حوارٌ لم يتم مع فرجينيا وولف
هذه نخبة من الأسئلة التي وجهها القراءُ المعاصرون من مختلف الأعمار والثقافات للروائية فرجينيا وولف بعد موتها بعقود. أجابَ عنها نخبةٌ من خبراء الصف الأول والمحللين النفسيين والنقاد، اتكاءً على كتابات وولف ورواياتها ورؤاها في الحياة والثقافة والأدب. أسئلةٌ حول منهجها الكتابي وآرائها حول الحياة ووضع المرأة وحياتها الخاصة وانتحارها، وإجاباتٌ متخيَّلة، لم تقلْها وولف، غير أنها متكئةٌ بقوة على أسلوب تعاطيها للأمور.
– كيف كانت الحياة في بريطانيا في أثناء الحرب العالمية؟
– أفترضُ أنك تقصد الحرب الكونية الثانية (١٩٣٩–١٩٤٥م). نعم، بالفعل أتذكرُ الكثير من الأمور عن تلك الفترة. لقد مِت عام ١٩٤١، غير أني أذكر جيدًا السنوات الأولى من الحرب والشهور السابقة التي أرهصتْ لها.
كم كرهتُ هذا التعتيم الأسود! في يومياتي ليوم ٢ فبراير ١٩٤٠م كتبتُ: «إن التعتيمَ الأسودَ أشدُّ إجرامًا من الحرب ذاتها … لم تغب عن خاطري أبدًا لندن في حال السلم، مصابيحُ الليل، حافلاتٌ تزأر فيما تمر عبر ميدان تافي ستوك …»
كنت كثيرًا ما أتشوق لجولاتي المسائية، حيث كان من الخطورة أن يسير أحدٌ في الظلام الدامس. اكتشفتُ وقتها كم أحببتُ مدينتي! وتخيلتُ ما لو سقطتْ قنبلةٌ فوق أحد شوارعها، خاصةً تلك الأزقة الصغيرة ذات الشرفات النحاسية والستائر التي تعبق برائحة النهر، والعجائز وهم يقرءون! بالتأكيد كان إحساسي الوطني يشتعل، بالرغم من كوني أميل للنهج المسالم، وأرفض الحربَ بكل مستوياتها.
كان زوجي متورطًا في العمل السياسي، وكنت على درايةٍ بالكثير من الظروف السياسية التي يمر بها العالم آنذاك، غير أني بدأت أشعر أن التفكير في أسباب الحرب لونٌ من إهدار الوقت.
حينما كنا في منزلنا الريفي، كنتُ أتوقُ إلى السفر إلى المدينة، لكنني عدلتُ عن فكرتي قائلة: «ما المغزى من الذهاب إلى هناك؟ أن نُقتَل بقذيفة؟!»
في مايو ١٩٤٠م كسرَ الألمانُ خط الدفاع الفرنسي، وبدءوا في التوجه صوب القناة. كنتُ مرتعبةً من فكرة الغزو، خاصة وزوجي يهودي الأصل؛ مما يعني أن خطرًا عظيما يحدق بنا.
الصحفُ كانت «صانعةَ أبطال»، بمعنى أنها كانت تعرض صورَ المقاتلين الأبطال بنظراتِهم المنتشية بالنصر، فيما كنتُ أفكر: «إلى أي مدًى نحن جديرون بمثل هؤلاء الرجال؟» كنت أحاول أن أكتبَ روايتي الأخيرة، «بين فصول العرض»، وكان من الصعب جدًّا الشروعُ في الكتابة بينما كل تلك الأحداث تجري.
– هل مقالتا «غرفة تخص المرء»، و«ثلاثة جنيهات» تعكسان رؤاكِ السياسية الخاصة؟
– نعم، الاثنتان تعكسان أفكاري، وقد كُتبتا من أجل أسبابٍ مختلفة، وانطلاقًا من مقارباتٍ فكرية مختلفة.
كتبتُ «غرفة تخص المرء» أساسًا كمحاضرةٍ دُعيتُ لألقيها في جامعة نيونام في كامبريدج، حول المرأة والإبداع. (وعن طريق معجزةٍ ما، بعد ثلاث سنوات من نشر «غرفة تخص المرء»، وجدتُ كل صفحات مقالتي الأصلية عن المرأة والإبداع، لكنني لا أذكر ما إذا كنت بالفعل كتبتُ المحاضرةَ التي ألقيتها، أم فقط كتبتُ مقالةً ترتكز على هذا الموضوع).
بمجرد أن بدأتُ أفكر في عنوان المحور، تملَّكني السخط من جراء غياب صوت النساء المميزات هناك. كان القليل من النوافذ متاحًا للمرأة آنذاك. بالتأكيد كانت نبرةُ المقالات مرحةً بعض الشيء، لكنني كنت جادة فيما يخص المحتوى. إبان كتابتي «ثلاثة جنيهات» كنت حانقة. كنت عنيفةً في كل ما جاء بها. كتبتها في حالٍ من الاعتقاد الغاضب. وكانت ردودُ الفعل فجة حول هذه المقالة: كيو دي ليفيز، الناقدة بجامعة كمبريدج قالت إنني بدوتُ وكأنني واقعةٌ تحت وهم أن النساء ظلت لقرون يقلِّبن القدور بيدٍ ويؤرجحن المهد بالأخرى … (أمرٌ مضحك. كانت ترمي أنني مشوشةُ العقل، وغيرُ ملمةٍ بالواقع).
غير أني حصدتُ خطاباتٍ كثيرةً من نساء متباينات، غير أكاديميات، يعبرن عن امتنانهن حين صادفن مشاعرهن التي أرَّقتهن طويلًا مطبوعةً على الورق. وهذا يعني أن تلك الكتابات قد مسَّتهن عميقًا وعَنَتْ شيئًا لهن.
أجل، كتاباتي عكست أفكاري ورؤاي السياسية والاجتماعية.
– هل كنتِ تعتقدين حقًّا باحتياجك إلى غرفةٍ خاصة من أجل أن تبدعي؟
– أجل، كتبتُ تلك المقالة عن اقتناعٍ تام، بعد شهورٍ قليلة من محاضراتي لطلاب كامبريدج حول المرأة والإبداع.
بالرغم من أنني أتمنى أن تتناولوا هذا العمل بوصفه إبداعًا، لكنه لم يكن كذلك، فقط هي كتابةٌ تعكس أفكاري الخاصة. فكما تعلم، جعلتُ جوهرَ القضية في بداية الكتاب الأولى، أن المرأةَ يجب أن تحصل على مالها الخاص وغرفتها الخاصة إذا ما نيط بها كتابة الإبداع. وصلتُ إلى ذاك اليقين قبل أن أتطرق إلى طبيعة المرأة المبدعة، وطبيعة الإبداع التي ستكتب، وبقية الكتاب دار حول: لماذا أنا على كل هذا اليقين من كون هذين الأمرين من الضرورات ما-قبل-الأولى.
ربما ظروفُ إلقاء المحاضرات في كمبريدج أدت إلى إيماني الذاتي بوجوب حصول المرأة المبدعة على تلك المصادر كي تبدع؛ أعني المال، المكان، الخصوصية.
كلما فكرت في كل تلك الأموال التي أهرقت في المؤسسات الذكورية، وفي الظروف التي يتلقى خلالها الرجالُ الدرسَ في كمبريدج، لا أتمالك نفسي من التفكير في النساء اللواتي ظللن يعملن لقرونٍ طويلة، ومرَّ شقاؤهن سدًى، من دون أن يُلتفت إليه.
كتاباتي أعلنت عن إيماني بوجوب أن يُنظر للمرأة الكاتبة باعتبارها محترفة كتابة لا موضوعًا للكتابة، وأيضًا أشارت كتاباتي إلى ضرورة أن يكون الكاتبُ عمومًا مثقفًا، وعلى علاقةٍ وثيقة بالمكتبات والمراجع.
لو تأملنا هذه الكتابات الآن، ربما نجد أن «غرفة تخص المرء» هي إعلانٌ عن كتابتي؛ فهي مزيجٌ من الخيال المحلِّق في الوهم، ومن إمكانية أن نرى الحياة كرواية، موشاة بقوة بالمعطيات الفكرية والسياسية في ذات الوقت.
– هل تمتعتِ بطفولةٍ سعيدة؟
– تمتعتُ بطفولةٍ نشطة، كما يمكنك أن تستخلص من خلال سيرتي الذاتية التي سيكتبها «هيرميوني ليي» فيما بعدُ.
كان لي سبعةُ إخوة وأخوات: شقيقان، شقيقة، أخوان غير شقيقين، وأختان غير شقيقتين. ولا غرابة إذن أن بدت أمي مشغولةً طوال الوقت.
عشنا في لندن، ولذا اعتدنا أن نؤخذ إلى حدائق كنزنتون لمشاهدة تمثال «بيتر بان»، وقرأنا الكثير من الأعمال مثل «الكنز الذهبي»، بل وأنشأنا صحيفتنا الخاصة. كان اسمها جريدة «بوابة هايدبارك» (ما زلت أحتفظ بها، كنت أنا من كتبَ معظمها). أتذكر حين كنت صغيرةً جدًّا، ألعب أسفل طاولة غرفة الطعام مع شقيقتي فانيسا. كانت تسأل عن أشياء مثل: هل للقطط السوداء ذيول؟ أو تتساءل عما إذا كانت السماء متشابهة في كل مكان.
في الصيف ذهبنا جميعًا إلى سانت أيفز وعشنا في منزلٍ كبير جوار البحر. (كتبتُ عن فصول الصيف تلك في رواية «صوبَ المنارة»). كنا نخرج للعب باصطياد اليعاسيب والفراشات.
قبل موتي بدأت أكتب عن ذكرياتي الأولى، واكتشفت أنني أتذكَّر بوضوح مراحلي الأولى حين كنتُ طفلةً في روضة أطفال سانت أيفز، أصحو مبكرًا في الصباح، أستمع إلى صوت البحر، فيما أفكر أن هذا الصوت هو «المتعة الصافية» التي يمكنني أن أستقبلها.
وهكذا يمكن أن أقول، نعم كانت طفولتي سعيدة! (إلى أن ماتت أمي، ولكن هذه قصةٌ أخرى).
– هل كانت تأتيكِ الأفكار الأجمل للروايات في الريف أم في لندن؟
– كلاهما ألهمني. وجدتُ لندن مفعمةً بالبهجة كما يمكن أن تلمس من «مسز دالواي».
في مقالتي «الشوارع الساحرة»، تكلمت عن شوارع لندن التي أحببت السير فيها شتاءً. تكلمت فيها عن هواء لندن المنعش والنزعة الاجتماعية التي تسود شوارعها. المشي في لندن يشبه المشي على بساطٍ سحري. أُنتجت الكثير من رؤاي هكذا، إيقاعُ السير يضبطني على إيقاع الكتابة.
هناك كتابٌ للكاتبة «جين موركرافت ويلسن» عنوانه: «فرجينيا وولف: حياتها في لندن: سيرة المكان»، وفيه رسمتِ الكاتبةُ خريطةً لجولاتي! ليس فقط جولاتي، بل بعض جولات شخوص رواياتي أيضًا.
زوجي ليونارد كان يعتقد أني أغدو أضعف وأقل مقاومةً للمرض حين أكون في لندن، ولهذا كنا نعود أدراجنا إلى بيتنا الريفي في سُسيكس، بيت الرهبان، الذي دائمًا ما كان هادئًا ومريحًا. كثيرًا ما كتبت هناك في الحديقة حين كنت أرغب في الهروب من ضوضاء لندن وطابعها المثير، كنت أترك نفسي تغرق تمامًا داخل عقلي حتى تأخذ أفكاري في التكوُّن. أفترض أن مفتاح الكتابة يكمن في أن تكون وحيدًا، ولهذا حتى حين أكون في لندن وأفكر في عملي أخرج وحدي في نزهاتٍ خلوية.
– ساعدت كتبُكِ الكثير من مرضى الاكتئاب والقلق العقلي؛ حتى غدوتِ «صوتًا» للبشر ذوي الآلام العظمى. عندما رحلتِ، هل كنتِ تشعرين قبلها أن لا أحدَ هناك يمكنك الحديث معه، أو أن أحدًا لا يفهمك؟
– أنا مندهشة ومسرورة أن كتبي ساعدت البشرَ المكتئبين! لم أفكر مطلقًا أن تكون لكتبي تلك الوظيفة. كان ينتابني القلق بشدة حين أضطر للكتابة عن الاضطرابات العقلية، وأجفل من خوض تلك المسالك.
لم ينتبني القلق في الواقع من عدم وجود أحدٍ أتكلم معه حين فكرت في الموت. لأن انهياراتي النفسيةَ لم تكن وليدةَ حزنٍ أو قلق، لكنه الخوف المروع من مرضٍ لا شفاء منه. شرحتُ الأمرَ لزوجي بوصفه «مرضًا فظيعًا». حين مرضتُ في الماضي كان هناك الكثير من الناس يحاولون المساعدة، لكنني كنت أشعر أن أصواتًا كثيرة غير موجودة تغمرني.
الشيء الذي أحبطني حقًّا هو حين بدا لي أنه لم يعد هناك قراءٌ لأعمالي. كثيرٌ من أصدقائي بدءوا يموتون، وشعرت فجأةً أني أحيا في عالمٍ بلا قراء. كأنه عالمٌ بغير «صدًى». ما جدوى الكتابة في عالم بلا قراء؟ (في واقعكم الآن يمكن أن أرى كم كان القياس خاطئًا بمجرد إلقاء نظرة على حياتي منذ موتي.)
لكنْ لا، لم أشعر حقيقةً أنْ ليس هناك من أكلمه. على العكس: أحسستُ أنني سأدمر حياة هؤلاء القريبين مني إذا ما تركت هذا المرض المروع يصرعني ثانيةً. في الورقة التي تركتُها لزوجي ليونارد قلت له: «أعرف أنني أخرب حياتَك … كل شيء ضاع مني ما عدا اليقين بطيبتك.»
لهذا بوسعي أن أقول إنه كان لديَّ بالفعل كل شيء يمكن الحياة من أجله.
– ما هي الدلالة وراء «اللغة السرية» التي تشاركتِ فيها مع ليونارد؟ ولماذا اتخذت شخصيات الحيوانات؟ هل كانت محاولة لخلق حالة عزلة وخصوصية؟
– أظن أن كل الزوجات والأزواج لديهم «لغةٌ سرية» خاصة بهم، حتى وإن لم يدركوا دائمًا أنهم يتكلمون بها. تتزايد الشفرات والرموز بين الناس، وهم يطورون طرائقهم الفطرية في التواصل فيما بينهم.
حاولت أن أُظهر هذا في رواياتي، وأظن أنني بذلتُ اهتمامًا بذلك في روايتي الأولى «الخروج في رحلةٍ بحرية» حين صورت مدام ومستر آمبرووز فيما يتكلمان سويًّا بمعزل عن الناس، وكذلك راشيل وتيرينس وهما يجتهدان أن يؤسسا شفراتهم الخاصة بينما يتعارفان.
هل تعرف في أي قصةٍ قصيرة حاولت اختبار هذا الأمر بدقة؟ إنها بعنوان «لابين ولابينووفا». كانت كُتبت قبل عام ١٩١٩م، سوى أنها لم تُنشر حتى عام ١٩٣٨م، وهي تحكي الحياة الخيالية السرية التي تعيشها زوجة تزعم أن زوجها أرنبٌ وأنها أرنبة. الزوج أصابه الملل من وطأة الوهم، ثم أوقفه، وكان في هذا نهايةُ الزواج. ما أعنيه أن تلك الشفرات والرموز والأسرار المشتركة تحفظ العلاقات وتساعدها على البقاء. حتى وإن بدت للآخرين شيئًا شاذًّا غريبًا.
ليونارد وأنا احتوانا زواجٌ حميم للغاية، بالرغم من كل الكلمات الخبيثة التي قيلت دائمًا حول برود علاقتنا وفتور مشاعري. ربما قرأت شيئًا عن الإشارات الكثيرة في رسائلي القديمة ومذكراتي حول أسماء حيواناتنا الأليفة والألعاب التي مارسناها مع حيواناتنا. ما زلنا نحتفظ بكل هذا في السنوات الأخيرة. وما زلت أتذكر الضجة التي كان يثيرها القردُ الأمريكي الصغير الخاص بليونارد، وهناك إشارةٌ غامضة حول «المرح الخاص» بشأن هذا الحيوان كتبتها نحو عام ١٩٣٦م، أي قبل موتي بخمس سنوات.
لهذا أظن أن المرح مع تلك الحيوانات الأليفة يصنع نوعًا من مساندة المشاعر وتعميق الحميمية. نعم كانت لنا «لغةٌ خاصة»، بالرغم من أن الجميع يعلمها لأنني كتبت عنها في مذكراتي.
– هل لديك أقرباء ما زالوا على قيد الحياة هذه الآونة، وهل يشتركون معك في موهبة الكتابة؟
– نعم لديَّ الكثيرُ جدًّا!
شقيقتي «فنيسا بيل» لديها ابنان وابنة؛ جوليان (الذي قُتل في الحرب الأهلية الإسبانية)، كوينتين وأنجيليكا.
ابن أختي كوينتين بيل (الذي كتب سيرتي الذاتية) لم يعد حيًّا الآن، لكن زوجته آن أوليفر بيل هي محررة مذكراتي جميعها (يا لها من مهمة شاقة!)
كوينتين وآن أوليفر بيل كان لديهم ابنتان وابنٌ: فرجينيا نيكلسون، كريسيدا بيل، وجوليان بيل.
جوليان بيل كان رسامًا وشاعرًا وكان ضالعًا بقوة في النقد الفني. وأنجز كتابًا عن الرسام «بونار» عنوانه «بيير بونار» إصدار دار فيدون. ونشرت قصائده في دار نشر ديل.
«كريسيدا بيل» ليست كاتبة، لكنها مصممةٌ مشهورة في فن النسيج، أما «فرجينيا بيل» فكانت كاتبة. ألفت كتابًا حول «شارل ستون»، الكتاب الذي بدأ كوينتين في جمعه قبل موته، وأعلم أنها الآن تعكف على تأليف كتابٍ جديد.
ابنة أختي أنجيليكا تعيش في فرنسا. هي كاتبة أيضًا، ولديها كتابان هما «مخدوعون بالطيبة» عن دار شاتو ووينداز، وكتاب «اللحظة الخالدة» عن دار نشر باكربراش في أمريكا. ولديها بناتٌ كثيرات. إحداهن تدعى هنريتا جارنيت؛ وهي مصوِّرةٌ ممتازة، وكاتبة أيضًا. وهي الآن تكتب السيرة الذاتية ﻟ «آني تاكيري».
وهكذا ترى أن الكتابة تجري في العائلة! (آمل ألا أكون قد أغفلت أي واحد).
– هل تعاملتِ مع قصصك القصيرة بنفس الجدية التي كتبتِ بها رواياتك، أم كانت مجرد محاولاتٍ تجريبية؟
– كانت محاولاتٍ تجريبية، لكنني تعلمت الكثير من كتابة القصص. تعلمت كيف أعيد تشكيل الرواية. لم أتوقع أن تطبع قصصي القصيرة كلها، لكنها طُبعت، حتى مجموعتَي «الأزرق» و«الأخضر»، اللتين تندرجان تحت أقصر القصص القصيرة التي كُتبت على الإطلاق (هل قرأتهما؟ إنهما تجريبيتان للغاية!)
لقد اكتشفتُ من خلالهما كثيرًا من مفاهيم الإدراك الحسي والإدراك التجريدي، خاصةً في «كيو جاردنز»، حين تتأمل الناس المارة فيما يتحدثون حولك وكأنك في سرير من الزهور بين الحدائق.
عبر هذا المنظور، يبدو حديثُ الناس غريبًا ومفككًا وغير مترابط (نيل، بيرت، لوت، كيس، فيليب، با، هو يقول، هي تقول، أن يقول، أنا أقول، أنا أقول …)، وهذا هو سرير الزهور الوحيد الذي يحظى بالتماسك والترابط. تبدو لي الحياة على هذا النحو، بصدق، إنها الطبيعة وحدها التي تملك الترابط، بينما نحن عشوائيون، بالرغم من التحكم الذي نحاول أن نمارسه على حياتنا عن طريق كل الحكايات التي نحكيها.
في كلٍّ من قصتَي «العلامة التي على الجدار» و«رواية لم تُكتب بعد»، تجد أن سلطة الراوية واهنة ومقوَّضة. القصة تبدو منطقية، لكن حين نصل إلى النهاية، تبدو القصة شيئًا مختلفا تمامًا. وهكذا تجد الكثير من الخدع واللعب في قصصي، بشكل أو بآخر، غير أنني أيضًا أطمح خلالها في تصوير العالم بالألوان الطبيعية.
– هل تعتقدين أن مقالاتكِ كانت على نفس المستوى من القوة مثلما لكتابتك الروائية؟
– لقد قضيت وقتًا طويلًا في تجويد تلك المقالات، لهذا آمل أن تراها جيدة!
حين كنتُ صغيرة، كان يُنتظر مني أن أستضيف أبي؛ السير ليزلي ستيفن، وأصدقاءه على مائدة الشاي. كان رئيس تحرير مجلة «كورنيل» وأحد محرري المعجم العالمي للسيرة الذاتية؛ لذا كان أصدقاؤه من صفوة المجتمع! مؤخرًا، أُخذ على مقالاتي طابعها الحكائي الثرثار في تلك الأيام. غير أني تعمدت أن تأخذ الطابع الحواري. أردت لها أن تبدو وكأنها انعكاس لما يفعله الناس حين يجاهرون بآرائهم ووجهات نظرهم حين يتكلمون.
بعض تلك المقالات مهم للغاية من أجل فهم رواياتي، مثل مقالة «الرواية الحديثة»، التي فيها أستكشف فكرة كيفية استحضار وعي الشخوص وأحاسيسهم الباطنة في الرواية. كذلك مقالة «مستر ومسز براون». هل قرأت مقالة «كيف يجب أن يُقرأ الكتاب؟» المقالة التي فيها شرحت كيف يمكن للناس الحصول على الفائدة القصوى من القراءة؟
لكنني آملُ أن تقرأ المقالات الأخرى ذات الطابع المرح، مثل تلك التي كتبتها عن الممثلة «آلين تيري». كنت متأثرة جدًّا بقصة حياتها، كانت بحق امرأة لا تتكرر (مرةً، في أحد العروض، نسيتْ كلامها على المسرح، لكنها كانت من التمكن والخبرة والثقة بالنفس بحيث لم يلحظ أحد من الجمهور ذلك). جعلتُ منها إحدى الشخصيات في مسرحيتي الوحيدة «مياهٌ عذبة».
– أي رواية من رواياتك تعتقدين أنها صورت حياتك أكثر؟
– يا له من سؤالٍ شاسع!
وسؤالٌ صعبٌ كذلك. لأنني بالرغم من عقدي العزم أن أخدم بالكتابة القيمَ الفنية وحسب، وليس اعتبارها طريقةً للتعبير والبوح، (تمامًا كما قلت في «غرفة تخص المرء»)، إلا أن ثمة شيئًا مني موجودًا داخل كل رواية.
كتابة «غرفة جاكوب» جعلتني أكتشف كيف أبدأ في عمر الأربعين، وأقول شيئًا عبر صوتي الخاص.
توقفتُ عن محاولة الكتابة على طريقة الروائيَّيْن «جورج ميرديث» أو «جين أوستين»، وتعلمت أن أستخدم العين الخاصة بعقلي أنا.
«غرفة يعقوب» كانت مشروعًا تجريبيًّا في الرسم المشهدي، ومن خلالها انعكست اهتماماتي الجمالية في ذلك الوقت.
غير أن ثمة خيطًا من السيرة الذاتية في تلك القصة، لأن شخصية جاكوب (يعقوب) ارتكزت في الأساس على شخصية شقيقي «ثوبي» الذي مات عام ١٩٠٦م بحمى التيفويد، ولم يتجاوز السادسة والعشرين بعدُ.
رواية «الخروج في رحلة بحرية» تعكس عراكي الثقافي المبكر، وربما تجد شيئًا مني في راشيل فينريس، فيما تتعلم كيف تحيا بين جماعة من الرجال المثقفين اللامعين، من دون أن تفقد إحساسها بذاتها.
وأيضًا هناك شيءٌ مني في كاثرين هيلبري في «الليل والنهار»، بالرغم من اعتقاد الناس أن تلك الشخصية مرتكزة على شقيقتي فانيسا.
رواية «صوبَ المنارة» كانت انعكاسًا صادقًا لمشاعري، لأنني خلَّدت فيها أبي وأمي في شخصيتَي مستر ومسز رامساي. وأيضًا «أورلاندو» كُتبت من أجل، واعتمدت على، «فيتا ساكفيل ويست»، التي فتنتني وأسرتني.
أعتقد أنه من العدل أن أقول إنني في كل رواياتي، كنت أنهل من ذاتي وفي ذات الوقت أحاول أن أبني هياكل جمالية وفكرية.
وبالتأكيد أنا لا أنتهج في كتاباتي الروائية منهج كتابة السيرة الذاتية، غير أنني أبحرُ عميقًا داخل مشاعري الخاصة قبل أن أكتب الرواية.
وبطبيعة الحال تتغير ذاتي مع كل رواية؛ إذ أختبر أحاسيسي وأعيد ترتيبها على نحوٍ جديد في كل مرة.
– هل ترسمين خريطة لروايتك، أم تتركينها تنمو مع تقدمها؟
– هذا يختلف من رواية إلى أخرى. دائمًا ما تكون لديَّ خطةٌ من نوعٍ ما للرواية، حتى ولو لم يكتمل المحور الرئيس تمامًا في التو. حينما بدأتُ «غرفة يعقوب» كان المحور الرئيسي مفقودًا بالنسبة لي، غير أني كنت قد قبضت تمامًا على الحالة النفسية والمزاجية التي أريدها.
تخيلتها مثل بناء بغير سقالات أو هيكل … بدا تشكيل الحضور لشخصية جاكوب تدريجيًّا وساحرًا، يلمعُ مثل النار تحت طبقة من الضباب. كتبتُ: «دعنا نفترض أن الغرفة سوف تحمل هذا الحضور مجتمعًا في الصفحة الأولى من المخطوطة»، ثم تبنيت وباشرت فكرة غرفته كنقطةٍ مرجعية ومتكأ انطلاق للعمل.
بالنسبة لرواية «صوبَ المنارة» كان لديَّ أكثر من خطة للمشروع. رسمت شخصية مسز ومستر رامساي اتكاءً على شخصية أمي وأبي، خاصة حسب ذكرياتي عنهما خلال إجازاتنا الصيفية في سانت آيفيز، حيث كنا نذهب ونحن أطفال. عرفت منذ البدء أنني أود أن أخلق حالة موتٍ ما. كان لديَّ، حتى في البدايات الأولى لكتابة الرواية، فكرةٌ تدور حول أب يجلس في قارب فيما ينشد: «سوف نفنى، كلٌّ على حدة.» بينما نحن نسحق سمكة ماكريل تحتضر. رسمت مخططًا للشكل العام الذي أردته للكتاب؛ كتلتان من الكتاب، الجزء الأول والجزء الأخير يتصلان سويًّا عبر ممر («الوقت الذي يمرُّ» خلال حلم اليقظة في المنتصف). وهكذا عمدت إلى تخطيط الشكل والهيكل، ثم بدأت بعدة صورٍ قوية. أما ماذا حدث لشخوص روايتي فقد كانوا ينبثقون في رأسي فيما أتقدم في كتابة الرواية.
غير أنك لو زرت يوما مكتبتي الضخمة، لرأيت كم المحاولات التي أنجزها في الكتابة قبل أن تأخذ مسارها المضبوط، يمكنك أن تلقي نظرةً على مسودات مخطوطة «صوبَ المنارة» أو «الأمواج»، وسوف تعرف كم الكتابات التي أخطُّها قبل أن أنتهي إلى روايةٍ مكتملة! كم هو ضخم!
– لماذا غيرتِ منهجك تمامًا بعد رواية «الليل والنهار»؟
– كنت مسرورة للغاية من تلك الرواية. فكرت أنها أكثر نضجًا بكثير من روايتي الأولى «الخروج في رحلة بحرية». أقترح عليك أن تقرأها إن لم تكن قد فعلت؛ من أجل أن تلمس أفكاري المبكرة عن استقلال المرأة. هذه الرواية تدور حول أيهما أكثر أهميةً: أن تكون نفسَك من أجل خاطر الآخرين بأن تأخذ هويتك منهم (مثل مسز هيلبري، التي تؤمن بالحب والزواج)، أم أن تكون نفسَك من أجل خاطرك أنت (مثل كاثرين التي خالفتها الرأي). أيٌّ من الشخصيتين من وجهة نظرك نجحتْ في انتزاع تعاطفك أكثر؟ ماري أم كاثرين؟
المشكلة أن النقاد كانوا فظِّين جدًّا تجاه الرواية وغير متعاطفين معها. إي إم فورستر قال إنها كانت محض روايةٍ كلاسيكية واحتاجت الشخصيات أن تكون جديرة بالحب أكثر من هذا، أما ربيكا ويست فقد قالت إنها رأت عالم الرواية كله غريبًا عنها.
حين اشترينا — ليونارد وأنا — دارَ نشرٍ، وبدأنا في طباعة القصص القصيرة والقصائد الخاصة بأصدقائنا، كتبت وقتها قصة ربما تعرفها وهي «كيو جاردنز». نالت هذه القصة مع «العلامة التي على الحائط» الكثير من الاستحسان والقبول؛ كل واحد بدأ ينتبه أن لي أسلوبًا مرنًا وانسيابيًّا في وصل الأشياء معًا عبر منظومة بدت أكثر تشويقًا عما كان الأمر عليه في أسلوبي الكلاسيكي، ومع هذا لم أكن مقتنعة في بادئ الأمر، وواصلت الكتابة القصصية، فيما أفكر كيف يمكنني أن أجعل كتابتي أكثر مرونة وانسيابية.
ثم كتبتُ قصةً أخرى وهي «رواية لم تُكتب بعد» وبدأت أتبين أن بوسعي أن أكتب روايةً كاملةً على نفس النحو؛ شيء ما ينفتح على شيءٍ آخر. هذا الأسلوب غذَّاني بالكثير من الأفكار وأفادني في الرواية التي كتبتها بعد ذلك وهي «غرفة يعقوب»، وفي تلك النقطة فكرت أنني أخيرًا توصلت إلى كيفية أن أبدأ في قول شيء بصوتي الخاص الخالص.
غير أني ما زلت أحب «الليل والنهار» رغم كل هذا.
– هل تعتقدين أن المرأة الكاتبة مطوقةٌ بالبناء اللغوي الذي ينوء تحت ثقل المجتمع البطريركي، أم أن المرأة تستخدم ذات البنية «الذكورية» بنفس الكفاءة لكن فقط عبر طرائقَ مختلفة عما يقدمها الرجل؟
– أنت تجعلني أشعر أنني من طرازٍ عتيقٍ جدًّا! مثل هذا السؤال لم يكن مطروحًا، ولا يمكن تصوره في زمني. كم أنا سعيدة أن حركات التحرر النسائية قد قطعت خطوات واسعة حتى الآن!
إنها روايةٌ جديرة بإعادة النظر إليها مجددًا. حين أنظر إليها بعد سنواتٍ طويلة من كتابتها، أعتقد أن بها بقاعًا لامعة ومناطق أخرى تجعل وجنتيَّ تشتعلان خجلًا. ولكن بوجهٍ عام أعتقد أن راشيل كانت بصدد شيء ما، وفي طريقها لتحقيق هدفٍ مهم، لأنها كانت المواجهة الحاسمة للإشكالية: كيف تتعامل مع المسألة الجنسية وتفصح عنها في ظل مجتمع بطريركي حتى النخاع.
في رواية «ثلاثة جنيهات» كنت غاضبةً جدًّا إذ أكتب عن توغل البطريركية. ليس فقط البطريركية التي تمارَس على النساء لكن على الرجال أيضًا، الذين بدوا لي وكأنهم يفقدون حواسهم ووعيهم حين يضطلعون بوظائفَ سلطوية في المجتمع.
لهذا بصدق، أزعم أن الإشكالية تكمن في الخلاف والتباين بين لغة القوة والسلطة في مقابل لغة الإحساس والعاطفة، أكثر مما تكمن في الخلاف والتباين بين لغة الرجل ولغة المرأة. أظن أن تلك الفكرة كانت محور «غرفة يعقوب» أيضًا.
مستر ومسز رامساي في «صوبَ المنارة»، كان لدى كلٍّ منهما أيضًا بنيةٌ لغويةٌ متباينة وخطابٌ مختلف؛ هو أفكاره محصورة داخل قضبان قفص، بينما هي تتكلم لغة العاطفة وتشغلها جماليات العاطفة. ولأنه كان طامعًا في القوة والنفوذ اقترب جدًّا من السلطة الملكية، بينما هي ظلت متخففة من الأسر في منظومةٍ ما وظلت مستقبلةً تفعل حدسها وحسب، بعيدًا عن دائرة نفوذه.
– حين استقر في يقينكِ أنك ذاهبة إلى الجنون، ماذا كان شعورك تجاه هذا، وماذا كانت ردة الفعل؟
– للأسف دخلت للجنون بالفعل مراتٍ عديدة وليس مرةً واحدة، (كان مرضًا عقليًّا على كل حال).
المرة الأولى كانت بعد موت أمي، ويمكنكم أن تتخيلوا إلى أي مدًى كان اضطرابي وتأزمي وقتها. كانت مرحلةً عصيبة ومشحونة للغاية؛ لأن كل العائلة كانت غارقة في الحزن. كنت أشعر أنني على غير ما يرام، كانت حالتي تسوء ونبضي يتسارع، وقلبي يضرب في قوة، لم أكد أتحمل هذا. ولهذا أوقفوا دروسي ولكنهم أيضًا أوقفوا كل الأشياء التي أحببت.
من ردود الفعل أنني بدأت أخشى الآخرين، وكنت أحمرُّ خجلًا إذا ما كلمني أحد. وكان ما فعلته حيال هذا الأمر هو جلوسي في غرفتي وقراءة أكداس من الكتب حتى بدأت أتحسن. على الأقل حين غدوت كاتبة أفدت جدًّا من القراءات الكثيرة التي قرأتها.
وعادة ما كان يدفعني للوقوع داخل براثن المرض مجددًا وقوع شيء سيئ. ولا بد أن أعترف أنني أحببت القراءة وأنا في حالٍ جيدة، عما كنت أقرأ بينما أنا مريضة.
أتمنى لكم أن تنعموا بحياةٍ سعيدة لتستمتعوا بالقراءة.
– لماذا أقدمتِ على إغراق نفسك في النهر؟
– لقد انتحرت لأنني بدأت أسمع أصواتًا من جديد، وكنت أعلم أنني لن أستطيع مواجهة أية انهياراتٍ جديدة.
لكن عن: لماذا أغرقتُ نفسي، فلست متأكدة الآن من السبب. لا أعتقد أنني فكرت مليًّا في الأمر قبل الإقدام على هذه الخطوة.
بالتأكيد هناك إشارات عديدة (للبحر) في كتبي، ودائمًا ما كان البحر شيئًا أوليًّا وأساسيًّا بالنسبة لي، حيث كنت أستمع إلى صوت الأمواج فيما تتكسر وأنا في فراشي في مرحلة طفولتي الأولى في بيتنا الصيفي في سانت آيفيز.
أغرقت نفسي في نهر «أووز». أظنني رأيت في هذا حلًّا فوريًّا وسهلًا، لأنني استطعت الخوض داخل المياه بمجرد المشي إلى حيث أسفل حديقتنا في بيت الرهبان (منزلنا في سُسيكس). كان هذا أفضل من أن أخنق نفسي بالغاز في جراج، تلك الميتة التي قررت أنا وزوجي ليونارد أن نموتها في حال غزو الألمان (تذكَّروا، كان هذا في عام ١٩٣٩م مع بداية الحرب العالمية الثانية، وكان زوجي يهوديًّا. فقررنا أن نفتح الغاز علينا سويًّا حال حدث الغزو).
– كيف انتحرتِ؟
– أشعر بالعار أن أقول إنني أغرقت نفسي في نهر أووز. وهو نهر يجري حتى أسفل الحديقة في منزل الرهبان حيث كنت أعيش مع زوجي ليونارد في سُسيكس.
حين أنظر إلى الوراء الآن، أرى حمق تلك الخطوة. كنت أظن أنني أنقذ زوجي وشقيقتي وأرفع عنهما عبء مساعدتي في مرضي الوشيك، لكنني بالتأكيد قد تسببت في إيلامهما أكثر جرَّاء فعلتي. أما عن كيف انتحرت، فقد أثقلتُ جيوب ثوبي بالأحجار، ودلفتُ إلى النهر ببطء حتى انتهت قامتي وانتهت حياتي. تجدون مشهد موتي مصورًا كتابيًّا وسينمائيًّا في فيلم سيفوز بأوسكار عام ٢٠٠٢م، انتحرتْ عني في الفيلم الحسناء نيكول كيدمان.
– ما هو اكتئاب باي-بولا؟ يجب أن أعترف أنني لم أسمع به من قبلُ (تذكَّروا أنني مت عام ١٩٤١م، ومرض الاكتئاب لم يكن له كل تلك الأسماء آنذاك).
بالتأكيد كنت أحب دومًا انتقاد النظام الاجتماعي الذي اعتاد أن يعامل المرضى العقليين (خاصة المصابين بصدمة القذائف الحربية وهو المرض الذي كان يعاني منه سبتيمس)، على نحوٍ ازدرائيٍّ وجاهل.
أحد أهم محاور رواية «مسز دالواي» كان «الطبقية الاجتماعية»، وكان الأطباء المعالجون لسبتيمس من الطبقة الوسطى التي تُقلِّد الطبقة الأعلى وتترفَّع على مَن هم دونهم، حتى على هؤلاء الذين يدفعون لهم أتعابهم من أجل العلاج. كانوا يتصورون أن المرض العقلي هو شيء من عدم التحكم الجزئي في النفس، وهذا التصور محض هراء طبعًا. الأمور الآن دخلت في مناطق التنوير، هكذا أخبروني.
لم أعرف مطلقًا اسمًا للمرض الذي كنت أعاني منه. كنت أشعر أنني مغمورة بشيء يدق بعنف داخل مخي؛ مثل اصطكاك أجنحةٍ في رأسي، هكذا وصفت إحساسي يومًا.
كنت أشعر به مثل مرضٍ عضوي أكثر من كونه شيئًا يشبه الحزن أو القلق. أحد الأطباء قال إن الأمر يعود إلى إحدى الغدد الموجودة في مؤخرة العنق، وبقية الأطباء بدوا وكأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون.
– كيف تعلِّقين على رسم شخصية مثل «راشيل فينريز» في رواية «الخروج في رحلة بحرية»؟ وأيضًا هل تعتقدين أن تلك الرواية قد جسدت المشاعر الداخلية لراشيل فينريز؟
– كان هذا تحدِّيًا ضخمًا. فقد كانت روايتي الأولى كما تعلمون، وكما هو الحال مع الأعمال الأولى عادةً، حاولت أن أضع فيها الكثير من خبراتي الخاصة.
تمامًا مثل راشيل، ماتت أمي وأنا بعدُ طفلة، وكلما كبرت وجدت نفسي محاطة بأناسٍ نشطين مبهرجين مثلما كانت شخصية «كلاريس دالواي» (بنيت شخصيتها على شخصيةٍ حقيقية هي «كيتي مانكس»)، وكذلك كنت محاطة برجالٍ مثقفين مثل مستر «آمبروز» وزوجته عميقة التفكير «هلين»، التي كانت تشبه إلى حدٍّ ما شقيقتي فانيسا.
في عام ١٩٠٤م سافرت بالبحر إلى إيطاليا وباريس، وفي عام ١٩٠٥م ذهبت بالبحر أيضًا إلى إسبانيا مع شقيقي «آدريان». في عام ١٩٠٦م سافرت إلى اليونان مع «ثوبي» و«آدريان»، وشقيقتي «فانيسا» وصديقتي «فايوليت ديكنسون»، غير أن تلك الرحلة انتهت بكارثة؛ حيث التقط شقيقي «ثوبي» حمى التيفويد ومات في نوفمبر من نفس العام. ولذا أظن أن توصيف الحمى التي أصابت راشيل كان متكئًا في الأساس على تجربتي من مرض «ثوبي» وموته.
هذه الرواية أخذت وقتًا طويلًا حتى انتهيت منها: شرعت في كتابتها في مايو ١٩٠٨م وأرسلت بها إلى الناشر في مارس ١٩١٣م. أنجزت فيها سبع مسودات، وظللت أغيِّر وأعدِّل فيها طوال الوقت.
كنت مهتمة ومشغولة بها جدًّا، ولكنني ظللت قلقة بشأن أسماء الشخوص؛ راشيل كان اسمها أولًا «ثنسيا»، ولم أوفق في اختيار اسم مناسب لها. (في إحدى المرات تجولت بين شواهد القبور من أجل شحذ الأفكار، ووجدت سيدة تُدعى «تريدسرايد» … كلا، ربما لم يكن هذا اسمها). كنت أريد لها أن تكون فردًا معاصرًا، لا بطلةً فيكتورية محافظة!
في عام ١٩٠٩م أرسلتُ المائة صفحة الأولى إلى زوج شقيقتي «كليف بيل»، الذي أرسل لي العديد من التعليقات الإيجابية. غير أنه قال إني — بسبب تحيزي ضد الرجال — جاءت روايتي تعليميةً إرشادية بل وشديدة التزمُّت أيضًا. لهذا مزَّقت الكثير من أوراق الرواية وأعدت كتابتها.
كنت تسأل عما إذا كنت أعتقد أن مشاعر راشيل الداخلية جاءت مقنعة؛ وأتساءل ماذا تظنون أنتم؟ ربما نجد أن أهم الفصول التي تناولت هذا الأمر هي ٢٠، ٢١، و٢٢، حين شعرت هيلين أن راشيل قد تخطت حراساتها، فتصادمت مع ريتشارد، دالواي بتوجيه من هيلين الآن غدت حرة في أن تعبر عن أحاسيسها الخاصة.
إذا ما تأملتم مليًّا (صفحة رقم ٢٠٠ في طبعة بِنجوين) عندما كانت تتحدث مع تيرينس، الذي أبدى ملاحظاته حول أنهم أصبحوا في القرن العشرين، لكن، لعدة سنواتٍ ماضية لم يكن للمرأة أن تأتي من تلقاء نفسها لتتحدث في مثل تلك الأمور. هذه الأشياء كانت تعتمل في خلفية الرواية، كل تلك الآلاف من السنوات من الصمت الشغوف لحياة غير فعالة للمرأة.
تأملوا كذلك الفصل الثاني والعشرين، حين ألقى تيرينس خطبته الطويلة حول النساء بينما راشيل لم تتكلم مطلقًا، لأنها أغرقت ذاتها مجددًا في سونتات بيتهوفن. أتساءل كيف ترون هذه الأمور؟
أنا شخصيًّا أعتقد أنني نجحت في بعض المقاطع، وأخفقت في القليل منها. لكن ما كنت أهدف إلى إظهاره: مدى صعوبة أن تعبِّر المرأة عن حياتها الداخلية في ظل كل تلك القيود وغياب الحرية.
– ما هي الدلالات وراء الحفل الذي أقامته مسز دالواي في الرواية؟
– أنا مغرمةٌ بالحفلات. ليونارد كان يعتقد أني أحب الإثارة الفيزيقية التي تحدث خلالها، وهو ما كان يطلق عليه «خميرة وينبوع الضجيج».
لطالما كنت مفتونةً بفكرة ما أسميته «الوعي الجماعي»؛ أومن بأن الناس يمتلكون عددًا من الأنواع المختلفة من الوعي، و«الوعي الجمعي» — أثناء المحافل — يضعنا في بؤرة الضوء بما يسمح بتدقيق وفحص الناس الآخرين لنا، الأمر الذي يجعلنا نحاول أن نكون بصدق «ذواتنا»، إما على نحوٍ أقل أو أكثر.
تحت وهج أضواء الحفل، يصبح الناس شفَّافين غير محصنين ويسهل سبر أغوارهم. هذا يجعلهم يبوحون بأشياء عن أنفسهم، وبالتالي يكون هذا منبعًا جيدًا للكاتب لاختيار شخوص رواياته كلهم من مكانٍ واحد، ويظهر كل أنواع الصفات البشرية من خلالهم. وهكذا حقق المحيط المكثف والقوي للحفل الذي أقامته «كلاريسا» في رواية «مسز دالواي»، توقعاتها من الحفل والإثارة التي أنتجها الحفل؛ ما جعل لكلاريسا وعيًا أكثر بذاتها وبالآخر.
في الأساس، كان «للحفل» دور في الهيكل الوظيفي للرواية، هذا الدور الذي بدأ يخفت قليلًا عند إعادة الكتابة والتحرير. كانت فكرتي الأولى أن يكون هذا الحفل هو الختام الروحي الصلب للرواية. كان الحفل سيتم رصده من خلال كامل المنزل (يبدأ بالمطبخ حيث مسز كلاريسا، ثم يصعد رويدًا إلى الطابق الأعلى). كان هذا سيربط ويضفر الأحداث سويًّا، ومن ثم ينتهي الحدث على ملاحظاتٍ ثلاث، على ثلاثة أماكنَ مختلفة على سلالم البيت، حيث ثلاثة شخوص من أبطال الرواية كلٌّ سوف يقول شيئًا ما يلخص به موقف كلاريسا، هؤلاء الثلاثة سوف يكونون ريتشارد، وبيتر، وسالي سيتون.
في النهاية فكرت أنه من الأفضل أن تترك كلاريسا الحفل وتصعد شاردةً إلى حيث غرفة نومها؛ كي تتأمل حياتها على نحوٍ أكثر حساسية ووعيًا، وبينما تتوجه للحفل ثانية لتنضم إلى ضيوفها، سوف يكون بيتر ولش في انتظارها ليقول: «إنها كلاريسا … هي التي كانت هناك.»
– ماذا كانت أهدافك من وراء «مسز دالواي»؟
– كالعادة، مقاصدي تنبثق بالتدريج مع الوقت أثناء الكتابة. بدأت هذا العمل بكتابة بعض القصص القصيرة، ويبدو أنني تذكرت أنني واصلت الكتابة على نحوٍ ترادفي، بمعنى أنني وجدت أن فكرة رواية «مسز دالواي» قد تطورت وتحولت إلى رواية، وكان هذا غير ما اعتدت عليه مطلقًا.
كان من بين هذه القصص واحدة بعنوان «مسز دالواي في شارع بوند». وكانت تبدأ هكذا: «قالت مسز دالواي إنها سوف تشتري القفاز بنفسها. كانت ساعة «بج بن» تدق حين كانت تخطو خارجة إلى الطريق …»
وهكذا ترون أن التفاصيل مهما تغيرت، تظل الفكرة ثابتة هناك. القصة الأصلية انتهت بمشهد السيدة دالواي في المحل تشتري قفازها. البائعة في المحل تقول: «منذ الحرب لم يعد من الممكن الاعتماد على القفازات مطلقًا.» وفجأة يحدث انفجارٌ عنيفٌ في الشارع بالخارج. وبدا واضحًا أن كلاريسا تجاهلت هذا الحدث، واستمرت في الثرثرة مع الشخوص الآخرين في الشارع.
بالتدريج، أخذتُ في تطوير فكرة أن الحرب العالمية الأولى، بوصفها حدثًا مروعًا، صمَّمت الطبقةُ البرجوازية الصغيرة أن تتجاهله، وبعد برهة قدمتُ شخصية «سبتيمس» كمعادلٍ موضوعي للسيدة دالواي.
في يوم ١٤ أكتوبر ١٩٢٢م كتبت في دفتر مذكراتي: «مسز دالواي تفرَّعت إلى كتاب، وأشير هنا إلى دراسة حول الجنون والانتحار: العالم تتم رؤيته بواسطة العقلاء والمجانين جنبًا إلى جنب!»
– كيف كانت ردة فعلك تجاه النقد الذي قال إن «السيدة دالواي» رواية حاولت خلق شيءٍ جذاب من شخصياتٍ غير جذابة ومواقفَ غير جذابة؟ خاصة عبر تيار الوعي.
– حسنًا، أتساءل ما إذا كنتم توافقون على هذا الرأي. أنا شخصيًّا لم أرَ الأمر على هذا النحو مطلقًا.
أفترضُ أن أحد طرائق الاستجابة والتفاعل مع العمل تكون بتأمل الشخصيات المهمَّشة — غير المحورية — ولماذا هم هناك: على سبيل المثال، هل كانت سالي سيتون غير جذابة؟ وإذا كانت هكذا، ماذا أخبرتنا عن كلاريسا؟
لمدةٍ طويلة كنتُ قلقةً بشأن مسز دالواي، فكرتُ أنها ربما تكون كائنًا لامعًا لكنه خاوٍ، لكنني كنت طامحةً أن تغدو، في نقاط التقائها وتقاطعها مع سبتيمس، كائنًا جذابًا، ليس فقط من أجل التناقض والتباين بينهما، ولكن بسبب بعض اللحظات التي كانا فيها يتوافقان ويتقاطعان.
هل نظرتم في مقاطع صفحتَي ٣ و٧٥ (طبعة بنجوين، كلاهما مثالٌ على تيار الوعي)، عندما بدا أن كلًّا من كلاريسا وسبتيمس يمتلكان نفس الإيقاع ونفس المعجم؟
ثم ماذا عن بيتر ويلش؟ أحد النقاد كتب أن طريقته حين كان يجلس ويلعب بتلك السكين طوال الوقت بدت شاذة وجديدة وجذابة!
أنتم تدفعونني الآن إلى التفكير في تساؤلٍ ضخم وفاتن: ما الذي يجعل شخصيةً ما في روايةٍ ما «شخصيةً جذابة»؟!
– ما هي المدة التي احتفظتِ فيها بمذكراتك؟
– بدأتُ بالاحتفاظ بما أكتب من مذكرات منذ أوائل يناير ١٨٩٧م؛ أي حين كنت في الخامسة عشرة.
كنتُ بمثابة مؤرخة عائلاتٍ غير رسمية، وصفتُ أشياءَ وأحداثًا مثل اليوبيل الماسي للملكة فيكتوريا، والإعدادات لحفل زفاف أختي غير الشقيقة «ستيللا»، كذلك أشياء من قبيل إعلانات مثل «زوروا محلاتنا في ركن سيرك بيكاديللي، عند موقف الباصات، وتذوقوا شطائرنا الساخنة»، كنتُ أحيانًا أشير إلى نفسي في تلك المذكرات بلقب «ميس جان».
بين عامَي ١٨٩٧م و١٩٠٩م كنتُ قد ملأتُ دفاترَ سبعةً. كان أول تاريخ مكتوب هو الأحد ٣ يناير ١٨٩٧م، وتبدأ هكذا: «كلنا بدأنا نحقق أرقامًا قياسية في بداية العام الجديد: نيسا، وآدريان وأنا. ركبنا الدراجات مع جورجي (أخي غير الشقيق) وذهبنا إلى مستر إستادز (رسام صديق)، لكنه لم يكن موجودًا، ومن ثم ذهبنا إلى حديقة باتيرسي …» واستمر الحديثُ واصفةً حالنا فيما نَقود دراجاتنا: «دراجتي كانت جديدة والمقعد كان غير مريح.»
ربما تعرفون أنني ظللت أكتب يومياتي حتى عام ١٩٤١م، وحتى في مذكراتي الأولى كتبتُ عن قراءاتي وكتاباتي، تمامًا مثلما كتبتُ عن أحداثي اليومية.
– لا أحد بوسعه أن يذكر! إنه أحد الأمور التي تلتصق بالذهن، لا أحد يتذكر كيف بدأ الأمر، ولا حتى أنا.
لا بد أن للأمر علاقة بحقيقة أن تلك المذكرات واليوميات المبكرة كانت إلى حدٍّ ما محاولةً لتثبيت وتكريس هويتي، تجربة شخصيات مختلفة عساي أعثر على صوتٍ صافٍ لكتاباتي.
في نهاية دفتر مذكراتي الأول أتذكَّر أني كتبتُ: إن ذاك العام كان بالفعل «أول عامٍ حقيقي معيش في حياتي»، الكتابةُ تجعل كل شيء يبدو قويًّا ومشحونًا بالعاطفة.
كنت بالفعل أدعو نفسي «ميس جان» منذ عام ١٨٩٧م (كان عمري وقتها خمسة عشر عامًا)، لهذا لا يمكن أن أكون قد أخذت الاسم (كما هو شائع) عن اسم معلمة اليونانية الجميلة «جانيت كيس»؛ لأنني وقتها لم أكن بعدُ تلقَّيت دروس اليونانية معها، التي بدأتها عام ١٩٠٢م.
جدتي كانت تُدعى «جين»، لكنني لا أظن أن هذا كان السبب وراء الاسم.
لا بد أنني أخذت الاسم من أحد الكتب التي كنت أقرأ، ربما إحدى الروايات. (اللقب الآخر الذي اعتاد أشقائي وشقيقاتي مناداتي به كان «العنزة»، ولا أذكر كيف بدأ هذا اللقب أيضًا!)
لقد جعلتموني في حال تفكير، الآن: أتساءل الآن ماذا لو أن «ميس جان» كانت إحدى شخصيات رواياتي!
– هل أنت راضية عن اختيارك مهنة الأدب، أكثر من الرسم مثلما فعلت شقيقتك فينيسا؟
– كان من الواضح في وقتٍ مبكر أن فينيسا ستكون الفنانة في العائلة. كانت بارعة في الرسم حتى قبل أن تتم الخامسة عشرة.
رجل يُدعى «مستر كوك» هو من علمها الرسم، ونالت جائزة في مدرسة الرسم التي كانت تتردد إليها.
رأيتُها مرةً تشخبط متاهةً من الخطوط بالطباشير الأبيض فوق بابٍ أسود اللون. كانت تظن أن أحدًا لا يرقبها أو يستمع إليها، لكنني سمعتها تقول: «حين أغدو رسامةً مشهورة …»
أستطيع القول إنني توقعت أن أغدو كاتبةً. كنت أرسم وأستمتع بالرسم، لكنني كنت أكثر تفوقًا في بناء القصص.
لكن بمجرد أن بدأت أرسم الصورة في ذهني، سمعت أصواتًا، مثل نعيق الغربان. ربما هذا ما جعل مني أديبة؛ فأنا أحب الأصوات الخبيئة.
الرسم صمتٌ، مقارنةً بما حاولت أن أنقله في رواياتي؛ صوت نقر الكرة فوق المضرب في رواية «صوب المنارة»، ومستر رامساي حين يكسر الصمت عن طريق الصياح بأبيات من الشعر، ومدقات البحر في «الأمواج»، وحين ينادي آرشر على الشاطئ «جا-كوب! جا-كوب» في رواية «غرفة جاكوب».
قلت لفانيسا إنها تنشط حافز الكتابة لديَّ بلوحاتها، وهي قالت إن قصصي تولد لديها أفكارًا للوحاتها. لهذا أنا سعيدة أنني أديبة، غير أن وجود شقيقةٍ فنانة قد ساعدني في الكتابة، ومشاهدة الرسومات بين الوقت والآخر وهبني أفكارًا جميلة لرواياتي.