة «الجسور الثلاثة»، بدأ القطار يزحفُ بنا ببطءٍ حتى رصيف
المغادرة، ثم توقف.
تُرى هل سيغادرُنا الرجل؟ في الحقيقة لم أكن واثقةً من رغبتي، دعوتُ
الله على الاحتمالَين، غير أني في الأخير تمنيتُ أن يبقى. في تلك
اللحظة تحديدًا، انتبه الرجل، انتفضَ، كرمشَ جريدته وألقاها باستخفافٍ
كما يتخلَّصُ المرءُ من شيءٍ انتهى منه ولم يعد في حاجة إليه، ثم اندفع
بعنفٍ نحو باب القطار، تركنا وحيدتَين.
بعد انحناءةٍ طفيفة إلى الأمام وعلى نحوٍ فاترٍ لا لون له، بدأتِ
المرأةُ الحزينةُ تتجاذبُ معي أطرافَ الحديث
──
تكلمتْ عن محطاتِ القطار وعن العطلاتِ، عن الأشقاء في «إيستبورن»، وعن
ذلك الوقت من العام الذي هو فصل اﻟ… نسيتُ الآن، شتاء أم خريف. لكنها
في النهاية نظرتْ من النافذة، وراحتْ تتأمل — أنا على ثقةٍ — الحياةَ
وحسب.
أخذتْ شهيقًا ثم قالت: «البقاءُ بعيدًا
──
تلك هي الخسارة.»
آه ها نحن نصلُ إلى بؤرة الفاجعة.
– «زوجة أخي.» قالتها بينما المرارةُ في نبرتِها تشبه سقوط قطراتِ
ليمونٍ على سطحٍ من الحديد البارد، وكأنها تتحدث
── لا
معي ── بل
مع نفسها، تمتمتْ: «هُراء!» كأنما أرادتْ أن تقول: «هذا ما يردده
الجميع دومًا.»
فيما تتكلم، كانت تتململُ في جِلستها على نحوٍ عصبي كأن بشرةَ ظهرِها
كما لدجاجةٍ منزوعةِ الريشِ في نافذة عرض محل لبيع الطيور.
– «ياااه، تلك البقرة!»
توقفتْ عن الكلام بغتةً على نحوٍ عصبي، وكأن البقرةَ الخشبيةَ
الضخمةَ، في المرجِ الأخضرِ الذي مررنا به، قد صدمتها وأنقذتها من
ارتكاب حماقةٍ ما.
عندئذٍ ارتعدتْ، ثم تلوَّتْ بحركةٍ زاويةٍ شاذة، كما لم أرَ من قبلُ
طيلة حياتي، وكأنما نوبة تقلصٍ حادة قد تسببتْ في التهابٍ وحكةٍ في
بقعة الجلد فيما بين كتفيها.
بعدها، عادت من جديد لتبدو كأكثر نساء الوجود شقاءً وحزنًا؛ ومن ثم
أيضًا، بدأتُ من جديد ألومُها وأستنكرُ عليها ذلك، لكن ليس بذات اليقين
السابق، لأنه لو كان ثمةَ سببٌ، ولو علمتُ أنا هذا السبب، إذن لاختفت
وصماتُ العار من الحياة.
قلتُ لها: «زوجاتُ الإخوة.»
زمَّت شفتَيها وأمالتهما، كأنها ستبصقُ سُمًّا في وجه الكلمة؛ لكنهما
بقيتا مزمَّمتين. كل ما فعلته أن أخرجتْ قفازَها وراحتْ تفركُ بشدة
بقعةً على زجاج نافذة القطار.
كانت تحكُّ كأنما لتمحوَ شيئًا من الوجود وإلى الأبد
──
وصمةً ما، تلوثًا لا ينمحي.
في الواقع، ظلتِ البقعةُ راسخةً رغم جهودِها، ومن جديد غاصتِ المرأةُ
في رِعدتِها وفي اشتباك ذراعَيها، تمامًا كما توقعتُ أنا أن
تفعل.
شيءٌ ما دفعني أن أُخرجَ قُفازي وأشرعَ في حك نافذتي. كانت هناك
بقعةٌ صغيرة على الزجاج أيضًا. بقيتْ، رغم كل محاولاتي،
مكانَها.
عندئذٍ، تسربتْ إليَّ حالةُ التقلص ذاتُها، لويتُ ذراعي وشبكته خلف
ظهري. وشعرتُ بأن بشرتي أيضًا كما لدجاجة مبتلَّةٍ في نافذة عرض محل
لبيع الطيور؛ ثمة بقعةٌ في الجلد بين الكتفين بدأتْ تلتهبُ
وتستحِكُّني، أشعرُ بها لزجةً، أشعرُ بها فجةً. هل يمكنني الوصولُ
إليها؟
حاولتُ ذلك خلسةً، لكن المرأةَ لمحتني. وألقتْ في وجهي ابتسامةً
تحملُ سخريةً لا نهائية، وحَزَنًا لا نهائيًّا؛ ابتسامةٌ سرعان ما
تلاشت من وجهها واحتوتها الظلال.
لكنها تواصلتْ معي على كل حال، قاسمتْ أحدًا سرَّها أخيرًا، وبعد أن
سربت سُمَّها، لم تكن لتقول المزيد.
وبينما أتكئُ للوراء في رُكني الخاص، حاجبة عينَيَّ عن عينيها، وفيما
أنظر إلى المنحدرات والتجاويف وحسب، الرماديات والأرجوانيات ومناظر
الشتاء الطبيعة، قرأتُ رسالتَها، حللتُ شفرةَ سرِّها ورموزَه، قرأتُ
الرسالةَ الخبيئةَ تحت نظرتها المحدقة.
«هيلدا»، زوجةُ الأخ. هيلدا؟ هيلدا؟ هيلدا مارش
──
السيدةُ الناضرةُ، ذات النهدين العامرَين، المرأةُ رفيعةُ المقامِ. تقف
هيلدا عند باب البيت بيدها عملةٌ فضية بينما سيارة التاكسي على وشك
التوقف.
– «ها هي ميني البائسة، أكثر فقرًا من جندب، أكثر تعاسةً من أي وقت
مضى ──
بعباءتها القديمة ذاتِها التي جاءت بها العام الماضي. حسنًا، حسنًا مع
وجود أطفال، هذه الأيام، لا يستطيع المرءُ أن يفعل أكثر. لا يا ميني،
أنا سأدفع، ها هي الأجرة أيها السائق
── لن
تُجْدي أساليبك معي، تعالي يا ميني. أوه، يمكنُني حملك، ضعي عنكِ
سلَّتَكِ!»
وهكذا تدخلان إلى غرفة الطعام.
– «العمة ميني يا أولاد.»
ببطءٍ تبدأ السكاكينُ والشوكُ في الهبوط على الطاولة. يُنكسان
رأسيهما (بوب وباربرا)، يُعرضان عن المصافحةِ بجفاءٍ؛ ثم يعودان ثانيةً
إلى طعامِهما، يسترقان النظرَ بين فترات امتلاء الفم، ثم يعاودان المضغ
من جديد.
[لكننا سوف نقفز فوق هذا، لنحذفْ هذا؛ الديكورات، الستائر، الصحن
الصيني ذا الورود ثلاثية الأوراق، مكعبات الجبن الأصفر المستطيلة،
ومربعات البسكويت البيضاء
──
نعم، لنهملْ كل هذا، ولكن انتظروا! في منتصف وجبة الغداء، تحدث إحدى
تلك الارتجافات؛ يحدِّق «بوب» في وجهِها، والملعقةُ في فمِه.
– «أكملْ طبقَ البودينج يا بوب!»
لكن هيلدا استنكرت هذا.
«لماذا لا بد أن ترتعش دائمًا هكذا؟» لنحذفْ هذا، نحذفْ، حتى نصلَ
إلى بسطة الطابق العلوي؛ الدرابزين النُّحاسي للسُّلَّم، مشمع الأرضية
الممزق؛ أوه نعم! ثمة غرفة نومٍ صغيرة تُطل من بين أسطح بنايات
«إيستبورن» ──
الأسطح المتعرجة مثل العمود الفقاري ليرقات الفراشات، هذا الاتجاه،
وذاك الاتجاه، مقلمةً بشرائحَ حمراءَ وصفراء، مع ألواحٍ من الأزرق
الغامق].
والآن يا ميني، الباب مغلق، هيلدا تنزلُ بتثاقلٍ إلى البدروم؛ وأنت
تفكِّين الشرائطَ عن سلَّتك، تضعين على سريرك قميصَ نوم هزيلًا، وإلى
جانب بعضهما، تضعين فردتَيْ خُفٍّ مبطَّنٍ بلبَّاد الفراء. أما المرآةُ
──
لا، أنت تتجنبين المرايا.
بَعض الترتيبِ المدروس لدبابيسِ القبعةِ. الصندوق الصغيرُ المصنوعُ
من محار البحر، ربما بداخله شيءٌ؟ ها أنتِ تهزينه؛ إنه زرارُ القميصِ،
المصنوعُ من اللؤلؤ، الزرار الذي كان داخل الصندوق قبل عام
──
هذا كل ما هنالك. ثم هناك الزفرةُ، التنهيدة، ثم الجلوس إلى
النافذة.
الثالثة من مساء أحد أيام ديسمبر؛ السماء تمطر رذاذًا خفيفًا؛ ضوءٌ
يأتي من الأسفل من نافذة سقيفة محل بيع الأقمشة، وآخر من الأعلى يأتي
من غرفةِ نومِ الخادمة
──
هذا الضوء انطفأ. فلم تجدِ المرأةُ شيئًا تنظرُ إليه.
خواءُ اللحظة ──
والآن، في أي شيء تفكرين؟
(دعوني أختلس النظرَ إليها؛ إنها نائمةٌ أو تتظاهر بأنها نائمة؛ إذن،
تُرى فيمَ يمكن أن تفكرَ في الثالثة ظهرًا أثناء الجلوس جوار نافذةِ
قطارٍ؟ الصِّحة، المال، الفواتير، أم تفكر في الله؟)
أجل، ميني مارش تصلي لربها، وهي تجلسُ على هذه الحافة من المقعد
وتنظرُ صوب أسطح أبنيةِ «إيستبورن». هذا مناسبٌ جدًّا؛ ولعلها نظفتِ
الزجاجَ أيضًا، لترى اللهَ على نحوٍ أفضل.
لكن، أي رب تَرى؟ من هو إله ميني مارش؟ إله الشوارع الخلفية ﻟ
«إيستبورن»، إله الساعة الثالثة من بعد الظهر؟
أنا أيضًا أنظر إلى أسطح الأبنية، أنظر إلى السماء؛ لكن، آهٍ يا
عزيزتي
── يا
لرؤية الآلهة! لا بد أن ربها يشبه الرئيس كروجر
٤ أكثر مما يشبه الأمير ألبرت
٥──
هذا أكثر ما يمكنني منحه؛ أراه يجلسُ فوق كرسي في عباءةٍ سوداء، ليس في
مكانٍ بالغ العلو؛ ربما يمكنني أن أدبر له غيمةً أو غيمتَين كي يجلس
فوقهما؛ بعدها ستتدلى يدُه بهدوءٍ من الغيْمة قابضةً على عصًا،
الصولجان، أليس كذلك؟
──
سوداء، غليظة، ومليئة بالأشواك.
عجوزٌ شرسٌ وطاغية
──
إله ميني مارش! أتراه هو الذي أرسل الحَكَّةَ والبقعةَ والرعشة؟ أمِن
أجل ذلك كانت تصلي وتدعوه؟ إذن، الشيءُ الذي حاولتْ محوَه من فوق زجاج
النافذة كان بقعةً من الخطيئة! أوه، ميني مارش إذن ارتكبتْ جريمةً
ما!
لديَّ اختياراتي الخاصة فيما يخص الجرائم. الغابات تتحرك سريعًا
وتطير ── في
الصيف تنمو عُشبةُ «الجريس» البرية ذات الأزهار الزرقاء؛ في تلك
البدايات، مع قدوم الربيع، تنبتُ زهرةُ الربيع. أرحيلٌ ما؟ أشيءٌ من
هذا؟ منذ عشرين عامًا مثلًا؟ هل ثمة عهودٌ أُخلِفَت؟ لا، ليس من جانب
ميني! هي كانت مخلصةً دائمًا. انظروا كيف كانت ترعى أمَّها
وتُمَرِّضُها! كم أنفقتْ من مالٍ لبناء الضريح
──
أكاليلُ الزهر تحت الغطاء الزجاجي
──
زهور النرجس البري في الأصص.
لكنني خرجتُ عن الموضوع.
جريمةٌ … ربما يقولون إنها أبقت على حزنها، طمست سرَّها
──
قمعتْ أنوثتَها، هكذا سيقول
──
رجالُ العلم. ولكن، أي هراءٍ حين آسِرُها وأختصرُها في قفصِ الغريزة!
لا ──
الأمر أبعدُ من ذلك.
فيما تتجولُ عبر شوارع «كرويدون» قبل عشرين سنة، كانت العُقدُ
بنفسجيةُ اللون، في شرائطِ الستائر المخملية على فاترينة محلات بيع
القماش التي تتلألأ تحت أضواء المصابيح الكهربائية، تخطفُ بصرَها.
تتلكأُ ──
إلى ما بعد الساعة السادسة. لكنْ، مع هذا، ما زال بوسعها الوصولُ إلى
البيتِ إذا ما ركضت. وهكذا، تندفعُ عبر الباب المروحي المصنوع من
الزجاج.
وقت التصفيات السنوي، ثمة صَوانٍ مسطحةٌ ممتلئة حتى الحافة بالشرائط،
تتوقفُ، تجذب هذه، تعبثُ أصابعُها في تلك التي تعلوها زهورٌ متفتحة
── لا
حاجة للانتقاء، لا حاجةَ للشراء، فكل صينية تحمل مفاجآتها
ودهشتها.
– «لا نغلقُ قبل السابعة.»
وجاءت السابعة.
تركضُ، تندفعُ مسرعةً صوب البيت، وصلتْ، لكن متأخرةً جدًّا.
الجيران ──
الطبيب ──
الشقيق الرضيع ──
غلاية الشاي ──
احتراق الجسم بالماء المغلي
──
المستشفى ──
الموت ── أو
مجرد الصدمة من فكرته، اللوم والتوبيخ؟
أجل، لكن التفاصيل لا تهم! الأهم هو ما تحملُه بداخلِها، البقعة،
الجريمة، الفعلة التي تستوجب التكفير عنها، إنها هناك دائمًا، بين
الكتفَين.
– «نعم!» يبدو أنها تومئ إليَّ، «إنها الفعلة التي
ارتكبتُها.»
سواء ارتكبتِ خطيئةً أم لا، وأيًّا كان ما فعلتِ، أنا لا أعبأُ بهذا،
ليس هذا ما أريد.
الفاترينة الزجاجية لمحالِّ بيع الأقمشة، ذات الفيونكات والشرائط
البنفسجية
──
نعم، هذا الموضوع سوف يفيد،
٦ أمرٌ تافه بعض الشيء، فكرةٌ مطروقة ومألوفة
──
طالما المرءُ بوسعه الاختيار بين الجرائم، سوف يكون هناك العديدُ جدًّا
من الاختيارات.
(دعوني أختلس النظرَ ثانيةً
── ما
زالتْ نائمة، أو تتظاهر بأنها نائمة! بيضاءُ، مُتْعبَةٌ مُستهلَكةٌ،
الفمُ مُغلَقٌ ──
بوجهها مسحةٌ من العناد والاستعصاء على المعالجة، ربما أكثر مما يظن
المرء ── لا
ملمحَ واضحًا أو إشارة للغريزة)
──
ثمة جرائمُ عديدةٌ لا تناسبك؛ جريمتُك متواضعة؛ بينما القصاصُ جليلٌ
ومهيب؛ لأن بابَ الكنيسةِ يُفتَح الآن، المقعدُ الخشبي الصلب
يستقبلُها؛ تركعُ فوق البلاط البني؛ كل يومٍ، في الشتاء، في الصيف، في
الغسق، في الفجر، (هي الآن في هذه الحال) تُصلي.
كل آثامها تسقطُ، تسقطُ، إلى الأبد تسقط.
البقعةُ سوف تمتصُّ الآثامَ جميعًا. إنها تتفاقم، يحمرُّ لونها،
تحترق. بعد هذا سوف تَخِز المرأةَ فتختلجُ وتتشنج من فرط الألم.
الأولاد الصغار بدءوا يظهرون. «بوب موجود على الغداء اليوم»
──
غير أن النساءَ المُسنات هن الأسوأ.
في الواقع ليس بوسعِك الصلاةُ والدعاءُ الآن أكثر من ذلك. لأن كروجر
غاصَ تحت الغمام
──
ذابَ وانمحى كأنما بريشة رسامٍ مضمخةٍ باللون الرمادي السائل، بعد أن
أضاف إليها مسحةً من الأسود
──
حتى طرف الصولجان اختفى كذلك. هذا يحدث دائمًا! بمجرد أن تشاهديه،
٧ تشعرين بوجوده، سرعان ما يأتي من يقاطعكما ويفسد الوصل.
إنها هيلدا الآن.
كم أنت تكرهينها! إنها حتى تغلقُ بابَ الحمام بالمفتاح طوال الليل
أيضًا، مع أنه الماء البارد وحسب ما تحتاجين إليه، أحيانًا يبدو
الاغتسالُ مفيدًا حين يسوء الطقسُ في الليل. ثم «جون» على الإفطار
──
الأطفال
──
الوجبات شديدة الرداءة، وأحيانًا يتواجد أصدقاء
──
نباتاتُ السرخس جميعها لا تستطيع إخفاءهم
── هم
يخمنون ويتخيلون أيضًا؛ لهذا تخرجين إلى حيث الواجهة المائية الأمامية،
٨ حيث الموجات رمادية اللون، وحيث الصحف تتطاير، وحيث المخبأ
الزجاجي مفعمٌ بالحياة ومُنفِذٌ للهواء البارد، في هذا المكان يكلفكُ
المقعدُ بنسين
٩──
مكلفٌ جدًّا
──
لأنه يلزم وجود وعاظ على طول الضفة الرملية.
آه، إنه زنجيٌّ
── يا
له من رجلٍ مضحك!
──
هذا الرجل الذي يحمل الببغاوات
── يا
للكائنات الصغيرة المسكينة!
أما من أحدٍ هنا يفكر في الرب؟
──
هناك، فوق الجسر البعيد، يمسك عصاه
──
لكن لا ── لا
شيءَ هناك سوى الرمادي في السماء، أو، لو كانت السماءُ زرقاء، لولا تلك
الغيوم البيضاء التي تخفيه وراءها، ثم هذه الموسيقى
──
إنها موسيقى الشرطة العسكرية
──
وعم يبحثون؟ هل يمسكون بهم؟ كم يحملق الأطفال! حسنًا، إذن العودة إلى
المنزل عبر الطرق الخلفية.
– «العودة إلى المنزل عبر الطرق الخلفية!»
لهذه الكلمات معنًى؛ ربما نطقها رجلٌ عجوزٌ له لحيةٌ وشارب
──
لا، لا، لم يتكلم في الحقيقة؛ سوى أن لكل شيء معنًى
──
الإعلاناتُ المتكئةُ على بواباتِ البنايات
──
الأسماءُ فوق فتارين المحالِّ
──
الثمارُ الحمراءُ في السِّلال
──
رءوسُ النساءِ في محالِّ الكوافير
──
كلها تقول: «ميني مارش!»
لكن، هناك ارتجافةٌ أخرى.
هذا ما يحدث دائمًا! كنت أفكر بها فوق شلالات المياه، نحو الجنون
مباشرةً، عندئذٍ، فجأةً مثل قطيعٍ من أغنام الحُلم، استدارتْ هي نحو
الجهة الأخرى، وانزلقت بين أصابعي.
البيضُ هو الأرخص. مربوطةٌ بحبالٍ عند شواطئ العالم، لا جريمةَ من
الجرائم، أحزان، تطرف، جنون المسكينة ميني مارش؛ ثمة وقتٌ دائمًا
لتناول الوجبات السريعة؛ لن تراها في جوٍّ عاصفٍ بغير معطف مطر، هي لا
تعدمُ الوعيَ كلية برخص البيض. ولهذا، ستصلُ إلى البيت
──
وسوف تكشطُ حذاءها الطويل من الوحل.
هل قرأتُكِ على نحوٍ صحيح؟
لكنه الوجهُ البشريُّ
──
الوجهُ البشري فوق الحافة العليا لصفحة الصحيفة المحتشدة يحمل أكثر، ما
زال يخبئُ أكثر …
الآن، فُتِحَتِ العينان، تنظران بحذرٍ؛ وفي داخل العين البشرية ثمة
──
كيف يمكن أن نسمي هذا الشيء؟
──
ثمة انكسار ──
انقسام ──
لكنك حين تقبضُ على ساق النبتة، إذا بالفراشة تختفي
──
الفراشة التي تتشبثُ في المساء بأعلى الزهرة الصفراء
──
تحركي، ارفعي يدَك، بعيدًا، عاليًا، بعيدًا جدًّا.
لن أرفع يدي. تشبثي ساكنةً، ثمَّ، ارتجفي، يا حياة … يا روح … يا نفس
… يا أيًّا ما يكون من ميني مارش
──
أنا، أيضًا فوق زهرتي
──
والصقرُ فوق الزغب
──
وحيدًا، وإلا ما جدوى الحياة إذن؟
من أجل أن تعلو؛ تشبثْ ساكنًا في المساء، في منتصف النهار؛ تعلَّق
ساكنًا فوق المنحدر. رجفةُ اليدِ
──
ستختفي، في الأعلى! ثم تتزنُ من جديد. وحيدًا، غيرَ مرئي؛ تشاهدُ كل
الأشياء الساكنة هناك في الأسفل، كل شيء يبدو فاتنًا. لا أحدَ يرى، لا
أحدَ يهتم. عيون الآخرين هي سجونُنا؛ أفكارُهم هي أقفاصُنا. الهواءُ في
الأعلى، الهواءُ في الأسفل. القمرُ والخلود … أوه، لكنني أسقطُ في
الحَلبة! هل تسقطين أيضًا؟ أنتِ يا من تقبعين في الركن، ما اسمك؟
──
امرأة ──
«ميني مارش»؛ ألم يكن شيئًا شبيهًا بهذا؟
إنها هناك، ملتصقةٌ ببرعمِ زهرتِها؛ تفتحُ حقيبةَ يدِها، تُخْرِجُ
قوقعةً مُجوفة
──
بيضة
──
مَن الذي كان يقول إن البيضَ هو الأرخص؟ أنتِ؟ أم أنا؟ إنه أنتِ من
قالها في طريق العودة إلى البيت، هل تتذكرين؟ حينما فتحَ السيدُ العجوز
مِظَلَّته فجأة
── أو
ربما كان يعطس، أليس كذلك؟ على أية حال، «كروجر» قد رحل، وأنتِ عدتِ
«إلى المنزل من الطريق الخلفي»، وكشطتِ حذاءكِ الطويل. أجل. والآن
تبسطين فوق ركبتيكِ مِنديلًا ورقيًّا لتُسقطي فيه كسراتٍ صغيرةً مضلعةً
حادةَ الزوايا من قشرة البيضة
──
كسراتُ خريطة
── أُحجية،
١١ كم أتمنى لو أمكنني تجميع الكسرات سويًّا! فقط لو تجلسين
ساكنة.
حركتْ ركبتيها
──
فتشظَّتِ الخريطةُ إلى أجزاءٍ من جديد. لأسفل منحدرات جبل الأنديز
١٢ تندفع كتل الرخام الأبيض ضاغطةً عنيفة، ساحقةً، حتى الموت،
حشود من كتائب البغال الإسبانية، بقوافلها ومواكبها
── «دريك»
١٣ يجمعُ الغنائم، ذهبًا وفضةً.
لكن لنعدْ.
إلى أي نقطة نعود، إلى أين؟ هي فتحتِ الباب، تعلِّقُ مِظلَّتها على
الحامل ──
هذا غني عن القول؛ هكذا، أيضًا، نفحةٌ من رائحة لحمٍ بقري تأتي من
البدروم؛ قطرةٌ، قطرةٌ، قطرة. لكن الشيءَ الذي لا يمكنني الخلاص منه،
الشيء الذي يجب عليَّ أن أتجاوزه، هو رأسٌ منكَّس، وعينان مغمضتان،
تمتلكان جسارةَ كتيبة، وعماءَ ثور، هجومٌ ثم انفراطُ العقد في الهواء،
هي، بغير شك، تلك الشخوص المختبئة خلف نبات السرخس، وكل هؤلاء
الرحَّالة من التجار.
هناك، كنتُ أخفيتهم طوال هذا الوقت على أمل أن يتلاشوا بطريقة أو
بأخرى، أو الأفضل أن يظلوا ينبثقون، لأنهم في الواقع يجب أن يفعلوا
ذلك، إذا ما كانت الرواية ستمضي في طريق الجمع بين الثراء والتخمة، بين
القدر والمأساة، كما تفعل الروايات عادةً، حين تتناول أحداثُها اثنين،
إن لم يكونوا ثلاثة، من الرحالة التجار، وبستانًا كاملًا من النباتات
والدريقات. «سعف النخيل وأوراقُ تلك النباتات لا تخفي إلا جزءًا صغيرًا
من التاجر المسافر وحسب
──»
نباتات الخلنج كان بوسعها إخفاؤه كليةً، وعلى سبيل المساومة، أعطني
رميتَي الحمراء والبيضاء، التي من أجلها كافحتُ وتضورتُ جوعًا؛ لكنها
الخلنجيات في مدينة «إيستبورن» — في ديسمبر — فوق طاولة عائلة «مارش»
──
كلا، كلا، لن أجرؤ؛ كل الأمر عبارة عن كسرات خبز وآنية ملحٍ للسفرة
وكشكشات في غطاء المائدة ونباتات سرخس. ربما بعد برهة سيكون لنا وقتٌ
بمحاذاة البحر. علاوة على ذلك، فأنا أشعر، من جراء تلك الوخزات اللطيفة
من النقوش والزخارف الخضراء وشظايا الزجاج المتكسر، أشعر برغبة في
التحديق والتلصص على الرجل الجالس في مواجهتي
──
رجلٌ يمتلكُ القدْرَ الذي يمكنني تدبره. «جيمس موجريدج»، هل هو ذلك
الرجل الذي يُطلقُ عليه آل مارش اسم «جيمي»؟
[ميني، يجب أن تعديني ألا تنتفضي أو ترتجفي مجددًا حتى أستقر على
الأمر].
«جيمس موجريدج يسافرُ من أجل المتاجرة في
── هل
نقولُ في الأزرار؟
──
غير أن الوقت لم يحن بعدُ لاستحضار الأزرار في الرواية
──
الكبير منها والصغير فوق الكروت الطويلة، بعضها يشبه عيون الطاووس،
بعضها ذهبيٌّ باهت، بعضها يشبه الحجارة، والبعض مكسو بطلاء الشُّعب
المرجانية
──
لكنني قلتُ إن الوقت لم يحن بعدُ. هو يسافرُ، وفي أيام الخميس، يومه
الذي خصصه ﻟ «إيستبورن»، يتناولُ وجباته مع آل مارش. وجهه الأحمر،
عيناه الصغيرتان الثابتتان
──
كلا، على الإطلاق. الأمورُ على إجمالها تبدو عاديةً
──
شهيته الرهيبة إلى الطعام (هذا مُطَمْئِنٌ؛ لأنه لن ينظر إلى ميني قبل
أن يأتي الخبزُ على مرقةِ اللحم ويجعلها تجف)، فوطةُ السفرة مطويةٌ على
شكل جوهرة
──
ولكن هذا بدائيٌّ، وأيًّا كان الأمر بالنسبة إلى القارئ، فهذا لن يغرر
بي. فلنترك أشياءَ موجريدج جانبًا، دعونا نتحرك. حسنًا، أحذيةُ العائلة
يتم إصلاحُها في أيام الآحاد بواسطة جيمس نفسه. إنه يقرأُ صحيفة «الحقيقة».
١٤ لكن ماذا عن أهوائه؟ الزهور
──
وزوجتُه ممرضةُ المستشفى المتقاعدة
──
شيءٌ مثير
──
بالله عليكِ دعيني أحصل على امرأةٍ واحدة لها اسم يروق لي! لكن لا؛ هي
واحدة من بنات الأفكار، هؤلاء الأطفال الذين لا يولدون إلا في العقل،
١٥ غير شرعيين، وبرغم هذا نحبهم، تمامًا مثل نباتاتي
الخلنجية.»
كم من البشر يموتون في كل رواية كُتِبت
──
البشرُ الأفضلُ والأعزُّ، بينما موجريدج يحيا. تلك خطيئةُ الحياة. ها
هي «ميني» تأكل بيضتَها في هذه اللحظة، قُبالتي وعند النهاية الأخرى من
الخط
── هل
تجاوزنا «لويز»؟
١٦── لا
بد من وجود «جيمي»
──
وإلا فما سبب ارتجافتها؟
لا بد من وجود «موجريدج»
──
خطيئةِ الحياة. الحياةُ تفرضُ قوانينَها؛ الحياةُ تعرقل الطريق؛
الحياةُ هي وراء نبات السرخس؛ الحياة هي الطاغية، أوه، لكنها ليست
مستبدةً على الضعفاء! لا، لأنني أؤكد لكم أني أتيتُ بملء إرادتي؛ جئتُ
بإيعازٍ من السماء التي تعلمُ أي إكراهٍ وراء السراخس والأباريق
الزجاجية، حيث الموائد ملطخةٌ والقواريرُ ملوثة. أتيت
١٧ من دون مقاومةٍ لأغرز نفسي وأغيب في مكانٍ ما في نسيج
اللحم المتماسك، في الشوكة الغليظة للعمود الفقري، حيث سيكون بوسعي أن
أفهمَ أو أجد موطئ قدمٍ داخل الإنسان، داخل روح موجريدج؛ الرجل.
التماسكُ الهائلُ للأنسجة؛ العمودُ الفقري صلدٌ مثل عظامِ الحوت،
مستقيمٌ مثل شجرةِ البلوط؛ بينما الضلوعُ تتفرعُ مثل الأشعة؛ اللحمُ
البشري متوترٌ ومشدودٌ مثل نسيجِ المشمع؛ التجاويفُ الحمراء؛ حركاتُ
القلب الانقباضية من امتصاصٍ وضخٍّ، بينما من أعلى تتساقط قطعُ اللحمِ
في مكعباتٍ بُنية وتتدفق الجعةُ برغْوَتها لتتمخضَ مع الدم من جديد
──
وهكذا نصلُ إلى العينين.
خلف الدريقات تبصرُ العينان شيئًا؛ أسودَ، أبيضَ، شيئًا موحِشًا؛
الآن الصحنُ ثانيةً؛ وراء الدريقات تبصرُ العينان امرأةً متوسطةَ
العمر؛ شقيقةَ «مارش»، هيلدا على شاكلتي أكثر، «الآن، تنظر العينان إلى
شرشف الطاولة.» «مارش بوسعه أن يدرك ماذا أصاب آل موريس …» سنناقش هذا
الأمر لاحقًا؛ جاءَ طبقُ الجبن؛ الصحنُ ثانيةً؛ دعه يدور دائريًّا
──
الأصابعُ الضخمة؛ والآن المرأة الجالسة قبالته.
«شقيقةُ مارش ── لا
تشبه مارش كثيرًا، أنثى بائسةٌ رثة متوسطةُ العمر … يجب أن تطعمي
دجاجاتك … بحق السماء، ما الذي أهاجَ ارتجافاتِها؟ ليس ما قلته أنا؟ هل
أنا السبب كذلك؟ عزيزتي، عزيزتي، عزيزتي! يالتلك النسوة متوسطات العمر!
عزيزتي، عزيزاتي!»
[أجل يا ميني؛ أعلم أنك ارتجفتِ، لكن مهلًا دقيقة
── يا
جيمس موجريدج!]
«عزيزتي، عزيزتي، عزيزتي!» كم يبدو الصوت جميلًا! مثل طرقةِ مطرقةٍ
فوق ضلع لحمٍ مغمورٍ في التوابل، مثل خفقة قلبِ حوتٍ عجوز حينما تحتشد
البِحارُ كثيفةً ضاغطةً عليه، حين تتلبد المروجُ بالغيوم.
«عزيزتي، عزيزتي!» ماذا تفعل نواقيسُ الجنائز للأرواح المضطربة كي
تعزيها وتهدئ من روعها، تحتضنُها في طبقاتِ الكتان، قائلةً: «الوداع،
حظًّا طيبًا!» وبعد ذلك تقول: «أين تكمنُ سعادتُك؟» بالرغم من هذا سوف
يقطف موجريدج زهرته من أجلها، وهذا ما كان، انتهى الأمر.
والآن ما هي الخطوة التالية؟ «سيدتي، سوف يفوتك القطار» فهم لا
يتلكئون.
ذاك هو طريق الرجل؛ ذاك هو الصوت الذي يدوِّي صداه؛ صوت كاتدرائية
القديس «بولس» وصوت الحافلات العمومية ذات المحركات. لكننا نكنس فتات
الخبز بعيدًا. أوه يا موجريدج، ألن تنتظر؟ هل يجب أن تمضي؟ هل ستسافر
إلى إيستبورن هذه الظهيرة في واحدة من تلك العربات الصغيرة؟ هل أنت ذلك
الرجل المحبوس داخل صناديق الكرتون خضراء اللون، والذي، بين حينٍ وآخر،
يسدل ستائرها، وفي أحيانٍ أخرى يجلس على نحوٍ مهيب شاخصًا للأمام مثل
أبي الهول، ودائمًا هناك نظرة تشبه القبور، تشبه شيئًا من أداوت متعهدي
الدفن الذين يجهزون الموتى، التابوت، بينما الغسق يحيط بالحصان
والحوذي؟ أخبرْني
──
لكن الأبوابَ صُفِقَتْ. لن نلتقي أبدًا من جديد. الوداع يا
موجريدج!
أجل، أجل، إني قادمة. تمامًا فوق قمة المنزل. لحظةً واحدة، سوف
أتريثُ برهةً. كم يتجول الوحل في العقل
── كم
من دوامات تتركها تلك الوحوش، المياه تتأرجح، والأعشاب الصغيرة تتماوج،
خضراء هنا، سوداء هناك، تضربُ في الرمال، حتى تتجمع الذرات مجددًا
بالتدريج، ثم تَنخلُ الرواسبُ نفسَها، ومن جديد من خلال العين، يبصر
المرءُ كل شيء صافيًا وساكنًا، وقتئذٍ، تصعد إلى الشفتَين بعضُ الصلوات
والدعوات من أجل الموتى، جنازةٌ للأرواح من تلكم التي يومئُ فيها
المرءُ برأسه لهؤلاء الذين لن يلتقيهم بعد ذلك أبدًا.
جيمس موجريدج أصبح ميِّتًا الآن، رحل إلى الأبد. حسنًا يا
ميني.
– «ليس بوسعي مواجهة الأمر أكثر من ذلك.»
لو كانت قالت ذلك!
(دعوني أنظر إليها. إنها تكنسُ قشر البيض نحو منحدراتٍ
عميقة.)
لقد قالتها بالتأكيد، بينما تميلُ على حائط غرفة النوم، وتقتلعُ تلك
الكراتِ الصغيرةَ التي تزين حواف الستارةِ قرمزيةِ اللون.
غير أن النفس حين تتحدث إلى النفس، مَن يكون المتكلم؟
──
الروحُ المدفونة؟ النفسُ التي أُقصيتْ، وأُزيحت عميقًا، عميقًا، في
عُمقِ السرداب المركزي لكهوف الموتى؟ النفسُ التي اعتمرت الوشاحَ
الحاجبَ وتركتِ العالم
──
نفسٌ جبانةٌ ربما، لكنها جميلةٌ على نحوٍ ما، لأنها تحلق حاملةً
مِشكاتها المنيرة بغير توقفٍ أعلى وأسفل الدهاليز المعتمة.
– «ليس بوسعي تحمُّل المزيد».
هكذا قالت روحُها. «ذاك الرجل على مائدة الغداء
──
هيلدا ──
الأطفال.» أوه، أيتها السماء، هذا نشيجُها! ها هي الروحُ تنتحبُ
مصيرَها، الروح التي طُردَت وأُزيحت على مقربةٍ من هنا، أو هناك
بعيدًا، حتى تستقر فوق السجاجيد الواطئة
──
حيث مواطئ الأقدام الهزيلة
──
والمِزَقُ المنكمشة لكل هذا الكونِ الآخذِ في التلاشي
──
الحبُّ، الحياةُ، الوفاءُ، الزوجُ، الأطفال، لا أعرف تحديدًا أي بهاءٍ
وروعة في لمحات مرحلة الأنوثة المبكرة. «ليس من أجلي
──
ليس من أجلي.»
لكن، حينئذٍ ──
شطائرُ الفطائر، الكلبُ العجوزُ الأجرد؟ الحصيرةُ المزخرفة بالخرزِ
التي يجب أن أتخيلها، ومواساة لفافات الكتان. إذا كانت ميني مارش قد
دُهست وأُخذت إلى المستشفى، لكان سيهتفُ الأطباءُ والممرضاتُ أنفسُهم …
هناك المشهد والرؤية
──
وهناك المسافة بينهما
──
البقعة الزرقاء في نهاية الطريق المشجر، بينما، برغم كل شيء، الشاي
وافرٌ، وشطائرُ الكعك ساخنة، والكلبُ
──
«بيني، عدْ إلى سلتك أيها السيد، وانظر ماذا جلبتْ لك الأم!» وهكذا،
تأخذين القفازَ ذا الإبهام المقطوع، تتحدَّين مرةً أخرى الروح الشريرة
المتلصصة فيما يُعرف بالولوج داخل الثقوب، تجددين التحصينات، تجدلين
الصوفَ الرمادي، تنسجينه للداخل والخارج.
تنسجين للداخل والخارج، من جانبٍ إلى جانبٍ وتعيدين ذلك، تغزلين
الشبكةَ التي من خلالها الله ذاته … صهٍ، لا تفكري في الله! كم هي
الغرز مُحكَمة ومحبوكة! يجب أن تفخري برتقِك ونسيجك. يجب ألا ندع شيئًا
يزعجها. لندعِ الضوء ينسابُ برهافةٍ، ولنجعل الغيمةَ تُظهرُ القميصَ
الداخلي للورقةِ الخضراء الأولى. لندعِ العصفورَ يحط على غصن الشجرة،
ويهز قطرات المطر المعلَّقة على مرفق الغصن … لماذا ترفعُ بصرَها إلى
أعلى؟ هل هناك صوتٌ ما، فكرةٌ ما؟ آه، السماء! مرةً أخرى تعودين للشيء
الذي فعلتِ، الزجاج السميك ذو الفيونكات البنفسجية؟ لكن هليدا سوف
تأتي. الخزي، العار والفضيحة، أوه، أغلقي تلك الثغرة.
بعدما أصلحتْ ميني مارش قفازَها، تلقي به داخل الدُّرج، ثم تغلق
الدرج في حسمٍ. أقتنصُ نظرةً لوجهِها عبر انعكاسه على الزجاج.
١٨ الشفتان مزمومتان. الذقن معلق ومرتفع. بعد ذلك بدأت تعقدُ
رباطَ حذائها، ثم لمست حنجرتَها. على أي شكل دبوس الزينة على صدرك؟
نباتٌ طفيلي أم ترقوةُ طائر؟ وما الذي يحدث؟ إن لم أكن مخطئةً جدًّا،
فإن النبضات تتسارع، اللحظة ستأتي حالًا، الخيوطُ ستتسابق، والطوفانُ
أمامنا. هنا تكمنُ الأزمة! كانت السماءُ في عونِك! تمعن في اكتئابها.
تشجَّعي تشجَّعي! واجهي الأمر، كُونِيه أنتِ، بالله عليكِ لا تنتظري
فوق الحصيرة الآن! ها هو الباب هناك! أنا في جانبك! تكلمي! تصدَّي لها،
اقهري روحَها!
– «أوه، معذرةً! نعم، هذه إيستبورن. سوف أنزل هنا من أجلك. دعيني
أجرب مقبض اليد.»
[لكن يا ميني، برغم استمرارنا في الادعاء والتظاهر، فإنني قرأتك على
نحوٍ صحيح ──
أنا معكِ الآن].
– «هل هذه كل أمتعتك؟»
– «نعم بكل تأكيد، أنا ممتنةٌ جدًّا.»
(لكن لماذا تتلفتين حولكِ هكذا؟ هيلدا لن تأتي إلى المحطة، ولا جون؛
وموجريدج يقود سيارتَه في الجانب البعيد من إيستبورن).
– «سوف أنتظر بجانب حقيبتي يا سيدتي، هذا أكثر أمانًا. قال إنه
سيلتقي بي … أوه، ها هو ذا! هذا هو ابني.»
وهكذا …
يمضيان سويًّا.
حسنًا، ولكنني حائرة … بدون شك، يا ميني أنتِ تعلمين أكثر، شابٌّ
غريب … توقفْ! سوف أخبره
──
ميني! آنسة مارش!
── لا
أعرف برغم هذا. ثمة شيء غريبٌ في عباءتِها فيما يحركها الهواء. أوه،
لكن هذا غير صحيح، غير لائق ولا محتشم … انظروا كيف يتثنى فيما يمضيان
نحو البوابة الرئيسية. لقد وجدت تذكرتَها. يا لها من نكتة! يمضيان
بعيدًا، إلى الأسفل نحو الطريق، جنبًا إلى جنب … حسنًا، إن عالمي في
حالٍ سيئة يصعب الخلاص منها! ما الذي أتكئُ عليه؟ ما الذي أعرفه؟ تلك
ليست ميني. لم يكن هناك موجريدج على الإطلاق. من أنا؟ الحياة عاريةٌ
مثل قطعة عظام.
ولكن تبقى النظرة الأخيرة إليهما
──
بينما هو يخطو نحو الحاجز الحجري وهي تتبعه حول حافة البناية الضخمة،
يملآنني بالحيرة
──
يغرقانني من جديد. شخصان غامضان! أم وابنها. من تكونين؟ لماذا تمشين
نحو الشارع؟ أين ستنامين الليلة، ثم، غدًا؟ أوه، كم تدور وتلتف مثل
دوامة ──
تطفو بي من جديد! سأبدأ في تتبعهما. الناس يقودون السيارات في هذا
الطريق وفي ذاك الطريق. الضوء الأبيض يتقطع وينسكب. النوافذُ ذات
الزجاج السميك. زهورُ القرنفل وزهورُ الأقحوان. نباتُ اللبلاب في
الحدائق المظلمة. عربات الحليب على الأبواب. أينما ذهبتُ، ثمة كائنات
غامضة، أنا أراكما، تنعطفان عند الناصية، أمهاتٌ وأبناء، أنتِ، وأنتَ،
وأنتِ. أُسْرعُ، أتتبعُهم. هذا لا بد هو البحر كما أتخيل، مناظرُ الريف
الطبيعية رماديةُ اللون، معتمةٌ مثل الرماد؛ المياهُ تدمدمُ وتتحرك.
إذا ما سقطتُ على ركبتي، إذا ما مارستُ الطقوسَ الدينية، الألاعيبَ
العتيقة، إنه أنتم، أيتها الكائنات الغامضة غير المعلومة، أنتم من
أتعبَّد فيهم، فإذا فتحتُ ذراعيَّ، فإنه أنتم من أعانق، أنتم الذين
أجذبهم نحوي ──
أيها العالم الجدير بالحب!